المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجهة الرابعة: تبعية الدار - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعضوهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم

- ‌اتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون

- ‌فصلفي ذكر أحاديث هذا الباب وعللها

- ‌المحاربون قطَّاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرمٌ يضمنون

- ‌ يرث المسلمُ الكافر بالموالاة

- ‌ذكر حكم أطفالهم

- ‌الباب الأول: في ذكر أحكامهم في الدنيا

- ‌الجهة الثانية(3): إسلام الأبوين أو أحدهما

- ‌الجهة الثالثة: تبعيَّة السَّابي

- ‌فصلفي ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌الجهة الرابعة: تبعيَّة الدار

- ‌فصلفي أدلة من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة

- ‌المذهب الأول: الوقف في أمرهم

- ‌المذهب الثاني: أنَّهم في النار

- ‌المذهب الثالث: أنَّهم في الجنة

- ‌المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين الجنة والنار

- ‌المذهب الخامس: أنَّهم مردودون إلى محض مشيئة الله فيهم بلا سبب ولا عمل

- ‌المذهب السادس: أنَّهم خدَمُ أهل الجنة ومماليكُهم

- ‌المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة

- ‌المذهب الثامن: أنَّهم يكونون يوم القيامة ترابًا

- ‌المذهب العاشر: أنَّهم يُمتحَنون في الآخرة

- ‌ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجَباتها

- ‌الفصل الأولفي أحكام البيع والكنائس

- ‌ذكر حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه الأماكن

- ‌الضرب الثالث: ما فُتِح صلحًا

- ‌ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب

- ‌فصلفي ذكر بناء ما استَهْدَم(3)منها، ورمِّ شَعَثِه، وذكر الخلاف فيه

- ‌فروعٌ تتعلَّق بالمسألة

- ‌فصلفي تملُّك الذمي بالإحياء في دار الإسلام

- ‌فصلقولهم: (ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها

- ‌فصلقولهم: (ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نكتم غشًّا للمسلمين)

- ‌فصل(1)قولهم: (ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُظهِر عليها صليبًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا

- ‌فصلقولهم: (ولا نخرج صليبًا ولا كتابًا في أسواق المسلمين)

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نخرج باعوثًا ولا شعانينًا

- ‌فصلقولهم: (ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا نجاوز المسلمين بموتانا)

- ‌فصلقولهم: (ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جرت عليه أحكام(1)المسلمين)

- ‌ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نمنع أحدًا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام)

- ‌فصل(1)وقولهم: (وأن نَلْزم زِيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبَّه بالمسلمين

- ‌فصلقولهم: (ولا عمامة)

- ‌فصلقولهم: (ولا في نعلين، ولا فَرْق شعر)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا بفرق شعر)

- ‌فصلفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره

- ‌فصلقالوا: (ولا نتشبَّه بالمسلمين في مراكبهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نتقلد السيوف)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكلم بكلامهم)

- ‌فصلقالوا: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكنَّى بكناهم)

- ‌فصل: كيف يُكتَب إليهم

- ‌فصلقالوا: (ونُوقِّر المسلمين في مجالسهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نعلم أولادنا القرآن)

- ‌فصل(1)قالوا: (وأن نضيف كلَّ مسلم عابر سبيل ثلاثةَ أيام

- ‌«الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلَّق بها»

- ‌فصل(1)قولهم: (وأن من ضرب مسلمًا فقد خلع عهدَه)

- ‌فصلقالوا: (ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا

- ‌المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما لا ينقضه

- ‌ذكر قول الإمام أحمد وأصحابه:

- ‌ ذكرُ قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة:

- ‌الدليل الرابع عشر: قوله: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا

- ‌ذكر الأدلة من السنة على وجوب قتل السابِّ وانتقاض عهده

الفصل: ‌الجهة الرابعة: تبعية الدار

مسلم، فلم يَجرِ الحكم بكفره، فالدار فرَّقت بينهما حكمًا كما فرَّقت بينهما حِسًّا.

فإن قيل: فيلزمكم هذا فيما إذا كان الطفل في دار الحرب وأبواه في دار أخرى من دور الحرب غيرها.

قيل: ما دام في دار الحرب فنحن لا نحكم له بحكم الإسلام، ودار الحرب دارٌ واحدةٌ وإن تعدَّدت بلادها، فما دام في دار الحرب فليس لنا عليه حكمٌ، فإذا صار إلى دار الإسلام ظهر حكم الدار في الحال التي لم يكن لأبويه عليه فيها حكمٌ، وكان حكمه فيها حكم من انقطعت تبعيَّته لأبويه، فإنَّه لمَّا صار إلى دار الإسلام كان الحكم عليه، وولايته للمسلمين دون أبويه.

وسِرُّ المسألة: أنَّه حُكِم بإسلامه لتبعيَّة

(1)

الدار في الحال التي لا ولاية لأبويه عليه فيها.

فصل

‌الجهة الرابعة: تبعيَّة الدار

، وذلك في صورٍ:

إحداها: هذه الصورة التي نصَّ عليها أحمد.

الثانية: اختلاط أولاد المسلمين بأولاد الكفار على وجهٍ لا يتميَّزون، قال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجلٍ مسلم ونصراني في دار

(1)

في المطبوع: «حُكم بتبعية» ، سقط:«إسلامه لـ» .

ص: 95

ولهما أولادٌ، فلم يُعرَف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يُجبَرون على الإسلام

(1)

.

الثالثة: الالتقاط: فكلُّ لقيط وُجِد في دار الإسلام فهو مسلم. وإن كان في دار الكفر ولا مسلمَ فيها فهو كافر. وإن كان فيها مسلم فهل يُحكَم بإسلامه أو يكون كافرًا؟ على وجهين. هذا تحصيل مذهب أحمد

(2)

.

وقال أصحاب مالك

(3)

: كلُّ لقيط وُجِد في قرى الإسلام ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشركٌ. وقال أشهب: إن التقطه مسلم فهو مسلم.

ولو وُجِد في قرية ليس فيها إلا الاثنان

(4)

والثلاثة من المسلمين فهو مشركٌ، ولا يُعرَّض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه. وقال أشهب: حكمه في هذه أيضًا الإسلامُ؛ التقطه ذميٌّ أو مسلم، لاحتمال أن يكون لِمَن فيها من المسلمين. قال: كما أجعله حرًّا، وإن كنت لم أعلم حرٌّ هو أم عبدٌ لاحتمال الحرية؛ لأنَّ الشرع رجَّح جانبَهما

(5)

. هذا تحصيل مذهبهم.

(1)

«الجامع» للخلال (1/ 64 - 65).

(2)

انظر: «المغني» (8/ 351) و «الإنصاف» (16/ 284 - 285).

(3)

انظر: «المدونة» (11/ 398) و «النوادر والزيادات» (10/ 483). والمؤلف صادر عن «عقد الجواهر الثمينة» (3/ 92).

(4)

المطبوع: «الابنان» ، تصحيف.

(5)

أي: جانب الحرية والإسلام. وفي المطبوع: «جانبها» ، خلاف الأصل. وفي مطبوعة «عقد الجواهر الثمينة»:«جانبَيهما» .

ص: 96

وقالت الشافعية

(1)

: إمَّا أن يوجد في دار الإسلام أو دار الكفر، فإن وجد في دار الإسلام فهي ثلاثة أضربٍ:

أحدها: دارٌ يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل الذمة، تغليبًا للإسلام.

الضرب الثاني: دارٌ فتحها المسلمون وأقرُّوها في يد الكفار بجزية، أو ملكوها

(2)

، أو صالحوهم ولم يملكوها= فاللقيط فيها مسلم إذا كان ثَمَّ مسلمٌ واحدٌ فأكثر، وإلا فكافرٌ على الصحيح. وقيل: مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتم إسلامه.

الثالث: دارٌ كان المسلمون يسكنونها ثم جُلُوا

(3)

عنها وغلب عليها الكفار. فإن لم يكن فيها من يُعرَف بالإسلام فهو كافرٌ على الصحيح، وقال أبو إسحاق: هو مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتُم إسلامه. وإن كان فيها

(1)

انظر: «نهاية المطلب» (8/ 531) و «الحاوي الكبير» (8/ 43). والمؤلف صادر عن «روضة الطالبين» للنووي (5/ 433).

(2)

كذا في الأصل «أو ملكوها» ، قسيمًا لما قبله. وفي مطبوعة «روضة الطالبين»:«فقد ملكوها» ، والظاهر أنه تصحيف عن:«بعد ما ملكوها» كما في «الشرح الكبير» للرافعي (6/ 403) و «الروضة» مختصر منه. وقد تكون الفاء تصحيفًا عن واو الحال، أي: أقرُّوها في يد الكفار وقد ملكها المسلمون. وأيًّا ما كان فالقسمة ثُنائية لا ثلاثية: دار فتحوها عَنوةً وملكوها، ودار فتحوها صُلحًا ولم يملكوها. وانظر:«المنهاج» (ص 332).

(3)

في المطبوع: «رحلوا» ، تحريف.

ص: 97

معروفٌ بالإسلام [فهو مسلم]

(1)

، وفيه احتمالٌ للجويني

(2)

.

وإن وُجِد في دار الكفر فإن لم يكن فيها مسلم فاللقيط محكومٌ بكفره. وإن كان [فيها]

(3)

تُجَّار مسلمون ساكنين

(4)

فهل نحكم بكفره تبعًا للدار أو بإسلامه تغليبًا للإسلام؟ فيه وجهان، وكذا الوجهان لو كان فيها أسارى مسلمين

(5)

. فأمَّا المحبوسون في المطامير

(6)

فلا أثرَ لهم، كما لا أثرَ للمجتازين المارِّين من المسلمين. هذا تحصيل مذهبهم.

وقالت الحنفية

(7)

: إن التقطه في دار الإسلام فهو مسلم تبعًا للدار، إلَّا أن يلتقطه من بِيعةٍ أو كنيسةٍ أو قريةٍ من قُراهم فيكون ذمِّيًّا، لأنَّ الظاهر أنَّ أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة، وكذلك بالعكس.

(1)

ما بين الحاصرتين من «الروضة» .

(2)

انظر: «نهاية المطلب» (8/ 532).

(3)

في هامش الأصل: «غير» بعلامة (خ) ولم يتبيَّن وجهه. والمثبت من «الروضة» .

(4)

في الأصل آثار للكشط، أخشى أن يكون كتب الناسخ «ساكنون» أوَّلُ ــ وهو الموافق لمصدر المؤلف ــ ثم كشطه وغيَّره.

(5)

كذا في الأصل. والوجه الرفع.

(6)

جمع المَطْمُورة، وهي في الأصل حفرة أو مكان تحت الأرض يُطْمَرُ ــ أي يُخْبَأ ــ فيه طعام أو مال. والمراد هنا ــ والله أعلم ــ السجون مطلقًا ولو كانت فوق الأرض. والفرق بين المحبوسين فيها وبين الأسارى الذين فيهم خلاف: أن هؤلاء الأسارى «قوم ينتشرون إلا أنهم ممنوعون من الخروج من البلدة» . انظر: «الروضة» و «الشرح الكبير» .

(7)

انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن (5/ 244) و «بدائع الصنائع» (6/ 198). والمؤلف صادر عن «الاختيار لتعليل المختار» للموصلي (3/ 31).

ص: 98

قالوا: ففي ظاهر الرواية اعتبر المكان دون الواجد، كاللقيط إذا وجده مسلمٌ في دار الحرب. وروى أبو سليمان

(1)

عن محمد أنه اعتبر الواجد دون المكان، لأنَّ اليد أقوى. وفي رواية اعتبر الإسلامَ نظرًا للصغير

(2)

.

فصل

فإن قيل: فما تقولون في الذمي يجعل ولدَه الصغير مسلمًا، فهل يحكم بإسلامه بذلك أم لا؟

قيل: قد قال الخلال في «الجامع»

(3)

: بابٌ في الذميِّين يجعلون أولادهم مسلمين. أخبرني عبد الكريم بن الهَيثَم العاقولي قال: سمعت أبا عبد الله يقول في المجوسيين يولد لهما ولدٌ فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين، ثم يُتوفَّى، قال: ذاك يدفنه المسلمون.

وقال عبد الكريم بن الهيثم: سألت أبا عبد الله، عن الصبي المجوسي يجعله أبوه وأمه مسلمًا، ثم يموت، أين يُدفَن؟ قال:«يهودانه وينصرانه» ، إنَّ معناه أن يُدفَن في مقابر المسلمين. هذا لفظه، والمعنى أنَّه إنَّما حُكِم بكفره لأنَّ الأبوين يهوِّدانه وينصِّرانه، فإذا جعلاه مسلمًا صار مسلمًا.

فصل

فإن قيل: فما تقولون في المملوك الكافر يكون تحته جاريةٌ كافرةٌ، وهما

(1)

هو موسى بن سليمان الجوزجاني الفقيه، صاحبُ أبي يوسف ومحمد.

