الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم. وفي الحديث: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على اليهود بيت مِدْراسهم
(1)
. وفيه أيضًا قول أنس: كأنَّهم اليهود حين خرجوا من فهرهم
(2)
.
وحُكم هذه الأمكنة كلِّها حُكم الكنيسة، وينبغي التنبيه عليها.
ذكر حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه الأماكن
وما يجوز إبقاؤه وما يجب إزالتُه ومحوُ رسمه
البلاد التي تفرَّقها
(3)
أهلُ الذِّمة والعهد ثلاثة أقسام:
أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام.
الثاني: بلاد أُنشِئَت قبلَ الإسلام فافتتحها المسلمون عَنْوَةً وملكوا أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أُنشِئت قبلَ الإسلام وفتحها المسلمون صُلحًا.
فأمَّا القسم الأول، فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة.
أمَّا البصرة والكوفة فأُنشِئَا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال
(1)
أخرجه البخاري (3167) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
إنما روي عن عليٍّ رضي الله عنه بهذا اللفظ، قاله لمَّا رأى قومًا يصلُّون وقد سدلوا ثيابهم. أخرجه عبد الرزاق (1423) وابن أبي شيبة (6542) وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 39) والبيهقي (2/ 243) بإسناد صحيح.
وأما قول أنس، فأخرج البخاري (4208) عنه أنه نظر إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة، فقال: كأنَّهم السَّاعة يهود خيبر.
(3)
كذا في الأصل على الحذف والإيصال، أي: تفرَّق فيها.
يزيد بن هارون: أخبرنا زِياد بن أبي زِياد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن نافع بن الحارث قال: كان أمير المؤمنين قد همَّ أن يتَّخذ للمسلمين مِصْرًا، وكان المسلمون قد غزوا من قِبَلِ البحر وفتحوا الأَهْواز وكابُل وطَبَرِستان، فلمَّا افتتحوها كتبوا إليه: إنَّا وجدنا بطبرستان مكانًا لا بأس به. فكتب إليهم: أنَّ بيني وبينكم دِجْلَة، ولا حاجة لي في شيءٍ بيني وبينكم [فيه]
(1)
دِجلة أن نتخذه مِصرًا. قال: فقَدِم عليه رجلٌ من بني سَدُوس يُقال
(2)
له ثابتٌ فقال له: يا أمير المؤمنين، إنِّي مررتُ بمكان دون دِجلة به باديةٌ يقال لها الخُرَيْبة، ويقال للأرضِ: البصرة، وبينها وبين دِجلة فرسخٌ فيه خليجٌ يجري فيه الماء وأَجَمة
(3)
قصبٍ. فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه فدعا عُتبَة بن غَزْوان فبعثه في أربعين رجلًا فيهم نافع بن الحارث وزِيادٌ أخوه لأمِّه
(4)
.
قال سيف بن عمر
(5)
: مُصِّرَت البصرة سنة ست عشرة، واختُطَّت قبلَ الكوفة بثمانية أشهر
(6)
.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: «قال» ، تصحيف.
(3)
في الأصل: «واجهه» ، تصحيف. والأَجَمة: الشجر الكثير.
(4)
لم أجد من أخرجه. وانظر: «طبقات ابن سعد» (9/ 5) و «أنساب الأشراف» (13/ 298) و «تاريخ الطبري» (3/ 590) و «تاريخ بغداد» (1/ 496).
(5)
في الأصل: «عمرو» ، خطأ. وهو الأخباري المشهور صاحب «الفتوح» و «الردة» .
(6)
وقال ابن معين: كُوِّفت الكوفة سنة ثمان عشرة، وبُصِّرت البصرة سنة أربع عشرة، قبل الكوفة بأربع سنين. أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» (1795). وقال الأصمعي كما في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 432): كان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة، قبل الكوفة بستة أشهر. وهذا هو المشهور أن البصرة بصِّرت سنة أربع عشرة، وهي السنة التي فتح فيها عتبةُ بن غزوان الأبلَّة، وهي قريبة من البصرة، بل هي اليوم محلَّة فيها. انظر:«أنساب الأشراف» (13/ 297، 298) و «تاريخ الطبري» (3/ 350) و «تاريخ دمشق» (44/ 393، 60/ 31).
وقال قتادة: أوَّل مَن مصَّر البصرة رجل من بني شَيبان يُسمَّى المُثنَّى بن حارثة، وأنَّه كتب إلى عمر رضي الله عنه: إنِّي نزلتُ أرضًا بصرةَ. فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فاثبُتْ حتى يأتيك أمري. فبعث عُتبَة بن غَزْوان مُعلِّمًا وأميرًا، فغزا الأُبُلَّة
(1)
.
وقال حماد بن سلمة، عن حُمَيد، عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصَّر البصرة والكوفة
(2)
.
فصل
وأمَّا وَاسِط فبناها الحجَّاج بن يوسف سنةَ ستٍّ وثمانين من الهجرة
(3)
،
(1)
لم أجد من أسنده عن قتادة.
