الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون كلامَ أُبَيٍّ.
والحديث ولو صحَّ إنَّما يدلُّ على ذمِّ مَن تكلَّم فيهم بغير علم، أو ضَرَب النصوص بعضَها ببعض، كما يفعله أهل الجدل والمُباحَثة الذين لا تحقيقَ عندهم، ولم يصلوا في العلم إلى غايته، بل هم في أطراف أذياله. وبلاءُ الأمة من هذا الضرب، وهم الغالب على الناس، وبالله التوفيق.
فصل
المذهب الثاني: أنَّهم في النار
. وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد
(1)
. وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد، وغلَّطه شيخُنا كما سيأتي بيان ذلك. واحتجَّ هؤلاء بحُجَج:
منها: حديث أبي عَقِيل يحيى بن المتوكِّل، عن بُهَيَّة، عن عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المسلمين: أين هم؟ قال: «في الجنة» ، وسألته عن أولاد المشركين: أين هم يوم القيامة؟ قال: «في النار» ، فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجرِ عليهم الأقلام، قال: «ربُّكِ أعلم بما
(1)
انظر: «الإنصاف» (27/ 171 - 172).
كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئتِ أسمعتُكِ تَضَاغِيَهم في النار»
(1)
.
ولكن هذا الحديث قد ضعَّفه جماعةٌ من الحفاظ
(2)
. قال أبو عمر
(3)
: أبو عقيل هذا لا يُحتَجُّ بمثله عند أهل النقل. وهذا الحديث لو صحَّ لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره. قال: وممَّا يدلُّ على أنَّه خصوصٌ لقومٍ من المشركين قوله: «لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار» ، وهذا لا يكون إلا فيمَن قد مات، وصار في النار.
قال: وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار.
قلت: مراد أبي عمر أنَّ هذا خاصٌّ ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ودخلوا النار، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكمًا عامًّا لجميع الأطفال. وهذا جواب
(4)
صحيح يتعيَّن المصير إليه جمعًا بينه وبين حديث سَمُرَة الذي رواه البخاري في «صحيحه»
(5)
، وهو صريحٌ بأنَّهم في الجنَّة كما سيأتي.
(1)
أخرجه أحمد (25743) مختصرًا، والطيالسي (1681) ــ ومن طريقه البيهقي في «القضاء والقدر» (616) ــ وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (2969) وابنُ عبد البر في «التمهيد» (18/ 122) وغيرهم، من طرق عن أبي عقيل به. وأبو عقيل ضعيف كما سيأتي في كلام المؤلف، وبهية مجهولة.
(2)
كابن عدي في «الكامل» في ترجمة بهية (2/ 530) وأبي عقيل (10/ 547)، وابنُ الجوزي في في «العلل المتناهية» (2/ 422).
(3)
في «التمهيد» (18/ 122).
(4)
«جواب» ساقط من المطبوع.
(5)
برقم (7047) في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رآى فيها إبراهيم صلى الله عليه وسلم في روضة مُعْتَمَّة وحوله الولدان الذين ماتوا على الفطرة، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«وأولاد المشركين» .
واحتجُّوا بحديث عمر بن ذَرٍّ، عن يزيد بن أبي أُميَّة: أنَّ البَرَاء بن عَازِب
(1)
رضي الله عنه أرسل إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن الأطفال، فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلتُ: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ قال:«مِن آبائهم» ، قلت: بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ قال:«هم من آبائهم» ، قلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال:«الله أعلم بما كانوا عاملين» . هكذا قال مسلم بن قتيبة
(2)
.
وقد رواه غيره عن عمر بن ذر، عن يزيد، عن رجل، عن البراء
(3)
.
ورواه أحمد
(4)
من حديث عُتبَة بن ضَمْرة بن حَبِيب، حدثني عبد الله بن قَيس مولى غُطَيفٍ أنه سأل عائشة رضي الله عنها. وعبد الله هذا ينظر في حاله، وليس بالمشهور
(5)
.
