الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأفهامهم، فهم أعلم الناس بكتاب الله وبتأويله، وافهمهم بما في القرآن من اشارات وافصاح، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد، فقد علم ذلك قبل أن يكونوا، وأشار إلى صحته قبل أن يفعل، إذ لا يعقل قول القائل: فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم، أو شهر معلوم أو تاريخ معلوم، وليس هاهنا إضافة في المعنى، إلا إلى هذا التاريخ المعلوم، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ، أو قرينة حال. فتدبره ففيه معتبر لمن ادّكر، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر والحمد الله اهـ.
وقد نقل كلامه ملخصا الحافظ في الفتح وقال عقبه: كذا قال: والمتبادر أن معنى قوله: من أول يوم، أي دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اهـ وقال ابن المنير: كلام السهيلي كلام تكلف وتعسف وخروج عن تقدير الأقدمين فإنهم قدروه من تأسيس أول يوم كأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس، وهذا تأسيس تقتضيه العربية وتشهد له الآية اهـ.
قلت: كلام السهيلي ظاهر المأخذ، جلي الإستنتاج والذين استبشعوه كأنهم لم يذوقوه، فتأمله بإنصاف، ترى الحق مع ما أملاه الأعمى لا ما كتبه البصراء «1» ، ولذا اقتصر عليه معجبا به المولى شهاب الملة والدين الخفاجي في عناية الراضي وكفاية القاضي فانظرها فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا [الإسراء: 84] .
واختيرت الهجرة للإبتداء بها دون وقت الولادة والبعثة، لإختلافهم فيها دونها، ووقت الوفاة وإن شارك الهجرة في الإتفاق، لا يحسن الإبتداء بها عقلا لما ينشأ عنه من تهيج الحزن والأسف بخلاف وقت الهجرة، فإنه يتبرك به لكونه وقت استقامة ملة الإسلام، واختير لإفتتاح السنة المحرم دون غيره لكونه شهر الله، وأحد الأشهر الحرم، وفيه تنصرف الناس من الحج.
باب في الرسول (السفير) وفيه فصول فصل في صفات رسله عليه السلام من وفور العقل وطلاقة اللسان وقوة الحجة المقنعة للخصم
قال السهيلي في الروض ص 355 من الجزء الثاني: لما قدم دحية على قيصر قال:
يا قيصر أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله هو خير منه ومنك، فاسمع بذل ثم أجب بنصح. فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي قال: نعم قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من دبّر خلق السموات والأرض، والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى، وبشر به عيسى ابن مريم بعده، وعندك من ذلك أثارة من علم، تكفي
(1) هنا إشارة لكون الإمام السهيلي رحمه الله كان مكفوف البصر.
عن العيان، وتشفي من الخبر. فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة، وشوركت في الدنيا، واعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة، ويغير النعم.
فأخذ قيصر الكتاب ووضعه على عينيه ورأسه وقبله ثم قال: أما والله ما تركت كتابا إلا وقرأته، ولا عالما إلّا وسألته، فما رأيت إلا خيرا فأمهلني حتى أنظر من كان المسيح يصلي له، فإني أكره أن أجيبك اليوم، بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه، فأرجع عنه فيضرني ذلك، ولا ينفعني، أقم حتى أنظر. فلم يلبث أن أتاه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الروض أيضا: أن حاطبا لما قدم على المقوقس ملك مصر قاله له: إنه قد كان رجل قبلك يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك، قال: هات قال: إن لك دينا لن تدعه إلا لمن هو خير منه، وهو الإسلام إليه الكافي به الله فقد ما سواه.
إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى. ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا، كبشارة عيسى بمحمد. وما دعاؤنا إياك للقرآن، إلّا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل. وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكن نأمرك به.
وفيه أيضا أن العلاء بن الحضرمي لما قدم على المنذر بن ساوى بكتابه عليه السلام قال له: يا منذر، إنك عظيم في الدنيا، فلا تصغرنّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية ليس فيها تكرم العرب، ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكره عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، هل ينبغي لمن لا يكذب أن لا تصدقه؟ ولمن لا يخون أن لا تأمنه؟ ولمن لا يخلف ألا تثق به؟ فإن كان هذا هكذا؛ فهو هذا النبي الأمي، الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه إنّ كلّ ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل البصر.
وفيه أيضا أن عمرو بن العاص لما قدم على على الجلندى قال له: يا جلندى، إنك وإن كنت منا بعيدا؛ فإنك من الله غير بعيد، إن الذي تفرّد بخلقك أهل أن تفرد بعبادتك، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك، واعلم أنه يميتك الذي أحياك، ويعيدك الذي بدأك.
