الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر حكم أطفالهم
(1)
وفيه بابان:
الباب الأول: في ذكر أحكامهم في الدنيا
.
والباب الثاني: في ذكر أحكامهم في الآخرة
(2)
.
الباب الأول
لمَّا كان الطفل غير مستقِلٍّ بنفسه لم يكن له بدٌّ من ولي يقوم بمصالحه، ويكون تابعًا له؛ وأحقُّ من نصب لذلك الأبوان، إذ هما السبب في وجوده، وهو جزءٌ منهما، ولهذا كان لهما من الحق عليه ما لم يكن لأحدٍ سواهما، فكانا أخص به وأحقَّ بكفالته وتربيته من كل أحدٍ. وكان من ضرورة ذلك أن ينشأ على دينهما كما ينشأ على لغتهما، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه. فإن كانا موحِّدَين مسلمَين ربَّياه على التوحيد= اجتمع له الفِطرة الخِلقية وتربية الأبوين. وإن كانا كافرين أخرجاه عن الفطرة التي فطره الله عليها بتعليم
(3)
الشرك وتربيته عليه، لِما سبق له في أم الكتاب.
فإذا نشأ الطفل بين أبويه كان على دينهما شرعًا وقدرًا. فإن تعذَّر تبعيَّتُه للأبوين بموتٍ أو انقطاعِ نسبٍ كولد الزنا، والمنفي باللعان، واللقيط، والمسبيِّ، والمملوك= فاختلف الفقهاء في حكم الطفل في هذه الحال، ونحن
(1)
في المطبوع: «ذكر أحكام أطفالهم» ، خلاف الأصل.
(2)
يأتي الباب الثاني (ص 205).
(3)
في المطبوع: «بتعليمه» ، خلاف الأصل.
نذكر ذلك مسألة مسألة.
فأما المسألة الأولى وهي موت الأبوين أو أحدهما، فاختُلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّه لا يصير بذلك مسلمًا، بل هو على دينه. وهذا قول الجمهور، وربَّما ادُّعِي فيه أنَّه إجماعٌ معلومٌ متيقَّن، لأنَّا نعلم أنَّ أهل الذمة لم يزالوا يموتون، ويخلفون أولادًا صغارًا، ولا نعرف قطُّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد
(1)
من الخلفاء الراشدين بعده ولا مَن بعدهم مِن الأئمة حكموا بإسلام أولاد الكفار بموت آبائهم. ولا نعرف أنَّ ذلك وقع في الإسلام مع امتناع إهمال هذا الأمر وإضاعته عليهم، وهم أحرص الناس على الزيادة في الإسلام والنقصان من الكفر. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها شيخنا رحمه الله
(2)
.
الثاني: أنَّه يُحكَم بإسلام الأطفال بموت الأبوين أو أحدهما، سواءٌ ماتا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وهذا قول في مذهب أحمد، اختاره بعض أصحابه، وهو معلوم الفساد بيقين لما سنذكره.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
انظر: «درء التعارض» (8/ 434). وذكره المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 438) أيضًا. وانظر: «الإنصاف» للمرداوي (27/ 165) حيث نقل عن «أحكام أهل الذمة» . وفي مطبوعة «الاختيارات» للبعلي (ص 455): «ويُحكم بإسلام الطفل إذا مات أبواه» ، وهو خطأ، والصواب ما ذكره محققه في الهامش نقلًا عن بعض النسخ الخطية: «ولا يُحكم
…
».
والقول الثالث: إنَّه يُحكم بإسلامهم إن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام، ولا يحكم بإسلامهم إن ماتا في دار الحرب. وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو اختيار عامة أصحابه
(1)
. واحتجوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه» . متفق عليه
(2)
.
قالوا
(3)
: فجعل كُفره بفعل أبويه، فإذا مات أحدهما انقطعت التبعيَّة، فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها.
قالوا: ولأنَّ المسألة مفروضةٌ فيمَن مات أبوه في دار الإسلام، وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها، ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها، وإنَّما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان تغليبًا لتبعيَّة الأبوين على حكم الدار، فإذا عُدما أو أحدهما وجب إبقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته للكافر.
قالوا: ومما يوضِّح ذلك أنَّ الطفل يصير مسلمًا تبعًا لإسلام أبيه، فكذلك إنَّما صار كافرًا تبعًا لكفر أبيه، فإذا مات الأب زال من يتبعه في كفره، فكان الإسلام أولى به لثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه الفطرة الأصلية التي فطر الله عليها عباده، وإنَّما عارضها فعل الأبوين، وقد زال العارض، فعمل المقتضِي عمله.
الثاني: أنَّ الدار دارُ الإسلام، ولو اختلط فيها ولد الكافر بولد المسلم
(1)
انظر: «الجامع» للخلال (1/ 89) و «الإنصاف» (27/ 164 - 167).
(2)
البخاري (1358، 1385) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: «المغني» (12/ 286)، فالمؤلف صادر عنه.