(1)
كذا في الأصل، وفي «طريق الهجرتين» (2/ 847) و «تهذيب السنن» (3/ 207). ولم أجد مَن رواه على هذا الوجه، وأخشى أن يكون خطأ، فقد رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 319) من طريق أبي نُعيم، وابنُ الجوزي في «العلل المتناهية» (1542) من طريق مسلم بن قتيبة، كلاهما عن عمر بن ذرٍّ عن يزيد بن أميَّة أن عازبًا أرسل إلى عائشة
…
إلخ. وعازب هذا ليس والد البراء، بل والدُ غُطيفٍ مولى عبد الله بن أبي قيس مِن فوق. انظر:«الإصابة» (7/ 201).
(2)
أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» من هذا الطريق، كما في التعليق السابق.
(3)
أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 320) من طريق عبد الله بن داود الخُرَيبي، عن عمر بن ذر على هذا الوجه. قال البخاري:«والأول أصح» ، يعني رواية من رواه عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية أن عازبًا أرسله إلى عائشة.
(4)
رقم (24545) بإسناد حسن، وله طرق أخرى كما سبق (ص 213) مفصَّلًا.
(5)
هو عبد الله بن أبي قيس ــ ويقال: عبد الله بن قيس، والأول أصح ــ الشامي الحمصي. تابعي مخضرم، وثقه العجلي والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. من رجال مسلم، أخرج له عن عائشة. انظر:«تهذيب التهذيب» (5/ 365).
وبالجملة، فلا حُجَّةَ في الحديث على أنَّهم في النار، لأنَّه إنَّما أخبر بأنَّهم مِن آبائهم في أحكام الدنيا، كما تقدم.
واحتجُّوا بما رواه عبد الله بن أحمد في «مسند أبيه»
(1)
: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن فُضَيل بن غَزْوَان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي قال: سألتْ خَدِيجةُ رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ولدَين لها ماتا في الجاهلية، فقال:«هما في النار» ، فلمَّا رأى الكراهية في وجهها قال:«لو رأيتِ مكانَهما لأبغضتِهما» ، قالت: يا رسول الله، فولدي منك! قال:«إنَّ المؤمنين وأولادَهم في الجنة، وإنَّ المشركين وأولادَهم في النار» ثمَّ قرأ: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19].
وهذا الحديث معلولٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ محمد بن عثمان هذا مجهولٌ، والثانية: أنَّ زاذان لم يُدرِك عليًّا.
وقال الخلال
(2)
: أخبرنا حفص بن عَمرو الرَّبالي
(3)
، ثنا أبو زِياد
(1)
برقم (1131)، وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في «السنة» (220) عن عثمان بن أبي شيبة به. والحديث ضعيف كما قرره المؤلف. وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (3/ 642) عن محمد بن عثمان: لا يُدرى من هو، وله خبر منكر
…
(فذكره).
(2)
في «الجامع» (1/ 80). وإسناده معلول من وجهين: سهل بن زياد متكلَّم فيه، كما في «لسان الميزان» (4/ 198). والثاني: فيه انقطاع، فإن عبد الله بن الحارث لم يُدرك خديجة.
(3)
غيَّره في المطبوع إلى: «حفص بن عمر الرازي» ، وهو خطأ، لم يُدركه الخلال.
سَهْل بن زِياد، ثنا الأَزْرق بن قيس، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن خديجة بنت خُوَيلد رضي الله عنها أنَّها سألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أين أطفالي من أزواجي من المشركين؟ قال:«في النار» ، قالت: بغير عمل؟ قال: «قد علم الله ما كانوا عاملين» .
