الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الأدلة من السنة على وجوب قتل السابِّ وانتقاض عهده
الدليل الأول: ما رواه الشعبي عن عليٍّ أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها. وهكذا رواه أبو داود في «السنن»
(1)
.
واحتج به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله
(2)
فقال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كان رجل من المسلمين أعمى يأوي إلى امرأةٍ يهوديةٍ، فكانت تُطعمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه، فلما كان ليلةٌ من الليالي خنقها فماتت، فلما أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر له أمرها، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها.
قال شيخنا
(3)
: وهذا الحديث جيِّدٌ، فإنَّ الشعبي رأى عليًّا وروى عنه حديث شُراحة الهَمْدانية
(4)
، وكان في حياة عليٍّ قد ناهز العشرين سنةً وهو معه في الكوفة، وقد ثبت لقاؤه لعلي رضي الله عنه، فيكون الحديث متصلًا.
(1)
رقم (4362) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 60) والضياء في «المختارة» (2/ 169) ــ من طريق جرير عن مغيرة عن الشعبي به.
(2)
وعنه الخلال في «الجامع» (2/ 341).
(3)
«الصارم المسلول» (2/ 126).
(4)
وهو أنها زنت فاعترفت، فجلدها عليٌّ يومَ الخميس مائة، ورجمها يوم الجمعة. قال الشعبي «وأنا شاهد» . أخرجه أحمد (978، 1210). وهو في البخاري (6812) مختصرًا وليس فيه التصريح بشهوده الواقعةَ.
وإن يبعُد سماع الشعبي من عليٍّ فيكون الحديث مرسلًا. والشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له إلا مرسلًا صحيحًا
(1)
، وهو من أعلم الناس بحديث عليٍّ وأعلمهم بثقات أصحابه.
وله شاهدٌ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو:
الدليل الثاني: قال الإمام أحمد
(2)
: حدثنا رَوحٌ، حدثنا عثمان الشحَّام، حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلًا كانت له أم ولدٍ تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّها كانت تشتمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا إنَّ دم فلانة هدرٌ» .
رواه أبو داود والنسائي
(3)
من حديث إسماعيل بن جعفرٍ، عن إسرائيل، عن عثمان الشحَّام، عن عكرمة، عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولدٍ تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلةٍ جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها واتَّكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال:
(1)
أسند العقيلي (2/ 278) عن علي ابن المديني أنه قال: «مرسل الشعبي وابن المسيِّب أحبُّ إليَّ من داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس» . وقال العجلي في «الثقات» (2/ 12): «مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحًا» .
(2)
كما في «جامع الخلال» (2/ 341) عن عبد الله عنه. وإسناده حسن في المتابعات.
(3)
«سنن أبي داود» (4361)، «سنن النسائي الكبرى» (3519) و «المجتبى» (4070). وأخرجه أيضًا الطبراني في «الكبير» (11/ 351) والدارقطني في «السنن» (3194، 3195، 4503 - 4505) والحاكم (4/ 354) والضياء (12/ 158) والبيهقي (7/ 60) من طرق عن إسرائيل به.
«أنشد الله رجلًا فعل [ما فعل]، لي عليه حقٌّ إلا قام» ، فقام الأعمى يتخطَّى الناس وهو يتدَلْدَل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقةً، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأتُ عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا اشهدوا أنَّ دمها هدرٌ» .
و «المغول» بالغين المعجمة، قال الخطابي
(1)
: هو شبيه المِشْمَل ونصله دقيقٌ ماضٍ. وكذلك قال غيره
(2)
: هو سيفٌ دقيقٌ يكون غِمْده كالسوط. والمِشْمَل: السيف القصير، سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل، أي: يغطيه بثوبه. واشتقاق المغول مِن: غاله الشيءُ واغتاله، إذا أخذه من حيث لا يدري.
قال شيخنا
(3)
: فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى، وعليه يدل كلام الإمام أحمد؛ لأنه قيل له في رواية ابنه عبد الله
(4)
: في قتل الذمي إذا سبَّ أحاديث؟ قال: نعم، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال: سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين. وعلى هذا فيكون قد خنقها وبعج بطنها، أو تكون كيفية القتل غير محفوظة في إحدى الروايتين.
(1)
في «معالم السنن» (6/ 199). والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 142).
(2)
كالجوهري في «الصحاح» (5/ 1786).
(3)
«الصارم السلول» (2/ 143).
(4)
ليس في المطبوع منها، ولا نقلها الخلال بهذا التمام.
ويؤيِّد ذلك: أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين، كلٌّ منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم، وكلاهما قتلها وحده، وكلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الناس= بعيدٌ في العادة.
وعلى هذا التقدير فالمقتولة
(1)
يهوديةٌ كما جاء مفسرًا في تلك الرواية. ويمكن أن تكونا قصتين كما يدل عليه ظاهر الحديثين.
فإن قيل: يجوز أن تكون هذه المرأة من أهل الحرب ليست من أهل الذمة، وحينئذ لا يدل على قتل الذمي المعاهَد وانتقاض عهده بالسب.
قيل: هذا ظنَّه بعضُ الناس الذين ليس لهم بالسنة كثير علمٍ. وهو غلطٌ لأن هذه المرأة كانت من اليهود، وكانت
(2)
موادِعةً مهادِنةً، لأن
(3)
النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعةً مطلقةً، ولم يضرب عليهم جزيةً، وهذا مشهورٌ عند [أهل] العلم بمنزلة التواتر بينهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى
(4)
: لم أعلم مخالفًا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل المدينة وادع يهود كافةً على غير جزيةٍ.
وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصنافٍ من اليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وكان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وكانت قريظة حلفاء الأوس. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
في الأصل: «المقتول» ، والمثبت من «الصارم» .
(2)
«من اليهود، وكانت» سقط من المطبوع لانتقال النظر.
(3)
في الأصل: «ان» ، وقد سبق مثله في الأصل مرارًا.
(4)
في «الأم» (5/ 503)، والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 128).
هادنهم ووادعهم، مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه، حتى إنه عاهد اليهود أن يعينوه إذا حارب. ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة.
قال محمد بن إسحاق
(1)
: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ يعني في أول ما قدم المدينة ــ كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم.
قال ابن إسحاق
(2)
: حدثني عثمان بن محمد بن الأخنس بن شريقٍ قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب، كان مقرونًا
(3)
بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال، كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمَّدٍ النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والمؤمنين مِن قريشٍ ويثربَ ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمةٌ واحدةٌ دون الناس، المهاجرون من قريشٍ على رِبْعَتهم
(4)
يتعاقلون بينهم مَعاقِلَهم
(5)
الأولى، يفدون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوفٍ على رِبْعَتهم يتعاقلون معاقلهم
(6)
الأولى،
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 501).
(2)
أخرجه البيهقي في «السنن» (8/ 106) من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق به. والكتاب في «سيرة ابن هشام» عن ابن إسحاق معلَّقًا.
(3)
في الأصل: «معروفًا» ، تصحيف.
(4)
أي: حالهم، وأمرهم الذي كانوا عليه.
(5)
في الأصل: «بعاقلتهم» ، تصحيف. ومعنى «يتعاقلون بينهم معاقلَهم الأولى» أَي: يكونون على ما كانوا عليه من أخذِ المَعاقِل ــ وهي العُقُول، أي: الدِّيات ــ وإعطائها.
(6)
في الأصل: «معاقلتهم» ، تصحيف أو وهم، نحا به منحى المصدر.
وكل طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، ثم ذكر لبطون الأنصار: بني حارثٍ، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوفٍ، وبني النَّبِيت
(1)
مثل هذا الشرط.
ثم قال: «وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا
(2)
منهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقلٍ، ولا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونه
…
» إلى أن قال: «وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، فإن المؤمنين بعضهم مولى بعضٍ دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا متناصرٍ عليهم، وإن سِلْم المؤمنين واحدةٌ
…
» إلى أن قال: «وإن اليهود متفقون مع المؤمنين ما داموا محارَبين، وإن ليهود بني عوفٍ ذمةً من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقِعُ
(3)
إلا نفسه وأهل بيته.
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا
(1)
في المطبوع: «الأوس» ، خلافًا للأصل.
(2)
المُفرَح: المُثْقَل بالدين والمحتاج المغلوب. وهو من الأضداد.
(3)
كذا في الأصل هنا وفي الموضع الآتي، وكذا في جميع نسخ «الصارم» الخطية، كما نبَّه عليه محققه، والمؤلف صادر عنه. وفي «السيرة» و «سنن البيهقي»:«لا يوتِغُ» ، أي: لا يضرُّ ولا يُهلك إلا نفسه.
يوقع إلا نفسه وأهل بيته. وإن لِجَفْنَةَ
(1)
ــ بطنٌ من بني ثعلبة ــ مثله، وإن لبني الشَّطْبة
(2)
مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم».
