المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٧

[السفاريني]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ

‌الحديث الثاني

عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَب وَالفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإنَّها لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَة"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البُخاري (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض، و (5309)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب، و (5493)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير، و (5499)، باب: افتراش الحرير، ومسلم (2067/ 4 - 5)، كتاب: اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وأبو داود (3723)، كتاب: الأشربة، باب: في الشرب في آنية الذهب والفضة، والنَّسائي (5301)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن لبس الديباج، والترمذي (1878)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية الشرب في آنية الذهب والفضة، وابن ماجه (3590)، كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 69)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 566)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 35)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 214)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1654)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 95)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 59)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 81).

ص: 91

(عن) أبي عبدِ الله (حُذَيفةَ) -بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون المثناة تحت ففاء فهاء، مصغر- بنِ اليمان (رضي الله عنه)، وهو صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدمت ترجمته في باب: السواك.

(قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير)؛ لأنَّه محرم على ذكور أمتي، وسببه كما في "الصحيحين" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكذا عبد الله بن عكيم، قال: كنا مع حذيفة بالمدائن، فاستسقى حذيفةُ، فسقاه مجوسي في إناء من فضة، فقال: إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير، (ولا الديباج) "(1).

وفي رواية فيهما: فجاءه دهقانٌ بشراب في إناء من فضة، فرماه به، وقال: إنِّي أخبركم أني قد أمرته أَلَّا يسقيني فيه (2).

وفي لفظ: فحذفه به (3).

وفي آخر: فرمى به في وجهه (4).

وللإمام أحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى: ما يألو أن يصيب به وجهه (5).

زاد في رواية عند الإسماعيلي، وأصله عند مسلم: فرماه به، فكسره.

وقال كما في "الصحيحين": إنِّي لم أرمه إلَّا أني نهيتُه فلم ينته (6).

(1) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5110)، وعند مسلم برقم (2067/ 4).

(2)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2067/ 4).

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 400).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 397).

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 408).

(6)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309، 5493).

ص: 92

وفي رواية الإسماعيلي المذكورة: إنِّي لم أكسره إلَّا أني نهيتُه، فلم يقبل.

وفي رواية يزيد: لولا أني تقدَّمْتُ إليه مرَّة أو مرتين، لم أفعل به هذا (1).

والديباج: صنف نفيس من الحرير.

قال في "القاموس": الديباج معروف معرَّبٌ، والجمعُ دَبابج، ودبابيج (2).

وفي "المطالع": الديباج بكسر الدال وفتحها، قال أبو عبيد: والكسر مولدة (3)، انتهى.

(ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة)، وفي رواية عن حذيفة رضي الله عنه في "الصحيحين"، وغيرهما: لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة (4).

ووقع عند الإمام أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة (5).

(ولا تأكلوا في صِحافها) تثنية صَحْفة، وهو إناء كالقَصعة المبسوطة ونحوِها، وجمعُها صِحاف (6).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 408)، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (10/ 95).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 239)، (مادة: دبج).

(3)

وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 252).

(4)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309).

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 396).

(6)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 13).

ص: 93

وفي الرواية التي ذكرناها عند الإمام أحمد: نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها (1).

وقد ورد في هذا المعنى عدةُ أحاديث، منها: ما رواه الحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لبسَ الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ومن شربَ الخمرَ في الدنيا، لم يشربه في الآخرة، ومن شربَ في آنية الذهب والفضة، لم يشربْ بها في الآخرة"، ثم قال:"لباسُ أهل الجنة، وشرابُ أهل الجنة، وآنيةُ أهل الجنة"(2).

وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أيضًا، مرفوعًا:"إنما يلبسُ الحريرَ في الدنيا مَنْ لا يرجو أن يلبسَه في الآخرة". قال الحسن: فما بالُ أقوامٍ يبلغُهم هذا عن نبيِّهم يجعلون حريرًا في ثيابهم وبيوتهم؟! (3).

وفي "الصحيحين" عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشربُ في آنية الفضة إِنَّما يُجَرْجِرُ في بطنه نارَ جهنمَ"(4).

وفي رواية لمسلم: "الذي يأكلُ أو يشربُ في إناءٍ من ذهبٍ أو فضة، فإنما يُجَرْجِرُ في بطنه نارَ جهنمَ"(5).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 404). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 95).

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(7216).

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 329).

(4)

رواه البُخاريّ (5311)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، ومسلم (2065/ 1)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره.

(5)

كذا ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 91)، حديث (3204)، وعنه =

ص: 94

وأخرج الطّبراني عن ابن عمر، مرفوعًا:"من لبسَ الحريرَ، وشربَ في الفضة، فليس مِنَّا، ومن خَبَّبَ امرأةً على زوجِها، أو عبدًا على مواليه، فليس مِنّا"(1).

ومعنى قوله في حديث أم سلمة: "إنما يجرجر" هو من الجَرْجرة، وهو صوتٌ يردِّده البعير في حَنجرته إذا هاج نحو صوتِ اللجامِ في فَكِّ الفَرَس.

قال النووي: اتفقوا على كسر الجيم الثَّانية من يُجرجِر (2)، وتُعقب بأن الموفقَ بنَ حمزةَ في كلامه على "المهذب" حكى فتحها.

