الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] اهـ منه.
كيفية معاملته صلى الله عليه وسلم مع كفار زمانه
من استعمال الشدة في وقتها والعطف والمجاملة في إبانها ومناسبتها زيادة على ما سبق.
عن ابن تيمية: كان عليه السلام في أول أمره يتحمل أذاهم، ويصبر على بلواهم حتى أذن الله له بالقتال، لاثني عشر ليلة مضت من صفر في السنة الثالة من الهجرة، قال الزهري:
أول آية نزلت في الأذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] خرّجه النسائي بإسناد صحيح، قال أبو حيان في البحر: والمأذون فيه في الآية محذوف؛ أي في القتال لدلالة الذين يقاتلون عليه، وعلل بأنهم: ظلموا. كانوا يأتون من بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: إصبروا، فإني لم أومر بقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وقال غيره: وإنما شرع الله الجهاد في الوقت الأليق، لأنهم كانوا بمكة، وكان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم قليل بقتال الباغين لشق عليهم، فلما نفر المشركون وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم، وهموا بقتله واستقر عليه السلام بالمدينة، واجتمع عليه أصحابه وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلا يلجأون إليه، شرع الله الجهاد فبعث عليه السلام البعوث والسرايا وغزا بنفسه وقاتل هو وأصحابه، وكان عدد مغازيه التي خرج فيها بنفسه عليه السلام سبعا وعشرين، كما قاله أئمة المغازي، وجزم به ابن الجوزي والدمياطي والعراقي وغيرهم، وقيل غير ذلك.
قال ابن تيمية: ولا يعلم أنه عليه السلام قاتل في غزاة إلا في أحد، ولم يقتل أحدا إلا أبي بن خلف فيها، فلا يفهم من قولهم: قاتل كذا أنه بنفسه، كما فهمه بعض الطلبة ممن لا إطلاع له على أحواله عليه السلام اهـ.
قال في النور: قد يرد على ابن تيمية حديث: كنا إذا التقينا كتيبة أو جيشا أول من يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن تأويله، وكانت سراياه عليه السلام التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية. قال الشامي: الذي وقفت عليه في السرايا والبعوث يزيد على السبعين، وقال الحافظ: قرأت بخط مغلطاي: أن مجموع الغزوات والسرايا مائة، وهو كما قال اهـ.
وقد جرت عادة المحدثين وأرباب السير أن يسموا كل عسكر حضره عليه السلام بنفسه الكريمة غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثا، وفي حال جريان الأعمال الحربية مجراها أو السلم والصلح أو الهدنة، كان عليه السلام يتألف كبار المشركين والكفار، ويلين لهم القول ويظهر لهم إذا قدموا عليه مزيد الإعتبار استيلافا لهم وليعرفوا خلقه، وناهيك بقصة (عبس وتولّى) المتقدمة، وفي بدائع الفوائد للحافظ ابن القيم:
أن الإمام أحمد سئل هل يكني الرجل أهل الذمة فقال: قد كنى النبي صلى الله عليه وسلم أسقف نجران،
وعمر فقال: يا أبا حسان لا بأس به انظر ص 122 الجزء الرابع، وكان يأمر الصحابة بذلك أيضا. قال المناوي في شرحه الكبير على الجامع الصغير لدى حديث: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، المخرج من ابن ماجه والبزار والطبراني، وابن عدي والبيهقي والحاكم عن عدة من الصحابة ما نصه: إذا أتاكم كريم قوم أي رئيسهم المعظم فيهم المعود منهم بإكبار الإعظام، وإكثار الإحترام فأكرموه، برفع مجلسه وإجزال عطيته ونحو ذلك، مما يليق به؛ لأن الله عوّده ذلك منه إبتلاء له، فمن استعمل معه غيره فقد إستهان به وجفاه، وأفسد عليه دينه؛ فإن ذلك يورث في قلبه الغل والحقد والبغضاء والعداوة، وذلك يجر إلى سفك الدماء. وفي إكرامه إتقاء شره، وإبقاء دينه، فإنه قد تعزز بدنياه وتكبروتاه وعظم في نفسه، فإذا أحقرته فقد أهلكته من حيث الدين والدنيا، وبه عرف أنه ليس المراد كريم القوم عالمهم أو صالحهم، كما وهم البعض، ألا ترى أنه لم ينسبه في الحديث إلى علم ولا دين.
ومن هذا السياق انكشف أن إستثناء الكافر والفاسق كما وقع لبعضهم منشؤه الغافلة عما تقرر، من أن الإكرام منوط بخوف محذور ديني أو دنيوي، أو تكون ضررا للفاعل أو المفعول معه، فمتى خيف شيء من ذلك شرع إكرامه بل يجب، فمن قدم عليه بعض الولاة الظلمة الفسقة فأقصر مجلسه وعامله معاملة الرغبة، فقد عرض نفسه وماله للبلاء، فإن أوذي ولم يصبر فقد خسر الدنيا والآخرة وقد قيل: دارهم ما دمت في دارهم، وحيهم ما دمت في حيهم. اهـ.