ثم يقول فيها: «وإن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثمٍ، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَثٍ واشتجارٍ
(3)
يخشى فساده، فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم. وإن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة».
[وفيها أشياء أُخر. هذه الصحيفة]
(4)
معروفةٌ عند أهل العلم.
روى مسلم في «صحيحه»
(5)
عن جابر رضي الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطنٍ عُقُوله، ثم كتب:«أنه لا يحلُّ أن يُتَولَّى مولى رجلٍ مسلمٍ بغير إذنه» .
فقد بيَّن فيها أن كلَّ من تبع المسلمين من اليهود
(6)
فإن له النصر. ومعنى الاتِّباع مسالمته وترك محاربته، لا الاتِّباع في الدين كما بيَّنه في أثناء
(1)
في الأصل: «الجفنة» ، خطأ. فأثبت في المطبوع:«لحقه» ! وفي مطبوعة «الصارم» : «لحقته» !
(2)
في الأصل: «الطية» ، تصحيف.
(3)
في المطبوع: «حرث وأشجار» !
(4)
ما بين الحاصرتين من «الصارم» ، وقد سقط من الأصل لانتقال النظر.
(5)
برقم (1507)، وكذا أحمد (14445) واللفظ به أشبه.
(6)
في الأصل: «تبع اليهود من المسلمين» ، مقلوب سهوًا. والتصحيح من «الصارم» .
الصحيفة، فكل من أقام بالمدينة ومَخاليفِها
(1)
غيرَ محاربٍ من يهود دخل في هذا.
ثم بيَّن أن ليهود كل بطنٍ من الأنصار ذمةً من المؤمنين، ولم يكن بالمدينة أحدٌ من اليهود إلا وله حلفٌ، إما مع الأوس أو مع بعض بطون الخزرج، وكان بنو قينقاع ــ وهم المجاورون للمدينة، وهم رهط عبد الله بن سلامٍ ــ حلفاءَ بني عوف بن الخزرج رهطِ ابنِ أُبيٍّ، وهم
(2)
البطن الذي بدئ بهم في هذه الصحيفة.
قال ابن إسحاق
(3)
: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخانوا
(4)
فيما بين بدرٍ وأحدٍ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام عبدُ الله بن أُبَيٍّ [ابنُ] سَلولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ حين أمكنه الله منهم ــ فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأعرَضَ عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرسلني» ، وغضب حتى إنَّ لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظِلالًا
(5)
(1)
في مطبوعة «الصارم» : «مخالفيها» ، خطأ.
(2)
في المطبوع: «رهط ابن أبي رُهْمٍ» تحريف، تابع فيه نشرة محمد محيي الدين من «الصارم» (ص 64)، وكذا في الطبعة الهندية (ص 63)؛ مع أن ابن أبي رُهْم رضي الله عنه قرشيٌّ من السابقين الأولين!
(3)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 47)«دلائل النبوة» للبيهقي (3/ 174).
(4)
كذا في الأصل. وفي «الصارم» و «السيرة» : «حاربوا» .
(5)
في الأصل: «ضالا» ، تصحيف. والمثبت من «الصارم» موافق لـ «الدلائل». وفي «سيرة ابن هشام»:«ظُلَلًا» .
وقال: «ويحك أرسلني» ، فقال: واللهِ لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسرٍ وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأسود والأحمر؛ تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هم لك» .
وأما النضير وقريظة فكانوا خارجًا من المدينة، وعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يخفى على عالمٍ.
وهذه المرأة المقتولة ــ والله [أعلم] ــ كانت من بني قينقاع، لأن ظاهر القصة أنها كانت بالمدينة. وسواءٌ كانت منهم أو من غيرهم، فإنها كانت ذميةً لأنه لم يكن بالمدينة من اليهود إلا ذِميٌّ، فإن اليهود كانوا ثلاثة أصنافٍ وكلهم معاهدٌ.
وقال الواقدي
(1)
: حدثني عبد الله بن جعفر، عن الحارث بن الفُضَيل، عن محمد بن كعب القرظي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعَتْه يهود كلها، فكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانًا، وشرط عليهم شروطًا، فكان فيما شرط: أن لا يظاهروا عليه عدوًّا. فلمَّا أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَ بدر وقدم المدينة بغَتْ يهود، وقطعَت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم ثم قال:«يا معشر يهود، أَسلِموا، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله، قبلَ أن يُوقِع الله بكم مثلَ وقعة قريش» ، فقالوا: يا محمد، لا يغُرَّنَّك مَن لقيتَ، إنَّك لقيت أقوامًا أغمارًا، وإنَّا واللهِ أصحاب الحرب، وإن قاتلتنا لتعلمَنَّ أنَّك لم تُقاتِل مِثلَنا. ثم ذكر حِصارهم وإجلاءهم
(1)
«مغازي الواقدي» (1/ 176).
إلى أذرعاتٍ، وهم بنو قينقاع الذين كانوا بالمدينة.
فقد ذكر ابن كعب مثل ما في هذه الصحيفة، وبيَّن أنَّه عاهد جميع اليهود. وهذا ممَّا لا يُعلَم فيه نزاعٌ بين أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن تأمل الأحاديث المأثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورةً.
ومما يوضح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذُكر له
(1)
أنها قُتلت نشد الناس في أمرها، فلمَّا ذكر له ذنبها أبطل دمها. وهو صلى الله عليه وسلم إذا حكم بأمرٍ عقيب حكاية حالٍ حُكيت له دلَّ ذلك على أن ذلك المحكيَّ هو الموجِب لذلك الحكم، لأنه حكمٌ حادثٌ فلا بد له من سبب حادثٍ، ولا سبب إلا ما حُكي وهو مناسبٌ فيجب الإضافة إليه.
وأيضًا: فلما نشد النبي صلى الله عليه وسلم الناس في أمرها ثم أبطل دمها دلَّ على أنها كانت معصومةً، وأنَّ دمها كان قد انعقد سببُ ضمانه، وكان مضمونًا لو لم يبطله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها [لو]
(2)
كانت حربيةً لم ينشد الناس فيها ولم يحتَجْ أن يُبطِل دمَها ويُهدره، لأن الإبطال والإهدار لا يكون إلا لدمٍ قد انعقد له سبب الضمان. ولهذا لما رأى امرأةً مقتولةً في بعض مغازيه أنكر قتلها ونهى عن قتل النساء
(3)
، ولم يبطله ولم يهدره، فإنه إذا كان في نفسه باطلًا هدرًا، والمسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمونٍ، بل هو هدرٌ= لم يكن لإبطاله وإهداره وجهٌ. وهذا ــ ولله الحمد ــ ظاهرٌ.
(1)
في الأصل: «لها» مستشكلًا له بـ «ظ» في الهامش.
(2)
زيادة لازمة من «الصارم» .
(3)
كما في حديث ابن عمر عند البخاري (3014، 3015) ومسلم (1744).
فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد عاهد اليهود عهدًا بغير ضرب جزيةٍ عليهم، ثم إنه أهدر دم يهوديةٍ منهم لأجل سبِّه، فأن يُهدَر دمُ يهوديةٍ من اليهود الذين ضُربت عليهم الجزية والتزموا أحكام الملة، لأجل السب= أولى وأحرى.
ولو لم يكن قتلُها جائزًا لبيَّن لقاتلها قبح ما فعل، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقرُّ على باطلٍ، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن من قتل نفسًا معاهدةً بغير حقِّها لم يَرَحْ رائحة الجنة»
(1)
، ولأوجب ضمانها وكفارة قتل المعصوم؛ فلما أهدر دمها عُلم أنه كان مباحًا.
وقد وهم الخطابي
(2)
في أمر هذه المقتولة فقال: «فيه بيانُ أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدادٌ عن الدين» ، فاعتقد أنها مسلمةٌ، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرةً كما صرح به في الحديث. ولو كانت مرتدةً منتقلةً إلى غير دين الإسلام لم يُقِرَّ [ها] سيدُها على ذلك أيامًا طويلةً، ولم يكتفِ بمجرد نهيها عن السب، بل كان [يطلب]
(3)
منها العودَ إلى الإسلام، والرجل لم يقل: كفرَتْ ولا ارتدَّتْ، وإنما ذكر مجرَّد السب والشتم، فدلَّ على أنها لم يصدر منها زائدٌ عليه.
(1)
أخرجه أحمد (20506، 20523) والنسائي في «الكبرى» (8690) وابن حبان (4882، 7382) وغيرهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما دون لفظة: «بغير حقها» .
(2)
في «معالم السنن» (6/ 199).
(3)
بياض في الأصل قدر كلمة، والمثبت من «الصارم» .
فصل
الدليل الثالث: ما احتجَّ به الشافعي على أن الذميَّ إذا سبَّ قُتِل وبرئت منه الذمة، وهو قصة كعب بن الأشرف.
قال الخطابي
(1)
: قال الشافعي: يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة. واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف.