على وجه لا يتميَّزان حكمنا بإسلامهما تغليبًا للدار. ولو وُجد فيها لقيطٌ في محلة الكفار لا يعرف له أبٌ حكمنا بإسلامه تغليبًا للدار. وإنَّما عارض الدار قوَّةُ تبعيَّة الأبوين، وقد زالت بالموت، فعمل مقتضي الدار عمله.
الثالث: أنَّه لو سُبِي الطفلُ منفردًا عن أبويه كان مسلمًا عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بل ولو سُبي مع أحد أبويه لكان مسلمًا في أصحِّ الروايتين. بل أصح القولين أنَّه يحكم بإسلامه ولو سبي معهما، وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام وإحدى الروايتين عن أحمد
(1)
. فإذا حكم بإسلامه في بعض هذه الصور اتفاقًا وفي بعضهما بالدليل الصحيح كما سنذكره ــ مع تحقُّق وجود الأبوين وإمكان عوده إلى تبعيَّتهما ــ فلأَن نحكم بإسلامه مع تحقُّق عدم الأبوين واستحالة تبعيَّتهما أولى وأحرى.
وسِرُّ المسألة: أنَّه تبعٌ لهما في الإسلام والكفر، فإذا عُدِما زالت تبعيته، وكانت الفطرة الأولى أولى به.
يوضِّحه أنَّه لو مات أقاربه جميعًا وربَّاه الأجانب من الكفار، فإنَّه لا يجوز جعله كافرًا، إذ فيه إخراجٌ عن الفطرة التي فطر الله عليها خلْقَه بلا موجبٍ، وهذا ممتنعٌ إذ يتضمن إدخالَ من فطر على التوحيد في الكفر من غير تبعيَّةٍ لأحدٍ من أقاربه، وهذا في غاية الفساد. فإذا عُدِم الأبوان لم تكن الولاية على الطفل لغيرهما من أقاربه، كما لا تثبت على أطفال المسلمين، بل تكون الولاية عليه للمسلمين، وحينئذٍ فيكون محكومًا بإسلامه كالمسبيِّ بدون أبويه، وأولى.
(1)
انظر: «الإنصاف» (10/ 94).
فإن قيل: فهل تُورِّثونه من الميت منهما؟
قلنا: نعم، نورِّثه. نقله الخِرَقي
(1)
، فقال: وكذلك من مات من الأبوين على كفره قُسم له ــ يعني للطفل ــ الميراث، وكان مسلمًا بموت من مات منهما
(2)
.
وذلك كافٍ
(3)
، لأنَّ إسلامه إنَّما يثبت بموت أبيه الذي استحقَّ به الميراث، فلم يتقدَّم الإسلامُ المانعُ عن الميراث على سبب استحقاقه، ولأنَّ الحرية
(4)
المُعلَّقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيِّدُ العبدِ له: إذا مات أبوك فأنت حرٌّ، فمات أبوه، فإنَّه يَعتِقُ ولا يرث؛ فيجب أن يكون الإسلام المعلَّق بالموت لا يمنع الميراث، فهناك موجِب الميراث عُلِّقَ بالموت
(5)
فلم يوجبه، وهنا مانع الميراث علّق بالموت فلم يمنعه.
وأيضًا: فكونه وارثًا أمرٌ ثابتٌ له قبل الموت، ولهذا يُمنع المريض من التصرُّف في الزائد على الثلث من ماله، فبالموت عمل المقتضي المتقدمُ لأخذ المال عمَلَه، وهو البعضيَّة والبنوَّة. وهذا بخلاف الإسلام، فإنَّه لم يكن
(1)
في المطبوع: «الحربي» ، تحريف، وعرَّف به المحقق وترجم له. وقول الخرقي في «مختصره» (12/ 285 - المغني).
(2)
نصَّ أحمد على ذلك في رواية أبي طالب. انظر: «الجامع» (1/ 89).
(3)
كذا، ولم يتبيَّن المشار إليه، أخشى أن يكون ثَم سقط أو تصحيف في النسخة. وفي «المغني» (12/ 286): «وإنما قُسم له الميراث لأن إسلامه
…
» إلخ الفقرة بنحوه.
(4)
في الأصل: «جزية» خطأ.
(5)
«علِّق بالموت» سقط من المطبوع.
ثابتًا له قبل الموت، بل كان كافرًا حكمًا، وإنَّما تجدَّد له الإسلام بموت الأب، وهناك لم يتجدَّد كونه وارثًا بموت الأب، وإنما تجدَّد بالموت انتقال التَّرِكة إليه، وهذا ظاهرٌ جدًّا.
فإن قيل: فما تقولون لو مات أبوه الكافر وهو حملٌ، هل يَرِثه؟
قلنا: لا يرثه، لأنَّا نحكم بإسلامه بمجرَّد موته قبل الوضع، نصَّ على هذا أحمد
(1)
، فيسبق الإسلامُ المانعُ من الميراث لاستحقاق
(2)
الميراث. وهذا بناءً على أنَّه لا يرث المسلم الكافر، وأمَّا على القول الذي اختاره شيخنا
(3)
فإنَّه يرثه. وكذلك لو كان الحمل من غيره فأسلمتْ أمُّه قبل وضعه، بأن يموت الذمِّي ويترك امرأة أخيه حاملًا من أخيه الذمِّي، فتُسْلِم أمُّه قبل وضعه؛ فنحكم بإسلامه قبل استحقاقه الميراث.
