المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الثالث: أنهم في الجنة - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعضوهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم

- ‌اتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون

- ‌فصلفي ذكر أحاديث هذا الباب وعللها

- ‌المحاربون قطَّاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرمٌ يضمنون

- ‌ يرث المسلمُ الكافر بالموالاة

- ‌ذكر حكم أطفالهم

- ‌الباب الأول: في ذكر أحكامهم في الدنيا

- ‌الجهة الثانية(3): إسلام الأبوين أو أحدهما

- ‌الجهة الثالثة: تبعيَّة السَّابي

- ‌فصلفي ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌الجهة الرابعة: تبعيَّة الدار

- ‌فصلفي أدلة من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة

- ‌المذهب الأول: الوقف في أمرهم

- ‌المذهب الثاني: أنَّهم في النار

- ‌المذهب الثالث: أنَّهم في الجنة

- ‌المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين الجنة والنار

- ‌المذهب الخامس: أنَّهم مردودون إلى محض مشيئة الله فيهم بلا سبب ولا عمل

- ‌المذهب السادس: أنَّهم خدَمُ أهل الجنة ومماليكُهم

- ‌المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة

- ‌المذهب الثامن: أنَّهم يكونون يوم القيامة ترابًا

- ‌المذهب العاشر: أنَّهم يُمتحَنون في الآخرة

- ‌ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجَباتها

- ‌الفصل الأولفي أحكام البيع والكنائس

- ‌ذكر حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه الأماكن

- ‌الضرب الثالث: ما فُتِح صلحًا

- ‌ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب

- ‌فصلفي ذكر بناء ما استَهْدَم(3)منها، ورمِّ شَعَثِه، وذكر الخلاف فيه

- ‌فروعٌ تتعلَّق بالمسألة

- ‌فصلفي تملُّك الذمي بالإحياء في دار الإسلام

- ‌فصلقولهم: (ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها

- ‌فصلقولهم: (ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نكتم غشًّا للمسلمين)

- ‌فصل(1)قولهم: (ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُظهِر عليها صليبًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا

- ‌فصلقولهم: (ولا نخرج صليبًا ولا كتابًا في أسواق المسلمين)

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نخرج باعوثًا ولا شعانينًا

- ‌فصلقولهم: (ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا نجاوز المسلمين بموتانا)

- ‌فصلقولهم: (ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جرت عليه أحكام(1)المسلمين)

- ‌ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نمنع أحدًا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام)

- ‌فصل(1)وقولهم: (وأن نَلْزم زِيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبَّه بالمسلمين

- ‌فصلقولهم: (ولا عمامة)

- ‌فصلقولهم: (ولا في نعلين، ولا فَرْق شعر)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا بفرق شعر)

- ‌فصلفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره

- ‌فصلقالوا: (ولا نتشبَّه بالمسلمين في مراكبهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نتقلد السيوف)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكلم بكلامهم)

- ‌فصلقالوا: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكنَّى بكناهم)

- ‌فصل: كيف يُكتَب إليهم

- ‌فصلقالوا: (ونُوقِّر المسلمين في مجالسهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نعلم أولادنا القرآن)

- ‌فصل(1)قالوا: (وأن نضيف كلَّ مسلم عابر سبيل ثلاثةَ أيام

- ‌«الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلَّق بها»

- ‌فصل(1)قولهم: (وأن من ضرب مسلمًا فقد خلع عهدَه)

- ‌فصلقالوا: (ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا

- ‌المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما لا ينقضه

- ‌ذكر قول الإمام أحمد وأصحابه:

- ‌ ذكرُ قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة:

- ‌الدليل الرابع عشر: قوله: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا

- ‌ذكر الأدلة من السنة على وجوب قتل السابِّ وانتقاض عهده

الفصل: ‌المذهب الثالث: أنهم في الجنة

الثاني: أنَّه سبحانه نبَّه على أنَّ هذا الإلحاق مختصٌّ بأهل الإيمان. وأمَّا الكفار فلا يُؤَاخَذون إلا بكسبهم، فقال تعالى:{كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين} [الطور: 19].

واحتجَّوا أيضًا بقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنَّه قال: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 29]، والفاجر والكَفَّار من أهل النار.

وهذا لا حجةَ فيه، لأنَّه إنَّما أراد به كُفَّار أهل زمانه قطعًا، وإلَّا فمَن بعدهم من الكفار قد وَلَد بعضُهم الأنبياءَ، كما وَلَد آزرُ إبراهيمَ الخليل.

وأيضًا فقوله: {فَاجِرًا كَفَّارًا} حالٌ مقدرةٌ، أي مَن إذا عاش كان فاجرًا كفارًا، ولم يُرِد به أنَّ أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرةً كفرةً، كما تقدَّم بيانُه.

