الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعض
وهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم
، والخلاف في ذلك،
وحجة كل قول
قال الله تعالى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 74]، وقال:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَاَلْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33].
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ»
(1)
، وأنه قال:«لا يتوارث أهل ملَّتين شتى»
(2)
.
و
اتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون
؛ يرث اليهودي اليهودي، والنصراني النصراني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عَقِيل من رِباعٍ؟» ، وكان عقيل ورث أبا طالب دون عليٍّ وجعفرٍ، لأنه كان على دينه مقيمًا بمكة، فورث رِباعه بمكة وباعها، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: أين تنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عَقيل من رِباعٍ؟»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (6764) ومسلم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد (6664، 6844) وأبو داود (2911) والنسائي في «الكبرى» (6350، 6351) وابن ماجه (2731) والدارقطني (4084، 4085) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وهذا إسناد حسن.
(3)
أخرجه البخاري (1588) ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وقال عمر في عمَّة الأشعث بن قَيسٍ لمَّا ماتت: يرِثها أهلُ دينها
(1)
.
ويتوارثون وإن اختلفت ديارهم، فيرث الحربي المستأمَن والذمِّي ويرثانه.
قال أحمد في رواية الأثرم
(2)
فيمن دخل إلينا بأمانٍ فقُتِل: إنه يُبعث بديته إلى مَلِكهم حتى يدفعها إلى ورثته.
وفي «المسند»
(3)
وغيره أن عمرو بن أُمَيَّة الضَّمْري كان مع أهل بئر مَعُونة، فلما قتلوا أسلم هو ورجع إلى المدينة، فوجد رجلين في طريقه من الحي الذين قتلوهم، وكان معهما عهدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم وأمان، فلم يعلم به عمرٌو فقتلهما، فوَدَاهما النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أنه بعث بديتهما إلى أهلهما.
وهذا اختيار الشيخين أبي محمد وأبي البركات
(4)
.
واحتج من نصر هذا القول بالعمومات المقتضية لتوريث الملة الواحدة
(1)
أخرجه عبد الرزاق (9858) وسعيد بن منصور (144) وابن أبي شيبة (32089 - 32092) والدارمي (3032، 3039) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 463) من طرق عنه رضي الله عنه.
(2)
كما في «المغني» (9/ 158).
(3)
ليس فيه، ولعل منشأ الوهم أنه ذكره في «المغني» بعد قول أحمد المتقدم بلفظ: «وقد رُوي أن عمرو بن أمية
…
» إلخ، فلو قرئ:«وقد رَوَى» لعاد الضمير إلى أحمد، ولغلب على الظنِّ حيئنذ أن يكون الحديث في «مسنده» .
وإنما أخرجه ابن هشام في «السيرة» (2/ 186) والطبراني في «الكبير» (20/ 356) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 338 - 341) عن ابن إسحاق مرسلًا.
(4)
انظر: «المغني» (9/ 158) و «المحرَّر» (1/ 413).
بعضِهم من بعضٍ من غير تخصيصٍ.
قالوا: ومفهوم قوله: «لا يتوارث أهل ملتين» يقتضي توارث أهل الملة وإن اختلفت ديارهم، ولأن مقتضى التوريث قائمٌ وهو القرابة، فيَعمل عمَلَه ما لم يمنع منه مانع.
وقال القاضي وأصحابه: لا يرث حربيٌّ ذميًّا، ولا ذمي حربيًّا، لأن الموالاة بينهما منقطعةٌ وهي سبب التوارث، فأما المستأمَن فيرثه أهل الحرب وأهل الذمة
(1)
.
وقال أبو حنيفة: المستأمَن لا يرثه
(2)
الذمي لاختلاف دارهما، ويرث أهل الحرب بعضهم بعضًا سواءٌ اتفقت ديارهم أو اختلفت. وهذا مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا اختلفت ديارهم بحيث كان لكل طائفة مَلِكٌ، ويرى بعضهم قتل بعضٍ، لم يتوارثا
(3)
لأنهم لا موالاة بينهم.
فجعلوا اتفاق الدار واختلافها ضابطَ التوارث وعدمه. وهذا أصلٌ لهم في اختلاف الدار انفردوا به. قال في «المغني»
(4)
: ولا نعلم لهذا حجةً من كتابٍ ولا سنةٍ مع مخالفته لعموم السنن المقتضي للتوريث. ولم يعتبروا
(1)
انظر: «المغني» (9/ 158) و «الإنصاف» (18/ 276).
(2)
في متن الأصل: «يرث» ، والمثبت من نسخة مشار إليها في هامش الأصل، وهو الموافق لمصدر المؤلف.