فإن قيل: فيلزمكم أن تحكموا بإسلام أولاد الزنا من أهل الذمة لانقطاع أنسابهم من آبائهم.
قيل: قد التزمه أصحاب هذا القول، وحكموا بإسلامهم طردًا لهذه القاعدة، وهذا ليس بجيد، فإنَّه من انقطع نسبه من جهة أبيه قامت أمُّه مقام
(1)
في رواية محمد بن يحيى الكحال وغيره. انظر: «الجامع» (2/ 407).
(2)
كذا في الأصل، واللام زائدة، أي: يسبق الإسلامُ استحقاقَ الميراث بالوضع. أو يكون ثَمَّ سقط تقديره: «السببَ لاستحقاقِ الميراث» . وسبب استحقاق الميراث هنا هو الوضع. وقد سبق آنفًا على غرار هذه العبارة قولُ المؤلف: «فلم يتقدَّم الإسلامُ المانعُ عن الميراث على سبب استحقاقه» .
(3)
وقد تقدَّم (ص 33).
أبيه في التعصيب، ولهذا تكون أمُّه وعصباتها عصبةً له
(1)
، يرثون منه كما يرث الأب وعصباته، لانقطاع نسبه من جهة الأب. ويلزمهم على هذا أن يحكموا بإسلام ولد الذمِّي إذا لاعَنَ عليه، لانقطاع نسبه من جهة الأب، وهذا لا يُعلَم
(2)
به قائل من السلف.
وأمَّا إذا اختلط أولاد الذمة بأولاد المسلمين ولم يتميزوا، فإنَّه يُحكم بإسلامهم، نصَّ عليه أحمد في رواية المرُّوذي، فإنه قال: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجل مسلم ونصراني في دار ولهما أولادٌ، فلم يُعرَف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يُجبَرون على الإسلام
(3)
. فأحمد حكم بإسلام الأولاد هاهنا، لأنَّ بعضهم مسلم قطعًا، وقد اشتبه بالكافر فغلَّب جانب الإسلام، ولا يلزم من هذا الحكم بإسلام مَن انقطع نسبه من جهة أبيه لكونه ولد زنًا أو منفيًّا بلِعَانٍ، إذ لم يوجد هناك من يُغلَّب لأجله الإسلام، بل ولا شبهة إسلام.
فصل
ونحن نذكر قاعدةً فيما يقتضي الحكم بإسلام الطفل، وما لا يقتضيه. فنقول: إسلام الصبي يحصل بخمسة أشياء، متفقٌ على بعضها، ومختلفٌ في بعضها:
الأول: إسلامه بنفسه إذا عقل الإسلام، فيصح عند الجمهور، وهو
(1)
في الأصل: «لم» تصحيف.
(2)
في الأصل: «نعلم» ، والمثبت مقتضى رفع «قائل» الآتي.
(3)
«الجامع» للخلال (1/ 64 - 65).
مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأصحابهم
(1)
.
والذين قالوا بصحة إسلامه قالوا: يصح باطنًا وظاهرًا، حتى لو رجع عنه أُجبِر عليه، ولو أقام على رجوعه كان مرتدًّا.
ومنصوصُ الشافعي
(2)
: أنه لا يصح إسلامه، ولأصحابه وجهان آخران:
أحدهما: أنه يوقف إسلامه، فإن بلغ واستمرَّ على حكم الإسلام تيقَّنَّا أنَّه كان مسلمًا من يومئذٍ، وإن وصف الكفر تبيَّنَّا أنَّه كان لغوًا. وقد عُبِّر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرًا لا باطنًا.
والوجه الثاني: أنَّه يصح إسلامه حتى يفرَّقَ بينَه وبينَ زوجته الكافرة، ويورَّث مِن قريبه المسلم. وهو اختيار الإصطخري.
قالوا: وعلى هذا لو ارتدَّ صحَّت رِدَّتُه، ولكن لا يُقتَل حتى يبلغ، فإن رجع إلى الإسلام وإلا قتل.
وعلى منصوص الشافعي فقد يقال: يُحَال بينَه وبينَ أبويه وأهله الكفار لئلَّا يَفْتِنونه
(3)
، فإن بلغ ووَصَف الكفرَ هُدِّد وطُولِبَ بالإسلام، فإن أصرَّ رُدَّ إليهم. وهل هذه الحيلولة مستحبةٌ أو واجبةٌ؟ فيه وجهان، أصحهما:
(1)
في متن الأصل: «أصحابه» ، والمثبت من الهامش.
(2)
انظر: «الأم» (6/ 707) و «الحاوي الكبير» (10/ 468) و «نهاية المطلب» (8/ 520).
(3)
كذا في الأصل بإثبات النون.
