الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: إنَّما اعتمد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومَن بعده في الغيار سُنَّتَه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه أرشد إلى مخالفتهم والتميُّزِ
(1)
عنهم، حيث لم يكن إلزامهم بالغيار إذ ذاك مُمكِنًا، لأنَّ المسلمين لم يكونوا قد استولَوا على أهل الكتاب وقهروهم وأذلُّوهم وملكوا بلادهم، بل كانت أكثر بلادهم لهم، وهم فيها أهل صلح وهُدنة، فكان المقدور عليه إذ ذاك أمرَ المسلمين [بـ] مخالفتهم بحسب الإمكان.
فلمَّا فتح الله على المسلمين أمصار الكفار وملَّكهم ديارَهم وأموالَهم، وصاروا تحت القهر والذل، وجرت عليهم أحكامُ الإسلام= ألزمهم الخليفةُ الراشدُ والإمامُ العدلُ الذي ضرب اللهُ الحقَّ على لسانه وقلبه وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باتباع سُنَّته عمرُ بن الخطاب بالغيار، ووافقه عليه جميع الصحابة واتبعه الأئمة والخلفاء بعده. وإنَّما قصَّر في هذا مِن الملوك من قَلَّت رغبتُه في نَصر الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الكفر وأهله.
وقد اتفق علماء المسلمين على وجوب إلزامهم بالغيار، وأنَّهم يُمنَعون من التشبُّه بالمسلمين في زيِّهم.
فصل
قالوا: (ولا نتشبَّه بالمسلمين في مراكبهم
، ولا نركب السروج، ولا نتقلَّد السيوف، ولا نتَّخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا).
فأهل الذمة ممنوعون من ركوبهم السروج، وإنَّما يركبون الأُكُف ــ وهي
(1)
في الأصل والمطبوع: «والنهي عنهم» ، لا معنى له! ولعله مصحَّف عن المثبت.
البَراذع ــ عرضًا، وتكون رِجلاهم
(1)
جميعًا إلى جانب واحد كما أمرهم
(2)
أمير المؤمنين عمر فيما رواه عبد الرحمن بن مهدي عن عُبيد الله
(3)
، عن نافع، عن أسلم أنَّ عمر أمر أهل الذمة أن يركبوا على الأكف عرضًا وأن يركبوا عرضًا ولا يركبوا كما يركب المسلمون.
وذكر عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنَّه كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يركب أهل الذمة في شقٍّ شقٍّ
(4)
.
وقال زُهَير بن حرب: حدثنا وَهْب بن جرير قال: زعم أبي قال: نهى عمر بن عبد العزيز أن يَركب السروج من خالف الإسلام
(5)
.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن خالد بن [أبي] عثمان الأُمَوي قال: أمر عمر بن عبد العزيز في أهل الذمة أن يُحمَلوا على الأكف وأن تُجَزَّ نواصيهم
(6)
.
وإنَّ السروج من آلات الخيل، وأهل الذمة ممنوعون من ركوبها، فإنَّها عِزٌّ لأهلها وليسوا من أهل العِزِّ، وعلى هذا جميع الفقهاء.
(1)
في الأصل: «رجليهم» .
(2)
في الأصل: «ليأمر لهم» ، تصحيف.
(3)
كذا في الأصل، وقد سبق قريبًا (ص 381) أن الصواب:«عبد الله» مكبَّرًا. وانظر ما سبق (ص 375).
(4)
لم أجد من أخرجه. وقوله: «شقٍّ شقٍّ» ، الشق هو الجانب، فالمراد أن تكون رجلاهم إلى جانبٍ واحد، وليس إلى الجانبين من الحيوان، كما تقدم.
(5)
لم أجد من أخرجه من هذا الطريق، وقد سبق (ص 372 - 375) من طرق أُخَر.
(6)
سبق تخريجه.
قال الجويني في «النهاية»
(1)
: اتفق الأصحاب على أنَّا نأمر الكفار بالتميُّز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الأمام.
وقال الأصحاب: يُمنَعون من ركوب الجياد، ويكلَّفون ركوب الحمير والبِغال، إلا النفيسة
(2)
التي يُتزيَّن بركوبها فإنَّها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميَّز مراكبهم عن المراكب التي يتميَّز بها الأماثل والأعيان من أهل الإيمان.
وقيل: ينبغي أن يكون رِكابهم: الغَرْز
(3)
، وهو ركاب الخشب، ثم يُضطَرُّون إلى أضيق الطريق، ولا يمكَّنون من ركوب وسط الجَوادِّ إذا كان يطرقها المسلمون. وإن خَلَت عن زحمة الطارقين من المسلمين فلا حرج. ثم تكليفهم التميُّزَ بالغيار واجبٌ حتى لا يختلطوا في زيِّهم وملابسهم بالمسلمين.