فصل

‌المذهب الثالث: أنَّهم في الجنة

. وهذا قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين والصوفية. وهو اختيار أبي محمد بن حزم

(1)

وغيره.

واحتجَّ هؤلاء بما رواه البخاري في «صحيحه»

(2)

عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يُكثِر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحدٌ منكم رؤيا» ، قال: فيقصُّ عليه مَن شاء الله أن يقصَّ، وإنَّه قال لنا ذات غَدَاة: «إنَّه أتاني الليلة آتيان

» وذكر الحديث، وفيه: «فأتينا على روضة مُعْتَمَّة، فيها

(1)

انظر: «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 60).

(2)

برقم (7047).

ص: 234

مِن كلِّ لون الرَّبيع، وإذا بين ظهري الرَّوضةَ رجلٌ طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولًا، وإذا حول الرجل مِن أكثر ولدانٍ رأيتُهم قطُّ»، ثم قال:«وأمَّا الوِلدان حولَه فكلُّ مولودٍ مات على الفطرة» ، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأولاد المشركين» .

قالوا: فهذا الحديث الصحيح الصريح هو فصل الخطاب.

وفي «مستخرج البَرقاني»

(1)

من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رَجَاء العُطارِدي، عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولود يولد على الفطرة» ، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:«وأولاد المشركين» .

وقال أبو بكر بن حمدان القَطِيعي: حدثنا بِشْر بن موسى، حدثنا هَوْذَة بن خَليفة، حدثنا عَوف، عن خَنْسَاء بنت معاوية قالت: حدثتني عمَّتي: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال:«النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والمَوءُودة في الجنة»

(2)

. وكذلك رواه بُنْدار، عن غُنْدَر

(1)

وإليه عزاه المؤلف أيضًا في «طريق الهجرتين» (ص 853). وأخرجه أيضًا أبو عوانة (10053) وابن حبان (655)، وهو عين حديث سمرة السابق، رواه بعضهم بالمعنى. وقد سبق تفصيل القول فيه (ص 156).

(2)

أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (867، 7124) وابن الفاخر (ت 564) في «موجبات الجنة» (382) من طريق أبي بكر القطيعي به. وأخرجه أحمد (20583، 20585) وأبو داود (2521) وابن أبي شيبة (19852) والبيهقي (9/ 163) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 116) وفي «الاستذكار» (8/ 401) من طرق عن عوف به. وفي عامَّة الطرق: «حسناء» بدل «خنساء» ، وتروي عن عمِّها بدل عمَّتها.

حسَّن الحافظ إسناده في «الفتح» (3/ 246). وخنساء (أو حسناء) وإن كانت مجهولة، ولكن للحديث شواهد تعضده، منها مرسل الحسن بإسناد صحيح في تفسير يحيى بن سلام (2/ 657) وابن أبي حاتم (10/ 3406) بمثله. وهناك شواهد مسندة عن أنس وابن عباس وغيرهما لكنها واهية. انظر:«أنيس الساري» (3925)، و «صحيح أبي داود- الأم» للألباني (7/ 280).

ص: 235

عن عوف

(1)

.

واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].

واحتجُّوا بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29].

واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن ربِّه تعالى أنَّه قال: «إنِّي خلقتُ عبادي حُنَفاء كلَّهم، وإنَّهم أتتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بيْ ما لم أُنزِل به سُلطانًا»

(2)

.

واحتجَّوا أيضًا بقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظّى (14) لَا يَصْلَاهَا} الآية [الليل: 14 - 15]، وبقوله في النار:{أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} [البقرة: 23]، وبقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية [الإسراء: 15]، وبقوله:{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} الآية [النساء: 164]، وبقوله لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية [الأعراف: 17].

(1)

من طريق بُندار (محمد بن بشار) أخرجه ابن عبد البر.

(2)

أخرجه مسلم (2865/ 63)، وقد تقدَّم غير مرَّة.

ص: 236

قالوا: والقرآن مملوءٌ من الأخبار بأنَّ دخول النار إنَّما يكون بالأعمال، كقوله:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 92]، وقوله:{وَاَتَّقُوا يَوْمًا تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ} الآية [البقرة: 280]، وقوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ اُلظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقوله:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِّئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78]، وقوله:{وَقَالَ اَلَّذِينَ فِي اِلنّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اَدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ اَلْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسْلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَاَدْعُوا وَمَا دُعَاءُ اُلْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49 - 50]، وقوله تعالى:{وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا اَلْكَفُورُ} [سبأ: 17]، وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، ونظير ذلك في القرآن كثيرٌ.