وحكى ابن الفركاح عن والده: أنه قال: يروى "يُجَرْجِرُ" على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في شواهد "التوضيح"(3).

نعم، ردّ ذلك تلميذُه ابن أبي الفتح صاحبُ "المطلع"، فقال في [جزء جمعه] (4) في الكلام على هذا المتن: لقد كثر بحثي على أن أرى أحدًا رواه مبنيًا للمفعول، فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية.

وسألت أبا الحسين اليونينيَّ، فقال: ما قرأته على والدي، ولا على شيخنا المنذريِّ إلَّا مبنيًا للفاعل، قال: ويبعد اتفاقُ الحفَّاظ قديمًا وحديثًا على ترك رواية ثانية.

= نقل الشارح رحمه الله. والذي رواه مسلم (2065/ 2)، قال فيه:"من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر. . . ." الحديث.

(1)

رواه الطّبراني في "المعجم الأوسط"(4837)، وفي "المعجم الصغير"(698).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 27).

(3)

كذا في "الفتح" للحافظ ابن حجر (10/ 97). ولم أقف عليه في "شواهد التوضيح" لابن مالك، بتحقيق عبد الباقي.

(4)

في الأصل: "جرجره"، والصواب ما أثبت.

ص: 95

قال: وأيضًا: إسناده إلى الفاعل هو الأصل، وإسناده إلى المفعول فرع، فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضًا: فإن علماء العربية قالوا: يحذف الفاعل إما للعلم به، أو الجهل به، وإذا تخوف منه، أو عليه، أو لشرفه، أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك (1)؛ (فإنها)؛ أي: آنية الذهب والفضة، وفي لفظ:"هنَّ"(2)؛ أي: أواني الذهب والفضة، وفي أبي داود:"وهي" -بكسر الهاء ثم تحتانية (3) -، ووقع عند الإسماعيلي، وأصلُه في مسلم:"هو"؛ أي: جميع ما ذكر (لهم)؛ أي: المستعملين لها (في) الحياة (الدنيا).

قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحةَ استعمالهم إياه، وإنما المعنى بقوله:"لهم"؛ أي: هم الذين يستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويُمنعه أولئك جزاءً لهم على معصيتهم باستعماله.

قال في "الفتح": ويحتمل أن تكون فيه إشارة إلى أن الذين يتعاطون ذلك في الدنيا، لا يتعاطونه في الآخرة، كما تقدم في شرب الخمر، ولبس الحرير، وكذا في آنية الذهب والفضة؛ كما تقدم في حديث أبي هريرة المتقدم آنفًا (4)، (و) إنها (لكم) معشرَ المسلمين التاركينَ لاستعمالِ ذلك امتثالًا، والكافِّين عنه اتخاذًا واستعمالًا (في الآخرة) في دار المقام والنعيم والإنعام، والتكريم والإكرام {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} [الإنسان: 15].

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 97).

(2)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309).

(3)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3723).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 95).

ص: 96

وقد نقل ابن المنذر الإجماعَ على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلَّا عن معاوية بن قرة أحدِ التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشّافعيّ في "القديم"، ونص في "الجديد" على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه.

قال في "الفتح": وهذا اللائق به عنه؛ لثبوت الوعيد عليه بالنار.

قال: وإذا ثبت ما نقل عنه، فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور، انتهى (1).

وفي "الفروع": يحرم -في المنصوص- استعمالُ آنية ذهب وفضة، على الذكر والأنثى؛ اتفاقًا، حتَّى الميل ونحوه، وكذا اتخاذها، على الأصح؛ خلافًا لأبي حنيفة (2).

وفي الأحاديث المذكورة وغيرها مما لم نذكره تحريمُ الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف، رجلًا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنَّه ليس من التزين الذي أبيح لهن في شيء (3).

قال القرطبي: ويلحق بالأكل والشرب ما في معناهما؛ مثل: التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات.

قال: وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنَّه لم يقف على الزيادة في الأكل.

قال: واختلفوا في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما،

(1) المرجع السابق، (10/ 94).

(2)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 69).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 97).

ص: 97

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "هي لهم، وإنها لهم"، وقيل: لكونهما الأثمانَ وقيمَ المتلفات، فلو أبيح استعمالهما، لجاز اتخاذُ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي النَّاس، فيُجحف بهم، ومثَّله الغزاليُّ بالحكام الذين وظيفتُهم التصرفُ لإظهار العدل بين النَّاس، فلو مُنعوا التصرف، لأخلَّ ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبسٌ لهما عن التصرف الذي ينتفع به النَّاس، ولا يرد عليه جوازُ الحلي للنساء؛ لجواز الانفصال عنه بالإذن من الشارع، ولأن نفسَ النساء من أنواع المتصرَّف فيه، والحلي بالنقدين لهن مما يروج التصرف فيهن الذي هو [من](1) أعظم، أو أعظم أنواع التصرفات.

وقيل: علة التحريم: السَّرَفُ والخُيلاء، أو كسرُ قلوب الفقراء، وقيل: التشبيه بالأعاجم (2)، وفيه نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله، والتشبيه لا يصل إلى ذلك (3)، والله الموفق.

(1) ما بين معكوفين ساقط من "ب".

(2)

انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 345 - 346).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 98).

ص: 98