(2)
من طريق حماد بن سلمة أخرجه الطحاوي في «أحكام القرآن» (1/ 145)، ولفظه:«أن عمر رضي الله عنه مصَّر الأمصار سبعةً: المدينةُ مصر، والبحرين، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر» . وبنحوه أخرجه ابن سعد (3/ 264) من طريق الأشعث عن الحسن. وواضح من سياق قول الحسن أن المراد بالتمصير فيه: التقسيم الإداري، لا أن الأمصار المذكورة لم تكن من قبل، لأن ما سوى البصرة والكوفة كانت تكون من قبلُ.
(3)
وقيل: ابتدأ في بنائها سنة ثلاث ــ أو أربع ــ وثمانين، وفرغ منها سنة ست وثمانين. انظر:«فتوح البلدان» للبلاذري (2/ 355) و «تاريخ الطبري» (6/ 383) و «تاريخ دمشق» (34/ 487) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 913) و «معجم البلدان» لياقوت (5/ 348).
في السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان.
وأمَّا بغداد فقال سليمان بن مجالد وزير أبي جعفر: خرجتُ مع أبي جعفرٍ يومًا قبل أن نَبْتني مدينة بغداد، ونحن نرتاد موضعًا نبني فيه مدينةً يكون فيها عسكرُه، قال: فبصُرنا بِقَسٍّ شيخٍ كبيرٍ ومعه جماعةٌ من النصارى، فقال: اذهب بنا إلى هذا القَسِّ نسأله، فمضى إليه فوقف عليه أبو جعفر فسلَّم عليه ثم قال: يا شيخ، أبلغك أنَّه يُبنَى هاهنا مدينة؟ قال: نعم، ولستَ بصاحبها. قال: وما عِلمُك؟ قال القَسُّ: وما اسمك؟ قال اسمي عبد الله. قال: فلستَ بصاحبها. قال: فما اسمُ صاحبها؟ قال: مِقْلاص. قال: فتبسَّم أبو جعفرٍ وأصغى إليَّ فقال: أنا والله مِقْلاص، كان أبي يُسمِّيني وأنا صغيرٌ مِقْلاصًا، فاختطَّ موضعَ مدينةِ أبي جعفرٍ
(1)
.
وتحوَّل أبو جعفرٍ من الهاشمية إلى بغداد وأمر ببنائها، ثم رجع إلى الكوفة في سنة أربع وأربعين ومائة. وفرغ من بنائها ونَزَلها مع جنده وسمَّاها «مدينة السلام» سنة خمسٍ وأربعين. وفرغ من بناء الرُّصَافة
(2)
سنة أربع وخمسين ومائة
(3)
.
(1)
ذكره الطبري في «التاريخ» (7/ 615) عن سليمان بن مجالد بنحوه. وانظر أيضًا في خبر الراهب (7/ 617) و «تاريخ بغداد» (1/ 374).
(2)
وهي محلَّة ببغداد بالشرقية.
(3)
انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 376، 392).
وقال سليمان بن مجالد: الذي تولَّى الوقوف على خطِّ بغداد الحجَّاج بن أرطاة وجماعةٌ من أهل الكوفة
(1)
.
وكذلك سامَرَّا بناها المتوكِّل
(2)
.
وكذلك المَهْديَّة التي بالمغرب
(3)
، وغيرها من الأمصار التي مصَّرها المسلمون.
فهذه البلاد صافيةٌ للإمام، إن أراد الإمام أن يُقِرَّ أهلَ الذمة فيها ببذل الجِزْيَة جاز. فلو أقرَّهم الإمام على أن يُحدِثوا فيها بِيعةً أو كنيسةً أو يُظهِروا
(4)
فيها خمرًا أو خنزيرًا أو ناقوسًا لم يجُزْ. وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدًا. وهو اتفاقٌ من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاعٌ.
قال الإمام أحمد
(5)
: حدثنا حماد بن خالد الخيَّاط، أخبرنا الليث بن
(1)
ذكره الطبري في «التاريخ» (7/ 618). وانظر: «تاريخ بغداد» (9/ 133).
(2)
قال ياقوت (3/ 174) وغيره: إن الذي بناها المعتصم (والد المتوكل) سنة 221. وذكر الإصطخري في «مسالك الممالك» (ص 85 - 86) أنه «ابتدأها المعتصم وتمَّمها المتوكل».
(3)
أنشأها عبيد الله المهدي، أول خلفاء العبيدية الباطنية الذين ملكوا مصر والمغرب، وذلك سنة 303. انظر:«معجم ياقوت» (5/ 230 - 231). وهي اليوم مدينة ساحلية في الجمهورية التونسية.
(4)
في الأصل: «يظهر» ، والسياق يقتضي المثبت.