وأيضًا: فالنار

(1)

دارُ جزاءٍ فلا يَدخُلها مَن لا ذنبَ له، وما ثَمَّ إلا دارُ الثواب أو دارُ العقاب، فإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة.

قالوا: وإذا كان اللهُ يُنشِئ للجنة خلقًا آخرين يُدخِلهم إيَّاها بلا عمل، فالأطفال الذين وُلِدوا في الدُّنيا أولى بها.

قالوا: وإذا كان كلُّ مولود يُولَد على الفطرة إلى أن يغيِّر أبواه فطرتَه، فإذا مات قبل التغيير مات على الفطرة، فكان من أهل الجنة.

قالوا: وقد أخبر تعالى أنَّه خلق عباده حُنَفاء مسلمين وأنَّ الشياطين اجتالَتْهم عن دينهم، فمَن مات قبل اجتيال الشياطين مات على الحنيفيَّة،

(1)

في المطبوع: «فالدار» ، تصحيف.

ص: 237

فيكون من أهل الجنة. ودليل ذلك ما روى مسلم في «صحيحه»

(1)

من حديث عِياض بن حِمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء .. » الحديث.

وزاد فيه محمد بن إسحاق، عن ثَور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عِياض بن حِمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله خلق آدم وبَنِيه حُنَفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامًا»

(2)

.

قالوا: وأيضًا، فالنار دارُ عدله تعالى، لا يدخلها إلا مَن يستحِقُّها. وأمَّا الجنَّة فدارُ فضله فيُدخِلها مَن أراد، بعملٍ وغير عمل. وإذا كانت النار دار عدله فمَن لم يعصِ الله طرفةَ عينٍ كيف يُجازَى بالنار خالدًا مخلَّدًا أبدَ الآباد؟!

قالوا: وأيضًا، فلو عذَّب الأطفال لكان تعذيبهم إمَّا مع تكليفهم بالإيمان، أو بدون التكليف. والقسمان ممتنعان. أمَّا الأول، فلاستحالة تكليفِ مَن لا تمييزَ له، ولا عقلَ أصلًا. وأمَّا الثاني، فممتنعٌ أيضًا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالِها مِن أنَّ الله تعالى لا يعذِّب أحدًا إلا بعدَ قيام الحجة عليه.

قالوا: وأيضًا، فتعذيبهم إمَّا أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم، وإمَّا لوجود الكفر منهم، والقسمان باطلان. أمَّا الثاني فظاهرٌ، لأنَّ مَن لا عقلَ له ولا تمييزَ لا يَعرِف الكفر حتى يختاره. وأمَّا الأول، فلو عُذِّبوا لعدم وجود

(1)

برقم (2865/ 63)، وقد تقدَّم آنفًا.

(2)

سبق تخريجه، والكلام على زيادة «مسلمين» فيه. انظر:(ص 117 - 119).

ص: 238

الإيمان الفعلي منهم لَاشتَركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك لِاشتِراكِهم في سببه.

فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تَبَعُهم لآبائهم من العذاب، بخلاف أطفال المشركين فإنَّهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم وإهانةً لهم وغَيظًا.

قيل: هذا خطأٌ، فإنَّ الله لا يعذِّب أحدًا بذنب غيره، كما قال تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 166]، وقال:{فَاَلْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الآية [يس: 53].

قالوا: وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن همَّ بسيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكتَب عليه حتى يَعمَلَها»

(1)

، فإذا لم يعاقب المكلَّف بما يهُمُّ به من السيئات، كيف يعاقب الطفل بما لم يعمله ولم يهُمَّ به ولم يَخطُر بباله؟!

قالوا: ولا خلافَ بين الناس أنَّ الطفل الذي لم يميِّز إذا مات طفلًا وقد عَلِم الله منه أنَّه لو عاش لقتل النفوس وسفَكَ الدِّماء وغصَبَ الأموال، فإنَّ الله لا يعذِّبه على ذلك.

قالوا: وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم في أطفال المشركين: «هم من آبائهم» ، فإنَّما أراد أنهم منهم في أحكام الدنيا.

وأمَّا قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، فإنَّه لم يُرِد به أنَّه يَجزِيهم بعلمه فيهم، وإن لم يقع معلومه

(2)

في الخارج.

(1)

أخرجه البخاري (7501) ومسلم (128، 130) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(2)

في الأصل: «معلوم» .

ص: 239

قالوا: وأيضًا فإنَّما قال هذا قبل أن يوحى إليه في أمرهم، فلمَّا أوحي إليه أنَّهم في الجنة أخبر به أصحابه.