فانظر في هذا النبي الأمي الذي جاء بالدنيا والآخرة، (فإن كان ما يريد به أجرا فامنعه، أو يميل به هوى فدعه ثم ينظر فيما يجيء به يشبه ما تجيء به الناس فإن كان يشبهه فسله العيان وتخيّر عليه في الخير) وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال، وخف ما وعد.
وفيه أيضا أن شجاع بن وهب لما قدم على جبلة بن الأيهم قال له: يا جبلة إن قومك
نقلوا هذا النبي الأمي من داره إلى دارهم، - يعني: الأنصار- فاووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبي الأمي من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يضرك، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والقبلة بالصليب. وكان ما عند الله خير وأبقى.
وفيه أيضا أن المهاجر بن أبي أمية، لما قدم على الحارث بن عبد كلال قال له: يا حارث، إنك كنت أوّل من عرض عليه المصطفى نفسه، فخطأت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرّا، فإذا نظرت في غلبة الملوك فانظر في غالب الملوك، وإذا سرّك يومك فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا وأمّلوا بعيدا، وتزودوا قليلا. منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وأنا أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك أحد وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس شيء أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربا يميت الحي ويحيي الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
ومما قاله دحية في قدومه على قيصر:
ألا هل أتاها على نابها
…
فإني قدمت على قيصر
فقدرته بصلاة المسيح
…
وكانت من الجواهر الأحمر
وتدبير ربك أمر السما
…
ء والأرض فأغضى ولم ينكر
وقلت تقر ببشري المسي
…
ح فقال: سأنظر، قلت: انظر
فكاد يقرّ بأمر الرسو
…
ل، فمال إلى البدل الأعور
فشك وجاشت له نفسه
…
وجاشت نفوس بني الأصفر
على وضعه بيديه الكتا
…
ب على الرأس والعين والمنخر
فأصبح قيصر من أمره
…
بمنزلة الفرس الأشقر
يريد بالفرس الأشقر مثلا للعرب فيمن يتردد عن الشيء، لا يريد ما يرجح فيه انظر ص 355 من الجزء الثاني من الروض.
وفي ص 359 من الجزء السادس من صبح الأعشى من غريب ما يروى، ما ذكره ابن عبد الحكم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وبلغه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما منعه أن يدعو عليّ فيسلط علي؟ قاله له حاطب: ما منع عيسى أن يدعو على من أبي عليه أن يفعل ويفعل. فوجم ساعة ثم استعادها فأعادها عليه حاطب، فسكت.
ويروى أنه حين سأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حروب قومه وذكر له أن الحرب تكون
بينهم سجالا تارة له وتارة عليه، قال له المقوقس: النبي يغلب؟ فقال له حاطب: فالإله يصلب؟ يشير بذلك إلى ما تزعمه النصارى من أن المسيح عليه السلام صلب مع دعواهم فيه أنه إله؟
وفي ترجمة سيدنا عبادة بن الصامت من الاستبصار للموفق بن قدامة، روي أن المقوقس صاحب مصر بعث إلى عمرو أن أبعث لي رسلا أكلمهم، فبعث إليه نفرا منهم عبادة بن الصامت، وأمره أن يكون هو المتكلم، وكان عبادة أسود شديد السواد، فلما دخلوا على الملك تقدم عبادة، فقال الملك: ما فيكم من يتكلم غير هذا؟ فقال القوم: هو أفضلنا وأقدمنا صحبة لنبينا، ومع هذا فقد أمره أميرنا. هو المتكلم قال: فليتقدم إذا. فإنما هبته لسواده. فقال عبادة: فإن كنت هبتني لسوادي وقد ولى شبابي، وذهبت قوتي فكيف بك لو رأيت عسكرنا وفيه أكثر من ألف أشد مني سوادا، وأقوى أبدانا وأعظم أجسادا؟
فطلب منه الملك الصلح. فقال عبادة: إنا لا نقبل منكم إلا إحدى خلال ثلاث: إما أن تسلموا، فتكونوا إخواننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإما أن تؤدوا الجزية إلينا،.
وتعتقدوا منا الذمة، فنقبل منكم ونكف عنكم، وإما أن تبرزوا لنا حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال الملك: لا تقبلوا غير هذه الخلال الثلاث؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا ورب السماء، لا ورب هذه الأرض، لا نقبل منكم غيرها. فقال الملك لأصحابه: ما ترون فيما قال؟ فأبوا. فقال الملك: والله لئن لم تقبلوا منهم إحدى هذه الخلال قبل قتل الرجال وسبي الحريم، لتقبلنه منهم بعد ذلك وأنتم راغمون فصالحهم.