(5)
كما في «جامع الخلال» (2/ 425) عن عبد الله بن أحمد عنه، وهو مرسل أو معضل. ولعل الراوي الذي أبهمه توبة هو عبد الرحمن بن جسَّاس المصري (من صغار التابعين)، فإن نافع بن يزيد المصري رواه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، كما في «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 269). وأخرجه البيهقي (10/ 24) من طريق النضر بن عبد الجبَّار ــ وهو أبو الأسود المصري ــ عن ابن لَهِيعة عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده إلى النضر واهٍ، والصواب ما رواه عنه أبو عبيد كما سيأتي قريبًا.
سعدٍ، عن توبة بن النَّمِر الحضرمي ــ قاضي مصر ــ عمَّن أخبره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خِصَاء في الإسلام ولا كنيسة» .
وقال أبو عبيد
(1)
: حدثنا عبد الله بن صالحٍ، عن الليث بن سعدٍ ــ فذكره بإسناده ومتنه.
وقد روي موقوفًا على عمر بغير هذا الإسناد:
قال علي بن عبد العزيز
(2)
: حدثنا أبو [عُبَيد] القاسم، حدثني أبو الأسود، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله اليَزَني قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدثنا معتمر بن سليمان التَّيمي، عن أبيه، عن
(1)
في «الأموال» (282) وعنه ابن زنجويه (398). وفي الأصل: «أبو عبيدة» ، تصحيف.
(2)
البغوي، راوي كتاب «الأموال» لأبي عُبيد. والأثر فيه برقم (283)، وعنه أخرجه ابن زنجويه (399). وابن لهيعة ضعيف، ولكن تابعه الليث بن سعد كما في جزء «شروط النصارى» لابن زَبر الرَّبْعي (ص 20)، فالأثر صحيح عن عمر رضي الله عنه.
وروي من طريق آخر عن عمر مرفوعًا، ولكن إسناده واهٍ بمرَّة، وسيأتي (ص 319).
(3)
كما في «جامع الخلال» (2/ 421) عن عبد الله عنه. وما بين الحاصرتين مستدرك منه. وأخرجه أيضًا أبو يوسف في «الخراج» (311) وعبد الرزاق (10002) وابن أبي شيبة في «المصنف» (33653) والبيهقي (9/ 201، 202) من طرق عن سليمان بن المعتمر به. وحنش هو الحسين بن قيس أبو علي الرحبي: متروك الحديث، ولكن ذكر عبد الله بن أحمد في «العلل» (3198) أن لحنشٍ حديثًا واحدًا حسنًا استحسنه أحمد، وهو ما رواه التيمي عنه في قصة البِيَع.
حَنَشٍ، عن عِكرمة قال: سُئِل ابن عباس عن أمصار العرب ــ أو دار العرب ــ هل للعجم أن يُحدِثوا فيها شيئًا؟ فقال: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه [بيعةً]، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتَّخذوا فيه خنزيرًا. وأيُّما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله عز وجل على العرب فنزلوا
(1)
، فإنَّ للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلِّفوهم فوق طاقتهم.
قال عبد الله بن أحمد
(2)
: وسمعت أبي يقول: ليس لليهود والنصارى أن يُحدثوا في مصرٍ مصَّره المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في ما كان لهم صُلْح
(3)
، وليس لهم أن يُظهِروا الخمر في أمصار المسلمين.
وقال المرُّوذي
(4)
: قال لي أبو عبد الله: سألوني عن الديارات في
(1)
أي: فنزلوا المصر، أو: فنزل العجمُ «على حكمهم» كما في «الخراج» لأبي يوسف.
(2)
عقب الأثر السابق.
(3)
في الأصل: «في مكان لهم صالح» ، تحريف.
(4)
كما في «جامع الخلال» (2/ 423)، وكذا الروايتان الآتيتان.
المسائل التي وردت مِن قبل الخليفة. فقلت: أي شيء تذهب أنت؟ فقال: ما كان من صلحٍ يُقَرُّ، وما كان أُحدِث بعدُ يُهدَم.
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن بيع النصارى: ما كان في السواد، وهل أقرَّها عمر؟ فقال: «السواد فتح بالسيف، فلا يكون فيه بِيعة، ولا يُضرَب فيه ناقوس، ولا يُتَّخذ فيه الخنازير، ولا يُشرَب الخمر، ولا يرفعوا أصواتهم في دُورِهم، إلا الحِيرة وبانِقْيا ودَيْر صَلُوبا، فهؤلاء صُلحٌ صُولِحوا ولم يُحرَّكوا
(1)
، فما كان منها لم يُخرَب. وما كان غير ذلك فكلُّه مُحدَث يُهدَم، وقد كان أَمَر بهَدْمها هارون. وكلُّ مصرٍ مصَّرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بِيعةً، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتخذوا فيه خنزيرًا. وما كان من صلح صولحوا عليه فهو على صلحهم وعهدهم. وكلُّ شيء فُتِح عَنْوَةً فلا يُحدثوا فيه شيئًا من هذا. وما كان من صلحٍ أُقِرُّوا على صلحهم». واحتجَّ فيه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
.
