الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: كان الحافظ الزيلعي، والحافظ ابن حجر، لم يستحضرا في هذا الموطن حديث أبي داود والحاكم عن بريدة رفعه: أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول «1» . عزاه لهما الحافظ في تلخيص الحبير. وقد وجدت أبا داود بوّب عليه في أبواب الخراج والإمارة: باب في أرزاق العمال، ثم أخرجه بلفظ: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول. ثم أخرج عن المسور بن شداد رفعه:
من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن مسكن فليكتسب مسكنا، قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غالّ أو سارق «2» .
وفي عون الودود على الحديث الأول: سكت عنه أبو داود: والمنذري. ورجاله ثقات، وفيه بينة على جواز أخذ العامل حقه من تحت يده، فيقبض من نفسه لنفسه، ثم نقل عن الطيبي على الحديث الثاني: فيه أنه يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من بيت المال قدر مهر زوجته ونفقتها وكسوتها، وكذا ما لا بد له منه من غير إسراف وتنعم اهـ.
ثم أخرج أبو داود عن ابن الساعدي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت أمر لي بعمالة (ما يأخذه العامل من الأجرة) فقلت: إنما عملت لله. فقال: خذ ما أعطيت؛ فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلني أي أعطاني عمالتي «3» . قال الكنكوهي في التعليق المحمود على سنن أبي داود: عليه فيه جواز أخذ العوض من بيت المال على العمل العام، كالتدريس والقضاء وغيرهما، بل يجب على الإمام كفاية هؤلاء ومن في معناهم من بيت المال. وظاهر هذا الحديث وغيره مما يبين وجوب قبول ما أعطيه الإنسان من غير سؤال، ولا إشراف نفس، وبه قال أحمد وغيره، وحمل الجمهور على الاستحباب والإباحة اهـ انظر الباب 49 من سراج الملوك والموفي خمسين.
النظر في المظالم (العدلية)
قال المرجاني في وفية الأسلاف ص 366: النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي، ممتزجة من السطوة السلطانية ونصفة القضاة، بعلو بيّن وعظيم رغبة، تقمع الظالم من الخصمين. وتزجر المتعدي ويمضي ما عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن، والأمارات وتأخير الحكم في استجلاء الحق، وحمل الخصم على الصلح، واستحلاف الشهود. وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم؛ إلى أيام المهتدي بالله، وربما سلموها إلى قضاتهم اهـ.
(1) رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة، باب في أرزاق العمال: ج 3 ص 353، 354 وأوله: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.
(2)
رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة، باب في أرزاق العمال: ج 3 ص 353، 354 وأوله: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.
(3)
انظر سنن أبي داود 3/ 353.
هذه الوظيفة كان يليها المصطفى بنفسه، لأنه كان ينتقد أحكام قضائه وعماله ويناقشهم.
لما تكلم الشهاب أحمد النويري في نهاية الارب على ولاية المظالم قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام، ورجل من الأنصار، في شراج (جمع: شرج بالفتح وهو مسيل الماء من الحرّة إلى السهل) ، فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه اهـ انظر ص 268 ج 6، وكذلك الخلفاء من بعده، كما ذكر المرجاني وناهيك بما سبق.
وفي سيرة عمر من هذا الباب كثير وناهيك بما كان يفعله كل سنة في الحج الأكبر من تقصيه البحث عن أعمال الولاة، وسؤاله الناس بنفسه عن عمالهم وحكامهم، انظر ما سبق في باب المحاسبة. وذلك أصل مجالس الاستئناف والعدلية.
وفي ص 109 من الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المدائني:
وقال عمر في خلافته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرنّ في الرعية دولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليّ، وأماهم فلا يصلون إليّ. أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة، فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا.
وقال: وقد خطب الناس والذي بعث محمدا بالهدى: لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله آل الخطاب. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني بال الخطاب نفسه ما يعني غيرها اهـ.
وفي سيرة عمر أيضا أنه أول من عيّن شخصا مخصوصا لاقتصاص أخبار العمال، وتحقيق الشكايات التي تصل إلى الخليفة من عماله، وهو محمد بن مسلمة اهـ.
وفي سراج الملوك للطرطوشي: كان عمر إذا أحب أن يؤتي بالأمر كما هو عليه بعثه اهـ.