(2)

انظر: «الأصل» (8/ 75).

(3)

(1/ 90).

ص: 99

ملك مسلمٍ، إذا ولد بينهما ولدٌ هل يكون تبعًا لأبويه، أو لسيد الأبوين؟

قيل: سئل أحمد عن هذه المسألة، وترجم عليها الخلال فقال في «الجامع»

(1)

: باب الرجل والمرأة يُسبَون فيكونوا

(2)

عند المسلم فيولد لهما، أو يزوِّجهما المسلم، فيولد لهما في ملك سيدهما أولادٌ، ما الحكم فيه؟ أخبرنا أبو بكر المرُّوذي أنَّ أبا عبد الله قال: إذا وُلد لهما وهما في دار الإسلام في ملك مولاهما، لا أقول في ولدهما شيئًا.

قلت: هذه هي المسألة المتقدمة، وهي تَبَعُ الولدِ لمالكه. وقد تقدَّم نصُّ أحمد على أنه يتبع مالكه في الإسلام، وإنَّما توقَّف في هذه المسألة ــ وإن كان مالكه مسلمًا ــ لأنَّ أبوي الطفل معه وهما كافران، لكن لمَّا لم يكن لهما عليه ولايةٌ وكانت الولايةُ لسيده ومالكه تبعه في الإسلام. وهذا أوجَهُ وأَطرَدُ على أصوله.

فإن قيل: فهو لو سُبي مع أبويه كان مملوكًا لسابيه، وكان على دينهما، فما الفرق بين المسألتين؟

قيل: قد بيَّنَّا أنَّ الصحيح كونه مسلمًا وإن كان مع أبويه

(3)

. وعلى هذا، فلا فرقَ بينهما. وإن قلنا بالرواية الثانية وأنه يكون على دينهما، فالفرق بينها وبين ما لو وُلد بين مملوكين لمسلمٍ: أنَّه قد ثبت له حكم تبعية الأبوين

(1)

(1/ 92).

(2)

في مطبوعة «الجامع» : «فيكونون» وهو الوجه. وغيَّر صبحي الصالح ما في الأصل إلى «يُسبيان فيكونان» .

(3)

انظر ما تقدم (ص 63).

ص: 100

بطريق الأصالة قبل السِّباء، وهنا ثبت

(1)

له حكمُ تبعية المالك.

وقد نَصَّ على أنَّه يكون الولد في هذه الصورة مسلمًا إذا ماتت أُمُّه وكفله المسلمون، فقال أبو الحارث

(2)

: سئل أبو عبد الله عن جاريةٍ نصرانيةٍ لرجل مسلم لها زوجٌ نصراني، فولدت عنده وماتت عند المسلم، وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي؟ فقال: إذا كفله المسلمون فهو مسلم.

فهذا يحتمل أن يكون حكم بإسلامه لموت أمِّه، ويحتمل أن يكون حكم بإسلامه لكفالة المسلمين له ولا أثرَ لوجود أمِّه

(3)

.

وقد صرَّح بهذا المأخذ، وهو كفالة المسلمين، في رواية يعقوبَ بنِ بختان

(4)

فإنَّه قال: سئل أبو عبد الله عن جاريةٍ نصرانيةٍ لقومٍ، فولدت عندهم ثم ماتَت ما يكون الولد؟ قال: إذا كفله المسلمون ولم يكن له من يكفله إلا هم، فهو مسلم

(5)

. قيل له: فإن مات بعد الأم بقليل؟ قال: يدفنه المسلمون.

وهذا تقييدُ مطلقِ أجوبته في الحكم بإسلامه بمجرد موت الأبوين وإن كفله أهل دينه.

وهذا التفصيل هو الصواب في المسألة، وهو الذي نختاره. وهو وسطٌ

(1)

في هامش الأصل زيادة «لم» قبله بعلامة (خ)، فصار النص في المطبوع:«لم يثبت» . وهو خطأ يُذهب المعنى ويُفسد المقصود.

(2)

كما في «الجامع» (1/ 92).

(3)

كذا في الأصل، والسياق يقتضي:«لموت أمه» .

(4)

كما في «الجامع» (1/ 93).

(5)

في الأصل: «فهم مسلمون» ، ولعله سبق قلم.

ص: 101

بين القولين المتقابلين، وبه يجتمع

(1)

شملُ الأدلة من الجانبين. فإنَّ القائلين ببقائه على الكفر قالوا: لا يُعرَف أنَّه عمل في الإسلام بقول من قال: يصير أطفال أهل الذمة مسلمين بموت آبائهم، مع العلم القطعي بأنَّه لم يزل في أهل الذمة الأيتامُ في الأعصار والأمصار من عهد الصحابة إلى وقتنا، وهم يرون أيتام أهل الذمة بين المسلمين ويشاهدونهم عيانًا ويتصدَّقون عليهم، فلو كانوا مسلمين عندهم لَمَا ساغ لهم إقرارهم على الكفر وأن لا يحولوا بينهم وبين الكفار.

قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ هذا لو كان حكمَ أولادهم لكان من أهم الأمور، وكان ذكره فيما شرط عليهم آكد وأولى من تغيير لباسهم، وهيئة ركوبهم، وخفض أصواتهم بكنائسهم

(2)

وبالناقوس، ونحو ذلك من الشروط؛ فأين هذا من بقاء أطفالهم على [دينهم]

(3)

كفارًا، وقد صاروا مسلمين بمجرَّد موت الآباء؟ قالوا: وهذا يقرب من القطع.

والذين حكموا بإسلامهم قالوا: من الممتنع أن يُجعل من فطره الله على الإسلام كافرًا بعد موت أبويه اللذين جعله الله تابعًا لهما شرعًا وقدرًا، فإذا زال الأبوان كان من الممتنع نقل الولد عن حكم الفطرة بلا موجِب، وقد قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

(1)

في الأصل: «يجمع» ، ولعل المثبت أشبه.

(2)

في هامش الأصل: «بكتابهم» .

(3)

زيادة لإقامة السياق.

ص: 102

[الروم: 30]، فما الموجب لتبديل الفطرة، وقد زال من كان يبدِّلها ممن هو أولى الناس به وبكفالته وتربيته وحضانته؟ فإذا كفله المسلمون، وقاموا بتربيته وحضانته، ومعه الفطرة الأصلية، والمغيِّر لها قد زال، فكيف نحكم بكفره؟ وهذا أيضًا قريبٌ من القطعي. ونحن نجمع بين الأمرين، ونقول بموجب الدليلين، والله أعلم.

فصل

فإن قيل: فهذا كله بناءً منكم على أنَّ الفطرة الأولى هي فطرة الإسلام، وأحمد قد نصَّ على أنَّ الفطرة هي ما فُطِر عليه من الشقاوة والسعادة، فقال في رواية الحسن بن ثواب

(1)

: كلُّ مولود من أطفال المشركين على الفطرة؛ يولد على الفطرة التي خلقه الله عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في الكتاب، أرجِع في ذلك إلى الأصل، هذا معناه.

وقال في رواية حنبل وأبي الحارث والفضل بن زياد

(2)

: الفطرة التي فطر الله

(3)

العباد عليها من الشِّقْوة والسعادة.

وقال في رواية علي بن سعيد، وقد سأله عن الحديث:«كلُّ مولود يولد على الفطرة»

(4)

، قال: على السعادة والشقاوة، وإليه

(5)

يَرجع على ما خُلق.

(1)

كما في «الجامع» (1/ 76).

(2)

كما في «الجامع» (1/ 79). وكذا الروايتان الآتيتان.

(3)

الاسم المعظم سقط من المطبوع.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

في مطبوعة «الجامع» : «قال» ، ولعله تصحيف عمَّا هنا.

ص: 103

وقال محمد بن يحيى الكحال: قلت لأبي عبد الله: «كلُّ مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها: شَقِيٌّ أو سعيد.

وإذا كان هذا نصَّه في الفطرة، فكيف يلتئم

(1)

مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم؟

قيل: هذا موضع قد اضطربت فيه الأقدام، وطال فيه النزاع والخصام، ونحن نذكر فيه بعض ما انتهى إلينا من كلام أئمة الإسلام:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب «غريب الحديث»

(2)

الذي هو لِما بعده من كتب الغريب إمامٌ: سألت محمد بن الحسن عن تفسير هذا الحديث، فقال: كان هذا في أوَّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن يُؤمَر المسلمون بالجهاد

(3)

.

قال أبو عبيد: فأمَّا عبد الله بن المبارك فإنَّه سُئل عن تأويل هذا الحديث، فقال: تأويله: الحديث

(4)

الآخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال

(1)

في المطبوع: «يكتم» ، تحريف.

(2)

(2/ 265 وما بعده).

(3)

يقصد محمد بن الحسن بالنسخ: أن مقتضى هذا الحديث أنه لو مات الطفل «قبل أن يهوِّده أبواه أو ينصِّراه= ماورثهما ولا ورثاه، لأنَّه مسلم وهما كافران. وكذلك ما كان يجوز أن يُسبى لأنه مسلم. ثم نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك» . انتهى من كلام أبي عُبيد بتصرف واختصار.

(4)

«فقال: تأويله الحديث» سقط من المطبوع فاختل السياق.

ص: 104

المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»

(1)

. قال أبو عبيد: يذهب

(2)

إلى أنَّهم يُولَدون على ما يصيرون إليه من كفرٍ أو إسلام.

قال ابن قتيبة

(3)

: حكى أبو عبيد هذين القولين، ولم يَحكِ عن نفسه

(4)

في هذا قولًا ولا اختيارًا.

قال محمد بن نصر المروزي في كتاب «الرد على ابن قتيبة»

(5)

: فيقال له: وما على رجلٍ حكى اختلافًا في شيء، ولم يتبيَّن له الصواب، فأَمسَك عن التقدُّم على ما لم يتبيَّن له صوابه= ما على هذا من سبيل، بل هو محمود على التوقُّف عمَّا لم يتبيَّن له [عسى]

(6)

أن يتبيَّن له، بل المعيب

(7)

المذموم مَن اجترى على القول فيما لا عِلم له، ففسَّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا خالَف فيه حكم الكتاب، وخرج من قول أهل العلم، وترك القياس والنظر، فقال قولًا

(1)

أخرجه البخاري (1383، 1384) ومسلم (2660) من حديث ابن عباس. وأخرجه أيضًا البخاري (6598) ومسلم (2659) من حديث أبي هريرة.

(2)

في المطبوع: «فذهب» ، خلاف الأصل.

(3)

لم أجد قوله هذا في مطبوعة «إصلاح غلط أبي عُبيد» (ص 55 - 59) عند كلامه على هذا الحديث، وفيه:«ولم أر ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله بن مبارك ومحمد بن الحسن مقنعًا لمن أراد أن يعرف معنى الحديث» .

(4)

في المطبوع: «ولم يحِلَّ على نفسه» ، تحريف أفسد السياق.

(5)

هو الردّ على ابن قتيبة في كتابه «إصلاح غلط أبي عبيد» انتصارًا لأبي عبيد، ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (5/ 8)، ووقف عليه في جزء لطيف كما في «المعجم المفهرس» له (ص 164).

(6)

زيادة قدَّرها صبحي الصالح لإقامة السياق.

(7)

في الأصل: «العتب» ، وفي المطبوع:«العيب» ، ولعل المثبت أشبه.

ص: 105

لا يصحُّ

(1)

في خبر، ولا يقوم على نظر.

وهو هذا العائب على أبي عبيد زعم أنَّ الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ كلَّ مولودٍ يولد عليها= هي خلقه في كل مولودٍ معرفةً بربه - زعم - على معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية [الأعراف: 172]

(2)

.

قال محمد بن نصر: قال الله تعالى: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فزعم هذا أنَّهم يعرفون أعظم الأشياء، وهو الله تعالى؛ فمَن أعظمُ جرمًا، وأشدُّ مخالفةً للكتاب ممن سمع الله عز وجل يقول:{وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ، فزعم أنَّهم يعلمون أعظم الأشياء، وهذا هو المُعانَدة

(3)

لرب العالمين والجهل بالكتاب.

قلت: إن أراد أبو محمد بالمعرفةِ المعرفةَ الثابتةَ

(4)

بالفعل

(5)

التي هي

(1)

في الأصل والمطبوع: «يصلح» ، والمثبت مقتضى السياق.

(2)

انظر: «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 57 - 59)، فالفطرة عند ابن قُتيبة ليست هي الإسلام، بل الإقرار «بأن له صانعًا ومدبِّرًا، ولو سمَّاه بغير اسمه، أو عبد شيئًا دونه ليقرِّبه منه

».

(3)

في الأصل والمطبوع: «المعاند» ، وأصلح صبحي الصالح السياق بتغيير:«الجهل» الآتي إلى «الجاهل» . والمثبت موافق لما سيأتي قريبًا في تعقيب المؤلف على كلام محمد بن نصر.

(4)

في المطبوع: «الثانية» ، تصحيف.

(5)

في هامش الأصل: «بالعقل» ، خطأ.