وقال أبو الحارث: سئل أبو عبد الله عن البِيَع والكنائس التي بناها أهل الذِّمة، وما أحدثوا فيها ممَّا لم يكن. قال: تُهدَم، وليس لهم أن يُحدثوا شيئًا من ذلك فيما مصَّره المسلمون، يُمنعون من ذلك إلا ممَّا صُولِحوا عليه. قيل لأبي عبد الله: أَيشٍ الحجة في أن يمنع أهل الذِّمة أن يبنوا بيعةً أو كنيسةً إذا كانت الأرض ملكهم، وهم يؤدُّون الجزية، وقد مُنِعنا من ظُلمهم وأذاهم؟
(1)
غيَّره صبحي الصالح إلى: «ولم يُحاربوا» ، وما في الأصل موافق لمصدر النقل.
(2)
أي أثره الذي تقدَّم آنفًا.
قال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب
(1)
.
وقال أحمد
(2)
: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر
(3)
قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة ــ يعني ابن محمد
(4)
ــ أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين. قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء.
قال عبد الرزاق
(5)
: وأخبرنا مَعْمَر عمَّن سمع الحسن يقول: إنَّ من السُّنَّة أن تُهدَم الكنائسُ التي في الأمصار، القديمةُ والحديثةُ. ذكره أحمد عن عبد الرزاق.
وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مُقتضَى أصول الشرع وقواعدِه، فإنَّ إحداث هذه الأمور إحداثُ شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟!
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
كما في «جامع الخلال» (2/ 426) عن عبد الله عنه. وهو في «مصنف عبد الرزاق» (9999).
(3)
«أخبرني معمر» سقط من مطبوعة «الجامع» ، و «معمر» تصحيف، ولعله وقع مصحَّفًا في النسخة التي نقل منها المؤلف، والصواب «عمِّي» كما في «المصنف» ، وقد سمَّاه عبد الرزاق فيه فقال:«أخبرني عمِّي وهبُ بن نافع» .
(4)
هو عروة بن محمد بن عطية السعدي الجُشَمي، ولي إمرة اليمن لسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
(5)
في «المصنف» (10001). وهو في «الجامع» عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عنه.
فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصَّرها المسلمون؟
قيل: هي على نوعين:
أحدهما: أن تُحدثَ الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر، فهذه تُزَال اتفاقًا.
الثاني: أن تكون موجودةً بفلاةٍ من الأرض، ثمُّ يمصِّر المسلمون حولَها المصر، فهذه لا تُزَال، والله أعلم.
وورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورته
(1)
:
ما يقول السادة العلماء ــ وفقهم الله ــ في إقليمٍ تَوافَق أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أنَّ المسلمين فتحوه عَنوةً من غير صلح ولا أمان، فهل مَلَك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟
وهل يكون الملك شاملًا لِما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدُّور والبِيَع والكنائس والقَلَّايات والدُّيُورة
(2)
ونحو ذلك؟ أو يختصُّ الملك بما عدا متعبَّدات أهل الشرك؟
فإنْ مَلَك جميع ما فيه، فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك مِن
(1)
وقد نشره شيخنا محمد عزير شمس في «جامع المسائل» لشيخ الإسلام (3/ 361 - 370) اعتمادًا على كتابنا هذا بتحقيق صبحي الصالح رحمه الله. ولشيخ الإسلام مسألة أخرى في أمر الكنائس في «مجموع الفتاوى» (28/ 632 - 646)، وهي إجابة عن استفتاء ورد في الكنائس التي أغلقت في القاهرة بأمر ولاة الأمور.
(2)
جمع الدَّير، على غرار جمع بَعْل على بُعُولة، كما في «المصباح المنير» (ص 205). وسائر المعاجم لم تذكر جمعًا غير «أديار» .
النصارى واليهود ــ بذلك الإقليم أو غيره ــ الذمةَ على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البِيَع والكنائس والدُّيُورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنةٍ في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟
فإن لم يَجُز لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه، فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكمَ الغنيمة يتصرَّف فيه الإمام تصرُّفَه في الغنائم أم لا؟
وإن جاز للإمام أن يعقد الذِّمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها، فهل يملك من عُقِدت له الذمةُ بهذا العقد رقابَ البِيَع والكنائس والدُّيُورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا؟ لأجل أنَّ الجزية لا تكون عن ثمنِ مبيعٍ؟
وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسببٍ يقتضي انتقاضَه إمَّا بموتِ مَن وقع عقد الذمة معه ولم يُعْقِبوا أو أعقبوا، فإن قلنا: لكن
(1)
أولادُهم يستأنف معهم عقد الذمة، كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصَّبَّاغ وصحَّحه العراقيون
(2)
واختاره ابن أبي عصرون في «المرشد» ، فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخلوا
(3)
الكنائس والبِيَع والدُّيُورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِل
(1)
كذا في الأصل.