قال الشافعي في «الأم»
(2)
ومعلومٌ أنه إنما أراد بهذا الكلام كعبَ بن الأشرف، وقصته مشهورةٌ مستفيضةٌ.
وقد رواها عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟» ، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال:«نعم» . قال: فائذن لي أن أقول شيئًا، قال:«قل» ، فأتاه وذكَّره ما بينهم، قال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وعنَّانا، فلما سمعه قال: وأيضًا والله لتملُّنَّه، قال: إنَّا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمرُه. قال: وقد أردت أن
(1)
في «معالم السنن» (6/ 200).
(2)
(5/ 401 - 402).
تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ نساءكم
(1)
؟ قال: أنت أجمل العرب، نرهنك نساءنا؟! قال: ترهنوني
(2)
أولادكم؟ قال: يُسَبُّ ابنُ أحدنا فيقال: رُهِنتَ في وَسقَين من تمرٍ! ولكن نرهنك اللَّأمة ــ يعني السلاح ــ، قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عَبْس بن جَبْرٍ
(3)
وعبَّاد بن بِشرٍ، فجاؤوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم ــ قال سفيان: قال غير عمرو
(4)
: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتًا كأنَّه صوتُ دمٍ، قال: إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِي إلى طعنةٍ ليلًا لأجاب ــ فقال محمد: إني إذا جاء سوف أمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنتُ [منه] فدونكم، فنزل وهو متوشِّحٌ، فقالوا
(5)
: نجد منك ريح الطيب؟ قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب. قال: أفتأذن لي أن أَشَمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه ثم قال: دونكم، فقتلوه.
متفق عليه
(6)
.
وروى ابن أبي أويسٍ، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أنَّ كعب بن الأشرف عاهد رسول الله
(1)
كذا في الأصل تبعًا «للصارم» ، والظاهر أن في «الصارم» سقطًا لانتقال النظر، فلفظ مسلم:«فما ترهنني؟ [قال: ما تريد؟ قال: ترهنني] نساءكم» .
(2)
في الأصل: «ترهنوا لي» ، والتصحيح من «صحيح مسلم» و «الصارم» .
(3)
في الأصل: «جبير» ، تصحيف. وسيأتي على الصواب لاحقًا.
(4)
في الأصل: «قال غيري عمر» ، تصحيف.
(5)
في الأصل: «فقال ا» ، تصحيف.
(6)
البخاري (4037) ومسلم (1801) ــ واللفظ له ــ من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به.
- صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه ولا يقاتله، ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنًا بمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أولُ ما خَزَع عنه قولَه:
أذاهبٌ أنت لم تَحْلُلْ
(1)
بمرقبةٍ
…
وتاركٌ أنت أم الفضل بالحرم
في أبياتٍ يهجوه فيها، فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتله.
وهذا محفوظٌ عن ابن أبي أويسٍ، رواه الخطابي
(2)
وغيره. وقال: قوله: «خزع» معناه قطع عهده.
وفي رواية غيره
(3)
: فخزع منه هجاؤه له فأمر بقتله.
والخَزْع: القطع، يقال: خَزَع فلانٌ عن أصحابه يخزَع خزعًا؛ أي: انقطع وتخلَّف، ومنه سميت «خُزاعة» ، لأنهم انخزعوا عن أصحابهم وأقاموا بمكة.
فعلى اللفظ الأول التقدير: وهذا أولُ خَزْعِه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: أول انقطاعه عنه بنقض العهد.
وعلى الثاني قيل
(4)
: المعنى: قطع هجاؤُه للنبي صلى الله عليه وسلم منه ــ أي: نقض ــ عهدَه وذمَّته.
وقيل
(5)
: معناه: خَزَع من النبي صلى الله عليه وسلم هجاؤه: أي: نال منه وشعَّث منه.
(1)
في الأصل: «تملك» ، تصحيف.
(2)
في «معالم السنن» (4/ 83). وأخرجه أيضًا في «غريب الحديث» (1/ 576)، وأخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 194).
(3)
هي رواية الخطابي في «غريب الحديث» .
(4)
هذا تفسير الخطابي في «غريب الحديث» . وانظر: «الفائق» (1/ 367).
(5)
هذا تفسير الزمخشري في «الفائق» (1/ 367).
وقد ذكر أهل المغازي والتفسير مثلُ محمد بن إسحاق
(1)
: أن كعب بن الأشرف كان موادعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة من وادعه من يهود المدينة، وكان عربيًّا من بني طيِّئ، وكانت أمه من بني النضير.
قالوا: فلمَّا قتل أهل بدر شقَّ ذلك عليه، وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش، وفضَّل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (50) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 50 - 51]. ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار [يهجو بها النبي صلى الله عليه وسلم]
(2)
ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله» ، وذكروا قصة قتله مبسوطةً.
وقال الواقدي
(3)
: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان ومعمر، عن الزهري، عن [ابن] كعب بن مالك؛ وإبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن جابرٍ
…
وذكر القصة، قال: ففزعت يهود ومن معها من المشركين، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طُرِق صاحبُنا الليلة وهو سيِّدٌ من ساداتنا، [قُتِل غِيلةً] بلا جرم ولا حدث علمناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّه
(1)
انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 51) وما بعدها.
(2)
ما بين الحاصرتين من «الصارم» .
(3)
«مغازي الواقدي» (1/ 184 - 192).
لو قرَّ كما قرَّ غيرُه ممَّن هو على مثل رأيه ما اغْتِيل، ولكنَّه نال
(1)
منَّا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيفُ». ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينه وبينهم كتابًا تحت العذق
(2)
في دار رَمْلة بنت الحارث، فحَذِرَتْ يهود وخافت وذلَّت من يوم قُتِل ابن الأشرف.
فإن قيل: لا نُسلِّم أنَّ كعبًا كان من أهل العهد بل كان حربيًّا، وعلى تقدير كونه من أهل العهد فإنه لم يبح دمه بالسبِّ بل بلحوقه بدار الحرب، فإنه لحق بمكة وهي دار حربٍ إذ ذاك، فهذا الذي أباح دمه.
وقد قال الإمام أحمد
(3)
: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريشٌ: ألا ترى إلى هذا الصُّنْبُر
(4)
المُنْبَتِر من
(5)
قومه، يزعم أنه خيرٌ منا ونحن أهل
(1)
في الأصل: «قال» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «» ، تصحيف.
(3)
ليس في «المسند» ، وكذا الآتي بعده. وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (11643) وابن حبان (6572) والطبري في «تفسيره» (7/ 142، 24/ 700) وكذا ابن المنذر (2/ 748) وابن أبي حاتم (3/ 973) من طرق عن ابن أبي عدي به. إسناده صحيح، وقد اختاره الضياء (11/ 343).
(4)
كذا رسمه في الأصل تبعًا لـ «الصارم» (2/ 157). والذي في مصادر التخريج: «الصُّنْبُور» ــ أو تصغيره: «الصُّنَيبِير» ــ فكأن ما في «الصارم» تخفيف بحذف الواو. وسيأتي على وجهه قريبًا. والصنبور هو: الرجل الفَرْد الضَّعيف الذَّليل بلا أهل ولا عقبٍ ولا ناصر.
(5)
في الأصل: «عن» ، والمثبت من «الصارم» ومصادر التخريج.
الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خيرٌ. قال: فنزل فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ} ، قال: وأنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} إلى قوله: {نَصِيرًا} [النساء: 51].
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق
(1)
قال: قال معمرٌ: أخبرني أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريشٍ فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه، وقال لهم: أنا معكم، فقالوا: إنكم أهل كتابٍ وهو صاحب كتابٍ، ولا نأمن أن يكون مكرًا منكم، فإن أردتَ أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمِن بهما، ففعل. ثم قالوا له: نحن أهدى أم محمد؟ نحن نصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بالبيت، وننحر الكُوم، ونسقي اللبن على الماء؛ ومحمدٌ قطع رحمه وخرج من بلده. فقال: بل أنتم خيرٌ وأهدى، قال: فنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَاَلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ اَهْدَى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51].
وقال: حدثنا عبد العزيز
(2)
، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم: ديننا خيرٌ أم دين محمد؟ قالوا: اعرضوا عليَّ دينكم، قالوا: نَعْمُر بيت ربنا، وننحر الكَوماء،
(1)
وهو في «تفسيره» (1/ 164)، ومن طريقه أخرجه أيضًا الطبري (7/ 143)
(2)
كذا في الأصل. وفي مطبوعة «الصارم» : «عبد الرزاق» بناءً على ما في بعض أصوله الخطية. ولم أجده في «تفسير عبد الرزاق» .
ونسقي الحاج الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف. قال: دينكم خيرٌ من دين محمد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية
(1)
.