مستحبةٌ، فيُلطَف
(1)
بوالديه ليُؤخَذ منهما، فإنْ أبَيَا فلا حيلولةَ.
هذا في أحكام الدنيا، فأمَّا ما يتعلق بالآخرة، فقال الأستاذ أبو إسحاق: إذا أَضمَر الإسلام كما أَظهَره
(2)
كان من الفائزين بالجنة. ويُعبَّر عن هذا بصحة إسلامه باطنًا لا ظاهرًا.
قال في «النهاية»
(3)
: «وفي هذا إشكالٌ؛ لأنَّ مَن حكم له بالفوز لإسلامه كيف لا نحكم بإسلامه؟» . وأجيب عنه: بأنه قد نحكم بالفوز في الآخرة، وإن لم يَجرِ عليه أحكام الإسلام في الدنيا، كمَن لم تبلغه الدعوة.
والذين قالوا: لا يصح إسلامه احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبلُغ، وعن المجنون حتى يُفِيق، وعن النائم حتى يستيقظ»
(4)
. وهو حديث حسن.
(1)
في المطبوع: «فيُتَلَطَّف» ، خلاف الأصل.
(2)
في المطبوع: «إذا أضمر كما أظهر» ، سقط «الإسلام» والضمير.
(3)
«نهاية المطلب» للجويني (8/ 521) بتصرف يسير.
(4)
أخرجه أحمد (940، 1328) وأبو داود (4399 - 4402) والترمذي (1423) والنسائي في «الكبرى» (7303 - 7307) وابن ماجه (2042) وابن خزيمة (1003) وابن حبان (143) من طرق عن علي رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا. رجَّح الوقف الترمذيُّ في «العلل الكبير» (ص 226) والنسائي في «الكبرى» والدارقطني في «العلل» (291، 354). والموقوف قد علَّقه البخاري مجزومًا به في الطلاق (باب الطلاق في الإغلاق والكره) والحدود (باب لا يرجم المجنون والمجنونة).
وله شاهد مرفوع من حديث عائشة عند أحمد (24694) وأبو داود (4398) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041) وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. وهذا إسناد حسن، وحماد بن أبي سليمان فقيه صدوق على لين فيه. قال البخاري كما في «العلل الكبير» (ص 225): أرجو أن يكون محفوظًا.
وله شواهد أخرى ضعيفة. انظر: «البدر المنير» (3/ 225 - 238) و «إرواء الغليل» (297) و «أنيس الساري» (2170).
قالوا: ولأنَّه قول تثبت به الأحكام في حقه، فلم يصحَّ منه كالهِبة والبيع والعتق والإقرار.
قالوا: ولأنه غير مكلَّف، فلم يصحَّ إسلامه كالمجنون والنائم.
قالوا: ولأنَّه قبل البلوغ في حكم الطفل الذي لا يعقِل ما يقول، ولهذا كانت أقواله هدرًا.
قالوا: ولأنَّه لو صحَّ إسلامه لصحَّت رِدَّته.
قال المصحِّحون لإسلامه: هو مِن أهل قول: لا إله إلا الله، وقد حرَّم الله على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة.
قالوا: وهو مولودٌ على الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فإذا تكلَّم بكلمة الإسلام فقد نطق بموجَب الفطرة، فعملت الفطرة والكلمة عملهما.
قالوا: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة»
(1)
. وفي لفظ: «على هذه المِلَّة: فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه حتى يُعرِب
(1)
تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قريبًا.
عنه لسانُه، فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا»
(1)
. فجعل الغاية إعراب لسانه عنه: أي بيان لسانه عنه، فإذا أعرب لسانُه عنه صار إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا بالنص.
ولأنَّه إذا بلغ سِنَّ التمييز وعقَل ما يقول، صار له إرادةٌ واختيارٌ ونطقٌ يترتَّب عليه به الثواب وإنْ تأخَّرَ ترتُّبُ العقابِ عليه
(2)
إلى ما بعد البلوغ. فلا يلزم من انتفاء صحةِ أسبابِ العقاب انتفاءُ صحةِ أسبابِ الثواب، فإنَّ الصبي يصِحُّ حجُّه، وطهارته، وصلاته، وصيامه، وصدقته، وذِكْره، ويُثاب على ذلك، وإن لم يعاقب على تركه؛ فباب الثواب لا يعتمد البلوغَ.
ولم يقم دليل شرعي على إهدار أقوال الصبي بالكليَّة، بل الأدلة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله في الجملة. وقد أمر الله تعالى بابتلاء اليتامى، وهو اختبارهم في عقودهم ومعاملاتهم. ولهذا كان قول الجمهور: إنَّ ذلك يحصل بإذنه له في العَقْد، ولا يحتاج إلى أن يأذن له في المُراوَضة
(3)
ثم يعقد وليُّه.