(2)
كأبي حامد الإسفراييني. قال الماوردي: هذا وهم. والظاهر من مذهب الشافعي أنهم يلتزمون جزية آبائهم من غير استئناف عقد معهم. انظر: «الحاوي الكبير» (14/ 309).
(3)
نقطه في الأصل بالياء، ولعل المثبت أشبه.
مستحقوها وأُيِس من معرفتها؟ أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذِّمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟
فهل ذلك يختصُّ بالبيع والكنائس والديورة التي تحقَّق أنَّها كانت موجودةً عند فتح المسلمين؟ ولا يجب عليه ذلك عند التردُّد في أنَّ ذلك كان موجودًا عند الفتح أو حدث بعد الفتح؟ أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقَّق أنَّه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟
وإذا لم يجب في حالة الشك، فهل يكون ما وقع الشك في أنَّه كان قبل الفتح وجُهِل الحال فيمَن أحدثه؛ لمَن هو؟ لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إنَّ مَن بلغ من أولاد مَن عُقدت معهم الذمة ــ وإن سَفَلُوا
(1)
ــ ومِن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمة، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقَّق أنَّه من أولادهم؛ يكون حكم كنائسهم وبِيَعهم حكم أنفسهم أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟ وإذا قلنا: إنَّهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ فهل تحتاج بِيَعهم إليه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكعامَّة أرض الشام وبعض مُدُنها، وكسواد العراق إلَّا مواضع قليلةً فُتِحت صلحًا، وكأرض مصر؛ فإنَّ هذه الأقاليم فُتِحت عَنْوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1)
في المطبوع: «سلفوا» ، تصحيف.
وقد روي في أرض مصر أنَّها فُتِحت صُلحًا، وروي أنَّها فتحت عَنوةً، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون
(1)
للروايات الصحيحة في هذا الباب، فإنَّها فتحت أولًا صُلحًا ثم نقَضَ أهلُها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمِدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثيرٍ فيهم الزبير بن العوام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً
(2)
. ولهذا روي من وجوهٍ كثيرةٍ أنَّ الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش
(3)
، كما سأله بلالٌ قَسْم الشام
(4)
، فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يَحبِسها فيئًا للمسلمين ينتفعُ بفائدتها أوَّلُ المسلمين وآخرُهم
(5)
، ثم وافق عمرَ على ذلك بعضُ مَن كان خالفه، ومات بعضهم، فاستقرَّ الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عَنوةً فقد ملَّكهم الله إياه
(6)
، كما ملَّكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعَقار. ويدخل في العقار معابدُ الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول
(1)
في المطبوع: «المتأهلون» ، تصحيف.
(2)
انظر: «الأموال» لأبي عبيد (1/ 244 - 246)، و «فتوح مصر» لابن عبد الحكم (ص 61)، و «فتوح البلدان» للبلاذري (1/ 249).
(3)
أخرجه أحمد (1424) وأبو عُبيد (151، 156) والبيهقي (6/ 318) وغيرهم.
(4)
أخرجه أبو عبيد (154) والبيهقي (6/ 318).
(5)
أخرجه أبو عُبيد (158) وابن زنجويه (158) والبيهقي (9/ 134) بذكر مشورة علي. ومشورة معاذ عند أبي عُبيد (159، 160) وعنه ابن زنجويه (231، 232).
(6)
هذا خبر «ما فتحه المسلمون» الذي في مطلع الإجابة، وأُعيد هنا لطول الفصل.
سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد.
وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجها عن ملك المسلمين، فإنَّ ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدَّلًا، أو مُحدَثًا لم يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه. وقد أوجب الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدِّين كلُّه لله، وتكون كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، و {يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
ولهذا لمَّا استولى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قَيْنُقَاع والنَّضِير وقُرَيظة كانت مَعابِدهم ممَّا استولى عليه المسلمون، ودخلت في قوله سبحانه:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] وفي قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6]، و {مَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اِلْقُرى} [الحشر: 7]، لكن وإنْ ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّعٌ
(1)
، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمِّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المُقاتِلين الذين يُؤسَرون وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمه
(2)
في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول.
(1)
في المطبوع: «متبوع» ، خطأ.
(2)
وقع في الأصل هنا: «في المقاتلين» ، وهو مقحَم خطأ، لانتقال النظر إلى السطر السابق.
وقد أجمع المسلمون على أنَّ الغنائم لها أحكامٌ مختصَّةٌ بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة.
ولهذا لمَّا فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أقرَّ أهلها ذِمَّةً للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع مِلكًا للمسلمين عَامَلهم عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشطر
(1)
ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثمَّ أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته
(2)
، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد.
فصل
وأمَّا أنَّه هل يجوز للإمام عقدُ الذِّمة مع إبقاء المَعابِد بأيديهم؟ فهذا فيه خلافٌ معروفٌ في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم لأنَّه إخراج مِلك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهدٍ قديم.
ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم. فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار.