وأخرج ابن راهواه والحارث بن أبي أسامة، ومسدد، قال السيوطي: في الجمع:
وصحح عن عبد الله بن بريدة في خطبة ربيع بن زياد، بين يدي عمر بن الخطاب، بمحضر الوفود، وإيثار عمر له بولايته وأنه قال في الملأ: لا يأتينّ عليكم وال إلا تعاهدت منه عمله، وكتب إليّ بسيرته في عمله، حتى كأني أنا الذي أستعمله. انظر ص 36 من ج 7 من كنز العمال.
وفي سراج الملوك للطرطوشي قال إبراهيم النخعي: كان عمر إذا قدم عليه الوفد سألهم عن حالهم وأسعارهم، وعمن يعرف من أهل البلاد، وعن أميرهم هل يدخل عليه الضعيف؟ وهل يعود المرضى؟ فإن قالوا: نعم. حمد الله. وإن قالوا: لا. كتب إليه أن أقبل.
وفيه أيضا: كان عمر بن الخطاب يأمر إذا قدم عليه العمال أن يدخلوا نهارا، ولا يدخلوا ليلا كي لا يحتجنوا شيئا من الأموال.
وعزى العقباني في تحفة الناظر لجامع الموطأ أن عمر بن الخطاب: كان يذهب إلى العوالي كل يوم سبت، فإذا وجد العبد في عمل ثقيل، لا يطيقه. وضع عنه منه بقدر ما يظهر له.
وفي العتبية قال مالك: إن عمر بن الخطاب مرّ بحمار عليه لبن فوضع عنه طوبتين، فأتت سيدته لعمر فقالت: يا عمر، ما لك ولحماري؟ ألك عليه سلطان؟ قال: فما يقعدني في هذا الموضع؟ ثم ذكر القصة في خروجه إلى الحوائط بالعوالي.
قال ابن رشد: المعنى في هذا بيّن، لأن المصطفى عليه السلام قال: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته. وقد قال عمر في هذا: لو مات جمل بشاطىء الفرات ضياعا، لخشيت أن يسألني الله عنه اهـ من البيان والتحصيل.
وبذلك كله تعلم ما في الخطط للمقريزي: أول من نظر في المظالم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأوّل من أفرد للظلامات يوما بتصفح قصص المتظلمين من غير مباشرة النظر عبد الملك بن مروان، ثم زاد الجور فكان عمر بن عبد العزيز أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس اهـ أيضا ما في قول النويري في نهاية الإرب: لم ينتدب أحد من الخلفاء للمظالم، وإنما كانت المنازعات تجري بين الناس فيفصلها حكم القضاة اهـ فإنهم غفلوا جميعا عن سيرة المصطفى وعمر وبذلك كله تعلم ما في نقل الخزاعي في هذه الترجمة، عن ابن العربي في الأحكام من أن هذه الولاية غريبة محدثة، فإنه غفلة منه، عما نقله بنفسه عن الكلاعي في الاكتفاء في باب محاسبة أبي بكر عماله، وكذا قول النويري في النهاية: لم ينتدب أحد للمظالم من الخلفاء، وإنما كانت المنازعات تجري بين الناس فيفصلها حكم القضاء.
تنبيه: في تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشي؛ أن عمر بن الخطاب أوصى حين كتب عهده، أنه لا يولّى العامل أكثر من عامين، استشهد بذلك حين ذكر عن الشيخ أبي محمد عبد الواحد الغرياني عمن يوثق به، أن من عادة الموحدين قديما بتونس، أنهم كانوا لا يولون القضاء أكثر من عامين. وأيضا فإنهم يرون أن القاضي إذا طالت مدة قضائه أكثر الأصحاب والإخوان، وإذا كان بمظنة العزل لا يغتر، وأيضا فإن الحال إذا كان هكذا ظهرت مخايل المعرفة بين الأقران، وكثر فيهم القضاة بتدربهم على الوقائع فيبقى الحال محفوظا، بخلاف ما إذا استبد الواحد بعمل؛ فإنه لا يقع فيهم تناصف، ولا يحصل لمن يلي بعده النفوذ بوظيفة ما قدم إليه إلا بعد حين وتنطمس القلوب الطلبة كذا لا ياسهم من الولاية إلا بعد مشقة اهـ منه ص 44.
وفي طبقات ابن سعد: أن عمر كان إذا بعث عاملا على مدينة كتب ماله، وقد قاسم