ص: 106

للكبار، فإنكارُ أبي عبد الله عليه متوجِّهٌ، وإن أراد أنَّه مُهيَّأٌ للمعرفة، وأنَّ المعرفة فيه بالقوة كما هو مُهيَّأٌ للعقل

(1)

والنطق لم يلزمه ما ذكره أبو عبد الله، كما إذا قيل: يُولَد ناطقًا عاقلًا، بحيث إذا عَقَل عرف ربَّه بتلك القوة التي أودَعَها اللهُ فيه دون الجمادات، بحيث لو خُلِّي وما فُطِر عليه ولم تُغيَّر فطرتُه لكان عارفًا بربَّه موحِّدًا له محِبًّا له.

فإن قيل: أبو عبد الله لم يُنكر هذا، وإنما أنكر أن يكون المراد بالفطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله سبحانه من بني آدم من ظهورهم حين أشهدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فأقرُّوا بذلك، ولا ريبَ أنَّ هذه المعرفة والإقرار غير حاصلٍ

(2)

من الطفل، فصحَّ إنكار أبي عبد الله.

قيل: ابن قتيبة إنَّما قال: الفطرة هي خلقه في كل مولودٍ معرفةً بربه على معنى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية. وهذا لا يلزم منه أن تكون المعرفة حاصلةً في المولود بالفعل

(3)

، وتشبيهه

(4)

الحديثَ بالآية في هذا المعنى لا يدلُّ على أنَّ الميثاق الذي ذُكر في الآية هو المعرفة الفعلية قبل خروجهم إلى الدنيا أحياءً ناطقين، وإن كان هذا قد قاله غير واحدٍ من السلف والخلف، فلا يلزم ابن قتيبة أن يختار هذا القول، بل هذا من حسن فهمه في القرآن والسنة أنْ حمَلَ الحديث على الآية، وفسَّر كلًّا

(1)

في الأصل والمطبوع: «للفعل» ، والمثبت من هامش الأصل هو الصواب، وسيأتي قريبًا:«يولد ناطقًا عاقلًا» .

(2)

كذا في الأصل، وغيَّره صبحي الصالح إلى «غير حاصلَين» .

(3)

في هامش الأصل: «بالعقل» ، خطأ.

(4)

في هامش الأصل: «وتفسيره» .

ص: 107

منهما بالآخر. وقد قال هذا غير واحدٍ من أهل العلم قبله وبعده

(1)

.

وأحسن ما فسِّرت به الآية قولُه صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه» ، فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم، والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم، والإقرار الذي أقرُّوا به= هو الفطرة التي فطروا عليها، لأنَّه سبحانه احتجَّ عليهم بذلك، وهو لا يحتجُّ عليهم بما لا يعرفه أحدٌ منهم ولا يذكره، بل بما يشتركون

(2)

في معرفته والإقرار به.

وأيضًا، فإنَّه قال:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} ولم يقل: من آدم. ثم قال: {ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهرهم. ثم قال: {ذُرِّيَّاتِهِمْ} ولم يقل: ذريته.

ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، وهذا يقتضي إقرارَهم بربوبيته إقرارًا تقوم عليهم به الحجة. وهذا إنَّما هو الإقرار الذي احتجَّ به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى:{قَالَتْ رُسْلُهُمْ أَفِي اِللَّهِ شَكّ} [إبراهيم: 13]، وقولِه

(3)

: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} [الزخرف: 87]،:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} [لقمان: 24]،:{قُل لِّمَنِ اِلْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 85 - 86]، ونظائرُ ذلك كثيرةٌ؛ يحتج عليهم بما فُطِروا عليه من

(1)

ممن حمل الحديث على الآية: الحسن البصري كما عند الطبري (10/ 551)، وحماد بن سلمة كما عند أبي داود (4716).

(2)

رسمه في الأصل: «يشركون» ، ولعل المثبت الصواب.

(3)

في الأصل: «وقولهم» ، خطأ.

ص: 108

الإقرار بربهم وفاطرهم، ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده، وأن لا يشركوا به شيئًا. هذه طريقة القرآن.

ومن ذلك هذه الآية التي في الأعراف وهي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، ولهذا قال في آخرها:{أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]. فاحتج عليهم بما أقرُّوا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره، وأن لا يعتذروا، إمَّا بالغفلة عن الحق، وإمَّا بالتقليد في الباطل، فإنَّ الضلال له سببان: إمَّا غفلةٌ عن الحق، وإمَّا تقليد أهل الضلال.

فتطابق الحديثُ مع الآية وتبيَّن معنى كلٍّ منهما بالآخر. فلم يقع ابن قتيبة في مُعانَدة ربِّ العالمين ولا جهل الكتاب، ولا خرج عن المعقول. ولكن لمَّا ظنَّ أبو عبد الله أنَّ معنى الآية أنَّ الله سبحانه أخرجهم أحياءً ناطقين من صلب آدم في آنٍ واحدٍ، ثم خاطبهم وكلَّمهم وأخَذَ عليهم الميثاقَ وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته، ثم ردَّهم في ظهره، وأنَّ أبا محمد فسَّر الفطرة بهذا المعنى بعينه ألزمه ما ألزمه.

ثم قال أبو عبد الله

(1)

: واحتج ــ يعني ابن قتيبة ــ بقوله تعالى: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1] يعني: خالقها، وبقوله تعالى عن مؤمن آل

(1)

في الأصل: «أبو محمد» ، سبق قلم، فإن الكلام لأبي عبد الله محمد بن نصر في الرد على أبي محمد ابن قتيبة.

ص: 109

ياسين

(1)

: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 21] أي: خلقني، وبقوله:{رَبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ اِلَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] يعني: خلقهن

(2)

، وبقوله:{فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 30]

(3)

. قال: وكان أبو هريرة رضي الله عنه ينزع

(4)

بهذه الآية عند روايته لهذا الحديث

(5)

ليدل على أن الفطرة خِلْقة.

قال محمد بن نصر: فيقال له: لسنا نخالفك في أنَّ الفطرة خِلقةٌ في اللغة وأنَّ فاطر السماوات والأرض: خالقهما، ولكن ما الدليل على أنَّ هذه الخلقة هي معرفة؟ هل عندك من دليل من كتاب الله أو سنةٍ أنَّ الخلقة هي المعرفة؟ فإن أتيت بحجة من كتاب الله أو سنةٍ أنَّ الخلقة هي المعرفة، وإلا فأنت مُبطِلٌ في دعواك، وقائلٌ ما لا عِلمَ لك به.

قلت: لم يُرِد ابن قتيبة ولا مَن قال بقوله: إنَّ الفطرة خلقة= أنَّها معرفة حاصلةٌ بالفعل مع المولود حين يُولَد، فهذا لم يقله أحدٌ. وقد قال أحمد في رواية الميموني

(6)

: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، فقال له الميموني:

(1)

في المطبوع: «مؤمن آل [فرعون في سورة] يس» ، ما بين الحاصرتين وهم من المحقق.

(2)

سقطت هذه الآية ومعناها من المطبوع.

(3)

انظر: «إصلاح غلط أبي عبيد» (ص 58) وفيه آية فاطر فقط. وفي «غريب الحديث» (1/ 350) و «تأويل مختلف الحديث» (ص 200) آيتا فاطر والروم.

(4)

في المطبوع: «يُسرع» !

(5)

كما في البخاري (1358) ومسلم (2658/ 22).

(6)

أسندها الخلال في «الجامع» (1/ 77).

ص: 110

الفطرة الدين؟ قال: نعم.

وقد نصَّ في غير موضع

(1)

أنَّ الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه، واستدل بالحديث:«كلُّ مولود يولد على الفطرة» ، ففسَّر الحديث بأنَّه يُولَد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في الحديث. ولو لم يكن ذلك معناه عنده لَمَا صحَّ استدلاله به. وفي بعض ألفاظه:«ما من مولود إلا يولد على هذه الملة»

(2)

.

وأمَّا قول أحمد في مواضع أُخَر: يولد على ما فُطر عليه من شقاوة أو سعادة، فلا تنافي بينه وبين قوله: إنَّها الدين، فإنَّ الله سبحانه قدَّر الشقاوة والسعادة وكتبهما، وإنها تكون بالأسباب التي تحصُل بها كفعل الأبوين، فتهويدهما وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما

(3)

قدَّره الله تعالى. والمولود يولد على الفطرة مسلمًا، ووُلِد

(4)

على أنَّ هذه الفطرة السليمة قد يغيِّرها الأبوان كما قدَّر الله ذلك وكَتَبه، كما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:«كما تُنتَج البهيمةُ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء؟»

(5)

. فبيَّن أنَّ البهيمة تولد

(1)

وقد سبق (ص 93) بعض الروايات عنه في ذلك. والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 361 وما بعدها) إلى آخر هذا الفصل وما بعده من الفصول، وسيصرّح بذكر شيخ الإسلام في مواضع. وقد أورد المؤلف هذا البحث في كتابه «شفاء العليل» (2/ 390 وما بعدها) بنحوٍ مما هنا.

(2)

أخرجه مسلم عقب (2658/ 23)، وقد تقدم.

(3)

في الأصل: «بما» ، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» .

(4)

كذا في الأصل، وكأن «ووُلِد» زائد، فالكلام مستقيم بدونه.

(5)

هو جزء من حديث أبي هريرة المتقدم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» .

ص: 111

سليمةً، ثم يَجْدَعها الناس، وذلك أيضًا بقضاء الله وقَدَره. فكذلك المولود يُولَد على الفطرة مسلمًا، ثم يُفسِده أبواه.

وإنَّما قال أحمد وغيره: وُلِد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة؛ لأنَّ القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أنَّ الكفر والمعاصي ليس

(1)

بقدر الله، بل بما فعله الناس، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، وكُفْره بعد ذلك من الناس. ولهذا لما قيل لمالك: إنَّ القدرية يحتجُّون علينا بأول الحديث، قال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(2)

.

فبيَّن الأئمة أنَّه لا حُجَّةَ فيه للقدرية، فإنَّه لم يقل: إنَّ الأبوين خلَقَا تهويدَه وتنصيرَه، والقدرية لا تقول ذلك بل عندهم أنَّه تهوَّد وتنصَّر باختياره، ولكن كان الأبوان سببًا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين. وهذا حقٌّ لا يقتضي نفي القدَر السابق من العلم والكتاب والمشيئة، بل ذلك مضافٌ إلى الله تعالى علمًا وكتابةً ومشيئةً، وإلى الأبوين تسبُّبًا وتعليمًا وتلقينًا، وإلى الشيطان تزيينًا ووسوسةً، وإلى العبد رِضًا واختيارًا ومحبةً.

ولا ينافي هذا قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إنَّ الغلام الذي قتَلَه الخضر طُبِع يومَ طبع كافرًا، ولو عاش لأَرهَق أبويه طغيانًا وكفرًا»

(3)

، فإنَّ معناه أنَّه قضي عليه وقدِّر في أمِّ الكتاب أنَّه يكون كافرًا، فهي حالٌ مقدرةٌ

(1)

وفي المطبوع: «ليست» . والمثبت من الأصل موافق لـ «درء التعارض» و «شفاء العليل» .

(2)

أسنده أبو داود في «السنن» (4715) ــ ومن طريقه البيهقي في «القضاء والقدر» (605) ــ وهبة الله الطبري في «شرح السنة» (1000) من رواية ابن وهب عن مالك.

(3)

أخرجه مسلم (2661) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم.

ص: 112

كقوله: {اَدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الزمر: 69]، وقوله:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112]، ونظائر ذلك. وليس المراد: أنَّ كفره كان موجودًا بالفعل معه حين

(1)

طبع، كما يقال: وُلِد مَلِكًا، ووُلِد عالمًا، ووُلِد جبَّارًا. ومَن ظنَّ أنَّ الطبع المذكور في الحديث هو الطبع في قوله:{طَبَعَ اَللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108]، فقد غَلِط غلَطًا ظاهرًا، فإنَّ ذلك لا يقال فيه:«طُبِع يومَ طُبِع» فإنَّ الطبع على القلب إنَّما يُوجَد بعدَ كفره.

فصل

ويدلُّ على صحة ما فسَّر به الأئمةُ الفطرةَ أنَّها الدين ما رواه مسلم في «صحيحه»

(2)

من حديث عِيَاض بن حِمَار المُجاشِعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم عن دينهم وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا» . وهذا صريحٌ في أنَّهم خُلِقوا على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اقتطعتهم بعد ذلك عنها، وأخرجوهم منها. قال تعالى:{وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ} [البقرة:256]. وهذا يتناول إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال.

(1)

في الأصل والمطبوع: «حتى» ، ولعل المثبت أشبه.

(2)

برقم (2865).

ص: 113

وفي «المسند»

(1)

وغيره من حديث الأسود بن سريع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّةً فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«ما حملكم على قتل الذرية؟» ، قالوا: يا رسول الله، [أَ] ليسوا

(2)

أولاد المشركين؟ قال: «أَوَليس خياركم أولاد المشركين؟» ، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال:«ألا إنَّ كلَّ مولود يُولَد على الفطرة حتى يُعرِب عنه لسانه» .

فخُطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم:«أوليس خياركم أولاد المشركين؟» نصٌّ أنَّه أراد أنهم وُلدوا غيرَ كفارٍ، ثمَّ الكفر طرأ بعد ذلك، ولو أراد أنَّ المولود حين يُولَد يكون إمَّا كافرًا وإمَّا مسلمًا على ما سبق به القدر، لم يكن فيما ذكره حجةٌ على ما قصده من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين.

وقد ظنَّ بعضهم أنَّ معنى قوله: «أو ليس خياركم أولاد المشركين» معناه: لعلَّه أن يكون قد سبق في علم الله أنَّهم لو بقُوا لآمنوا، فيكون النهي

(1)

برقم (15588، 15589)، وأخرجه أيضًا معمر في «الجامع» (20090) ــ واللفظ له إلا أن في مطبوعته سقطًا يستدرك من رواية ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1595) من طريقه ــ والنسائي في «الكبرى» (8562) وابن حبان (132) والحاكم (2/ 123) وغيرهم، من طرق عن الحسن عن الأسود بن سريع.

رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، فإن الحسن لم يسمع من الأسود على ما ذكره ابن المديني في «العلل» (ص 55) فقد سئل عن هذا الحديث فقال: إسناده منقطع، والحسن عندنا لم يسمع من الأسود، لأن الأسود خرج من البصرة أيام علي، وكان الحسن بالمدينة.

(2)

همزة الاستفهام مستدركة من «جامع معمر» و «الإبانة الكبرى» . ولفظ أحمد: إنما هم ــ وفي رواية: إنما كانوا ــ أولاد المشركين.

ص: 114

راجعًا إلى هذا المعنى من التجويز. وليس هذا معنى الحديث، ولكن معناه: أنَّ خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهؤلاء من أولاد المشركين، فإنَّ آباءهم كانوا كفارًا، ثم إنَّ البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنًا، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.

وهذا الحديث ــ وهو حديث الفطرة ــ ألفاظه يفسِّر بعضُها بعضًا، ففي «الصحيحين»

(1)

ــ واللفظ للبخاري ــ عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يُولَد إلا على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟» ، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ} [الروم: 29]

(2)

، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(3)

.

(1)

سبق تخريجه. واللفظ المذكور مجموع من روايتين كما يأتي بيانه في التعليقين الآتيين. والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 365).

(2)

إلى هنا لفظ الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، البخاري (1359، 1385، 4775) ومسلم عقب (2658/ 22). وكذلك أخرجه مسلم (2658/ 22) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

(3)

الحديث مع هذه الزيادة عند البخاري (6599) من طريق همام، وعند مسلم (2658/ 23) من طريق أبي صالح، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن ليس فيه قوله: «اقرؤوا

».

ص: 115

وفي «الصحيح»

(1)

قال الزهري: يُصلَّى على كلِّ مولود يُتَوفَّى، وإن كان لِغيَّةٍ، من أجل أنَّه وُلِد على فطرة الإسلام إذا استهلَّ خارجًا، ولا يُصلَّى على مَن لم يستهِلَّ من أجل أنَّه سقط، وأنَّ أبا هريرة كان يحدِّث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنتَج البهيمة بهيمةً جمعاءَ، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟» ، ثم يقول أبو هريرة:{فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29].

وفي «الصحيح»

(2)

من رواية الأعمش: «ما من مولود إلا وهو على الملة» . وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يُبِين عنه لسانه»

(3)

. فهذا صريحٌ في أنَّه يُولَد على ملة الإسلام كما فسَّره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدلُّ على ذلك.

قال ابن عبد البر

(4)

: وسئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبةٌ مؤمنةٌ: أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه، وهو رضيعٌ؟ قال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة.

قال ابن عبد البر ــ وقد ذكر أقوال الناس في هذا الحديث ــ

(5)

: وقال

(1)

أخرجه البخاري (1358)، نقله المؤلف باختصار وتصرف.

(2)

«صحيح مسلم» عقب (2658/ 23) من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

(3)

«صحيح مسلم» عقب (2658/ 23).

(4)

في «التمهيد» (18/ 76)، والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 367) في نقل كلام ابن عبد البر كلِّه.

(5)

«التمهيد» (18/ 72).

ص: 116

آخرون: الفطرة هاهنا هي الإسلام. قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف، وأهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل:{فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]، على أن قالوا: فطرة الله دين الإسلام.

واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}

(1)

.

قال: وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} ، قالوا: فطرة الله: دين الله

(2)

الإسلام. {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، قالوا: لدين الله

(3)

.

واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثَور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأَزْدي، عن عِياض بن حِمار المُجاشِعي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يومًا:«ألا أُحدِّثكم بما حدَّثني الله في الكتاب؟ إنَّ الله خلق آدم وبَنِيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامَ فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حرامًا وحلالًا» الحديث

(4)

.

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

الاسم المعظم سقط من المطبوع.

(3)

انظر: «تفسير الطبري» (18/ 494) و «الدر المنثور» (11/ 598).

(4)

أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 73)، وأخرجه أيضًا ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 404 - السفر الثاني) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (3878) والطبراني في «الكبير» (17/ 363). وإسناده جيِّد، ومَن فوق ابن إسحاق كلُّهم ثقات، وابن إسحاق توبع فيه كما سيأتي.

ص: 117

قال

(1)

: وكذلك روى بكر بن مهاجرٍ عن ثور بن يزيد بإسناده مثلَه في هذا الحديث: «حنفاء مسلمين» .

قال أبو عمر: روي هذا الحديث عن قتادة، عن مُطرِّف بن عبد الله، عن عِياض بن حمار

(2)

. ولم يسمعه قتادة من مُطرِّف

(3)

، ولكن قال: حدَّثني ثلاثةٌ: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، والعَلاء بن زِيادٍ، كلُّهم يقول: حدَّثني مُطرِّف عن عِياض عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، فقال فيه:«وإنِّي خلقت عبادي حنفاء كلَّهم» لم يقل: «مسلمين» .

وكذلك رواه الحسن، عن مطرفٍ، عن عياض

(5)

.

ورواه ابن إسحاق عمَّن لا يتَّهم، عن قتادة بإسناده قال فيه:«وإنِّي خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم»

(6)

، ولم يقل:«مسلمين» .

(1)

ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 73).ولم نقف على رواية بكر بن مهاجر مسندةً.

(2)

أخرجه مسلم (2865) وغيره من طرقٍ عن قتادة به، ولفظه:«حنفاء كلَّهم» .

(3)

ولكن جاء في إحدى المتابعات عند مسلم: «قال يحيى: قال شعبة: عن قتادة قال: (سمعت مطرِّفًا) في هذا الحديث» .

(4)

أخرجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 403 - السفر الثاني) عن عفان بن مسلم، عن همَّام، عن قتادة عن ثلاثتهم به. وأخرج البزار (3490) من طريقين آخرين عن همَّام عن قتادة قال: حدثني أربعةٌ عن مطرف بن عبد الله، منهم يزيد بن عبد الله والعلاء بن زياد، ورجلان نسيهما همام.

(5)

أخرجه أحمد (18339) والنسائي في «الكبرى» (8017) وابن حبان (654) من طرق عن عوف عن حكيم الأثرم عن الحسن به.

(6)

أخرجه ابن أبي خيثمة (1/ 402 - السفر الثاني).

ص: 118

قال: فدلَّ هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه، لأنَّه ذكر «مسلمين» في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله «مسلمين» ، وزاده ثورٌ بإسناده، فالله أعلم.

قال أبو عمر

(1)

: والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة أكبر من الإسلام.

قال

(2)

: وقد روي عن الحسن قال: الحنيفية حج البيت، وهذا يدل أنه أراد الإسلام، وكذلك روي عن الضحاك والسُّدِّي: حنفاء: حجاجًا، وعن مجاهدٍ: حنفاء: متبعين

(3)

، قال: وهذا كله يدل على أن الحنيفية: الإسلام.

قال

(4)

: وقال أكثر العلماء: الحنيف المخلص، وقال الله عز وجل:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} [آل عمران: 66]، وقال تعالى:{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اُلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 76]، قال الراعي

(5)

:

(1)

في «التمهيد» (18/ 71) ولفظه: «المستقيم السالم» ، وكذا في «الاستذكار» (8/ 379). وليس فيهما قوله:«ولا استقامة أكبر من الإسلام» ، وهو مدرج من كلام شيخ الإسلام في «درء التعارض» (8/ 369).

(2)

«التمهيد» (18/ 75).

(3)

أخرج الآثار الثلاثة ابن المنذر في «تفسيره» (1/ 246). وانظر: «تفسير الطبري» (2/ 592 - 593).

(4)

«التمهيد» (18/ 75). وليس فيه: «وقال أكثر العلماء: الحنيف المخلص» .

(5)

«ديوانه» جمع راينهرت فايبرت (ص 229).

ص: 119

أخليفةَ الرحمن إنَّا معشرٌ

حنفاءُ نسجد بكرةً وأصيلا

عرب نرى للهِ في أموالنا

حقَّ الزكاة منزَّلًا تنزيلا

قال: فوصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمرٌ واضحٌ لا خفاء به.

قال

(1)

: ومما احتج به مَن ذهب إلى أنَّ الفطرة في هذا الحديث: الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: «خمسٌ من الفطرة»

(2)

ــ ويُروى: «عشرٌ من الفطرة»

(3)

ــ يعني: فطرة الإسلام. انتهى.

قال شيخنا

(4)

: فالأدلة الدالة على أنَّه أراد فطرة الإسلام كثيرةٌ، كألفاظ الحديث الصحيح المتقدمة، كقوله:«على الملة» ، و «على هذه الملة» ، وقوله:«خلقت عبادي حنفاء» ، وفي الرواية الأخرى:«حنفاء مسلمين»

(5)

، ومثل تفسير أبي هريرة وهو أعلم بما سمع.

ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك: «أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغيرٌ؟»

(6)

، لأنَّه لو لم يكن هناك ما يغيِّر

(1)

«التمهيد» (18/ 76).

(2)

أخرجه البخاري (5889) ومسلم (257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم (261) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد أنكره أحمد، أعلَّه والنسائي والدارقطني بالإرسال. انظر:«الضعفاء» للعقيلي (6/ 27)، و «الكبري» للنسائي (9241 - 9243) و «العلل» للدارقطني (3443) و «البدر المنير» (2/ 98).

(4)

في «درء التعارض» (8/ 371).

(5)

سبق تخريج هذه الروايات.

(6)

سبق تخريجه.

ص: 120

تلك الفطرة لمَا سألوه، والعلم القديم والكتاب السابق لا يتغيَّر.

وقوله: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه»

(1)

بيَّن فيه أنَّهم يغيِّرون الفطرة المخلوق عليها بذلك.

وأيضًا: فإنَّه شبَّه ذلك بالبهيمة التي تُولَد مجتمعةَ الخلق لا نقصَ فيه

(2)

، ثم تُجدَع بعد ذلك، فعُلِم أنَّ التغيُّر واردٌ على الفطرة السليمة التي وُلِد العبد عليها.

وأيضًا: فالحديث مطابقٌ لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]. وهذا يعُمُّ جميعَ الناس، فعُلِم أنَّ الله فطَرَ الناس كلَّهم على فطرته المذكورة، و {فِطْرَتَ اَللَّهِ} أضافها إليه إضافة مدحٍ لا إضافة ذمٍّ، فعُلِم أنَّها فطرةٌ محمودةٌ لا مذمومةٌ.

يبيِّن ذلك: أنَّه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} ، وهذا نَصْبٌ على المصدر الذي دلَّ عليه الفعل الأوَّل عند سيبويه وأصحابه، فدلَّ على أنَّ إقامة الوجه للدِّين حنيفًا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في نظائره مثل قوله:{كِتَابَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقوله:{سُنَّةَ اَللَّهِ [اِلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ] وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اِللَّهِ تَبْدِيلًا}

(3)

[الفتح: 23]. فهذا عندهم مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ لازمٍ إضمارُه، دلَّ عليه الفعل المتقدم، كأنَّه قال: كتبَ الله ذلك عليكم، وكذلك

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أي: في الخلق. في المطبوع: «فيها» ، خلاف الأصل.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من الأصل.

ص: 121

هنا: فطر الله الناس على ذلك= على إقامة الدين حنيفًا.

وكذلك فسَّره السلف، قال ابن جرير

(1)

في هذه الآية: يقول: فسدِّد وجهَك نحوَ الوجه الذي وجَّهك الله يا محمد لطاعته وهو الدين حنيفًا، يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} ، يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها. ونصب {فِطْرَتَ} على المصدر من معنى قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ، وذلك أنَّ معنى [ذلك]

(2)

: فَطَر اللهُ الناس على ذلك فطرةً.

قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم روى عن ابن زيدٍ قال: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} ، قال: هي الإسلام، منذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرون بذلك، وقرأ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فهذا قول الله:{كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 211].

ثم ذكر بإسناد صحيح عن مجاهد قال: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 29]، قال: الدين الإسلام.

[وقال:] حدثنا ابن حميدٍ، حدثنا يحيى بن واضحٍ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم قال: مرَّ عمر بمعاذ بن جبل، فقال: ما قِوام

(1)

في «تفسيره» (18/ 493 وما بعدها)، وما زال النقل عن «درء التعارض» (8/ 373).

(2)

ما بين الحاصرتين من الطبري و «الدرء» .

ص: 122

هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاثٌ وهُنَّ المُنجِيات: الإخلاص وهو الفطرة {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} ، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة. فقال عمر: صدقت

(1)

.

ثم قال: حدثني يعقوب الدورقي، حدثنا ابن عُليَّة، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة أنَّ عمر قال لمعاذ: ما قِوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه.

قال: وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} ، يقول: لا تغيير لدين الله، أي: لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يفعل.

وروى [عن]

(2)

عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلًا يقال له: قاسم إلى عكرمة يسأله عن قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} ، فقال: [هو الخصاء، فقال مجاهد: أخطأ، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}

(3)

إنما هو الدين، ثم قرأ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اُلْقَيِّمُ} .

(1)

وأخرجه أيضًا معمر في «الجامع» (20689) ــ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (6450) ــ ومسدد في «مسنده» (209 - المطالب العالية) وابن زنجويه في «الأموال» (29) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1343) وهبة الله الطبري في «السنة» (1530) من طرق بنحوه.

(2)

زيادة من مصدر المؤلف.

(3)

«فقال: هو الخصاء .... » إلى هنا سقط من مطبوعة «تفسير الطبري» ، والظاهر أنه لانتقال النظر في نسخه الخطية المعتمدة في النشر، ويستدرك لفظه من «درء التعارض» (8/ 375)، واللفظ المثبت من «شفاء العليل» ، وفيه تصرُّف يسير من المؤلف. وانظر الأثر من رواية القاسم بن أبي بزَّة في «تفسير عبد الرزاق» (1/ 173) والطبري (7/ 495).

ص: 123

وروى عن عكرمة {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} قال:]

(1)

لدين الله.

ثم ذكر عن عكرمة: {فِطْرَتَ اَللَّهِ} قال: الإسلام

(2)

.

وكذلك روى عن قتادة، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهد، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وروى عن ابن عباس أنَّه سُئِل عن خِصاء البهائم، فكَرِهه وقال:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ}

(3)

. وكذلك قال عكرمة، ومجاهد في رواية ليث عنه

(4)

.

قال شيخنا

(5)

: ولا منافاة بين القولين عنهما، كما قال تعالى عن الشيطان:{وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ اَلْأَنْعَامِ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} [النساء: 119]، فتغيير ما خلقَ اللهُ عبادَه عليه من الدين تغييرٌ لدينه، والخصاء وقطع الأذن تغييرٌ لخلقه

(6)

. ولهذا شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر في قوله: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمة جمعاءَ، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟»

(7)

، فأولئك يغيِّرون

(1)

ما بين الحاصرتين مستدرك من «درء التعارض» (8/ 385) و «شفاء العليل» (2/ 401) واللفظ له.

(2)

وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (11/ 598).

(3)

وأخرجه آدم بن أبي إياس في «تفسير مجاهد» (2/ 500) عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه.

(4)

«تفسير الطبري» (18/ 496).

(5)

«درء التعارض» (8/ 377).

(6)

في الأصل: «لخلق» ، والمثبت من مصدر المؤلف.

(7)

سبق تخريجه.

ص: 124

الدين، وهؤلاء يغيِّرون الصورة بالجدع والخصاء؛ هذا يغيِّر ما خُلِق عليه قلبُه، وهذا يغيِّر ما خُلق عليه بدنُه.

فصل

قال شيخنا

(1)

: واعلم أنَّ هذا الحديث لمَّا صارت القدرية يحتجُّون به على قولهم الفاسد، صار الناس يتأوَّلونه تأويلاتٍ يُخرِجونه بها عن مقتضاه، فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام، والله لا يُضِلُّ أحدًا، ولكن أبواه يُضِلَّانه. والحديث حجةٌ عليهم من وجهين:

أحدهما: أنَّه عند المعتزلة وغيرهم من المتكلمين لم يُولَد أحدٌ منهم على الإسلام أصلًا، ولا جعل الله أحدًا مسلمًا ولا كافرًا، ولكن هذا أَحدَث لنفسه الكفرَ، وهذا أَحدَث لنفسه الإسلامَ، والله لم يفعل واحدًا منهما عندهم بلا نزاع عند القدرية، ولكن هو دعاهما إلى الإسلام، وأزاح عللهما، وأعطاهما قدرةً متماثلةً

(2)

فيهما تَصلُح للإيمان والكفر، ولم يختصَّ المؤمنَ بسبب يقتضي حُصول الإيمان، فإنَّ ذلك عندهم غير مقدورٍ، ولو كان مقدورًا لكان ظلمًا. وهذا قول عامَّة المعتزلة، وإن كان بعض متأخِّريهم كأبي الحُسَين يقول: إنَّه خصَّ المؤمن بداعي الإيمان، ويقول: عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان، فهذا في الحقيقة موافقٌ لأهل السنة. فهذا أحد الوجهين.

(1)

«درء التعارض» (8/ 377 - 379).

(2)

في المطبوع: «مماثلة» ، خلاف الأصل.

ص: 125

الثاني: أنَّهم يقولون: إنَّ معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية، أو تكون من فعل الله تعالى. وإن احتجت القدرية بقوله:«فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه» من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين، فيقال لهم: أنتم تقولون إنَّه لا يَقدِر اللهُ ولا أحدٌ من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين ولا نصرانيين ولا مجوسيين، بل هما فعَلَا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما، ولا فعلٍ من غيرهما، فحينئذ لا حجةَ لكم

(1)

في قوله: «فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه» .

وأهل السنة متفقون على أنَّ غير الله لا يقدر على جعل الهدى والضلال في قلب أحد، فقد اتفقت الأمة على أنَّ المراد بذلك دعوة الأبوين إلى ذلك، وترغيبهما فيه، وتربية الولد عليه، كما يفعل المعلِّم بالصبي. وذِكْرُ الأبوين بناءً على الغالب المعتاد، وإلَّا فقد يقع ذلك من أحدهما ومن غيرهما حقيقةً وحكمًا

(2)

.

قال محمد بن نصر

(3)

: واحتج ابن قتيبة بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فأجابوا بكلامٍ شاهدِين مُقرِّين على أنفسهم بأن الله ربهم، ثم وُلِدوا على ذلك

(4)

.

(1)

في الأصل: «لها» ، والمثبت من هامشه موافق لمصدر المؤلف.

(2)

هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام.

(3)

في كتاب «الرد على ابن قتيبة» ، وهو في عداد المفقود كما سبق.

(4)

لفظ ابن قتيبة في «إصلاح غلط أبي عُبيد» (ص 58): «إن كل مولود في العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الإقرار الأول» . ونحوه في «تأويل مختلف الحديث» (ص 200).

ص: 126

قال محمد بن نصر: فقوله: «ثم ولدوا على ذلك» زيادةٌ منه ليست في الكتاب، ولا جاء في شيء من الأخبار. وسنذكر الأخبار المروية في تأويل هذه الآية لنبيِّن للناظر فيها أنَّه لا حجةَ له فيها، وأنَّه لا دليلَ في شيء منها أنَّ الأطفال يُولَدون وهم عارفون بالله من وقت سُقُوطهم من بطون أمهاتهم.

قلت: قوله: «ثم ولدوا على ذلك» إن أراد به أنَّهم وُلِدوا حال سقوطهم وخروجهم مِن بطون أمهاتهم عالِمين بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، فقد أصاب في الرد عليه. وإن أراد أنَّهم وُلِدوا على حكم ذلك الأخذ، وأنَّهم لو تركوا لَما عدلوا عنه إذا عقلوا، فهو الصواب الذي لا يُرَدُّ.

قال محمد: فمِن أجلِّ ما روي في تأويل هذه الآية حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا يحيى قال: قرأت على مالك

(1)

، عن زيد بن أبي أُنَيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد

(2)

بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجُهَني أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} ، فقال: سمعتُ رسول الله

(1)

وهو في «الموطأ» (2617). وأخرجه أحمد (311) وأبو داود (4703) والترمذي (3075) والنسائي في «الكبرى» (11126) وغيرهم. قال الترمذي: «هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا» ، وسيأتي في الرواية الآتية.

(2)

في الأصل: «يزيد» ، تصحيف.

ص: 127

- صلى الله عليه وسلم سئل عنها؟ فقال: «إنَّ الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريةً، فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقتُ هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون» ، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، ففيمَ العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله إذا خلَقَ العبدَ للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من عملِ أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلَقَ العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عملٍ من أعمالِ أهل النار فيدخل به النار» .

حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرُّهاوي، عن أبيه، أخبرنا زيد بن أبي أُنَيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نُعَيم بن رَبيعة

(1)

الأَزْدي، قال مسلم: وسألت نعيمًا عن هذه الآية، فقال نعيمٌ: كنتُ عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء رجل فسأله عنها؟ فقال ــ الحديث

(2)

.

وهذا يبيِّن عِلَّة الحديث الأول، وأنَّ مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر.

(1)

في الأصل: «أبي ربيعة» ، خطأ. وسيأتي على الصواب قريبًا.

(2)

علَّقه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 97) عن محمد بن يحيى به. وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (207) عن محمد بن مسلم بن وارة، عن محمد بن يزيد بن سنان به. وأخرجه أبو داود (4704) والجوهري في «مسند الموطأ» (ص 334) من طريقين آخرين عن زيد بن أبي أنيسة به متصلًا. وقد صوَّب الدارقطني في «العلل» (235) الرواية المتصلة. ولكنها ضعيفةٌ لجهالة نعيم بن ربيعة الأزدي، ولذلك ــ والله أعلم ــ أسقط مالك ذِكرَه لمَّا جهل حاله ولم يعرفه. انظر:«تفسير ابن كثير» (الأعراف: 172).

ص: 128

قال: وحدثنا إسحاق، أخبرنا حكام بن سلمٍ

(1)

، عن عنبسة، عن عمارة

(2)

بن عميرٍ، عن أبي محمد رجلٍ من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} ، فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها كما سألتني، فقال:«خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من رُوحه، ثم أجلسه فمسح ظهرَه، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للجنة، يعملون بما شئتُ من عملٍ، ثم أَختِم لهم بأحسن أعمالهم فأُدخِلهم الجنة. ثم مسح ظهرَه فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للنار، يعملون بما شئتُ من عملٍ، ثم أَختِم لهم بأسوأ أعمالهم فأُدخِلهم النار»

(3)

.

قلت: هذا الحديث أدخله مالك في «موطئه»

(4)

على ما فيه من العلة، ونحن نذكر عِلَّته.

قال الترمذي

(5)

: هذا حديث حسن، مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا.

وقال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني

(6)

: لم يسمع مسلم بن يسار

(1)

في الأصل: «مسلم» ، تصحيف.

(2)

في الأصل: «عباد» ، تصحيف.

(3)

ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 81 - 82) من كتاب محمد بن نصر. وأخرجه أيضًا الطبري (10/ 554) ــ ومن طريقه ابنُ منده في «الرد على الجهمية» (25) ــ عن محمد بن حميد عن حكَّام بن سلمٍ به.

(4)

برقم (2617).

(5)

في «جامعه» عقب (3075).

(6)

كما نقله عنه الجوهري في «مسند الموطأ» (ص 333).

ص: 129

هذا من عمر؛ رواه عن نعيم عن عمر.

وقال ابن أبي خيثمة

(1)

: قرأتُ على يحيى بن معين حديث مالك هذا

(2)

عن زيد بن أبي أُنَيسة، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرَف.

وقال أبو عمر

(3)

: هذا حديث منقطعٌ بهذا الإسناد؛ لأنَّ مسلم بن يسار هذا لم يلقَ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، وبينهما في هذا الحديث نُعَيم بن ربيعة، وهذا أيضًا ــ مع هذا الإسناد ــ لا تقوم به حجةٌ، ومسلم بن يسار هذا مجهولٌ، قيل: إنه مدني، وليس بمسلم بن يسار البصري.

قال

(4)

: وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسارٍ ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم.

ولكن معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ ثابتةٍ كثيرةٍ يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره. انتهى.

ونحن نذكر بعض تلك الأحاديث:

قال إسحاق بن راهويه

(5)

:

أخبرنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزُّبَيدي

(1)

في «التاريخ الكبير» (3/ 227 - السفر الثالث)، وهو في «التمهيد» (6/ 4) و «الاستذكار» (26/ 90) بإسناده عنه، وانظر أيضًا:«التاريخ الكبير» لابن أبي خيثمة (2/ 239، 347).