منهم من يُوجِب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية.
ومنهم من يخيِّر الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة. وهذا قول
(1)
في المطبوع: «بشرط» ، تصحيف.
(2)
كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري (2338، 3152) ومسلم (1551).
الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. وعليه دلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قَسَم نصفَ خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين
(1)
.
ومن قال: يجوز إقرارها بأيديهم، فقوله أوجه وأظهر، فإنَّهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنَّهم لا يملكون ما تُرك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، وكما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المساكن والمعابد.
ومجرَّد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكًا كما لو أُقطِع المسلمُ بعضَ عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو يُسَلَّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به= لم يكن ذلك تمليكًا له.
بل ما أُقرُّوا فيه من كنائس العَنْوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها.
وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس
(3)
العَنْوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على
(1)
كما في حديث بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة وعن نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد (16417) وأبو داود (3010 - 3012) والبيهقي (6/ 317) وغيرهم.
(2)
انتهى هنا ما بدأ في (ص 209) من القدر الذي قابله الشيخ محمد عزير شمس على الأصل الخطي في الهند، ولم يتمكَّن من تصويره، فاعتمدت على مقابلته في تحقيق النص. أما ما بعده إلى آخر الكتاب فبين يدي صورة الأصل، ولله الحمد.
(3)
في الأصل: «الكنائس» .
إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومَن معه في عصره من أهل العلم، فإنَّ المسلمين لمَّا أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه وكانت من كنائس الصُّلح، لم يكن لهم أخذها قهرًا فاصطلحوا على المُعاوَضة بإقرار كنائس العَنْوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عِوَضًا عن كنيسة الصُّلح التي لم يكن لهم أخذُها
(1)
عَنْوةً
(2)
.
فصل
ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العَنْوة، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقُرَيظَة والنَّضِير لمَّا نقضوا العهد، فإنَّ ناقض العهد أسوأُ حالًا من المحارب الأصلي، كما أنَّ ناقض الإيمان بالرِّدَّة أسوأُ حالًا من الكافر الأصلي.
ولذلك لو انقرض أهل مصرٍ من الأمصار ولم يبقَ مَن دخل في عهدهم، فإنَّه يصير للمسلمين جميعُ عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا. فإذا عقدت الذِّمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لمَن يعقد لهم الذِّمةَ أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يُقرَّهم بمنزلة ما فتح ابتداءً، فإنَّه لو أراد الإمام عند فتحه هدْمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدْمه، وإنَّما اختلفوا في جواز بقائه.
(1)
في الأصل: «أخذوها» ، تصحيف.
(2)
انظر: «تاريخ دمشق» (2/ 249 - 256).
وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين. أمَّا على قول الجمهور الذين لا يُوجِبون قَسْمَ العَقار، فظاهر. وأمَّا على قول مَن يُوجِب قَسْمَه، فلأنَّ عين المستحقِّ غير معروف كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معيَّن.
وأمَّا تقدير وجوب إبقائها، فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإنَّ إيجاب إعطائهم معابدَ العَنْوَة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلًا، فلا يفرَّع عليه. وإنَّما الخِلاف في الجواز.
نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نقُلْ بدخولهم في عهد آبائهم، لأنَّ لهم شُبهةَ الأمان والعهد بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يَجِب إلا ما تحقَّق أنَّه كان له، فإنَّ صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عُرِف أنَّه حقُّه، وما وقع الشكُّ فيه على هذا التقدير فهو لبيت المال.
وأمَّا الموجودون الآن إذا لم يَصدُر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذِّمَّة، فإنَّ الصبيَّ يتبع أباه في الذمَّة وأهلَ داره من أهل الذِّمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهلَ داره من المسلمين، لأنَّ الصبيَّ لمَّا لم يكن مستقلًّا بنفسه جُعِل تابعًا لغيره في الإيمان والأمان. وعلى هذا جرَتْ سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيانَ أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر.
وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين. أمَّا ما أُحِدث بعد ذلك فإنَّه يجب إزالته، ولا يمكَّنون من إحداث البِيَع والكنائس كما شَرَط عليهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه أن لا يجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسةً ولا صومعةً ولا
دَيرًا لا قَلَّايةً
(1)
، امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تكون قِبلتان ببلدٍ واحدٍ» ، رواه أحمد وأبو داود
(2)
بإسناد جيد، ولِما روي عن
(3)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا كنيسة في الإسلام
(4)
.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال مَن يوفِّقه الله مِن وُلاة أمور المسلمين يُنفِّذ ذلك، ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنَّه إمام هدًى، فروى الإمام أحمد
(5)
عنه أنَّه كتب إلى نائبه على
(6)
اليمن أن يَهدِم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء وغيرها.
وروى الإمام أحمد
(7)
عن الحسن البصري أنَّه قال: من السُّنَّة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة.
وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد
(8)
.
(1)
سبق تخريج الشروط العمرية (ص 272).