قال موسى بن عقبة عن الزهري
(2)
: كان كعب بن الأشرف اليهودي ــ وهو أحد بني النضير أو هو فيهم ــ قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وركب إلى قريشٍ فقدم عليهم، فاستعان بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحبُّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأيُّنا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فإنَّا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبَّت الشَّمأل. قال ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلًا، ثم خرج مقبلًا حين أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلنًا
(3)
بعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجائه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لنا من ابن الأشرف؟ قد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريشٍ فجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك، ثم قدم على أخبثِ ما كان، ينظر قريشًا أن تَقْدَم فيقاتلنا معهم» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ما أُنزل فيه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} إلى قوله: {سَبِيلًا} [النساء: 51] وآياتٍ معها فيه وفي قريشٍ.
(1)
وأخرجه ابن أبي حاتم (3/ 976) عن أبي سعيد الأشج عن عبيد الله عن إسرائيل به.
(2)
أخرج بنحوه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/ 454) من طريق موسى بن عقبة به. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 190) عن موسى بن عقبة دون ذكر الزهري.
(3)
في الأصل: «تغلبًا» ، تصحيف.
وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اكفني
(1)
ابن الأشرف بما شئت»، فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أقتله ــ وذكر القصة في قتله. قال: فقتل اللهُ ابنَ الأشرف بعداوته لله ورسوله، وهجائه إياه، وتأليبه عليه قريشًا، وإعلانه بذلك.
قال ابن إسحاق
(2)
: كان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لمَّا أصيب أصحاب بدر، وقَدِم زيدُ بن حارثة إلى أهل السافلة
(3)
، وعبدُ الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرَين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقَتْلِ مَن قُتِل من المشركين، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظَّفَري، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كلُّ واحدٍ قد حدثني بعض حديثه؛ قالوا: كان كعب بن الأشرف من طيِّئ ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير.
= فقال
(4)
حين بلغه الخبر: أحقٌّ هذا؟ ترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين سمَّى هذان الرجلان ــ يعني زيدًا وعبد الله بن رواحة ــ؟ هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، واللهِ إن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لَبطنُ الأرض خيرٌ من ظهرها! فلما تيقَّن عدوُّ الله الخبرَ خرج حتى قدم مكة، نزل
(5)
على المطلب بن
(1)
في الأصل: «العن» ، تصحيف.
(2)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 51).
(3)
في الأصل: «السالفة» ، تصحيف.
(4)
جواب «لمَّا أصيب أصحاب بدر
…
» من حيث المعنى.
(5)
كذا في الأصل دون واو العطف قبله. وأضيفت في مطبوعة «الصارم» وليست في أصوله الخطية. وفي «السيرة» : «فنزل» .
أبي وداعة السَّهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية، فأنزلَتْه وأكرمَتْه، وجعل يحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُنشد الأشعار، ويبكي
(1)
أصحاب القليب من قريشٍ الذين أصيبوا ببدرٍ ــ وذكر شعرَه وما رد عليه حسَّان وغيره.
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبِّب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث
(2)
ــ: «من لي مِن
(3)
ابن الأشرف؟»، فقال محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله ــ وذكر القصة.
وقال الواقدي
(4)
: حدثني عبدُ الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان؛ ومعمرٌ، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالكٍ؛ وإبراهيمُ بن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ فكلٌّ قد حدثني منه بطائفةٍ، وكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا: كان كعب بن الأشرف شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويحرض عليهم كفارَ قريش في شعره، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلُها أخلاطٌ، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم
(1)
في الأصل: «وجعلت تحرِّض
…
وتنشد
…
وتبكي»، تصحيف.
(2)
في الأصل: «الغيث» ، تصحيف من الناسخ. وزيادة «أبي» قبله خطأ، وهو في مصدر المؤلف ــ «الصارم» (2/ 164) ــ كذلك. والصواب:«عبد الله بن المغيث بن أبي بردة» ، كما سبق قريبًا.
(3)
كذا في الأصل و «الصارم» ، ومثله في «عيون الأثر» (1/ 299) نقلًا عن ابن إسحاق. وفي مطبوعة «سيرة ابن هشام»:«بِابن الأشرف» .
(4)
«المغازي» (1/ 184).
أهل الحلقة والحصون، ومنهم
(1)
حلفاء للحيَّين جميعًا الأوسِ والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشركًا، فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذًى شديدًا، فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزل الله:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اِلْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وفيهم أنزل الله:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ اِلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} الآية [البقرة: 108].
فلما أبى ابنُ الأشرف أن ينزع
(2)
عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى المسلمين، وقد بلغ منهم، فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدرٍ بقتل المشركين وأَسْرِ من أُسِر منهم، فرأى الأسارى مقرَّنين كُبِت وذلَّ، ثم قال لقومه: ويلكم! واللهِ لَبطن الأرض خيرٌ لكم من ظهرها اليوم، هؤلاء سَراة الناس قد قُتِلوا وأُسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. فقال: وما أنتم وقد وطئ قومَه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريشٍ فأحضها وأبكي قتلاها، لعلهم ينتدبون فأخرج معهم، [فخرج] حتى قدم مكة ووضع رحله عند أبي وداعة بن صُبَيرة السهمي
(3)
وتحته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فجعل يرثي قريشًا ــ وذكر ما رثاهم به من الشعر، وما أجابه حسانٌ. [قال: ودعا
(1)
في الأصل: «ومن» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «يدع» ، تصحيف.
(3)
كذا في رواية الواقدي. وسبق عند ابن إسحاق أنه نزل على ابنه «المطلب بن أبي وداعة السَّهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّانَ]
(1)
فأخبره بنزول كعبٍ على من نزل، فقال حسان ــ فذكر شعرًا هجا به أهلَ البيت الذين نزل فيهم.
قال: فلما بلغها شعرُه نبذَتْ رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟! ألا ترى ما يصنع بنا حسَّان؟ فتحوَّل، فكلَّما تحوَّل عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّانًا، فقال:«ابن الأشرف نزل على فلانٍ» ، فلا يزال يهجوهم حتى ينبذوا رحله، فلمَّا لم يجد مأوًى قدم المدينة.
فـ [لمَّا] بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدومُه، قال:«اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشرَّ وقوله الأشعار» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لي مِن
(2)
ابن الأشرف؟ فقد آذاني»، فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله. قال:«فافعل» ــ وذكر الحديث.
فقد اجتمع لابن الأشرف ذنوبٌ منها: أنه رثى قتلى قريش، وحضَّهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وواطأهم على ذلك، وأعانهم على محاربته بإخباره أنَّ دينهم خيرٌ من دينه، وهجا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين
(3)
.
(1)
ما بين الحاصرتين زيادة لازمة من «مغازي الواقدي» (1/ 186) ونسخة الظاهرية من «الصارم» (ق 37)، وسقطت من مطبوعة «الصارم» (2/ 166) لسقوطها من بعض النسخ الخطية منه، كنسخة المحمودية (ق 28). و «حسَّان» كذا في «المغازي» ونسخة الظاهرية من «الصارم» ، ولذا حصل انتقال النظر من مثله إليه فسقط ما بينهما، وإلا فحقُّه أن يكون منصرفًا ــ أي:«حسَّانًا» ــ كما سيأتي قريبًا.
(2)
كذا في الأصل و «الصارم» . ولفظ مطبوعة «المغازي» : «بابن الأشرف» .
(3)
في الأصل: «والمسلمون» . وهنا انتهى الاعتراض ــ مقرونًا بأدلَّته ــ الذي بدأ من (ص 490)، و مفاده أن قتل ابن الأشرف لم يكن بمجرَّد سبِّه للنبي صلى الله عليه وسلم، بل بلحوقه بدار الحرب وتحريض الكفار على محاربته صلى الله عليه وسلم.
قلنا: الجواب من وجوهٍ:
أحدها: أن كعبًا كان له عهدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم وأمان، وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدًا للنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضًا للعهد بهجائه وأذاه بلسانه.
الثاني: أنَّا قد قدمنا في حديث جابرٍ أن أول ما نقض به العهدَ قصيدتُه التي أنشأها يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود لما جاؤوا إليه في شأن قتله: «إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيفُ»
(2)
. وهذا نصٌّ في أن من فعل هذا فقد استحق السيف.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وفعل ما فعل هناك، وإنما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه، كما جاء ذلك مفسَّرًا في حديث جابرٍ المتقدم في قوله:«ثم قدم المدينة معلنًا بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم» . ثم بين أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ندب إلى قتله.
وكذلك في حديث موسى بن عقبة: «من لنا من ابن الأشرف؟ فقد
(1)
«وأمان
…
للنبي صلى الله عليه وسلم» سقط من المطبوع.
(2)
«مغازي الواقدي» (1/ 192)، وقد سبق.
استعلن بعداوتنا وهجائنا».