(2)

«هذا» سقط من المطبوع.

(3)

في «التمهيد» (6/ 3).

(4)

في «التمهيد» (6/ 6).

(5)

في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (2962)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (711). وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في «السنة» (174) والفريابي في «القدر» (22) والطبري في «التفسير» (10/ 562، 563) والطبراني في «الكبير» (22/ 169) وغيرهم من طرق عن بقية به، إلا أنه في أكثر الطرق:«عبد الرحمن بن قتادة النصري» ، وأيضًا فقد سقط «عن أبيه» عند ابن أبي عاصم والفريابي وهو ثابت في أكثر الطرق.

وقد خالف الزُّبيديَّ معاويةُ بن صالح ــ وهو صدوق له أوهام ــ في بعض الطرق عنه، فرواه عن راشد بن سعدٍ عن عبد الرحمن بن قتادة السُّلَمي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد (17660) وابن حبان (338) والحاكم (1/ 31) وغيرهم. قال البخاري في «التاريخ»:«هو خطأ» . فرواية الزُّبيدي هي المحفوظة، فإنه ثقة ثبت، وبقيَّة قد صرَّح بالتحديث وتابعه عبد الله بن سالم الأشعري ــ كما عند البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 341) وابن أبي عاصم (175) والطبري (10/ 563) ــ عن الزُّبيدي به. وعليه فالحديث ضعيف، فإن «عبد الرحمن بن قتادة ــ أو بن أبي قتادة ــ النصري» مجهول، وكذا أبوه.

ص: 130

محمد بن الوليد، عن راشد بن سعدٍ، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة النصري

(1)

، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حِزام: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أتُبتَدَأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال:«إن الله لمَّا أخرج ذريةَ آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كَفَّيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار؛ فأهل الجنة مُيسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيسَّرون لعمل أهل النار» .

أخبرنا

(2)

عبد الصمد، حدثنا حمادٌ، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نَضْرة أنَّ

(1)

في الأصل: «البصري» ، والتصحيح من مصادر التخريج.

(2)

الظاهر أن القائل هو إسحاق بن راهويه المذكور في مطلع الحديث السابق، وعبد الصمد بن عبد الوارث من شيوخه، إلا أني لم أجد الحديث في «مسنده» ولا من عزاه إليه. والظاهر أن المؤلف صادر عن كتاب محمد بن نصر المروزي، فيكون هو الذي أسند هذه الأحاديث عن إسحاق بن راهويه عن شيوخه.

ص: 131

رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابُه يعودونه وهو يبكي، فقالوا

(1)

له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله قبَض قبضةً بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، فقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أُبالي» . فلا أدري في أيِّ القبضتَين أنا

(2)

.

أخبرنا عمرو بن محمد، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن المَقبُري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حَمَأً مسنونًا، ثم خلقه وصوَّره، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخَّار كان إبليس يمُرُّ به فيقول: خُلِقتَ لأمرٍ عظيمٍ، ثم نفخ الله فيه من رُوحه، قال: يا رب ما ذُرِّيتي؟ قال: اخْتَر يا آدم. قال: أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمينٌ، ثم بسط الله كفَّه فإذا كلُّ من هو كائنٌ من ذريته في كفِّ الرحمن»

(3)

.

(1)

في الأصل: «فقال» ، والسياق يقتضي المثبت.

(2)

وأخرجه أيضًا أحمد (17593، 17594) عن عبد الصمد، وعن عفَّان، كلاهما عن حمَّاد بن سلمة به. إسناده على رسم مسلم، وقد صحَّحه الحافظ في «الإصابة» (12/ 423) والألباني في «الصحيحة» (50).

(3)

وهذا الحديث أيضًا ليس في «مسند إسحاق» . وقد أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (6580) عن عُقبة بن مكرم، عن عمرو بن محمد العنقزي به، ولفظه أتمَّ. وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن رافع، ولكنه توبع، تابعه الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب ــ على لين فيه ــ عن المقبري عن أبي هريرة. أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في «الكبرى» (9975) وابن حبان (6167) والحاكم (1/ 64) وغيرهم دون قصة مرور إبليس. قال الترمذي:«حسن غريب من هذا الوجه» . وأما النسائي فأعلَّه، لأن محمد بن عجلان خالف ابنَ أبي ذباب، فرواه عن المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام موقوفًا، قال النسائي (9976): هذا هو الصواب. قلتُ: وسيذكر المؤلف هذه الرواية قريبًا.

ص: 132

أخبرنا النضر، أخبرنا أبو مَعشَر، عن سعيد المَقبُري، ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لمَّا أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له: يا آدم، أيُّ يدي أحبُّ إليك أن أُرِيَك ذريتَك فيها؟ فقال: يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذرِّيتُه كلُّهم: ما هو خالقٌ إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئتهم

(1)

، فقال: ألا أغنيتَهم كلَّهم؟ فقال: إني أحببتُ أن أُشكَر

» وذكر الحديث

(2)

.

وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المَقبُري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم، ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اخْتَر يا آدم، فقال: اخْتَرتُ يمين ربي وكلتا يديك يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال مَن هؤلاء يا رب؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلقَ من

(1)

رسمه في الأصل: «هياتهم» ، وهو يحتمل ما أثبت، ويحتمل:«هيئاتهم» .

(2)

أخرجه أيضًا ابن بشران في «أماليه» (663 - الجزء الأول) من طريق آخر عن أبي معشر به مطوَّلًا. وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر نَجِيح السِّندي.

ص: 133

ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة

(1)

.

حدثنا إسحاق، حدثنا جعفر بن عون المخزومي

(2)

، أخبرنا هشام بن سعد

(3)

، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا خلَقَ الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمةٍ هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة

» وذكر الحديث

(4)

.

حدثنا إسحاق، وعمرو بن زُرَارة قالا: أخبرنا إسماعيل، عن كُلثُوم بن جبر

(5)

، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية، قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كلُّ نسمةٍ هو خالقها إلى يوم القيامة، بِنَعمانَ هذا الذي وراء

(1)

أخرجه أيضًا الفريابي في «القدر» (1) ــ ومن طريقه الآجري في «الشريعة» (434، 748) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1709) ــ عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد به بسياق أطول. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (9976) مختصرًا بذكر جزءٍ آخر من سياقه الطويل.

(2)

في الأصل: «الخزاعي» ، تصحيف.

(3)

في الأصل: «سعيد» ، تصحيف.

(4)

أخرجه أيضًا الترمذي (3076) والبزار (8892) وأبو يعلى (6654) والحاكم (2/ 325) من طرق عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة به. ولعله لم يرد ذكر «أبي صالح» في هذا الطريق، فإن المؤلف نقله أيضًا في «شفاء العليل» (1/ 35) و «الروح» (2/ 460) بمثله.

قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

في الأصل: «جبير» هنا وفي الإسناد الآتي، وهو تصحيف.

ص: 134

عرفة، فأخذ ميثاقهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا

(1)

.

حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية، قال: مسح الله ظهر آدم وهو ببطن نَعمان وادٍ إلى جنب عرفة، فأخرج من ظهر آدم ذريته، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا

(2)

.

ثم ساقه إسحاق من طرقٍ متعددةٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال

(3)

:

أخبرنا المخزومي ــ وهو المغيرة بن سلمة ــ، حدثنا أبو هلالٍ، عن أبي جمرة الضُّبَعي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج

(1)

أخرجه أيضًا من طريق إسماعيل ــ وهو ابن علية ــ ابنُ سعد في «الطبقات الكبير» (1/ 12) والطبري في «تفسيره» (10/ 548). وأخرجه ابن سعد (1/ 13) والفريابي في «القدر» (59، 60) والطبري (10/ 547، 550) من طرق عن كلثوم به.

وأخرجه أحمد (2455) والنسائي في «الكبرى» (11127) والحاكم (1/ 27) وغيرهم من طريق جرير بن حازم، عن كلثوم، عن سعيد، عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد خالف جرير بذلك سائر الثقاتَ الذين وقفوه على ابن عباس، فالوقف هو المحفوظ. انظر:«تفسير ابن كثير» (الأعراف: 172) و «الصحيحة» (1623).

(2)

أخرجه أيضًا ابن سعد (1/ 12) والفريابي في «القدر» (60) والطبري (10/ 548، 550) من طريق وكيع وغيره عن ربيعة به، وذكره أيضًا ابن كثير في «تفسيره» .

(3)

«ثم قال» كذا في الأصل، والسياق يقتضي:«فقال» إذ الطرق المتعددة عن ابن عباس هي الآتية.

ص: 135

ذريته في آذيٍّ

(1)

من الماء

(2)

.

أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم، فخرجت منه كلُّ ذريةٍ بَدَدًا إلى يوم القيامة فعُرِضوا عليه

(3)

.

حدثنا المُلائي، حدثنا المسعودي، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: إنَّ الله أخذ على آدم ميثاقه أنَّه ربُّه، وكتب أجلَه ورِزقَه ومصيباتِه، ثم أخرج من ظهره ولدَه كهيئة الذرِّ، فأخذ عليهم الميثاق أنَّه ربُّهم، فكتب أجلَهم ورِزقَهم ومصيباتِهم

(4)

.

حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم، فأخرج كلَّ طيِّبٍ في يمينه، وفي يدِه الأخرى

(1)

في الأصل: «آذر» تصحيف. والآذيّ: الموج الشديد، كما في «النهاية» (1/ 34).

(2)

أخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1613) والطبري (10/ 550) من طريقين عن أبي هلال ــ وهو الراسبي ــ به. وإسناده لا بأس به.

(3)

لم أجد من أخرجه بهذه الطريق. رواته ثقات، إلا أن غير واحدٍ خالف جريرًا فروَوه عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عن ابن عباس بنحوه، وسيأتي.

(4)

أخرجه أيضًا الدارمي في «الرد على الجهمية» (256) والفريابي في «القدر» (57) والطبري (10/ 550) وابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1449، 1454، 1753) والبيهقي في «القضاء والقدر» (67) من طرق عن المسعودي به، وفيهم من رواه عنه قبل الاختلاط كوكيع. وعليه فإسناده حسن.

ص: 136

كل خبيثٍ

(1)

.

حدثنا يحيى، حدثنا المسعودي، أخبرني علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: خلق الله آدم، فأخذ ميثاقه أنَّه ربُّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرِّ، فأخذ مواثيقهم أنَّه ربُّهم، فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم

(2)

.

وقال عبد الرزاق

(3)

: حدثنا مَعمَر، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال: مسح الله على صلب آدم، فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنَّه ربُّهم فأعطوه ذلك، فلا تسألُ أحدًا ــ كافرًا أو غيره ــ مَن ربك؟ إلا قال: الله. قال معمرٌ: وكان الحسن يقول مثل ذلك.

قال إسحاق: وأخبرنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن

(1)

أخرجه أيضًا الطبري (10/ 549) عن ابن وكيع عن أبيه به. وأخرجه عبد الله في «السنة» (852) والطبري (10/ 549) وابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطَّة في «الإبانة الكبرى» (1451) من طرق أخرى عن الأعمش به بزيادة «سعيد بن جُبير» بين حبيب بن أبي ثابت وابن عباس.

(2)

وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1613) وابن بطة (1454) من طريق يحيى ــ وهو ابن سعيد القطان ــ به. وله طرق أخرى عن المسعودي، سبق ذكرها آنفًا.

(3)

في «تفسيره» (1/ 242). ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن منده في «الرد على الجهمية» (37). وأبو النضر هو الكلبي، ومعروف شدَّةُ وَهْيِ روايته عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد أخرجه الطبري (10/ 561) من طريق محمد بن ثور عن معمر عن الكلبي من قوله مقطوعًا عليه.

ص: 137

عمرٍو في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: أخذهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس

(1)

.

قال محمد بن نصر: وحدثنا الحسن بن محمد الزَّعفراني، حدثنا حجَّاج، عن ابن جريج، عن الزُّبير بن موسى، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنَّ الله تعالى ضرب مَنكِب آدم الأيمن، فخرجت كل نفسٍ مخلوقةٍ للجنة بيضاء نقيةً، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفسٍ مخلوقةٍ للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهدهم على الإيمان به، والمعرفة له وبأمره، والتصديق له وبأمره، من بني آدم كلهم، وأشهَدَهُم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقرُّوا

(2)

.

قال إسحاق: وحدثنا رَوح بن عُبادة، حدثنا محمد بن عبد الملك، عن أبيه، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما بهذا الحديث، وزاد: قال ابن جريج: وبلغني أنَّه أخرجهم على كفِّه أمثال الخردل

(3)

.

(1)

أخرجه أيضًا الطبري (10/ 553) من طريق جرير عن منصور به. وأخرجه الطبري (10/ 552) وابن أبي حاتم (5/ 1613) من طريقين آخرين عن منصور به.