(2)
أحمد (1949، 2576، 2577) وأبو داود (3032) واللفظ به أشبه. وقد سبق تخريجه مفصَّلًا (1/ 79).
(3)
في الأصل: «عنه» ، خطأ.
(4)
سبق تخريجه (ص 288).
(5)
كما في «جامع الخلال» (2/ 426)، وقد سبق تخريجه.
(6)
في المطبوع: «عن» ، خطأ.
(7)
«جامع الخلال» (2/ 426)، وقد سبق أيضًا.
(8)
كما ذكر ذلك أحمد. انظر ما سبق (ص 290) من رواية أبي طالب.
وكذلك المُتوَكِّل لمَّا ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى علماءَ وقته في هدْم الكنائس والبِيَع فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فممَّا ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: أيُّما مصرٍ مصَّرته العرب (يعني: المسلمين) فليس للعجم (يعني: أهل الذِّمَّة) أن يَبنُوا فيه كنيسةً، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا. وأيُّما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فإنَّ للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يُوفُوا بعهدهم ولا يكلِّفونهم
(1)
فوق طاقتهم
(2)
.
ومُلخَّص الجواب
(3)
: أنَّ كلَّ كنيسةٍ في مصرَ والقاهرة والكوفة والبصرة وواسطَ وبغدادَ ونحوها من الأمصار التي مصَّرها المسلمون بأرض العَنْوة فإنَّه يجب إزالتها إمَّا بالهدم أو غيره، بحيث لا يبقى لهم معبدٌ في مصرٍ مصَّره المسلمون بأرض العنوة. وسواءٌ كانت تلك المعابد قديمةً قبل الفتح أو محدثةً، لأنَّ القديم منها يجوز أخذُه ويجب عند المفسدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع قِبلتان بأرضٍ، فلا يجوز للمسلمين أن يُمكِّنوا أن يكون بمدائن الإسلام قِبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم، لا سِيَّما وهذه الكنائس التي بهذه
(1)
كذا في الأصل مرفوعًا.
(2)
سبق تخريج أثر ابن عبَّاس (ص 288 - 289). وخبر كتاب المتوكل إلى أحمد ذكره الخلال (2/ 421) عن عبد الله بن أحمد، وسيأتي (ص 309).
(3)
أي ملخص الجواب على الاستفتاء في أمر الكنائس. وهل التلخيص من شيخ الإسلام نفسه، أو انتهى جوابه والتلخيص من ابن القيم؟ يُنظَر.
الأمصار مُحدَثةٌ يظهر حدوثُها بدلائل متعدِّدة، والمُحدَث يُهدَم باتفاق الأئمة.
وأمَّا الكنائس التي بالصَّعيد وبرِّ الشام ونحوها من أرض العَنْوة، فما كان منها مُحدثًا وجب هدمُه، وإذا اشتبه المُحدَث بالقديم وجب هَدمُهما جميعًا، لأنَّ هدم المُحدَث واجبٌ وهدم القديم جائزٌ، وما لا يَتِمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
وما كان منها قديمًا فإنَّه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم، فينظر الإمامُ في المصلحة، فإن كانوا قد قَلُّوا والكنائس كثيرةٌ أخذ منهم أكثرها، وكذلك ما كان على المسلمين فيه مَضرَّةٌ فإنَّه يؤخذ أيضًا، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أُخِذ أيضًا.
وأمَّا إذا كانوا كثيرين في قريةٍ ولهم كنيسةٌ قديمةٌ لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه، فالذي ينبغي: تركُها كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه، ثم أخذ منهم.
وأمَّا ما كان لهم بصلحٍ قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها، فلا يجوز أخذُه ما داموا مُوفِين بالعهد إلا بمُعاوَضةٍ أو طيب أنفسهم، كما فعل المسلمون بجامع دمشق لمَّا بَنَوه.
فإذا عُرِف أنَّ الكنائس ثلاثة أقسام: منها ما لا يجوز هدمه، ومنها ما يجب هدمه كالتي في القاهرة ومصر والمحدثات كلها، ومنها ما يفعل
المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام مما
(1)
كان قديمًا، على ما بيَّنَّاه.
فالواجب على ولي الأمر فعلُ ما أمره الله به، وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم، ومنعِهم من الولايات في جميع أرض الإسلام. ولا يَلتفِت في ذلك إلى مُرجِفٍ أو مُخذِّلٍ يقول: إنَّ لنا عندهم مساجدَ وأسرى نخاف عليهم، فإنَّ الله تعالى يقول:{وَلَيَنصُرَنَّ اَللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. وإذا كان نَورُوز
(2)
في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله، فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحقُّ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهم لا يزالوا
(3)
ظاهرين إلى يوم القيامة، ونحن نرجو أن يحقِّق الله وعدَ رسوله حيث قال:«يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدِّدُ لها دينها»
(4)
،
ويكون مَن أجرى الله
(1)
في الأصل: «فما» ، تصحيف.