وقال عليه السلام: بعثت نبيا مداريا «1» . ولهذا كان كثير من أكابر السلف المعروفين بمزيد الورع يقبلون جوائز الإمراء المظهرين للجور ويظهرون لهم البشاشة حفظا للدين ورفقا بالمسلمين، ورحمة بذلك الظالم المبتلي المتكبر، وهكذا كان أسلوب المصطفى عليه السلام مع المؤلفة قلوبهم، وقد غلط في هذا الباب كثير غفلة عن معرفة تدبير الله ورسوله، والجمود على ظاهر: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18] وما دروا أن السنة شرحت ذلك وبينته أحسن البيان بموضع طلب إهانة الفاسق والكافر للأمن من حصول مفسدة،
والحاصل أن الكامل إنما يكرم لله أو يهين لله. ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للفقير أن يكرم كل وارد عليه من الولاة، فإن أحدهم لم يزر الفقير حتى خلع عنه كبرياءه ورأى نفسه دونه، وإلا لما أتاه مع كونه من رعاياه، قال: فمن أتانا فقيرا حقيرا أكرمناه، كائنا من كان وإن كان ظالما فنحن ظالمون أنفسنا بالمعاصي وغيرها، ولو بسوء الظن فظالم قام لظالم، وأكرمه. وقد كان المصطفى يتواضع لأكابر كفار قريش ويكرمهم، ويرفع منزلتهم لأنهم مظاهر العزة الالهية ورؤي بعض الأولياء في النوم، وعليه حلة خضراء والأنبياء واقفون بين يديه فاستشكل ذلك الرائي فقصه على بعضهم فقال: لا تنكره فإن
(1) ذكر في كشف الخفاء حديثا بمعناه: بعثت بمداراة الناس وعزاه للبيهقي عن جابر.
تأدبهم مع من ألبسه الخلعة لامعه، ألا ترى أن السلطان إذا خلع على بعض غلمانه ركب أكابر الدولة في خدمته اهـ منه ص 37.
وفي الأكليل على قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب وغيره قال: كنّياه قولا له: يا أبا مرة، ففيه جواز كنية الكافر، وإستحباب إلانة القول للظالم عند وعظه لعله يرجع. وفيه أيضا على قوله في سورة مريم (سلام عليك) إستدل به من أجاز إبتداء الكافر بالسلام.
وفي سيرة عمر: أنه بعد إتمام فتح الشام، جرت بينه وبين ملك الروم المكاتبات الودادية، وأن أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وزوج عمر بن الخطاب، أرسلت مع رسول جاء إلى المدينة من قبل ملك الروم هدية من ألطاف المدينة إلى إمبراطورة الروم امرأة هرقل، وأرسلت هذه في نظيرها عقدا نفيسا من الجواهر، فأخذه منها عمر ورده إلى بيت المال، هذا على ما في رواية ساقها أين الهندي في كنز العمال.
وفي تاريخ ابن جرير الطبري أن أم كلثوم أرسلت تلك الهدية مع بريد عمر، وأن امرأة هرقل جمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم، وكاتبتها وكافأتها وأهدته لها. انظر أخبار سنة 28 من تاريخ ابن جرير، وسيرة سيدنا عمر للحافظ ابن الجوزي.
وفي الخطط المقريزية: أن أسامة بن زيد التنوخي من رجال مصر في القرن الأول، وكان صاحب خراج مصر، إبتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار. كان كتب فيه الوليد بن عبد الملك ليهديه إلى صاحب الروم، وضرب الفلفل بدار بمصر كانت تعرف بدار الفلفل انظر ص 304 الجزء الثالث. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن علقمة الخزاعي عن أبيه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم بمال لأبي سفيان بن حرب يفرقه في فقراء قريش وهم مشركون يتألفهم، فقدمت مكة ودفعت المال إلى أبي سفيان فجعل أبو سفيان يقول: من رأى أبر من هذا، ولا أوصل يعني النبي صلى الله عليه وسلم إنا نجاهد ونطلب دمه وهو يبعث إلينا بالصلات يبرنا بها.
أورده الحافظ السيوطي في الجمع، وابن الهندي في الكنز انظر ص 42 من الجزء الخامس.
وفي الهداية من كتب الحنفية: صح أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا بجواره قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديثها: محمد بن الحسن في الآثار، أخبرنا أبو حنيفة عن علقمة بن مرثد، عن أبي بريدة عن أبيه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا: قوموا بنا نعود جارنا اليهودي فأتيناه فقال له: كيف أنت يا فلان؟ ثم عرض عليه الشهادتين ثلاث مرات فقال له أبوه: يا بني إشهد فشهد، فقال الحمد لله الذي أعتق به نسمة من النار، ومن هذا الوجه أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وروى عبد الرزاق من مرسل ابن أبي حسين نحوه، وزاد فيه وغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفّنه وحنّطه وصلّى عليه اهـ.
وقعت لسيدنا الجد قصة تشبه هذه مع يهودي أيضا من يهود ملاح فاس.