(1)
لم نجده بهذا السياق، وهو ملفق من أكثر من رواية، فأخشى أن يكون ثَمَّ سقط من الناسخ نشأ عنه تداخل بين الروايات. فقد أخرجه مسلم عقب (2658/ 23) بلفظ:«ما من مولود يولد إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه» ، وفي لفظ:«حتى يعبِّرَ عنه لسانه» . وليس عند مسلم: «فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا» ، وإنما روي ذلك من حديث جابر عند أحمد (14805) بإسناد فيه لين، ولفظه:«كلُّ مولود يولد على الفطرة، حتى يُعرِب عنه لسانُه، فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا» .
(2)
تقدمت على «العقاب» في الأصل والمطبوع، فيكون السياق:«ترتَّبَ عليه العقابُ» ، وهو خطأ يُذهب المعنى.
(3)
أي: المساومة والمجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن.
وقد ذهب عبد الله بن الزبير وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايات إلى قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في جراحاتهم إذا كانوا منفردين
(1)
.
وقد ذهب جماعةٌ من الفقهاء إلى صِحَّة وصيَّة الصَّبيِّ وطَلاقه وظِهاره وإيلائه، ولم يزل الصبيان يذهبون في حوائج أوليائهم وغيرهم، ويقبلون قولَهم في ثبوت الأسباب التي تقتضي الحِلَّ والحُرمة، ويعتمدون في وطء الفرج في الأمة والزوجة على قول الصبي، فلم يُهدِر الشارعُ أقوال الصبي كلَّها.
بل إذا تأمَّلنا الشرعَ رأينا اعتبارَه لأقواله أكثر من إهداره لها، وإنَّما تُهدَر فيما فيه عليه ضررٌ، كالإقرار بالحدود والحقوق. فأمَّا ما هو نفعٌ محضٌ له في الدنيا والآخرة كالإسلام، فاعتبار قوله فيه أولى من إهداره، إذ أصول الشرع تشهد باعتبار قوله فيه.
وأيضًا: فإنَّ الإسلام عبادةٌ محضة وطاعة لله وقربة له، فلم يكن البلوغ شرطًا في صحتها، كحجه وصومه وصلاته وقراءته، وأنَّ الله تعالى دعا عبادَه إلى دار السلام، وجعل طريقها الإسلام، وجعل مَن لم يُجِب دعوتَه في الجحيم والعذاب الأليم. فكيف يجوز منْعُ الصبي من إجابة
(2)
دعوة الله مع
(1)
أخرجه مالك (2126) وعبد الرزاق (15494، 15495) وابن أبي شيبة (21433) وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 271) والحاكم (2/ 286) من طريقين عن عبد الله بن الزبير.
(2)
في الأصل: «لمن جابه» ، تصحيف. والتصحيح من «المغني» (12/ 279)، فإن المؤلف صادر عنه.
مُسارَعته ومُبادَرته إليها وسلوكِه طريقَها، وإلزامُه بطريق أهل الجحيم والكونِ معهم، والحكمُ عليه بالنار، وسَدُّ طريق النجاة عليه مع فراره إلى الله منها؟! هذا من أمحل المحال.
ولأنَّ هذا إجماع الصحابة، فإنَّ عليًّا رضي الله عنه أسلم صبيًّا، وكان يفتخر بذلك، ويقول:
سبقتكم إلى الإسلام طُرًّا
…
صبيًّا ما بلغت أوان حلمي
(1)
فكيف يقال: إنَّ إسلامه كان باطلًا لا يصح؟ ولهذا قال غير واحد من التابعين ومَن بعدهم: أوَّل مَن أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان عليٌّ، ومن النساء خديجة، ومن العَبِيد بلال، ومن الموالي زيد
(2)
.
وقال عروة بن الزبير: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في «الكبير» (6/ 206) بنحوه وقال: وهذا شائع فيما بين الناس من قول علي رضي الله عنه إلا أنَّه لم يقع إلينا بإسناد يُحتَجُّ بمثله.
(2)
اختلف التابعون في أول مَن أسلم. وهذا القول إنما هو لإسحاق بن راهويه جمعًا بين الأقوال. انظر: «معالم التنزيل» للبغوي (4/ 87).
(3)
أخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (2535، 1096) والطبراني في «الكبير» (1/ 95، 122) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (308، 419) والبيهقي (6/ 339، 342)، كلهم من طريق الليث، عن أبي الأسود، عن عروة، مفرَّقًا كلٌّ منهما على حدة.
وبايع عبد الله بن الزبير وعمره سبع سنين أو ثمانٍ، فضَحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رآه
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنتُ أنا وأمِّي من المستضعفين بمكة
(2)
. ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحتلم.
ولم يرُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد من الصبيان إسلامَه قط، بل كان يَقبَل إسلام الصغير والكبير، والحرّ والعبد، والذكر والأنثى. ولم يأمر هو ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أصحابه صبيًّا أسلم قبل البلوغ= عند البلوغ أن يجدِّد إسلامه، ولا عُرِف هذا في الإسلام قط.