ويؤيد ذلك شيئان
(1)
:
أحدهما: أن سفيان بن عُيَينة روى عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة قال: جاء حُيَي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنَّا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفكُّ العُناة، ونسقي الحجيج؛ ومحمد صُنْبُورٌ، قطع أرحامنا، واتَّبعه سُرَّاق الحجيج بنو غفارٍ؛ فنحن خيرٌ أم هو؟ فقالوا: بل أنتم خيرٌ وأهدى سبيلًا، فأنزل الله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:50 - 51]
(2)
.
وكذلك قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف وحُيَي بن أخطب، رجلين من اليهود من بني النضير أتيا
(3)
قريشًا في الموسم، فقال لهما المشركون: نحن أهدى من محمد وأصحابه، فإنَّا أهل
(1)
سقطت النون من الأصل.
(2)
أخرجه ابن شَبَّة في «تاريخ المدينة» (2/ 452) وسعيد بن منصور (648 - التفسير) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «تفسيره» (2/ 749) ــ وابن أبي حاتم (3/ 974)، من طرق عن ابن عيينة به. وهو مرسل صحيح الإسناد.
وأخرجه الطبراني (11/ 251) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (12/ 175) ــ والبيهقي في «الدلائل» (3/ 193) من بعض الطرق الضعيفة عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس مسندًا.
(3)
كذا في الأصل. وفي «الصارم» ومصادر التخريج: «لقيا» .
السدانة والسقاية وأهل الحرم، فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان. إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه، فأنزل الله فيهم:{أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51]، فلما رجعا إلى قومهما قال قومهما
(1)
: إن محمدًا يزعم أنه قد نزل فيكما
(2)
كذا وكذا، قالا: صدق واللهِ، ما حملَنا على ذلك إلا حسدُه وبغضُه
(3)
.
وهذان مرسلان من وجهين مختلفين، فيهما أن كلا الرجلين ذهب إلى مكة وقال ما قال، ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل ابن الأشرف وأمسك عن ابن أخطب، حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلحق بخيبر، ثم جمع عليه الأحزاب، فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم. فعُلِم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجِب للندب إلى قتل ابن الأشرف. وإنما هو ما اختصَّ به ابنُ الأشرف من الهجاء ونحوه، وإن كان ما فعله بمكة مقويًّا لذلك
(4)
، لكن مجرد الأذى لله ورسوله يوجب الندب إلى قتله كما نصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«فإنه قد آذى الله ورسوله» ، وكما بينه جابرٌ في حديثه.
(1)
في الأصل: «قومهم» ، والتصحيح من «الصارم» .
(2)
في الأصل: «فيكم» ، والمثبت من «الصارم» .
(3)
أخرجه الطبري (7/ 146) وابن المنذر (2/ 750) وابن أبي حاتم (3/ 977) والواحدي في «الأسباب» (ص 294) من طرق عن يزيد بن زُريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وهذا مرسل صحيح الإسناد.
(4)
في الأصل: «بذلك» ، والمثبت أشبه.
الوجه الخامس: أن ابن أبي أويسٍ قال: حدثني إبراهيم بن جعفرٍ الحارثي
(1)
، عن أبيه، عن جابرٍ قال: لمَّا
(2)
كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وبني قريظة ــ كذا فيه، قال شيخنا
(3)
: وأحسبه
(4)
: وبني قينقاع ــ ما كان، اعتزل
(5)
ابن الأشرف ولحق بمكة، وكان فيها، وقال: لا أُعِين عليه ولا أقاتله، فقيل له بمكة: ديننا خيرٌ أم دين محمد وأصحابه؟ قال: دينكم خيرٌ وأقدمُ من دين محمد، ودين محمد حديث
(6)
.
فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربة.
الوجه السادس: أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذًى باللسان، فإنَّ رثاءه لقتلى المشركين، وتحضيضه على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وسبَّه وطعنَه في دين الإسلام، وتفضيلَه دين الكفار عليه= كلُّه قولٌ
(7)
باللسان ولم يعمل عملًا فيه محاربةٌ.
ومن نازعنا في سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه فهو فيما فعل كعب بن الأشرف
(1)
في الأصل: «الحارث» ، وعليه علامة استشكال بالحمرة.
(2)
في الأصل تقدَّمت «لمَّا» على «قال» ، والتصحيح من «الصارم» .
(3)
في «الصارم المسلول» (1/ 169).
(4)
تصحَّف في الأصل إلى: «» .
(5)
في الأصل: «اعدل» ، تصحيف.
(6)
أخرجه الخطابي في «معالم السنن» (4/ 83) مختصرًا، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 194)، وقد سبق تمام حديث جابر هذا (ص
…
).
(7)
في الأصل: «قولا» ، تصحيف.
من تفضيل دين الكفار وحضِّهم باللسان على قتل المسلمين أشدُّ منازعةً، فإن الذمي إذا تجسَّس
(1)
لأهل الحرب، وأخبرهم بعورات المسلمين، ودعا الكفار إلى قتالهم= انتقض عهده أيضًا كما ينتقض عهد الساب.
ومن قال: إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول: لا ينتقض العهد بشيء من ذلك. وهذا ابن الأشرف لم يوجد منه إلا أذًى باللسان فقط، فهو حجةٌ على من نازع في هذه المسائل، ونحن نقول: إن ذلك كلَّه نقضٌ للعهد.
الوجه السابع: أن تفضيل دين الكفار على دين المؤمنين هو دون سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريبٍ، فإن كون الشيء مفضولًا أحسنُ حالًا من كونه مسبوبًا مشتومًا؛ فإن كان ذلك ناقضًا للعهد فالسب بطريق الأولى.
وأما مرثيته للقتلى وحضُّهم على أخذ ثأرهم، فأكثر ما فيه تهييج قريشٍ على المحاربة، وقريشٌ كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم عقيب بدرٍ، وأرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه، فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف.
نعم، مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظًا
(2)
ومحاربةً، لكن
(3)
سبُّه للنبي وهجاؤه له ولدينه أيضًا مما يهيجهم على المحاربة ويُغريهم به
(4)
، فعُلِم
(5)
(1)
تصحَّف في الأصل إلى: «» .
(2)
رُسم في الأصل بالضاد.
(3)
في الأصل: «إلى» ، والتصحيح من «الصارم» .
(4)
في الأصل: «فيه» ، ولعله تصحيف المثبت من «الصارم» .
(5)
في الأصل: «تعلم» ، تصحيف.
أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام
(1)
وأبلغ، فإذا كان غيره من الكلام نقضًا فهو أن يكون نقضًا أولى. ولهذا قتل النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً من النسوة اللاتي كنَّ يشتمنه ويَهْجونه
(2)
، مع عفوه عمَّن كانت تعين عليه وتحض على قتاله.
الوجه الثامن: أن كعب بن الأشرف لم يلحق بدار الحرب مستوطنًا، ولهذا قدم المدينة وهي وطنه. والذمي إذا سافر إلى دار الحرب ثم رجع إلى وطنه لم ينتقض عهده. ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل حُيَي بن أخطب وكان قد سافر معه إلى مكة.
الوجه التاسع: أن ما ذكروه حجةٌ لنا، وذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوهٍ كثيرةٍ: أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ اَلْكِتَابِ} نزلت في كعب بن الأشرف لِما قاله لقريشٍ. وقد أخبر الله سبحانه أنه لعنه ومن لعنه فلن تجد له نصيرًا. وذلك دليل على أنه لا عهد له، فلو كان له عهدٌ لكان يجب نصره على المسلمين، فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره، فكيف بما هو أغلظ منه من شتمٍ وسبٍّ؟
وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم ــ والله أعلم ــ بمجرد ذلك ناقضًا للعهد لأنه لم
(1)
في الأصل: «كلام» ، والمثبت من «الصارم»
(2)
في الأصل: «يَهْجِينه» على لحن العامَّة، يقولون:«يدعون» للذكور، و «يدعين» للإناث! وهو على الصواب في «الصارم» .
وجماعة النسوة اللاتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهن: قَينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب. انظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 410) و «زاد المعاد» (3/ 501 - 502) بتخريجي.
يعلن بهذا الكلام ولم يجهر به، وإنما أعلم اللهُ به رسوله وَحْيًا كما تقدم في الأحاديث، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ أحدًا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنبٍ ظاهرٍ. فلما رجع إلى المدينة وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يُقتَل لظهور أذاه وشهرته عند الناس.
نعم، من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد، أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه.
الوجه العاشر: أن النفر الخمسة الذين قتلوه ــ وهم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وعباد بن بشرٍ، والحارث بن أوسٍ، وأبو عبس بن جبرٍ ــ قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخدعوه بكلامٍ يُظهرون به أنهم قد آمنوه ووافقوه، ثم يقتلونه. ومن المعلوم أن من أظهر لكافرٍ أمانًا لم يجُزْ قتله بعد ذلك لأجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه صار مستأمَنًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من آمن رجلًا على دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريءٌ، وإن كان المقتول كافرًا» . رواه أحمد
(1)
.