(3)
في المطبوع: «يتوارثوا» خلافًا للأصل ولمصدر المؤلف.
(4)
(9/ 158).
الدين في اتفاقه ولا اختلافه مع ورود الخبر فيه، وصحة العبرة به، فإن المسلمين يرث بعضهم بعضًا وإن اختلفت الدار بهم، وكذلك الكفار، ولا يرث المسلم كافرًا ولا كافرٌ مسلمًا لاختلاف الدين وإن اتحدت داراهما
(1)
. يعني: أن اختلاف الدار ملغًى في الشرع، واختلاف الدين هو المعتبر.
فصل
فإن اختلفت أديانهم فقد اختلف العلماء: هل يتوارثون أم لا؟
فقال الخلَّال في «الجامع»
(2)
: باب قوله: «لا يتوارث أهل ملتين» . أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قال: أما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يرث مسلم كافرًا، إنما عمرو بن شعيبٍ فقط يرويه:«لا يتوارث أهل ملتين»
(3)
.
قال: واحتج قومٌ في الملتين، قالوا: وإن كانوا أهل كتابٍ، وهي ملل مختلفةٌ أحكامهم، لهؤلاء حكمٌ، ولهؤلاء حكمٌ، فلم يورَّثوا بعضهم من بعضٍ.
قال الميموني: ورأيت أكثر مذهبه أنه لا يورَّث بعضُهم من بعضٍ.
ثم ذكر عن إسحاق بن منصورٍ
(4)
أنه قال لأبي عبد الله: «لا يتوارث
(1)
الظاهر أنه هنا ينتهي النقل عن «المغني» ، ولكن ليس في مطبوعته قوله:«وإن اتحدت داراهما» .
(2)
في كتاب «أحكام أهل الملل» منه (1/ 405).
(3)
تقدم تخريجه (ص 3).
(4)
وهو في «مسائله» (2/ 404).
أهل ملتين شتَّى»
(1)
لا يرث اليهودي النصراني؟ قال: لا يرث، هما ملتان مختلفتان.
ثم ذكر من مسائل الحسن بن ثواب قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع: هل يرث المسلم الكافر؟ قال: لا يتوارث أهل ملتين.
أخبرني حرب أنه قال لأبي عبد الله: واليهودي يرث النصراني؟ فرخَّص في ذلك.
قال أبو بكر الخلال
(2)
: لا يتوارث أهل ملتين، فحكى الميموني عن أبي عبد الله في أول المسألة ما يدل من قول أبي عبد الله
(3)
واحتجاجِه أنه قال بتوريثهم، [وفي آخر مسألة قال: ورأيتُ أكثر مذهبه أنه لا يورثهم]
(4)
.
قال: وهذا كلامٌ غير محكمٍ، إنما هو شيء ظنه عن أبي عبد الله. والحسن بن ثوابٍ قال عنه: لا يتوارث أهل ملتين. وأما حرب فقد قال: إني قلت له: لا يتوارث أهل ملتين؟ قال: لا يرث المسلم الكافر. وحكى إسحاق بن منصورٍ أنه لا يورثهم، وهو قديم السماع.
(1)
رسمه في الأصل: «شيا» فأثبت في المطبوع: «شيئًا» ، والصواب أنه تصحيف عن «شتا» ــ أي: شتَّى ــ على ما جاء في حديث ابن عمرٍو و «المسائل» و «الجامع» .
(2)
«الجامع» (2/ 406).
(3)
«في أول المسألة» إلى هنا سقط من المطبوع لانتقال النظر.
(4)
ما بين الحاصرتين من «الجامع» ، ولعله سقط من الناسخ لانتقال النظر، ولا بدَّ منه فإن فيه الظن الذي أنكره الخلال على الميموني، لأن الخلال يرى أن التوريث هو الأشبه بقول أحمد كما سيأتي.
وحكى حرب أنه يورث بعضهم من بعضٍ، وهو أشبه بقول أبي عبد الله واحتجاجه في أمورهم كلِّها؛ أنه يورث بعضهم من بعضٍ
(1)
ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
وهذا الذي اختاره الخلال هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأهل الظاهر
(2)
.
واختار أبو بكر عبد العزيز الرواية الأخرى، وأن الكفر ملل مختلفةٌ لا يرث بعضهم بعضًا، وهو الذي نصره القاضي واختاره في «تعليقه»
(3)
. وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو قول كثيرٍ من أهل العلم، وقول أهل المدينة مالك وأصحابه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يتوارث أهل ملتين شتى» ، ولأنهم لا يتناصرون ولا يتعاقلون، ولا يوالي بعضهم بعضًا.