قال شيخنا
(1)
: وهذا حديث موضوعٌ، لا يصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي غرَّ القاضيَ أبا يعلى حتى حكى عن أحمد أنَّهم في النار، لأنَّ أحمد نصَّ في رواية بكر بن محمد
(2)
عن أبيه أنَّه سأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، فتوهَّم القاضي أنَّ أحمد أراد هذا الحديث، وأحمد أعلم بالسنة من أن يحتجَّ بمثل هذا الحديث، وإنَّما أراد أحمد حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
واحتجُّوا أيضًا بحديث داود بن أبي هِند، عن الشَّعبي، عن عَلقَمة بن قَيس، عن سَلَمة بن يزيد الأشجعي
(3)
قال: أتيتُ أنا وأخي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إنَّ أُمَّنا ماتَت في الجاهلية، وكانت تَقرِي الضَّيفَ، وتَصِل الرَّحِمَ، فهل ينفعُها مِن عملها ذلك شيء؟ قال:«لا» ، قلنا له: فإنَّ أُمَّنا وَأَدَتْ أختًا لنا في الجاهلية لم تبلُغ الحِنْثَ، فقال: «المَوءُودة والوائدة في النار، إلَّا أن تُدرِك
(1)
في «درء التعارض» (8/ 398). وبنحوه في «منهاج السنة» (2/ 306).
(2)
أسندها الخلال في «الجامع» (1/ 78).
(3)
كذا في الأصل، وإنما هو الجعفي كما في الإسناد الآتي. ولعل «الأشجعي» تصحيف عن «المَشجعي» نسبةً إلى جدِّه «مشجعة». انظر:«الإصابة» (4/ 429).
الوائدة الإسلام فتسلم». رواه جماعة كثيرة عن داود
(1)
.
وقال محمد بن نصر
(2)
: ثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام
(3)
، عن شَيْبان، عن جابر، عن عامر
(4)
، عن علقمة بن قيس، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلنا يا رسول الله، إنَّ أُمَّنا كانت تَصِل الرحم، وتَقرِي الضَّيف، وتُطعِم الطعام، وإنَّها كانت وَأَدَتْ في الجاهلية فماتَتْ قبلَ الإسلام، فهل ينفعها عملٌ إنْ عَمِلنا عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا ينفع الإسلام إلا مَن أدرك، أُمُّكم وما وَأَدَتْ في النار» .
وروى أبو إسحاق، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه أحمد (15923) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2474) والنسائي في «الكبرى» (11585) وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (1415، 1416) والطبراني في «الكبير» (7/ 39) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 119) وغيرهم من طرق عن داود بن أبي هند به.
قال ابن عبد البر: «هو حديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنَّه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة إليها، والله أعلم» .
(2)
لعله في كتاب «الرد على ابن قتيبة» . وأخرجه أيضًا الطحاوي في «مشكل الآثار» (4365) وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/ 274) والطبراني في «الكبير» (7/ 40) من طرق عن أبي كريب به. إسناده ضعيف، فيه جابر بن يزيد الجعفي، ولكنه توبع، تابعه داود بن أبي هند كما في الإسناد السابق.
(3)
في الأصل: «معاوية عن هشام» ، تصحيف.
(4)
في الأصل: «جابر بن عامر» ، تصحيف. جابر هو ابن يزيد الجعفي، وعامر هو ابن شراحيل الشعبي.
قال: «الوائدة والمَوءُودة في النار»
(1)
.
وهذا لا يدلُّ على أنَّهم كلَّهم في النار، بل يدلُّ على أنَّ بعض هذا الجنس في النار، وهذا حقٌّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقد ردَّ بعضهم على الحديث بأنَّه مخالفٌ لنص القرآن، قال تعالى:{وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]، سواءٌ كان المعنى أنَّها تُسأَل سؤالَ توبيخٍ لمَن وَأَدَها، أو تُطلَب ممن
(2)
وَأَدَها كما تُطلَب الأمانة ممن اؤتمن عليها.