(1)
برقم (21947) ــ دون قوله: «وإن كان المقتول كافرًا» ــ وابن حبان (5982) والطبراني في «الأوسط» (4252، 6640، 7090) والبيهقي (9/ 142) وغيرهم من طرق عن السُّدِّي، عن رفاعة بن شدَّاد البَجَلي، عن عمرو بن الحَمِق الخزاعي رضي الله عنه. وإسناده حسن.
وأخرجه الطيالسي (1382) وأحمد (21946) والبيهقي (9/ 142) وغيرهم من طريق عبد الملك بن عُمير، عن رفاعة بن شدَّاد البجلي، عن عمرو بن الحَمِق بلفظ:«من آمن رجلًا على نفسه فقتله أُعطي لواء الغدر يوم القيامة» . وإسناده أقوى، والله أعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أَمِنَك الرجل على دمه فلا تقتُلْه» . رواه ابن ماجه
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك
(2)
مؤمنٌ». رواه أهل «السنن»
(3)
.
وقد زعم الخطابي
(4)
أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا. وزعم أن مثل هذا جائزٌ من الكافر الذي لا عهدَ له، كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغِرَّة.
لكن يقال: فهذا الكلام الذي كلَّموه به صار مستأمنًا، وأدنى أحواله
(5)
(1)
رقم (2689) من حديث سليمان بن صُرَد. وأخرجه أيضًا أحمد (27207) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3365). وفي إسناده أبو ليلى الحارثي وهو واه، وشيخه أبو عكاشة الكوفي وهو مجهول. وانظر:«الضعيفة» (2201).
(2)
في الأصل والمطبوع: «يقتل» !
(3)
أخرجه أبو داود (2769) وابن أبي شيبة (38590) والحاكم (4/ 352) من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي عن أبيه عن أبي هريرة. في إسناده لين لجهالة حال عبد الرحمن السدي، ولكن له شاهدان يعتضد ويتقوَّى بهما. الأول من حديث الحسن عن الزبير بن العوَّام عند أحمد (1426، 1433) وابن أبي شيبة (38591) وابن أبي عمر في «مسنده» (إتحاف الخيرة: 108) وغيرهم، رجاله ثقات إلا أن رواية الحسن عن الزبير مرسلة. والثاني من حديث معاوية بن أبي سفيان عند أحمد (16832) والطبراني في الكبير (19/ 319) والحاكم (4/ 353) بإسناد فيه علي بن زيد بن جُدعان، وحديثه حسن في الشواهد.
(4)
في «معالم السنن» (4/ 81 - 83) في الكلام على قصة قتل كعب وحديث «الإيمان قيد الفتك» . والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 181).
(5)
في الأصل: «أقواله» ، تصحيف.
أن تكون له شبهةُ أمانٍ. ومثل ذلك لا يجوز قتله لمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي، ويصير مستأمنًا بأقل من هذا كما هو معروفٌ في مواضعه. وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذى الله ورسوله.
ومن حلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمانٍ ولا بعهدٍ، كما لو آمن
(1)
المسلمُ من وجب قتلُه لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد المُوجِبِ للقتل، أو من وجب قتله لأجل زناه، أو آمن من وجب قتله لأجل الردة، أو لأجل ترك أركان الإسلام، ونحو ذلك. ولا يجوز أن يعقد [له] عهدٌ، سواءٌ كان عقدَ أمانٍ أو عقد هدنةٍ أو عقد ذمةٍ، لأن قتله حدٌّ من الحدود، ليس قتله لمجرد كونه كافرًا حربيًّا كما سنذكره.
أما الإغارة والبيات فليس هناك قول ولا فعلٌ
(2)
صاروا به آمنين، ولا اعتقدوا أنهم قد أُومِنوا، بخلاف قصة كعب بن الأشرف، فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يُحقَن معه الدم بالأمان، فلأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة الموقتة بطريق الأولى، فإن الأمان يجوز عقده لكل كافرٍ ويعقده كلُّ مسلم، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط، والذمةُ لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه، ولا يعقد إلا بشروطٍ كثيرةٍ تُشترط على أهل الذمة من التزام الصغار ونحوه.
فإن قيل: كعب بن الأشرف سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالهجاء والشعر، وهو كلامٌ موزونٌ يُحفَظ ويروى، ويُنشد بالأصوات والألحان، ويشتهر بين الناس،
(1)
في الأصل: «من» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «قولا» .
وذلك له من التأثير والأذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور. ولذلك
(1)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر حسَّانَ
(2)
أن يهجوهم ويقول: «إنه أنكى فيهم من النبل»
(3)
، فيؤثر هجاؤه فيهم أثرًا عظيمًا يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سُبُّوا بكلامٍ منثورٍ أضعاف الشعر.
وأيضًا: فإن كعب بن الأشرف وأم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه، والشيء إذا كثُر واستمرَّ صار له حالٌ أخرى ليست له إذا انفرد. وقد ذكرتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثلُ هذه الجريمة، وإن لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه.
فإذًا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به.
فالجواب من وجوهٍ
(4)
:
أحدها: أن هذا يفيدنا
(5)
أن السب في الجملة من الذمي يقتضي إهدار دمه وانتقاض عهده. ويبقى الكلام في الناقض للعهد: هل هو نوع خاصٌّ من السب وهو ما كثُر وغلظ، أو هو مطلق السب؟ هذا نظر آخر، فما كان مثل هذا السبِّ وجب أن يقال: إنه مُهدِرٌ لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحدٍ أن يخالف نصَّ السنة، فلو زعم زاعمٌ أن شيئًا من سب الذمي وأذاه لا يبيح دمه
(1)
في الأصل: «وكذلك» ، تصحيف.
(2)
كذا في الأصل تبعًا «للصارم» (2/ 172).
(3)
أخرجه مسلم (2490) من حديث عائشة، ولفظه:«إنه أشدُّ عليها من رشقٍ بالنَّبل» .
(4)
وهي في «الصارم» (2/ 173 وما بعده).
(5)
تحرَّف في الأصل إلى: «يقتل نا» ، فصار في المطبوع:«يُقتَل، لأن» .
كان مخالفًا للسنة الصحيحة الصريحة خلافًا لا عذر فيه لأحدٍ.
الوجه الثاني: لا ريب أن الجنس الموجِب للعقوبة قد يتغلَّظ بعضُ أنواعه صفةً أو قدرًا، أو صفةً وقدرًا، فإنه ليس قتلُ واحدٍ من الناس مثلَ قتل والدٍ وعالمٍ وصالحٍ، ولا ظلمُ بعض الناس مثلَ ظلم يتيمٍ فقيرٍ بين أبوين صالحين، وليست الجناية في الأوقات والأماكن والأحوال المُشرَّفة كالحرم والإحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك. وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الدية إذا تغلَّظ القتل بأحد هذه الأسباب
(1)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» . قيل له: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك» . قيل له: ثم أي؟ قال: «أن تُزاني حليلة جارك»
(2)
.
ولا شك أن من قطع الطريق مراتٍ متعددةً، وسفك دم خلقٍ من المسلمين، وكثُر منه أخذ الأموال= كان جرمه أعظم من جرم من لم يتكرر منه ذلك.
ولا ريب أن مَن أكثر مِن سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم أو نظم القصائد في سبِّه، فإن جرمه أعظمُ من جرم من سبَّه بالكلمة الواحدة المنثورة، بحيث يجب أن
(1)
انظر: «مصنف عبد الرزاق» (كتاب العقول/ باب التغليظ)، و «الأوسط» لابن المنذر (كتاب الديات/باب ذكر تغليظ الدية على من قتل في الحرم أو في الشهر الحرام أو قتل مُحرِمًا)، و «سنن البيهقي» (كتاب الديات/باب ما جاء في تغليظ الدية في قتل الخطإ في الشهر الحرام والبلد الحرام وقتل ذي الرحم).
(2)
أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
تكون إقامة الحد عليه أوكد، والانتصار منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب، ولو كان المُقِلُّ أهلًا أن يُعفى عنه لم يكن هذا أهلًا لذلك.
لكن هذه الأدلة تدل على أن جنسَ الأذى لله ورسوله ومطلقَ السب الظاهرِ مُهدِرٌ لدم الذميِّ ناقضٌ لعهده من وجوهٍ:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله»
(1)
. وذلك
(2)
اسمٌ مطلقٌ ليس مقيدًا بنوع ولا قدرٍ ولا تكرارٍ، ومعلومٌ أن قليلَ السبِّ وكثيرَه ومنظومَه ومنثورَه أذًى لله بلا ريبٍ.
الوجه الثاني: أنه لو أراد التكرار والمبالغة لأتى بالاسم المفهم لذلك فقال: فإنه قد بالغ في أذى الله ورسوله، أو تكرَّر منه، ونحو ذلك، وقد أوتي جوامع الكلم، وهو المعصوم في غضبه ورضاه.