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثةٍ»
(3)
، فلم يُرِد به النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يصح إسلامُه، ولا ذكره، ولا قراءته، ولا صلاته، ولا صيامه؛ فإنه لم يخبر أنَّ قلم الثواب مرفوعٌ عنه. وإنَّما مُراده بهذا الحديث رفعُ قلم التأثيم، وأنَّه لا يُكتَب عليه ذنبٌ. والإسلام أعظم الحسنات، وهو له لا عليه، فكيف يُفهَم من رفع القلم عن الصبي بطلانُه وعدُم اعتباره، والإسلام له لا عليه، ويَسعَد به في الدنيا والآخرة؟
فإن قيل: فالإسلام يُوجِب الزكاةَ عليه في ماله ونفقةَ قريبه المسلم، ويَحرِمه ميراثَ قريبه الكافر، ويفسخ نكاحه، وهذه أحكامٌ عليه لا له، فتكون مرفوعةً عنه بالنص، ويستحيل رفعُها مع قيام سببها، فيلزم مِن رفعها رفعُ
(1)
أخرجه مسلم (2146) من حديث أسماء بين أبي بكر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (1357، 4587، 4588).
(3)
سبق تخريجه قريبًا.
سببها وهو الإسلام.
فالجواب من وجوه، أحدها: أن يقال: للناس في وجوب الزكاة عليه قولان، أحدهما: لا تجب عليه، فلا يصح الإلزام بها. والثاني: تجب في ماله، وهي نفعٌ محضٌ له، تعود عليه بركتها في العاجل والآجل، فهي في الحقيقة له لا عليه.
وأمَّا نفقة قريبه، فقد قدَّمنا أنَّ الصحيح وجوبُها مع اختلاف الدين، فلم يتجدَّد وجوبُها بالإسلام. وإن تجدَّد وجوبها بالإسلام فالنفع الحاصل له بالإسلام في الدنيا والآخرة أضعافُ أضعافِ الضرر الحاصل بتلك النفقة. وليس في شرع الله ولا في قدره إضاعةُ الخير العظيم لما في ضِمنه من شرٍّ يسيرٍ لا نسبة له إلى ذلك الخير البتَّة، بل مدار الشرع والقدر
(1)
على تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
وأمَّا حِرمان
(2)
الميراث من قريبه الكافر، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنَّ هذا يلزمهم نظيره، إذ قد يكون له قريبٌ مسلم، فإن لم يُصحَّح إسلامُه مُنع ميراثَه منه، وفي ذلك تفويت مصلحة دنياه وآخرته.
الثاني: أنَّا قد قدَّمنا أنَّ مذهب كثير من الصحابة وجماعة من التابعين أنَّ المسلم يرث الكافر دون العكس، وبيَّنَّا رجحان هذا القول بما فيه كفاية.
الثالث: أنَّه ولو حُرِم الميراث فما حصل له من عِزِّ الإسلام وغناه والفوز
(1)
في هامش الأصل: «والمقدر» ، والمثبت من متنه أولى.
(2)
في المطبوع: «حرمانه» ، خلاف الأصل.
به خيرٌ له ممَّا فاته من شيء لا يُساوِي جميعُه وأضعافُه مثقالَ ذرةٍ من الإيمان.
الرابع
(1)
: أنَّ هذا أمرٌ متوهَّمٌ، فإنَّه قد لا يكون له مالٌ يزكِّيه، ولا قرابةٌ ينفق عليه، أو لا مال ينفق منه على قرابته، فكيف يجوز منع صحة الإسلام المتحقِّق النفع في الدنيا والآخرة خوفًا من حصول هذا الأمر المتوهَّم الذي قد لا يكون له حقيقةٌ أصلًا في حقِّ كثير من الأطفال؟ ولو كان محقَّقًا فهو مجبورٌ بميراثه من أقاربه المسلمين، ومجبورٌ بعزِّ الإسلام، وفوائدِه التي لا يحصيها إلا الله.
ومثال تعطيل هذا النفع العظيم لأجل هذا الضرر المتوهَّم الذي لو كان موجودًا لكان يسيرًا جدًّا= مثال مَن عطَّل منفعة الأكل لِما فيها من تعب تحريك الفم وخسارة المال، وعطَّل منفعة اللُّبس لِما فيها من مفسدة خسارة الثمن وتوسيخ الثياب وتقطيعها! بل الأمر أعظم من ذلك، فلو فُرِض في الإسلام أعظمُ مضرةٍ تقدَّر في المال والبدن
(2)
لكان هباءً منثورًا بالنسبة إلى مصلحته ومنفعته.
فصل
إذا ثبت هذا فقال الخرقي
(3)
: والصبي إذا كان له عشر سنين، وعقل الإسلام فهو مسلم. فشَرَط لصحة إسلامه شرطين، أحدهما: أن يكون له
(1)
في الأصل: «الثالث» ، وقد سبق الثالث آنفًا.
(2)
في الأصل: «والبدرة» ، والمثبت من هامشه.
(3)
في «المختصر» (12/ 278 - المغني).
عشر سنين، الثاني: أن يعقل الإسلام.
فأمَّا هذا الثاني فلا خلاف في اشتراطه، فإنَّ الطفل الذي لا يعقل لا يتحقَّق فيه اعتقاد الإسلام، وكلامُه لا عِبرةَ به، فلا يدلُّ على إرادته وقصده.