قلت: وهذا الجواب لا يصِحُّ، فإنَّه أخبر بهذا في حديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة، وهما ممَّن تأخر إسلامه إلى بعد خيبر. وإنَّما الجواب الصحيح أن يقال: إنَّه صلى الله عليه وسلم لم يخبر بأنَّ الله يعذِّبهم على علمه فيهم، وإنَّما أخبر بأنَّه أعلم بما هم عاملون ممَّا يستحقُّون به العقاب، فإذا امتُحِنوا في الآخرة وعملوا بمعصيته ظهر معلومُه فيهم، فعاقبهم بما هم عاملون، لا بمجرَّد علمه.

قالوا: وأمَّا حديث خديجة رضي الله عنها أنَّهم في النار فلا يصِحُّ، وقد تقدَّم كلامُ الناس فيه

(1)

.

وأمَّا حديث: «الوائدة والموءودة في النار»

(2)

، فليس في الحديث أنَّ الموءودة لم تكن بالغةً، فلعلَّها وُئدت بعد بلوغها.

فإن قلتم: فلفظ الحديث: «يا رسول الله، إنَّ أُمَّنا وَأَدَتْ أختًا لنا في الجاهلية لم تبلُغ الحِنثَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوائدة والموءودة في النار» ، فقد قال أبو محمد بن حزم

(3)

: هذه اللفظة وهي قوله: «لم تبلغ الحنث» ، ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شكٍّ، ولكنَّها من كلام سَلَمة بن يزيد الجُعفِي وأخيه اللَّذَين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمَّا أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الموءودة في

(1)

(ص 226 - 227).

(2)

تقدَّم تخريجه (ص 227 - 229).

(3)

في «الفصل» (4/ 62 - 63).

ص: 240

النار كان ذلك إنكارًا وإبطالًا لقولهما: «لم تبلغ الحنث» وتصحيحًا، لأنَّها كانت قد بلغت الحنث بوحيٍ من الله إليه بخلاف ظنِّهما. لا يجوز إلَّا هذا القول، لأنَّ كلامه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه، بل كلامه يصدِّق بعضه بعضًا، ويُوافِق ما أخبر به ربُّه عز وجل، ومعاذ الله من غير ذلك! وقد صحَّ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ أطفال المشركين في الجنة. وقال تعالى:{وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 ــ 9]، فنصَّ تعالى على أنَّه لا ذنبَ للمَوءُودة. فكان هذا مبينًا لأنَّ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ تلك الموءودة في النار إخبارٌ عن أنَّها كانت قد بلغت الحِنثَ بخلاف ظنِّ إخوتها.

وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند: محمدُ بنُ أبي عَدِي، وليس هو دون المُعتَمِر، ولم يذكر فيه:«لم تبلغ الحنث» . ورواه أيضًا عن داود: عُبيدة بن حميد، فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر

(1)

ــ ثم ساق الحديثين ــ

(2)

.

(1)

من طريق المعتمر (عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن يزيد الجعفي) أخرجه النسائي في «الكبرى» (11585) والطبراني في «الكبير» (7/ 39). وانظر ما سبق (ص 227 - 229).

(2)

أي حديثي محمد بن أبي عدي وعُبيدة بن حميد، كلاهما عن داود بن أبي هند. أما الأول فساقه من طريق أحمد بن حنبل ــ وهو في «المسند» (15923) ــ عن محمد بن أبي عدي به. وأما الثاني فأخرجه من طريق محمد بن وضَّاح القرطبي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عُبيدة بن حميد به. ومحمد بن وضَّاح قد خالفه ابنُ أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2474) فرواه عن أبي بكر بن أبي شيبة بإثبات هذه اللفظة:«لم تبلغ الحنث» ، وابنُ أبي عاصم أحفظ وأعلم وأضبط من محمد بن وضاح، وقد حفظ الزيادة في الحديث، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

ص: 241

ثم روى من طريق أبي داود

(1)

عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الوائدة والموءودة في النار» . ثم قال: هذا مختصر، وهو على ما ذكرنا أنَّه صلى الله عليه وسلم إنَّما عَنى بذلك التي

(2)

بلَغَت، لا يجوز غير هذا.

قال

(3)

: وقد يُمكِن أن يَهِمَ فيه الشعبي، فإنَّه مرةً أرسله، ومرةً أسنده. ولا يخلو ضرورةً هذا الخبرُ من أنَّه وهمٌ أو أنَّ أصله مرسلٌ، كما رواه أبو داود

(4)

: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو أنَّه إن صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم فإنَّما أراد به التي بلغت، لا يجوز غير ذلك.