الوجه الثالث: قوله في الحديث الآخر: «إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولا يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف»
(3)
، ولم يقيد ذلك بتكرارٍ بل علَّقه بمجرد الفعل.
الوجه الرابع: أن كعبًا آذاه بكلامه المنظوم، واليهودية بكلامها المنثور، وكلاهما أهدر دمه، فعلم أن النظم ليس له تأثيرٌ في هذا الحكم، والحكم إذا ثبت بدون الوصف كان عديم التأثير، فلا يجوز أن يجعل جزءًا
(4)
من العلة.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
أي: الأذى لله ورسوله.
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
(4)
في الأصل: «» ، تصحيف.
الوجه الخامس: أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره، وغليظه وخفيفه في كونه مبيحًا، سواءٌ كان قولًا
(1)
كالردَّة أو فعلًا كالزنا والمحاربة، وهذا قياس
(2)
الأصول. فمن زعم أن من الأقوال والأفعال ما يبيح الدم إذا كثُر ولا يبيحه مع القلة، فقوله مخالفٌ لأصول الشرع.
وأما ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه [القتل] بالمثقل
(3)
والفاحشة في الدبر
(4)
دون من قلَّ منه ذلك، فالكلام معه فيه، والباب واحدٌ في الشريعة.
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رضخ رأس يهوديٍّ رضخ رأس جارية
(5)
، لم يتكرَّر
(6)
منه ذلك الفعل.
وصحَّ عنه في اللوطي: «اقتلوا الفاعل والمفعول به»
(7)
،
ولم يعلِّق ذلك
(1)
في الأصل: «حولًا» !
(2)
في الأصل: «قيام» !
(3)
في الأصل: «المقتل» ، تصحيف.
(4)
في الأصل: «الدين» !
(5)
أخرجه البخاري (5295، 6877) ومسلم (1672) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
في المطبوع: «ينكر» !
(7)
أخرجه أحمد (2727، 2732) وأبو داود (4462) والترمذي (1456) وابن ماجه (2561) والطبراني في «الكبير» (11/ 212، 226) والحاكم (4/ 355) من طرقٍ كلُّها واهية أو مُعَلَّة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. انظر: «العلل الكبير» للترمذي (427) و «أنيس الساري» (3480).
وله شواهد من حديث أبي هريرة وعلي وجابر رضي الله عنهم، ولكنها ضعيفة أيضًا. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1352) و «نصب الراية» (3/ 339) و «إرواء الغليل» (2348، 2350).
بتكرارٍ. وأصحابه من بعده أجمعوا [على] قتله ولم يعتبروا تكرارًا
(1)
.
وإذا كانت الأصول المنصوصة والمُجمَع عليها قد سوَّت في إباحة الدم بين قليل الموجب وكثيره، كان الفرق تحكُّمًا بلا أصلٍ ولا نظيرٍ. يوضحه:
الوجه السادس: أن ما ينقض [الإيمان]
(2)
من الأقوال والأعمال يستوي فيه الواحد والكثير، فكذلك ما ينقض العهد.
الوجه السابع: أنه إذا أكثر من هذه الأقوال والأفعال، فإما أن يُقتَل لأنَّ جنسها مبيحٌ للدم أو أن المبيح قدرٌ مخصوصٌ.
فإن كان الأول فهو المطلوب. وإن كان الثاني فما حدُّ ذلك المقدار المبيح للدم؟ وليس لأحدٍ أن يحدَّ في ذلك حدًّا إلا بنصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ عند من يرى القياس في المقدرات. والكل منتفٍ في ذلك، فإنه ليس في الأصول قول أو فعلٌ يبيح الدم منه عددٌ مخصوصٌ ولا يبيحه أقلُّ منه.
ولا ينتقض هذا بالقتل بالزنا وأنه لا يثبت إلا بإقرار أربع مراتٍ عند من يقول به، ولا بالقتل بالقسامة حيث لا يثبت إلا بعد خمسين يمينًا عند من يرى القَوَد
(3)
بها، ولا رجمِ الملاعنة حيث لا يثبت إلا بعد شهادة الزوج أربع
(1)
انظر: «السياسة الشرعية» لشيخ الإسلام (ص 136 - 137).
(2)
زيادة لازمة من «الصارم» .
(3)
في الأصل: «القول» ، تصحيف.
مراتٍ عند من يرى أنها تُرجَم بلعان الزوج ونكولها؛ فإن المبيح للدم ليس هو الإقرارَ ولا الأيمان، وإنما المبيح فعل الزنا وفعل القتل، وإنما الإقرار والأيمان حجةٌ [وَ] دليلٌ على ثبوت ذلك.
ونحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نُصُبٌ محدودةٌ، وإنما قلنا: إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع، وإنما الحكم معلَّقٌ بجنسه
(1)
.
الوجه الثامن: أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدًّا يجب فعلُه، أو تعزيرًا يرجع إلى رأي الإمام، فإن كان الأول فلا بدَّ من تحديد موجِبه، ولا حدَّ له إلا تعليقه بالجنس، والقول بما سوى ذلك تحكُّمٌ.
وإن كان الثاني، فليس في الأصول تعزيرٌ بالقتل، فلا يجوز إثباته إلا بدليل يختصُّه
(2)
. والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ» تدل على ذلك أيضًا.
فصل
قال شيخنا
(3)
: وقد عرض لبعض السفهاء شبهةٌ في قتل ابن الأشرف
(1)
في الأصل: «تحته» !
(2)
قد يقال: بلى، إن في أصول الشرع تعزيرًا بالقتل إذا أكثرَ الفاعلُ مِن بعض الأفعال المحرَّمة، وهو ما قرَّره المؤلف في توجيه ما رُوي من الأمر بالقتل لمن سرق مرارًا أو سكر مرارًا. انظر:«تهذيب السنن» (3/ 100 - 104) و «الطرق الحكمية» (1/ 35).
(3)
«الصارم» (1/ 182).
فظنَّ أن دم مثل هذا معصومٌ بذمةٍ متقدمةٍ
(1)
أو بظاهر الأمان، وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حين ظنَّ أن العهد لا ينتقض بذاك.
فروى ابن وهبٍ: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري، عن أبيه، عن عباية قال: ذُكِر قتل ابن الأشرف عند معاوية، فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا، فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أيُغدَّرُ عندك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا تنكر؟! والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدًا! ولا يخلو لي دمُ هذا إلا قتلتُه!
(2)
قال الواقدي
(3)
: حدثني إبراهيم بن جعفرٍ، عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم ــ وهو على المدينة ــ وعنده ابن يامين النَّضَري
(4)
: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ فقال ابن يامين: كان غدرًا، ومحمد بن مسلمة جالسٌ وهو شيخٌ كبيرٌ، فقال يا مروان: أيُغَدَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك؟! والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد. وأما أنت يا ابنَ يامين فللّهِ عليَّ إن أفلتَّ ولا قدرتُ
(5)
عليك، وفي يدي سيفٌ إلا ضربتُ
(1)
«متقدمة» سقطت من المطبوع.
(2)
أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» عقب (200) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 193) من طريق ابن وهب به. وأخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (7) ــ ومن طريقه ابن عساكر في «التاريخ» (55/ 275) ــ من طريقين آخرين عن ابن عيينة به.
(3)
في «مغازيه» (1/ 192) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (55/ 275).
(4)
في الأصل: «النظري» ، تصحيف. النَّضَري ــ ويقال: النضيري ــ نسبة إلى بني النضير.
(5)
كذا في الأصل، وكذا في عامَّة نسخ «الصارم» الخطية وبعض نسخ «مغازي الواقدي» (كما نبَّه عليه محققو الكتابين)، ولكن في مطبوعات الكتب الثلاثة حُذِفت «لا» ظنًّا أنه خطأ وتحريف. وليس كذلك فالمراد: لله عليَّ إن أفلتَّ مني الآن ولم أقدر عليك، ثم صادفتك فيما بعدُ وفي يدي سيف إلا ضربتُ به رأسك.
به رأسك. فكان ابن يامين لا ينزل من
(1)
بني قريظة حتى يبعث رسولًا ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته، وإلا لم ينزل، فبينما محمد في جنازةٍ وابنُ يامين بالبقيع فرأى محمدٌّ نعشًا عليه جرائدُ رطبةٌ لامرأةٍ، جاء فحلَّه
(2)
، فقام إليه الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك! فقام إليه فجعل يضربه بها جريدةً جريدةً حتى كسَّر ذلك الجريد على وجهه ورأسه، حتى لم يترك به مَصَحًّا
(3)
،
ثم أرسله ولا طَباخَ به
(4)
، ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتُك به.
قلت: ونظير هذا ما حصل لبعض الجهال بالسُّنَّة من بنائه صلى الله عليه وسلم بصفية عقيب سبائه لها، فقال: بنى بها قبل استبرائها. وهذا من جهله وكفره، أو من أحدهما، فإن في «الصحيح»
(5)
: فلما انقضت عدَّتُها بنى بها.