ووجه عمر عبادة إلى الشام قاضيا ومعلما اهـ.
ثم استطرد القلقشندي، أن بعض ملوك الروم كتب إلى خليفة زمانه يطلب منه من يناظر علماء النصرانية عنده، فإن قطعهم أسلموا، فوجه إليهم بالقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني المالكي، فلما حضر المجلس، واجتمع لديه علماء النصارى قال له بعضهم: إن معتقدكم أن الأنبياء معصومون في الفراش، وقد رميت عائشة بما رميت به، فإن كان ما رميت به حقا كان ناقضا لأصلكم الذي أطلقتموه في عصمة الأنبياء في الفراش. وإن كان غير حق كان مؤثرا في إيمان من وقع منه. فقال له القاضي، أبو بكر: امرأتان حصينتان رميتا بالفرية؛ إحداهما لها زوج ولا ولد لها. والآخرى لها ولد ولا زوج لها. يشير بالأولى إلى عائشة، وبالثانية إلى مريم فسجدوا له على عادة تحيتهم في ذلك. وقد رأيت في ترجمة الباقلاني من تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي هذه القصة على وجه آخر؛ وذلك أنه ذكر أنه جرت له أمور منها؛ أن الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعا للملك، ففطن لها ودخل بظهره ومنها أنه قال لراهبه: كيف الأهل والأولاد فقال له الملك: أما علمت أن الراهب يتنزه عن هذا؟ فقال: تنزهونه عن هذا ولا تنزهون الله عن الصاحبة والولد؟
وقيل: إن طاغية الروم سأله كيف جرى لعائشة. وقصد توبيخه فقال: كما جرى
لمريم وبرأ الله المرأتين، ولم تأت عائشة بولد، فأفحمه ولم يدر جوابا اهـ من تاريخ الإسلام.
وأحفظ أيضا أن الباقلاني سأله ملك الروم أيضا. قال له: تزعمون أن القمر انشق لنبيكم، فهل للقمر قرابة حتى ترونه دون غيركم؟ فقال: وهل بينكم وبين المائدة إخوة ونسب إذ رأيتموها، ولم ترها اليهود واليونان والمجوس، الذين أنكروها وهم في جواركم؟
فأفحم ولم يدر جوابا.
وقد ذكر القصة مبسوطة ابن التلمساني في شرح الشفا قائلا: ذكر بعضهم أن الإمام العالم الأعرف أبا بكر بن الطيب، لما وجهه صاحب الدولة سفيرا إلى ملك الروم، ليظهر به رفعة الإسلام، وبغض النصرانية. وجرت في تلك الوجهة، في القسطنطينية بينه وبين ملكها، مع بطارقته ونبلاء ملته مناظرات ومحاورات، منها: أن الملك قال له هذا الذي تدّعونه في معجزات نبيكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قال: هو صحيح عندنا.
انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رآه الناس، وإنما رآه من الحضور من اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قال: الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لحضوره. قال. وهذا القمر بينكم وبينه قرابة لأي شيء لم يعرفه الروم وغيرهم من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قال: فهذه المائدة بينكم وبينها نسب، وأنتم رأيتموها دون اليهود والمجوس والبراهمة واهل الإلحاد واليونان جيرانكم؛ فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن فتحير الملك وقال في كلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني، وقال: نحن لا نطيقه، فلم أشعر إذ جاؤا بالرجل كالدب أشقر الشعر، فقعد وحكيت له المسألة فقال: الذي قال المسلم لازم لا أعرف له جوابا إلا ما ذكره، فقلت:
له: إن الكسوف إذا كان يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي في محاذاته؟
فقال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر كذلك إذا كان من ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر. وأما من أعرض عنه، أو كان في الأمكنة التي لا يرى القمر فيها فلا يراه فقال: هو كما قلت. لا يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوا. فأما الطعن في هذه الوجه فليس بصحيح، فقال الملك:
وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات إذا صح وجب أن ينقله الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم به، ولو كان كذلك لوقع لنا العلم الضروري به، فلما لم يقع دلّ على أنه أكبر مفتعل باطل، فالتفت الملك إلي وقال: الجواب. فقلت: يلزمه في نزول الملائكة بالمائدة ما لزمني في انشاق القمر. ويقال له: لو كان نزول المائدة صحيحا لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا ويعلم هذا بالضرورة، ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دل أن الخبر كذب فبهت النصراني والملك ومن ضمه المجلس وانفصل للوطن على هذا اهـ.