قلت: وهذا الجواب في غاية الضعف، ولا يجوز أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه سُئِل عن موءودة لم تبلغ الحنث، فأجاب

(5)

عمَّن بلغت الحنث، بل إنَّما خرج جوابُه صلى الله عليه وسلم لنفس ما سئل عنه. فكيف ينسب إليه أنَّه ترك الجواب عمَّا سُئِل عنه، وأجاب عمَّا لم يُسأَل عنه مُوهِمًا أنَّه المسؤول عنه، ولم يُبيِّنه للسائل؟! هذا لا يُظَنُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أصلًا.

(1)

وهو في «سننه» (4717)، وقد تقدَّم تخريجه مفصَّلًا.

(2)

أٌقحمت هنا في الأصل: «لا» خطأً، أو أنها تحريف عن «قد» ، وليست في مصدر المؤلف.

(3)

قول ابن حزمٍ هذا ليس في مطبوعة «الفصل» ، ولا في نسخة مكتبة السليمانية الخطية المنسوخة سنة 722 هـ (ق 396)، فليُنظر.

(4)

برقم (4717) أيضًا. وانظر: «علل الدارقطني» (794).

(5)

في الأصل: «فيجب» .

ص: 242

وأمَّا قوله: «إنَّ هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة» ، فلا يضُرُّه ذلك، لأنَّ الذي زادها ثقةٌ ثبتٌ لا مطعنَ فيه، وهو المعتمر بن سليمان، كيف وقد صرَّح بالسماع من داود بن أبي هند. واختصار ابن أبي عدي وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحًا في رواية مَن زادها

(1)

.

وأيضًا: لو لم يُذكر في السؤال لكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم شاملًا لها بعمومه، كيف وإنَّما كانت عادتُهم وَأْدَ الصِّغار لا الكبار! ولا يضرُّه إرسالُ الشعبي له.

وإنَّما الجواب الصحيح عن هذا الحديث أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الوائدة والموءودة في النار» جوابٌ عن تلك

(2)

الوائدة والموءودة اللَّتَين سُئِل عنهما، لا إخبارٌ عن كل وائدةٍ وموءودةٍ، فبعض هذا الجنس في النار، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار.

ويدلُّ عليه حديث بشر بن موسى، عن هوذة بن خليفة، عن عوفٍ، عن خنساء بنت معاوية قالت: حدثتني عمتي: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال:«النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموءودة في الجنة»

(3)

. رواه جماعة عن عوف.

وأخباره صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، فيكون كلامه دالًّا على أنَّ بعض هذا الجنس

(1)

سبق في التخريج قريبًا أن عُبيدة بن حميد قد تابع المعتمر في إثبات هذه الزيادة كما عند ابن أبي عاصم في «الآحاد» ، وأن الاختصار وقع في إسناد ابن حزمٍ من بعض الرواة ممن دون عُبيدة بن حميد.

(2)

كذا في الأصل.

(3)

تقدم تخريجه (ص 235).

ص: 243

في الجنة وبعضه في النار، وهذا هو الحقُّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأمَّا قوله تعالى: {وَإِذَا اَلْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ، فهذا السؤال إنَّما هو إقامةٌ لحُجَّته سبحانه على تعذيب مَن وَأَدَها، إذ قتل نفسًا بغير حقِّها. وأمَّا حكمه سبحانه فيها هي، فإنَّه يحكم فيها بغير حكمه في الأبوين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

فصل

واحتجوا أيضًا على أنَّهم في الجنة بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرَّقَاشِي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألتُ ربِّي اللَّاهين من ذرية البشر أن لا يُعذِّبَهم، فأعطانيهم، فهم خَدَمُ أهل الجنة»

(1)

.

وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألَتْ خديجةُ رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:«هم مع آبائهم» ، ثم سألَتْه بعد ذلك، فقال:«الله أعلم بما كانوا عاملين» ، ثم سألَتْه بعد ذلك، فنزلت:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 166]، فقال:«هم على الفطرة» أو قال: «هم في الجنة» . ذكره أبو عمر في «الاستذكار»

(2)

، ولم يذكر له إسنادًا، فيُنظَر في إسناده.

(1)

أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1544) بإسناده عن يعقوب بن عبد الرحمن به. وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي، وسيأتي تخريجه مفصلًا (ص 248).

(2)

(8/ 401)، وأسنده في «التمهيد» (18/ 117) من طريق أبي معاذ، عن الزهري، عن عروة، عنها. وهذا إسناد واهٍ بمرَّة، أبو معاذ هو سليمان بن أرقم، متروك منكر الحديث. وقد ضعَّف إسنادَه الحافظ في «الفتح» (3/ 247).

ص: 244