وأمَّا الشرط الأول، فقال الشيخ في «المغني»
(1)
: أكثر المصحِّحين لإسلامه لم يشترطوا ذلك، ولم يحدُّوا له حدًّا من السنين. وهكذا حكاه ابن المنذر عن أحمد (يعني: أنَّه يصح إسلامه من غير تقييدٍ بحدٍّ). وروي عن أحمد: إذا كان له سبع سنين فإسلامه إسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُرُوهم بالصَّلاة لسبعٍ» فدلَّ على أنَّ ذلك حدٌّ لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدًّا لصحة إسلامهم. انتهى.
والمشهور في المذهب أنَّ الصبي إذا عقل الإسلام صحَّ إسلامه من غير اعتبار حدٍّ من السنين
(2)
. والخرقي قيَّده بعشرٍ. وقيَّده غيره بتسعٍ، حكاه أبو عبد الله بن حمدان
(3)
. ونصَّ أحمد في رواية على السبع.
(1)
(12/ 280).
(2)
انظر: «الإنصاف» (27/ 123 - 127).
(3)
في «الرعاية الكبرى» نسخة تشستربيتي (35/ب) حيث قال: «وإن عقل صبيٍّ ــ وقيل لعشر سنين، وقيل لتسعٍ ــ صحَّ إسلامه» . وفي مطبوعة «الرعاية الصغرى» (ص 595) مثله إلا أن فيه: «لسبعٍ» . قلتُ: سبع سنين وعشر سنين روايتان مستفيضتان عن الإمام أحمد، وقد بوَّب عليهما الخلال في «الجامع» (1/ 106 - 108)، ولم يذكر تسع سنين، ولا ذكره صاحب «الإنصاف» . فإما أن «لتسع» وهم من ابن حمدان، وما في مطبوعة «الرعاية الصغرى» تصحيف. وإما أن نسخة «الكبرى» مصحَّفة، وهي التي وقعت للمؤلف ــ وقد نسخت سنة 706 ــ أو مثلها.
وقال ابن أبي شيبة: إذا أسلم وله خمس سنين جعل إسلامه إسلامًا. قال في «المغني»
(1)
: ولعله يقول: إنَّ عليًّا أسلم وهو ابن خمس سنين، لأنَّه قد قيل: إنَّه مات وهو ابن ثمان وخمسين، فعلى هذا يكون إسلامه لخمس سنين؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقام من حيث بعث إلى أن توفي ثلاثًا وعشرين سنةً، وعاش علي رضي الله عنه بعد ذلك ثلاثين سنةً، فذلك ثلاثٌ وخمسون سنةً، فإذا مات عن ثمان وخمسين لزم قطعًا أن يكون وقت المبعث له خمسُ سنين. انتهى.
وهذا ممَّا اختُلِف فيه فروى قتادة عن الحسن وغيره، قال: أوَّل مَن أسلم بعد خديجة عليٌّ، وهو ابن خمس عشرة سنةً أو ست عشرة
(2)
.
قلت: وصاحب هذا القول يَلزَمه أن يكون سِنُّه يوم مات سبعين سنة إلا سنتين، وهذا لم يقُله أحدٌ كما سيأتي.
وقال الحسن بن زيد بن الحسن: أسلم علي وله
(3)
تسع سنين
(4)
.
وذكر الليث، عن أبي الأسود، عن عروة قال: أَسلَم عليٌّ وهو ابنُ ثمان سنين
(5)
.
(1)
(12/ 280) بعد أن حكى قول ابن أبي شيبة.
(2)
أخرجه معمر في «جامعه» (20391 - مصنف عبد الرزاق) عن قتادة به. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (998) والطبراني في «الكبير» (1/ 95) والبيهقي في «الكبير» (6/ 206).
(3)
«وله» لم يتبيَّن في الصورة لكونه لحقًا في طرف الصفحة المنعطف في التجليد.
(4)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 19).
(5)
تقدَّم تخريجه قريبًا. وانظر: «إرواء الغليل» (2478).
وذكر مِقْسَمٌ عن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى عليٍّ وله عشرون سنةً
(1)
. أراد الرَّاية يوم بدرٍ، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، فهذا يدلُّ على أنَّ إسلامه كان لخمس سنين، فإنَّه إذا كان له يوم بدر عشرون سنة كان بينَه وبينَ المبعث خمس عشرة. ولا يصح أن تكون هذه راية فتح خيبر، لأنَّه يَلزَم أن يكون له وقتَ المبعث سنةٌ واحدةٌ. ولذلك قال مِسعر عن الحَكَم عن مِقْسَم عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى عليٍّ يومَ بدرٍ وهو ابن عشرين سنة
(2)
. قال الحاكم: هذا على شرط البخاري ومسلم.
وأما حديث الأَجلَح، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل، عن علي رضي الله عنه قال: ما أعرف أحدًا من هذه الأمة عبَدَ اللهَ بعد نبيِّها غيري، عبدتُّ اللهَ قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة سبعَ سنين= فالأجلح وإن كان صدوقًا، فإنَّه شيعي
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (167) والطبراني في «الكبير» (1/ 106) من طريق قيس بن ربيع، عن الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم به. وروي من طريق مسعر عن الحكم به كما سيأتي.