(2)

وأخرجه أيضًا ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1453) من طريق الحسن بن محمد الزعفراني به. وأخرجه الطبري (10/ 556) وابن منده في «الرد على الجهمية» (35) من طريقين آخرين عن حجاج بن محمد به، وأخرجه الفريابي في «القدر» (68) ــ ومن طريقه الآجري في «الشريعة» (442) ــ من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن جريج به. وإسناده لا بأس به في المتابعات.

(3)

لم أجد من أخرجه بهذه الطريق، وقول ابن جريج آخرَ الحديث: «بلغني

» مروي في عند الطبري وابن منده من طريق حجاج عنه، انظر التخريج السابق.

ص: 138

قال إسحاق

(1)

: وحدثنا حكَّام بن سَلْم

(2)

الرازي، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبَيِّ بن كعب في قوله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، قال: جمعهم يومئذٍ جمعًا ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم وتكلَّموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم، قال: فإنِّي أُشهِد عليكم السماواتِ والأرضين السبعَ، وأُشهِد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم هذا. اعلموا أنَّه لا إلهَ غيري، ولا ربَّ غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، فإنِّي سأرسل إليكم رُسُلًا يذكِّرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزِل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنَّك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ غيرُك، ولا إلهَ لنا غيرُك. فأقرُّوا يومئذٍ بالطاعة، ورُفِع لهم أبوهم آدم، فنظر فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب، لو سوَّيت بين عبادك!

(1)

أخرجه عن إسحاق الفريابيُّ في «القدر» (52، 435)، ثم عنه الآجري في «الشريعة» (435). وأخرجه الطبري (7/ 705) وابن أبي حاتم (5/ 1615) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1450) والحاكم (2/ 323) من طرق عن أبي جعفر به. وأبوجعفر صدوق سيئ الحفظ، ولكنه توبع، فقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على «المسند» (21232) والفريابي (53) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1452) وابن منده في «التوحيد» (456) من طرق عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الربيع به. قال ابن منده:«هذا الحديث من رسم النسائي، وهذا إسناد متصل مشهور» ، واختاره الضياء (3/ 363).

(2)

في الأصل: «سليم» ، تصحيف.

ص: 139

فقال: إنِّي أحببتُ أن أُشكَر.

ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج عليهم النور، وخُصُّوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: {غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وهو الذي يقول:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، فلذلك قال:{هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ اَلنُّذُرِ اِلْأُولى} [النجم: 55]، وفي ذلك قال:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 101]، وفي ذلك قال:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74]، كان في علمه يومَ أقرُّوا بما أقرُّوا به ومَن

(1)

يكذِّب به ومَن يصدِّق. قال: وكان رُوح عيسى من تلك الأرواح التي أُخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك إلى مريم حتى {اِنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله:{حَمَلَتْهُ} [مريم: 15 - 21]، حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى

(2)

.

وفي تفسير أسباط بن نصر

(3)

، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي

(1)

كذا في الأصل و «القدر» للفريابي بإثبات الواو. ولم ترد في عامَّة المصادر، وهو أشبه بالسياق.

(2)

أي حملت مريم الروحَ الذي تمثَّل لها بشرًا سويًّا وخاطبها فقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ

}، فإن المخاطب لها كان روحَ عيسى. وسيأتي إبطال المؤلف لهذا القول لاحقًا (ص 194). وقال عامَّة مفسري السلف: إن الروح الذي خاطبها هو جبريل. انظر: «تفسير الطبري» (15/ 485 - 486).

(3)

أخرجه الطبري (10/ 560، 561) مختصرًا، وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 85) مطوَّلًا بأسانيدهما عن أسباط.

ص: 140

صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهَمْداني عن ابن مسعودٍ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية، قال: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحةَ ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذريةً بيضاء

(1)

مثل اللؤلؤ، وكهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذريةً سوداء

(2)

كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك حين يقول

(3)

: {وَأَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} [الواقعة: 28]، {وَأَصْحَابُ اُلشِّمَالِ} [الواقعة: 43]. ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فأعطاه طائفةٌ طائعين وطائفةٌ كارهين، فقالت الملائكة:{شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} ، فلذلك ليس أحدٌ من ولد آدم إلا وهو يعرف أنَّ ربَّه الله، ولا مُشرِكٌ إلا وهو يقول:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 21].

فذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية، وذلك حين يقول:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، وذلك حين يقول:{قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150] قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق.

قال إسحاق: وأخبرنا رَوح بن عُبادة، حدثنا موسى بن عُبَيدة الرَّبَذي قال:

(1)

رسمه يحتمل: «بِيضًا» ، والمثبت موافق لمطبوعة «التمهيد» .

(2)

رسمه يحتمل: «سُودًا» ، والمثبت موافق لمطبوعة «التمهيد» .

(3)

في الأصل: «بقوله» ، تصحيف.

ص: 141

سمعت محمد بن كعب القُرَظي يقول في هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} : فأقرُّوا

(1)

له بالإيمان والمعرفة الأرواحُ قبل أن يخلق أجسادها

(2)

.

قال إسحاق: وحدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: أُخرِجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق، ثم رُدُّوا في صلبه

(3)

.

قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأَجْلَح

(4)

، عن الضَّحَّاك قال: إنَّ الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فأخرجهم مثل الذرِّ، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، قالت الملائكة:{شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ، ثم قبض قبضةً بيمينه، فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى، فقال: هؤلاء في النار

(5)

.

قال محمد بن نصر: وحدثنا بُندار، ثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن

(1)

كذا في الأصل و «التمهيد» على لغة «يتعاقبون فيكم ملائكة» .

(2)

أخرجه أيضًا ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 80) من طريق رَوح بن عُبادة به. وأخرجه الطبري (10/ 562) من طريق آخر عن موسى بن عبيدة به بنحوه، وموسى فيه لين.

(3)

أخرجه أيضًا الطبري (10/ 559) بإسناده عن عبد الملك به.

(4)

كذا في الأصل، ومثله في كتاب «الروح» للمؤلف (2/ 464). وهو تصحيف، فليس من الرواة أحدٌ بهذا الاسم، والصواب:«أخبرنا يعلى عن الأجلح» كما في «تفسير ابن أبي حاتم» . ويعلى هو ابن عبيد الطنافسي، شيخ إسحاق بن راهويه، ثقة. والأجلح هو ابن عبد الله الكندي، صدوق شيعي، يروي عن الضحاك.

(5)

أخرجه أيضًا ابن أبي حاتم (5/ 1615) عن شيخه أبي سعيد الأشج عن يعلى بن عبيد به. وأخرجه الطبري (10/ 552، 559) من طرق عن الضحاك بنحوه مختصرًا.

ص: 142

الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82] قال: أخذه الميثاق

(1)

.

قال محمد: فقد ذكرنا ما حضَرَنا من الأخبار المروية عن السلف في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، وليس في شيء منها أنَّ الطفل يسقط من بطن أمِّه وهو عارفٌ بالله، ولا في شيء منها دليل على ذلك.

قلت: أبو محمد لم يُرِد أنَّهم وُلِدوا عارفين بالله معرفةً حاصلةً معهم بالفعل، وإنَّما أراد أنَّهم وُلِدوا على حُكم تلك الفطرة والميثاقِ الذي أخذ عليهم، بحيث لو خُلُّوا وفِطَرَهم لَمَا عَدَلوا عن مُوجَب ذلك.

قال محمد: فيقال له: هل عندك من دليل يدلُّ على أنَّ الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ مولود يولد عليها هي المعرفة بالله؟ أو هل يُحكى عن أحد من السلف أنَّه قال ذلك؟ أو هل يُدَلُّ على ذلك بقياس؟ فإن أتى بشيء من هذه الدلائل، وإلا بان باطلُ دعواه.

فإن هو رجع إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} الآية، فقال: استشهادُ الله ذريةَ آدم على أنَّه ربُّهم دليل على أنَّ معرفة ذلك متقدِّمةٌ عندهم كما

(2)

استشهدهم عليه، فهذه غاية حُجَّته عند نفسه. قال: لأنَّ كل مستشهَدٍ على شيءٍ لم تتقدَّم المعرفةُ عنده بما استُشهِد عليه قبلَ الاستشهاد، فإنَّ المستشهِد دعاه إلى أن شَهِد بقول الزُّور، والله لا يأمر أحدًا بذلك.

(1)

أخرجه أيضًا الطبري (5/ 549) وابن أبي حاتم (2/ 696) من طريقين عن أبي جعفر الرازي عن الربيع به نحوه.

(2)

كذا في الأصل والمطبوع، ولعل صوابه:«لِما» .

ص: 143

فيقال له: إنَّ إجابتك عن غير ما تُسأل عنه، واحتجاجك له هو الدليل على عجْزك، وعلى أنَّه لا حجةَ لك. إنَّا لم نسألك عن الوقت الذي استشهدهم الله فيه وقال لهم

(1)

: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فأجابوه بأن {قَالُوا بَلَى} ، هل كانوا عارفين في ذلك الوقت أم لا؟ إنَّما سألناك عن وقت سقوطهم من بطون أمَّهاتهم، هل عندك حجةٌ تُثبِت أنَّهم في ذلك الوقت عارفون؟

فإن قال: إنَّ ثبوت المعرفة لهم في ذلك الوقت دليل على أنَّهم وُلِدوا على ذلك، فهم في وقت الولادة على ما كانوا عليه قبل ذلك.

قيل له: فقد كانوا في ذلك الوقت مُقِرِّين أيضًا، وذلك أنَّ الله عز وجل أخبر أنَّه قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، والله عز وجل لا يخاطب إلا من يفهم عند المخاطبة، ولا يُجيب إلا مَن فهم السؤال، فإجابتهم إيَّاه بقولهم دليل على أنَّهم قد فهموا عن الله وعقلوا عنه استشهادَه إياهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فأجابوه مِن بعد عقلهم للمخاطبة وفهمهم لها

(2)

بأن {قَالُوا بَلَى} ، فأقرُّوا له بالربوبية. فيقال له: فهكذا نقول: إنَّ الطفل إذا سقَطَ من بطن أمِّه فهو من ساعته يَفهَم المخاطبةَ إن خُوطِب ويُجيب عنها، ويُقرُّ له بالربوبية كإقرار الذين أقرُّوا له بالربوبية في الوقت الذي أخذ عليهم الميثاق! فإن قال: نعم، كابَرَ عقلَه وأَكذَبه العيان. وإن قال: لا أقول ذلك، [و] فرَّقَ بين الوقتين، فجعل حالهم في وقت الولادة خلافَ حالهم في الوقت الأول عند أخذ

(1)

في الأصل: «له» ، تصحيف.

(2)

في الأصل: «وفهمه لهم» ، تصحيف.

ص: 144

الميثاق منهم= فيقال له: فكذلك جائزٌ أن يكونوا كانوا

(1)

في الوقت الأول عارفين، وهم في وقت الولادة غيرُ عارفين كما كانوا في الوقت الأول؛ فقد فهموا المخاطبة وعقلوها وأجابوا مُقرِّين لله بالربوبية، وهم في وقت الولادة على خلاف ذلك.

قلت: كلُّ مَن قال بأنَّ العهد الذي أُخِذ عليهم هو أنَّهم أُخرِجوا من صُلب آدم وخُوطِبوا، وأقرُّوا له بالربوبية، ثمَّ رُدُّوا في صلبه= فإنَّه يفرق بين حالهم ذلك الوقتَ وحالهم وقتَ الولادة قطعًا. ولا يقول ابن قتيبة ولا غيره: إنَّهم وُلِدوا عارفين فاهمين يفهمون السؤال ويرُدُّون الجواب. فالأقسام أربعةٌ:

أحدها: استواء حالتهم وقت أخذ العهد ووقت سقوطهم في العلم والمعرفة.

الثاني: استواء الوقتين في عدم ذلك.

الثالث: حصول المعرفة عند السقوط، وعدمها عند أخذ العهد. وهذه الأقسام الثلاثة باطلةٌ لا يقول بواحدٍ منها أحد

(2)

.

الرابع: معرفتهم وفهمهم وقتَ أخذِ العهد دون وقت السقوط. وهذا يقوله كلُّ مَن يقول: إنَّه أخرجهم من صُلب أبيهم آدم وكلَّمهم وخاطبهم، وأشهَدَ عليهم ملائكته، وأشهدهم على أنفسهم، ثم ردَّهم في صُلبه. وهذا

(1)

«كانوا» سقط من المطبوع.

(2)

«أحد» ساقط من المطبوع.

ص: 145

قول جماهير من السلف والخلف، واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار مرفوعها وموقوفها.