قال الشيخ في «المغني»
(4)
: ولم نسمع عن أحمد تصريحًا بذكر أقسام الملل. قال القاضي: الكفر ثلاث ملل: اليهودية، والنصرانية، ودين من عداهم؛ لأن من عداهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم. وهذا قول شريح، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، والليث، وشريك، والحَكَم، ومُغِيرة الضَّبِّي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ووكيع.
(1)
«وهو أشبه» إلى هنا سقط من المطبوع لانتقال النظر.
(2)
انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن (6/ 97) و «الأم» للشافعي (8/ 290).
(3)
هو «التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة» ، ويُعرَف بـ «التعليقة الكبرى» . طبع قطعة منه، وأكثره في عداد المفقود.
(4)
(9/ 156 وما بعدها).
قال الشيخ: ويحتمل كلام أحمد أن الكفر ملل كثيرة، فتكون المجوسية ملةً، وعُبَّاد الأوثان ملةً، وعُبَّاد الشمس ملةً، فلا يرث بعضهم بعضًا. روي ذلك عن علي
(1)
، وبه قال الزهري، وربيعة، وبعض فقهاء المدينة، وأهل البصرة، وإسحاق.
قال الشيخ في «المغني»
(2)
: وهو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتّى
(3)
»، ولأن كل فريقين منهم لا موالاة بينهم، ولا اتفاق في دينٍ، فلم يرث بعضهم بعضًا، كالمسلمين والكفار. والعمومات في التوريث مخصوصةٌ، فيُخصُّ منها محل النزاع بالخبر والقياس. ولأن مخالفينا قطعوا التوريث بين أهل الحرب وأهل دار الإسلام مع اتفاقهم في الملة، لانقطاع الموالاة، فمع اختلاف الملة أولى.
وقول من حصر
(4)
الملة بعدم الكتاب غير صحيح، فإنَّ هذا وصفٌ عدمي لا يقتضي حكمًا ولا جمعًا. ثم لا بد لهذا الضابط من دليل يدل على اعتباره. ثم قد افترق حكمهم، فإن المجوس يقرُّون بالجزية، وغيرهم لا يُقَرُّ بها، وهم مختلفون في معبوداتهم ومعتقداتهم وآرائهم، يستحِلُّ بعضهم دماء بعضٍ، ويكفِّر بعضهم بعضًا، فكانوا مللًا كاليهود والنصارى.
وقد روي ذلك عن علي، فإن إسماعيل بن أبي خالدٍ روى عن الشعبي
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(2)
(9/ 157).
(3)
في المطبوع: «شيئًا» على غرار ما سبق بيانه قريبًا.
(4)
في المطبوع: «خصَّ» ، والرسم في الأصل أقرب إلى المثبت، وهو لفظ «المغني» .
عن علي أنه جعل الكفر مللًا مختلفةً
(1)
، ولم نعرف
(2)
له من الصحابة مخالفًا، فكان إجماعًا
(3)
.
واحتج القاضي على ذلك بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 50]، فأثبت لكلٍّ شريعةً ودينًا
(4)
. وقال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 76]، {وَاَتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 124]، فلو كان من خالف دين النبي صلى الله عليه وسلم أهل ملةٍ واحدةٍ لم يخص إبراهيم بملةٍ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُقبَل شهادةُ ملةٍ على ملة، إلا ملة الإسلام»
(5)
، وهذا يقتضي أن هناك مللًا غير ملة الإسلام.
ولأن أحكامهم مختلفةٌ، بدليل أن المجوس لا تؤكل ذبيحتهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا كتاب لهم، واليهود والنصارى بخلاف ذلك.
ولأنهم مختلفون في النبي
(6)
والكتاب كاختلاف المسلمين والكفار.
(1)
لم أجده مسندًا. بل حتى في «الأوسط» (7/ 475) و «الاستذكار» (15/ 494) و «فتح الباري» (12/ 51) لم يُنسب هذا القول إلى علي، وإنما إلى الحسن وابن شهاب وربيعة وغيرهم.
(2)
في الأصل: «يعرف» ، والمثبت مقتضى نصب «مخالفًا» الآتي. في المطبوع و «المغني»: «لم يُعرف
…
مخالف».
(3)
انتهى كلام أبي محمد من «المغني» .
(4)
سقطت واو العطف من المطبوع فصار السياق: «فأثبت لكلِّ شريعةٍ دينًا» .
(5)
جزء من حديث أبي هريرة، سيأتي تخريجه قريبًا.
(6)
زيد في المطبوع بعده: «صلى الله عليه وسلم» ، ولا وجه له، فليس المراد هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن جنس الأنبياء، فالملل مختلفة فيما بينها في النبي الذي تنتسب إليه.