(2)
أخرجه الحاكم (3/ 111) ومن طريقه البيهقي (6/ 207).
(3)
وقد وثَّقه ابن معين، ولكن ضعَّفه أكثر أئمة الحديث. وقد اختُلف عليه فيه، فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (8339) من طريق محمد بن فضيل عنه على الوجه الذي ذكره المؤلف. وأخرجه الحاكم (3/ 112) وابن الجوزي في «الموضوعات» (638) من طريق شعيب بن صفوان عنه، عن سلمة بن كُهيل، عن حبَّة بن جُوين، عن علي. وإسناده واهٍ، شعيب والأجلح متكلَّم فيهما، «وأما حبَّة فلا يساوي حبَّة» كما قال ابن الجوزي. وانظر:«تلخيص المستدرك» للذهبي.
وللحديث طريق آخر من رواية عبَّاد بن عبد الله الكوفي عن علي بنحوه، أخرجه النسائي في «الكبرى» (8338) وابن ماجه (120) والحاكم (3/ 111) وغيرهم. قال ابن الجوزي في «الموضوعات» (637):«موضوع، المُتَّهم به عبَّاد. قال أحمد: اضرب عليه فإنه حديث منكر» . اهـ باختصار. وقد تعقب الذهبي تصحيح الحاكم وأعلَّه بعبَّاد هذا، وقال في «ميزان الاعتدال» (2/ 368): هذا كذب على علي.
وهذا الحديث معلومٌ بطلانه بالضرورة؛ فإنَّ عليًّا رضي الله عنه لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين بحيث بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المبعث سبع سنين لم يستجب له أحدٌ في هذه المدة. هذا معلومٌ بطلانه قطعًا عند الخاصة والعامة
(1)
. اللهم إلا أن يريد قبل المبعث، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبَّد بغار حراء قبل أن يُوحَى إليه، ومع ذلك فلا يصح هذا، لأنَّه إذا كان قد عبَدَ الله قبل المبعث سبع سنين فلا بدَّ أن يكون في سِنِّ مَن يميِّز عند العبادة، فأقلُّ ما يكون له سبع سنين إذ ذاك، فيكون المبعث قد قام وله أربع عشرة سنةً، وأقام بمكة بعد المبعث ثلاث عشرة، فهذه سبع وعشرون سنة، وكانت بدرٌ في السنة الثانية، فيكون سِنُّه يومَ أخذ الراية ثلاثين إلا سنةً، فيكون ابن عباس رضي الله عنهما قد حطَّه من عمره إذ ذاك تسع سنين.
قلت: ولعل لفظه: «صلَّيتُ قبل الناس لسبع سنين» ، فقَصُرَت اللام
(1)
وذلك ــ كما قال الذهبي ــ «لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مِن أوَّل ما أوحي إليه فقد آمن به خديجة وأبو بكر وبلال وزيدٌ مع عليٍّ، أو قبله بساعات أو بعده بساعات، وعبدوا الله مع نبيِّه، فأين السبع سنين؟! ولعلَّ السمع أخطأ، فيكون أمير المؤمنين قال: عبدتُ الله ولي سبع سنين، ولم يضبط الراوي ما سمع» . انتهى من «تلخيص المستدرك» (3/ 112) بتصرف يسير.
فأسقطها الكاتبُ فصارت «سبع سنين» ، فهذا محتملٌ وهو أقرب ما يُحمَل عليه الحديث إن صح.
وبالجملة، فلا ريبَ أنَّه أسلم قبل البلوغ.
أمَّا على قول ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: إنَّ عليًّا قُتِل وهو ابن ثمان وخمسين سنة
(1)
، فظاهرٌ، فإنَّه قُتِل سنة أربعين، فيكون له وقت المبعث خمس سنين. ولعلَّ هذا مأخذ أبي بكر بن أبي شيبة إذ صحَّح إسلام الصبي لخمس سنين.
وأمَّا على قول حسين
(2)
بن زيد بن علي، عن جعفرٍ، عن أبيه: إنَّه قُتِل وله ثلاثٌ وستون سنةً
(3)
، فيكون له وقت المبعث عشر سنين. تابعه أبو إسحاق السَّبِيعي وأبو بكر بن عيَّاش
(4)
.
وقال ابن جُرَيج: أخبرني محمد بن عمر بن علي أنَّ عليًّا تُوفِّي لثلاثٍ وستين أو أربعٍ وستين
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (6789) عن ابن عيينة به. وأخرجه أيضًا البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 183، 2/ 381) و «الأوسط» (1/ 529، 663) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (162، 418، 419) والطبراني في «الكبير» (3/ 103) من طرق عن ابن عيينة به.
(2)
غير محرر في الأصل. وفي المطبوع: «حسن» . والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (1/ 95) ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (314).
(4)
لم أجد مخرجهما.
(5)
أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (315).