قال: وما ذكرناه من تمييزهم في الدواب والمراكب مختلَفٌ فيه، فقال قائلون: التميُّز بها حتمٌ كما ذكرناه في الغيار. ومنهم مَن جعل ما عدا الغيار إذنًا
(4)
، ثم إذا رأى الإمام ومَن إليه الأمر ذلك فلا مُعترَض عليه، وليس
(1)
(18/ 54 - 55).
(2)
في مطبوعة «النهاية» : «ويكلَّفون ركوبَ الحُمُرِ، والبغالُ النفيسة» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «العرور» ، تصحيف. وما ذكره الجويني في تفسيره لعله اصطلاح لهم في زمانهم، فإن في «الصحاح» (3/ 888) وغيره: الغرز: «ركاب الرحل من جلد، فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب» . وقال صاحب «العين» (4/ 382): كلُّ ما كان مِساكًا للرِّجْلَين في المركب يسمى غَرْزًا.
(4)
كذا رسمه في الأصل إلا أن الذال مهملة غير منقوطة، فقرأه صبحي الصالح:«أدنى» ، والمثبت أشبه، أي: مأذونًا فيه، غير لازم. وفي مطبوعة «النهاية»:«أدبًا» .
يسوغ إلا الاتباع.
وهل يجب على المرأة منهم أن تتميَّز بالغيار إذا بَرَزت؟ على وجهين:
أحدهما: يجب كالرجل.
والثاني: لا يجب، لأن بُرُوز النساء نادرٌ، وذلك لا يقتضي تمييزًا في الغيار.
وإذا دخل الكافر حمَّامًا فيه مسلمون، وكان لا يتميَّز عمَّن فيه بغيارٍ وعلامةٍ، فالذي رأيتُه للأصحاب
(1)
منعُ ذلك، وإيجاب التمييز في هذا المقام أولى، لأن الكافر
(2)
ربما يفسد الماء على حكم دينه بحيث لا يشعر به.
ودخول الكافرة الحمَّامَ الذي فيه المسلمات من غير
(3)
غِيارٍ يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه.
وكان شيخي رحمه الله تعالى
(4)
يقول: لا يُمنع أهل الذمة من ركوب جنس
(5)
الخيل، فلو ركبوا البراذين التي
(6)
لا زينة فيها والبغال على هذه الصفة فلا منع. والحمار الذي تبلغ قيمته مبلغًا إذا ركبه واحدٌ منهم لم أرَ
(1)
في الأصل: «والذي
…
الأصحاب»، والتصحيح من مصدر النقل.
(2)
«الكافر» سقط من المطبوع.
(3)
بعده في الأصل: «خلاف» ، إقحام لا وجه له.
(4)
يعني به: والدَه أبا محمدٍ عبدَ الله بن يوسف الجويني (ت 438)، كما أفاده المحقق عبد العظيم محمود الديب رحمه الله في مقدمة التحقيق (ص 179، 180).
(5)
كذا في الأصل، وفي مطبوعة «النهاية»:«خسيس» ، وهو محتمِل.
(6)
في الأصل: «الذي» .
للأصحاب فيه منعًا، ولعلَّهم نظروا إلى الجنس، ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُلٌّ وركوب الخيل عِزٌّ. انتهى.
وقد قال الشافعي
(1)
: ولا يركبوا أصلًا فرسًا، وإنما يركبون البغال والحمير.
قال أصحابه: فيُمنع أهل الذمة من ركوب الفرس، لأن في ركوبها الفضيلة العظيمة والعِزَّ، وهي مراكب المجاهدين في سبيل الله الذين يَحمُون حَوزَة الإسلام ويَذُبُّون عن دين الله.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اَسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ اِلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 61]، فجعل رِبَاط الخيل لأجل إرهاب الكفار، فلا يجوز أن يمكَّنوا من ركوبها، لأن فيه إرهابَ المسلمين.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخَيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجرُ والمَغْنَم»
(2)
. وأهل الجهاد هم أهل الخيل والخير لاستعمالهم الخيل في الجهاد، فهم أحقُّ بركوب ما عُقِد الخيرُ بنواصيها من المراكب.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الخيل كانت وحشًا في البراري وأوَّلُ مَن أنَّسها وركبها إسماعيل بن إبراهيم
(3)
، فهي من مراكب بني إسماعيل، وبها أقاموا دين الحنيفية، وعليها قاتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله،
(1)
لم أجده.
(2)
أخرجه البخاري (2852) ومسلم (1873) من حديث عروة البارقي.
(3)
أخرجه أبو حاتم في «الزهد» (99).