(1)
كذا في الأصل و «الصارم» ، وهو الصواب. وفي مطبوعة «المغازي»:«في» خطأ يغيِّر المعنى ويفسده.
(2)
ظنَّ صبحي الصالح أن بالعبارة تصحيفًا فغيَّرها إلى: «فرأى محمدًا يغشى عليه جرائد، يظنُّه لا يراه، فعاجله» !
(3)
أي مكانًا صحيحًا في جسمه ..
(4)
أي: لا قوَّة به. انظر: «الصحاح» (1/ 427).
(5)
«صحيح مسلم» (1365/ 87).
فإن قيل: فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق
(1)
، قال: حدثني مولًى لزيد بن ثابتٍ قال: حدثتني ابنةُ محيِّصةَ عن أبيها مُحَيِّصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عقيب ذلك: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» ، فوثب محيصةُ بن مسعودٍ على ابن سُنينة
(2)
ــ رجل من تجار اليهود كان يلابسهم يبايعهم
(3)
ــ فقتله، وكان حُوَيِّصة بن مسعودٍ إذ ذاك لم يسلم، وكان أسنَّ مِن مُحيِّصة، فلما قتله جعل حُويِّصة يضربه، ويقول: أي عدو الله! قتلتَه؟! أما والله لرُبَّ شحمٍ في بطنك مِن ماله! فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتُك! فقال حُويِّصة: واللهِ إن دِينًا بلغ منك هذا لعجبٌ؛ فكان هذا أول إسلام حُوَيِّصة.
وقال الواقدي
(4)
بالأسانيد المتقدمة: قالوا: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قُتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» ، فخافت يهود فلم يَطلُع عظيم
(5)
من عظمائهم، وخافوا أن يُبيَّتوا كما بُيِّت ابنُ الأشرف. وذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال: وفزعت
(1)
كما في «الدلائل» للبيهقي (3/ 200). وهو في «سيرة ابن هشام» (2/ 58) عن ابن إسحاق معلَّقًا.
(2)
في الأصل: «شيبة» ، تصحيف.
(3)
في المطبوع: «ويبايعهم» بزيادة واو العطف، وكذا في مطبوعة «الصارم» و «سيرة ابن هشام» . والمثبت من الأصل موافق لما في نسختي الظاهرية (ق 42) والمحمودية (ق 31) من «الصارم» ، وكذا في «دلائل النبوة» .
(4)
في «مغازيه» (1/ 191).
(5)
في الأصل: «تطلع عظيمًا» .
يهود ومن معها من المشركين ــ وساق القصة كما تقدم.
فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين، وإلا لما أمر بقتل من وُجد منهم، ويدل على أن العهد الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف، وحينئذ فلا يكون ابن الأشرف معاهدًا.
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتل من ظُفر به من اليهود لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم، وقد تقدم أنه قال: ما عندكم في أمر محمد؟ قالوا: عداوته ما حَيِينا، وكانوا مقيمين خارج المدينة، فعَظُم عليهم قتلُه، وكان مما هيَّجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد
(1)
، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من جاء منهم لأن مجيئه دليلٌ على نقض العهد وانتصاره للمقتول. وأما مَن قرَّ فهو مقيمٌ على عهده المتقدم، لأنه لم
(2)
يظهر العداوة. ولهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك.
وأما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحدَه. وقد ذكر هو أيضًا
(3)
أن قتل ابن الأشرف كان في شهر ربيعٍ الأول سنة ثلاثٍ، وأن غزوة بني قينقاع كانت قبل ذلك في سنة اثنتين بعد بدرٍ بنحو شهرٍ. وذكر أن الكتاب الذي
(1)
زاد صبحي الصالح هنا: [انتصارُهم للمقتول وذبُّهم عنه] بين الحاصرتين أخذًا من طبعة محمد محيي الدين لـ «الصارم» (ص 91)، وكذا هو في الطبعة الهندية (ص 91)، ولا يوجد في الطبعة المحققة (2/ 187) ولا في نسخة الظاهرية (ق 42)، وسقط موضعُه من نسخة المحمودية لانتقال النظر (ق 32)، فليُنظر في سائر النسخ. والعبارة تستقيم بدونه، أي: وكان قتلُ ابنِ الأشرف مما هيَّجهم
…
إلخ.
(2)
في الأصل: «لا» ، والمثبت من «الصارم» .
(3)
«المغازي» (1/ 184، 176).
وادع فيه النبي صلى الله عليه وسلم [اليهود] كلَّها كان لمَّا قدم المدينة قبل
(1)
بدرٍ. وعلى هذا فيكون هذا كتابًا ثانيا خاصًّا لبني النضير يجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم، غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود؛ لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة.
وقد تقدَّم أن ابن الأشرف كان معاهدًا. وتقدم أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أول الأمر، والقصة تدل على ذلك، وإلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه قتلَ صاحبهم، وإلا فلو كانوا محاربين له لم يستنكروا قتله. وكلُّهم ذكروا أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدرٍ، فإن معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل بدرٍ كما ذكره الواقدي.
قال ابن إسحاق
(2)
: «وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرُ بني قينقاع» ، يعني: فيما بين بدرٍ وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى. وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد.
قلت: اليهود الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة، ويهود خيبر. وكانت غزوة كل طائفةٍ [منها]
(3)
عقيب غزوةٍ من غزواته للمشركين، فكانت بنو قينقاع بعد بدرٍ، وبنو النضير بعد أحدٍ، وبنو قريظة بعد الخندق، وأهل خيبر بعد الحديبية، فكان الظفر بكل واحدةٍ من هؤلاء الطوائف كالشكران للغَزاة التي قبلها، والله أعلم.
(1)
في الأصل والمطبوع: «بعد» ، والتصحيح من «الصارم» ، وسيأتي على الصواب قريبًا.
(2)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 47) و «الدلائل» (3/ 172).
(3)
طمس في الأصل مقدار كلمة.
فصل
الدليل الرابع: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سبَّ نبيًّا قُتِل، ومَن سبَّ أصحابه جُلِد» . رواه أبو محمد الخلال وأبو القاسم الأزجي
(1)
.
ورواه أبو ذر الهروي
(2)
، ولفظه:«مَن سبَّ نبيًّا فاقتلوه، ومَن سبَّ أصحابي فاجْلِدوه» .
وهذا الحديث رواه عبد العزيز بن الحسن بن زَبالة: حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفرٍ، عن علي بن موسى، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه
(3)
.
(1)
وأخرجه أيضًا الطبراني في «الأوسط» (4602) وفي «الصغير» (659) عن عبيد الله بن محمد العمري القاضي، حدثنا اسماعيل بن أبي أويس، حدثنا موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه جعفر، عن أبيه، عن جده (علي بن الحسين)، عن (أبيه) الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب مرفوعًا.
وهذا إسناد واهٍ، شيخ الطبراني عبيد الله بن محمد العمري ضعيف متهم بالكذب، وقد حكم عليه الألباني بالوضع في «الضعيفة» (206).
(2)
وأخرجه تمام في «فوائده» (740) من طريق عبد السلام بن صالح الهروي، حدثني علي بن موسى الرضا، حدثني أبي: موسى بن جعفر
…
إلخ الإسناد السابق.
وإسناده تالف كسابقه، عبد السلام بن صالح الهروي: رافضي خبيث، متَّهم بالوضع.
(3)
وهذا أيضًا كسابقيه، ابن زبالة قال عنه ابن حبَّان في «المجروحين» (2/ 121): يروي عن الثقات الأشياءَ الموضوعاتِ المعضلاتِ.
وفي القلب منه شيء، فإن هذا الإسناد قد ركب عليه متونٌ كثيرةٌ
(1)
، والمُحدِّث به عن
(2)
أهل البيت ضعيفٌ. فإن كان محفوظًا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيًّا من الأنبياء، فظاهره يدل على أنه يقتل من غير استتابةٍ، وأن القتل حدٌّ له
(3)
.
* * *
(1)
انظر: «الضعيفة» (1593، 1795، 2323، 2506، 2567، 2997، 3121، 3273، 4136، 4418، 5454، 6249)؛ كلها متون منكرة وموضوعة، رُكبِّت على هذا الإسناد المسلسل بأئمة أهل البيت.
(2)
في الأصل: «من» ، خطأ. والمراد: عبد العزيز بن الحسن بن زبالة.
(3)
في نهاية النسخة: «آخر المجلد الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى في الثاني: «فصل: الدليل الخامس» . والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وكان الفراغ من كتابته ومقابلته في يوم الأحد حادي عشري جمادى الثاني من شهور سنة تسعٍ وستين وثمانمائةٍ. اللهم أحسن عاقبتها، وأصلح أحوال المسلمين. آمين، آمين، آمين يا رب العالمين».