وعلى التقديرين، فقد أخبر سبحانه أنَّه لا ذنبَ لها تُقتَل به في الدنيا قتلةً واحدةً، فكيف تُقتَل في النار قتلاتٍ دائمةً، ولا ذنبَ لها؟ فالله أعدل وأرحم
(1)
أخرجه أبو داود (4717) والبزار (1596) وابن حبان (7480) والطبراني (10/ 114) من طرق عن يحيى بن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق به. هذا إسناد غريب كما قال الدارقطني في «الغرائب والأفراد» (الأطراف: 3763)، وذلك ــ والله أعلم ــ أن زكريا بن أبي زائدة تفرَّد به عن أبي إسحاق، وقد سمع منه بأخرةٍ بعد ما تغيَّر. وخالفه إسرائيل ــ وهو من أتقن أصحاب جدِّه أبي إسحاق ــ فرواه عنه، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1599). فالظاهر أن هذا هو المحفوظ في حديث ابن مسعود، ورواته ثقات.
وأما رواية عامر الشعبي عن علقمة، فالمحفوظ أنها عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي كما سبق في الروايتين السابقتين، فمن جعلها عن ابن مسعود فالظاهر أنه وهم بسلوك الجادَّة المطروقة، فإن علقمة كثير الرواية عن ابن مسعود. وانظر:«العلل» للدارقطني (794).
(2)
في الأصل: «من» ، ولعل المثبت الصواب.
من ذلك، لأنَّه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنبٍ، فكيف يعذِّبها تبارك وتعالى بلا ذنبٍ؟
وهذا المعنى حقٌّ لا يُعارِض نصَّ القرآن، فإنَّه لم يخبر أن المَوءُودة في النار بلا ذنب، فهذا لا يفعله الله قطعًا، وإنَّما يُدخِلها النار بحجته التي يقيمها يومَ القيامة إذا ركَّب في الأطفال العقل وامتحنهم، وأخرجت المحنةُ منهم ما يستحقون به النار.
واحتجوا بما روى البخاري في «صحيحه»
(1)
في احتجاج الجنة والنار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأمَّا النار فيُنشِئ الله لها خلقًا يُسكِنهم إيَّاها» ، قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل، فلأن يدخلها من وُلد في الدنيا بين كافرَين أولى.
قال شيخنا
(2)
: وهذه حجةٌ باطلةٌ، فإنَّ هذه اللفظة وقعتْ غلَطًا من بعض الرواة، وبيَّنها البخاري رحمه الله تعالى في الحديث الآخر الذي هو الصواب، فقال في «صحيحه»
(3)
: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي
(1)
برقم (7449) بلفظ: «إنه ينشئ للنار من يشاء فيُلقَون فيها» ، وسيسوقه المؤلف بتمامه قريبًا. واللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حملًا على اللفظ المحفوظ من حديث أبي هريرة في الجنة وسيأتي قريبًا، وكذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند البخاري (7384) بنحوه.
(2)
انظر: «منهاج السنة» (5/ 101).
(3)
كتاب التفسير، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، برقم (4850). وأخرجه أيضًا مسلم (2846/ 36) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به.
- صلى الله عليه وسلم: «تحاجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ
(1)
الناس وسَقَطُهم؟ قال الله عز وجل للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذِّب بك مَن أشاء من عبادي، ولكلِّ واحدة منكما ملؤها. فأمَّا النار فلا تمتلئ حتى يضع رِجلَه فتقول: قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضُها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا. وأمَّا الجنة فإنَّ الله يُنشِئ لها خلقًا». هذا هو الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريبٍ، وهو الذي ذكره في التفسير.
وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل: {إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ اَلْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55]
(2)
: حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختصمت الجنة والنار إلى ربِّهما، فقالت الجنة: يا ربِّ ما لها لا يَدخُلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار
…
(3)
، فقال للجنة: أنت
(1)
في الأصل: «الضعفاء» ، خطأ.
(2)
كتاب التوحيد، برقم (7449).