(2)
نائب السلطنة لغازان، كان مسلمًا ديِّنًا عالي الهمَّة، وهو الذي حرص بغازان حتى أسلم وملَّكه البلاد. ثم فسد ما بينهما حتى قُتل نوروز سنة 696. انظر:«تاريخ الإسلام» (15/ 847).
(3)
كذا في الأصل، وكأن النون قد كتبت أولًا ثم كشطت ومسحت.
(4)
أخرجه أبو داود (4291) والطبراني في «الأوسط» (6527) والحاكم (4/ 522) والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 208) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد رواته ثقات، وقد صحَّحه العراقي والحافظ والألباني. انظر:«الصحيحة» (599) و «أنيس الساري» (1216) ..
ذلك على يديه وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي، فإنَّ الله بهم يُقيم دينَه كما قال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسْلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
فصل
الضرب الثاني من البلاد: الأمصار التي أنشأها المشركون ومصَّروها، ثم فتحها المسلمون عَنوةً وقهرًا بالسيف، فهذه لا يجوز أن يُحدَث فيها شيء من البيع والكنائس.
وأمَّا ما كان فيها من ذلك قبل الفتح، فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره:
أحدهما: يجب إزالتُه وتَحْرُم تبقيتُه، لأنَّ البلاد قد صارت ملكًا للمسلمين، فلم يجُزْ أن يُقَرَّ فيها أمكنة شعار الكفر، كالبلاد التي مصَّرها المسلمون.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصلح قبلتان ببلدٍ»
(1)
.
وكما لا يجوز إبقاء الأمكنة التي هي شعار الفسوق كالخمارات والمواخير.
(1)
تقدَّم قريبًا (ص 301).
ولأنَّ أمكنة البِيَع والكنائس قد صارت ملكًا للمسلمين، فتمكين الكفار من إقامة شعار الكفر فيها كبَيعهم وإجارتهم إيَّاها لذلك.
ولأنَّ الله تعالى أمر بالجهاد حتى يكون الدِّين كلُّه له، وتمكينهم من إظهار شعار الكفر في تلك المواطن جعل الدين له ولغيره.
وهذا القول هو الصحيح.
والقول الثاني: يجوز إبقاؤها، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: أيما مصرٍ مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإنَّ للعجم ما في عهدهم
(1)
.
ولأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر عنوةً وأقرَّهم على معابدهم فيها ولم يهدمها.
ولأنَّ الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرًا من البلاد عَنْوةً فلم يَهدِموا شيئًا من الكنائس التي بها. ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فُتِحت عَنْوةً، ومعلومٌ قطعًا أنَّها ما أُحدِثت بل كانت موجودةً قبل الفتح. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عُمَّاله: أن لا تهدموا كنيسةً ولا بيعةً ولا بيت نارٍ
(2)
. ولا يناقِض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنَّه أمر بهدم الكنائس
(3)
، فإنَّها
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (285) ــ وعنه ابن زنجويه (400) ــ وابن أبي شيبة (33654) قالا: حدثنا حفص بن غياث عن أُبي بن عبد الله قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز.
(3)
يدل عليه أن نهي عمر بن عبد العزيز جاء مقيَّدًا في رواية ابن أبي شيبة بما «صُولحوا عليه» ، إذًا فلا يشمل المُحدَث منها.
التي أُحدِثت في بلاد الإسلام.
ولأنَّ الإجماع قد حصل على ذلك، فإنَّها موجودةٌ في بلاد المسلمين من غير نكيرٍ.
وفصل الخطاب أن يقال: إنَّ الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين. فإن كان أخذُها منهم أو إزالتُها هو المصلحةَ، لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقِلَّة أهل الذِّمة= فله أخذُها أو إزالتها بحسب المصلحة. وإن كان تركها أصلح، لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها= تَرَكها. وهذا الترك تمكينٌ لهم من الانتفاع بها، لا تمليكٌ لهم رِقابَها، فإنَّها قد صارت مِلكًا للمسلمين، فكيف يجوز أن يجعلها ملكًا للكفار؟ وإنَّما هو امتناعٌ بحسب المصلحة، فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك.
ويدلُّ عليه أنَّ عمر بن الخطاب والصحابة معه أَجلَوا أهل خيبر من دُورهم ومعابدهم بعد أن أقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ولو كان ذلك الإقرار تمليكًا لم يَجُزْ إخراجهم عن ملكهم إلا برِضًا أو معاوضةٍ.
ولهذا لمَّا أراد المسلمون أخذ كنائس العنوة التي خارج دمشق في زمن الوليد بن عبد الملك صالَحَهم النصارى على تركها وتعويضهم عنها بالكنيسة التي زِيدت في الجامع
(1)
. ولو كانوا قد ملكوا تلك الكنائس بالإقرار لقالوا للمسلمين: كيف تأخذون أملاكنا قهرًا وظلمًا؟ بل أَذْعَنوا إلى
(1)
قد سبق.