(3)
كذا في الأصل بحذف مقول القول. وهو كذلك في نسخ «الصحيح» التي شرح عليها ابن بطَّال (10/ 472) والكرماني (25/ 159) وابن حجر (13/ 436)، وأيضًا في نسخة ابن سعادة المُرسيِّ (ت 566) الشهيرة (ق 254 - مكتبة مراد ملا)، ونسخة الصغاني التي طبع عنها الطبعة الهندية (2/ 1110). وجاء في نسخة اليونيني ــ كما في فروعها المتعددة و «إرشاد الساري» (10/ 413) والطبعة السلطانية (9/ 134) ــ:«وقالت النار ــ يعني: أُوثِرتُ بالمتكبرين ــ فقال الله تعالى للجنة» . والظاهر أنه إدراج من بعض رواة النسخة أخذًا من الرواية السابقة عند البخاري.
رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك مَن أشاء، ولكلِّ واحدة منكما مِلؤها»، قال:«فأمَّا الجنة فإنَّ الله لا يظلم مِن خلقه أحدًا، وإنَّه ينشئ للنار من يشاء، فيُلقَون فيها فتقول: هل من مزيدٍ؟ ويُلقَون فيها وتقول: هل من مزيدٍ؟ ــ ثلاثًا ــ حتى يضعَ قدمه فيها فتمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعضٍ، وتقول: قَطْ قَطْ» .
فهذا غير محفوظٍ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعًا، كما انقلب على بعضهم:«إنَّ بلالًا يؤذِّن بليلٍ، فكُلُوا واشرَبُوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم»
(1)
فقال: «ابنُ أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال»
(2)
، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة في
(3)
المتن.
وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا لم يُحفَظ كما ينبغي
(4)
، وسياقه يدلُّ على أنَّ راويَه لم يُقِم متنَه، بخلاف حديث همَّام عن أبي هريرة.
(1)
أخرجه البخاري (617، 622) ومسلم (1092) من حديثَي ابن عمر وعائشة. ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري (621) ومسلم (1093).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (406) ــ وعنه ابن حبان (3473) ــ من حديث عبد العزيز الدَّراوَرْدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، والدراوردي فيه لين.
وقد فصل القول فيه الحافظ ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 519 - 521؛ دار ابن الجوزي).
(3)
في الأصل: «من» ، ولعل المثبت أشبه.
(4)
والظاهر أن الوهم ممن هو دون الأعرج، فإن مسلمًا أخرجه (2846) من طريقين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة دون قوله:«وإنه ينشئ للنار من يشاء» .
واحتجُّوا بما في «الصحيح»
(1)
من حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيُصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هم منهم» . وفي لفظ
(2)
: «هم من آبائهم» ، قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والولدان.
ولا حجةَ لهم في هذا، فإنَّه إنَّما سُئِل عن أحكام الدنيا وبذلك أجاب، والمعنى: أنَّهم إن أُصِيبوا في التَّبْيِيت والغَارة فلا قوَدَ ولا دِيَةَ على مَن أصابهم لكونهم أولادَ مَن لا قوَدَ ولا ديةَ لهم. وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالًا وجوابًا.
واحتجَّوا أيضًا بقول الله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]. وهذا يدلُّ على أنَّ ذرية الكافرين تُلحَق بهم ولا يُلحَقون بالمؤمنين وذريَّاتهم، فإنَّ الله تعالى شرَطَ في الإلحاق إيمان الآباء.
وهذا لا حجةَ فيه، لأنَّ الله تعالى إنَّما أخبر عن إلحاق ذريَّة المؤمنين بآبائهم، ولم يُخبِر عن ذريَّة الكفار بشيء. بل الآية حجةٌ على نقيض ما ادَّعوه من وجهين:
أحدهما: إخباره أنَّه لم ينقص الآباءَ بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئًا، فكيف يعذِّب هذه الذرية بلا ذنب؟!
(1)
للبخاري» (3012) ومسلم (1745/ 26).
(2)
عند البخاري (3013) ومسلم (1745/ 28) وأبي داود (2672)، وقول الزهري عند أبي داود فقط.