وأحسن شيء فيها حديث مسلم بن يسار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1)

، وقد ذكرنا كلام الأئمة فيه. على أنَّ إسحاق قد رواه عن حكَّام بن سَلْم، عن [عنبسة، عن] عُمَارة

(2)

بن عُمَير، عن أبي محمد رجلٍ من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية، فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: «خلق الله آدمَ بيده ونفخ فيه من رُوحه، ثم أجلسه فمسح ظهرَه، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتُهم للجنة، يعملون بما شئتُ من عمل، ثم أختم لهم بأحسن

(3)

أعمالهم فأُدخِلهم الجنة. ثم مسح ظهره، فأخرج ذرًّا، فقال: ذرٌّ ذرأتهم للنار، يعملون بما شئت من عملٍ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم، فأُدخلهم النار»

(4)

. فهذا لا ذِكر فيه لمخاطبتهم وسؤالهم واستنطاقهم، وهو موافقٌ لسائر الأحاديث، ويُشبِه أن يكون هو المحفوظ عن عمر رضي الله عنه.

وأمَّا سائر الأحاديث فالمرفوع الصحيح منها إنَّما فيه إثبات القبضتين، وتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة قبل إخراجهم إلى دار التكليف؛ مثل

(1)

تقدَّم (ص 127 - 130).

(2)

في الأصل: «عبادة» ، تصحيف. وما بين الحاصرتين سقط لانتقال النظر، وقد تقدَّم الإسناد بإثباته.

(3)

في الأصل: «بإحسان» ، خطأ.

(4)

تقدَّم (ص 129).

ص: 146

الحديث الذي رواه أحمد

(1)

عن عبد الصمد، حدثنا حمادٌ، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نضرة أنَّ رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قبض قبضةً بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، فقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا.

وكذلك حديث المَقبُري عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه الذي تقدَّم

(2)

هو وغيرُه من الأحاديث التي فيها: أنَّ الله أخرج ذرية آدم من ظهره وأراه إياهم، وجعل أهل السعادة في قبضته اليمنى، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى.

وأمَّا الآثار التي فيها أنَّه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفةٍ ومرفوعةٍ لا يصح إسنادها؛ كحديث مسلم بن يسار، وحديث هشام بن حكيم بن حزام، فإنَّ في إسناده بقيةَ بن الوليد وراشدَ بن سعدٍ وفيهما مقال

(3)

، وأبو

(4)

قتادة النصري وهو مجهولٌ.

وبالجملة: فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتَين كثيرةٌ لا سبيل إلى ردِّها وإنكارها، ويكفي وصولها إلى التابعين، فكيف

(1)

في «المسند» (17593)، وقد تقدَّم تخريجه (ص 132).

(2)

(ص 132 - 134).

(3)

أمَّا بقية، فإن غاية ما يؤخذ عليه تدليسه عن الضعفاء، وهنا قد صرَّح بالتحديث، ثم إنَّه قد توبع كما سبق بيانه في تخريجه (ص 131). وأمَّا راشد بن سعد الحُبراني المَقرائي، فثقة عند عامَّة أهل الحديث، «وقال ابن حزم وحده: هو ضعيف، فهذا من أقواله المردودة» كما في «السير» (4/ 490). وإنما علَّة الحديث جهالةُ أبي قتادة وابنه.

(4)

كذا في الأصل، والجادة: النصب.

ص: 147

بالصحابة؟ ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين، ولكن الذي دلَّ عليه الصحيح من هذه الآثار: إثباتُ القدر وأنَّ الله عَلِم ما سيكون قبل أن يكون، وعَلِم الشقي والسعيد من ذرية آدم. وسواءٌ كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالَهم أو أعيانَهم.

فأمَّا نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة

(1)

، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} فذكر الأخذ من ظهور بني آدم لا من نفس ظهر آدم، وذرياتُهم يتناول كلَّ من وَلَدُوه وإن كان كبيرًا

(2)

، كما قال في تمام الآية:{أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} ، وقال تعالى:{إِنَّ اَللَّهَ اَصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران: 33 - 34]، وقال:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]، وقال:{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 85]، فاسم الذرية يتناول الكبار.

وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره، فمن أقرَّ بحقٍّ عليه فقد شهد به على

(1)

نعم، ليس في الأحاديث المرفوعة ذلك، ولكنه روي من ثلاثة طرق حسان (كلثوم بن جبر، وعلي بن بذيمة، وعطاء بن السائب)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا. انظر: ما سبق (ص 134 - 135)، و «طبقات ابن سعد» (1/ 12، 13)، و «تفسير الطبري» (10/ 547 - 550).

(2)

في المطبوع: «كثيرًا» ، خطأ يحيل المعنى.

ص: 148

نفسه، قال تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ اِلْوَالِدَيْنِ وَاَلْأَقْرَبِينَ} [النساء: 134]، كما احتج الفقهاء بذلك على صحة الإقرار. وفي حديث ماعز بن مالك

(1)

: «فلما شهد على نفسه أربع مرَّاتٍ» ، أي: أقرَّ أربع مرَّاتٍ.

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، فإنَّهم كانوا مُقرِّين بما هو كفرٌ، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم. ومنه قوله:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ اُلْحَيَاةُ اُلدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 131]، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو أداء الشهادة على أنفسهم.

ولفظ «شَهِد فلانٌ» و «أَشْهَدَ به» يراد به تحمُّل الشهادة ويراد به أداؤها، فالأول كقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، والثاني كقوله:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135]. وقولُه: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} من هذا الثاني، ليس المراد أنَّه جعلهم يتحمَّلون الشهادة على أنفسهم ويؤدُّونها في وقتٍ آخر، فإنَّه سبحانه في مثل ذلك إنَّما يُشهِد على الرجل غيرَه، كما في قصة آدم لمَّا أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوارح على أصحابها. ولهذا قال بعض المفسرين: المعنى: أشهَدَ بعضَهم على بعضٍ

(2)

، لكن هذا اللفظ حيث جاء

(1)

أخرجه مسلم (1695) وغيره من حديث بُرَيدة بن الحُصَيب رضي الله عنه.

(2)

هو قول الطبري (10/ 546).

ص: 149

في القرآن إنَّما يُراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه.

وقولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} هو إقرارهم بأنَّه ربُّهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شَهِد به على نفسه، فإنَّ قولهم:{بَلَى شَهِدْنَا} معناه: أنت ربُّنا. وهذا إقرارٌ منهم بربوبيته لهم، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقرُّوا به. وقوله:{وَأَشْهَدَهُمْ} يقتضي أنَّه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنَّه ربُّهم.

وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم. وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريبَ فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزولُه في أرحام الأمهات، لكن لم يذكر هنا الأمهات، كقوله:{أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} ، وهم كانوا مُتَّبِعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات، كما قالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. ولهذا قال: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23].

فهو سبحانه يقول: اذكر حين أُخِذُوا من أصلاب الآباء فخُلِقوا حين وُلِدوا على الفطرة مقرِّين بالخالق، شاهدين على أنفسهم بأنَّ الله ربُّهم. فهذا الإقرار حجةٌ لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، فإنَّه سبحانه خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، فأخْذُهم يتضمَّن خلْقَهم، والإشهاد يتضمَّن هُداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنَّه قال:{أَشْهَدَهُمْ} أي: جعلهم شاهدين، فهذا الإشهاد من لوازم الإنسان، وكل إنسان جعله الله مُقِرًّا بربوبيَّته شاهدًا على نفسه بأنَّه مخلوقٌ واللهُ خالقه. وهذا أمرٌ ضروري لبني آدم لا ينفكُّ منه مخلوقٌ، وهو مما جُبِلوا عليه، فهو علمٌ ضروري لهم لا يمكن أحدًا جحدُه.

ص: 150

ثم قال بعد ذلك: {أَن يَقُولُوا} أي: كراهية أن يقولوا، أو

(1)

: لئلا يقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ، أي: عن هذا الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنَّهم ما كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخلُ منها بشرٌ قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضروريةً ولكن قد يغفُل عنها كثيرٌ من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنَّها إذا تُصوِّرت كانت علومًا ضروريةً، لكن كثيرٌ من الناس غافلٌ عنها. وأمَّا الاعتراف بالخالق فإنَّه علمٌ ضروري لازمٌ للإنسان لا يغفُل عنه أحدٌ بحيث لا يعرفه، بل لا بدَّ أن يكون قد عرفه، وإن قُدِّر أنَّه نسيه. ولهذا يُسمَّى التعريف بذلك تذكيرًا، فإنَّه تذكيرٌ بعلومٍ فِطريةٍ ضروريةٍ، وقد ينساها العبد كما قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ نَسُوا اُللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وفي الحديث الصحيح:«يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتَني»

(2)

.

ثم قال: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]، فذكر سبحانه لهم حُجَّتين يدفعهما هذا الإشهاد:

إحداهما: أن يقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ، فبيَّن أنَّ هذا علمٌ فطري ضروري لا بدَّ لكلِّ بشرٍ من معرفته. وذلك يتضمَّن حجة الله في إبطال

(1)

في الأصل: واو العطف، ولعل المثبت أشبه.

(2)

أخرجه مسلم (2968) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 151

التعطيل، وأنَّ القول بإثبات الصانع علمٌ فطري ضروري، وهو حجةٌ على نفي التعطيل.

والثاني: أن يقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ} ، وهم آباؤنا المشركون. أي: أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنَّه لو قُدِّر أنَّهم لم يكونوا عارفين بأنَّ الله ربُّهم ووجدوا آباءَهم مشركين وهم ذريةٌ مِن بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أنَّ يحتذي الرجلُ حذوَ أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي ربَّاه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه؛ فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك= قالوا

(1)

: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنَّا ذريةً لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبيِّن خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به مِن أنَّ الله وحدَه هو ربُّهم، كان معهم ما يبيِّن بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجةَ عليهم الفطرةُ الطبيعيَّة الفعلية

(2)

السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرةُ الموجِبةُ للإسلام سابقةً للتربية التي يحتجُّون بها.

وهذا يقتضي أنَّ نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجةٌ في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسولٍ، فإنَّه جعل ما تقدَّم حُجَّةً عليهم بدون هذا.

(1)

جواب «إذا» أغنى عن جواب «لو قدِّر

».

(2)

في هامش الأصل: «القولية» .

ص: 152

وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فإنَّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في

(1)

الفطرة دليلٌ عقليٌّ يعلم به إثبات الصانع= لم يكن في مجرَّد الرسالة حجةٌ عليهم. فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمَّن إقرارَهم بأنَّ الله ربُّهم ومعرفتَهم بذلك= أمرٌ لازمٌ لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله. فلا يمكن أحدًا أن يقول يوم القيامة إنِّي كنتُ عن هذا غافلًا، ولا أنَّ الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنَّه عارفٌ بأنَّ الله ربُّه لا شريكَ له، فلم يكن معذورًا في التعطيل والإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.

ثم إنَّ الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد إرسال الرسول إليه، وإن كان فاعلًا لِما يستحق به الذمَّ والعقاب، فلِلّه على عبده حُجَّتان قد أعدَّهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما:

إحداهما: ما فَطَره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنَّه ربُّه ومليكه وفاطره، وحقُّه عليه لازمٌ.

والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله.

فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويُقِرُّ على نفسه بأنَّه كان كافرًا كما قال تعالى:{وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كافِرِينَ} [الأنعام: 130]، فلم ينفِّذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدَين، وهذا غاية العدل.

(1)

«إن لم يكن في» سقط من المطبوع فاختلَّ السياق.

ص: 153

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: وقد اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة.

فقال ابن المبارك: تفسيره آخر الحديث: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . هكذا ذكر أبو عبيد

(3)

عن ابن المبارك لم يَزِد شيئًا.

وذكر عن محمد بن الحسن أنَّه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد.

قال أبو عمر: أما [ما]

(4)

ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنعٌ من التأويل، ولا شرحٌ موعبٌ

(5)

في أمر الأطفال، ولكنها جملةٌ تؤدِّي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفرٍ أو إيمانٍ، أو جنةٍ أو نارٍ، ما لم يبلغوا العمل.

قال: وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه، إمَّا لإشكاله عليه، وإمَّا لجهله به، أو لما شاء الله.

(1)

المؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 379) وما بعدها. وقد أورد المؤلف هذا الفصل في «شفاء العليل» (2/ 403 - 407) أيضًا.

(2)

في «التمهيد» (18/ 66) وما بعدها.

(3)

في «غريب الحديث» (2/ 266).

(4)

زياد من مصدرَي النقل.

(5)

في هامش الأصل: «يرغب» ، خطأ.

ص: 154

وأمَّا قوله: إنَّ ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا! فإن كان أراد أنَّ ذلك منسوخٌ، فغير جائزٍ عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله وأخبار رسوله؛ لأنَّ المُخبِر بشيءٍ كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخلُ رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطه فيما أخبر به، أو نسيانه؛ وقد عصم اللهُ رسولَه في الشريعة والرسالة منه. وهذا لا يخالف فيه أحدٌ له أدنى فَهْم، فقِفْ عليه، فإنَّه أمرٌ حتمٌ في أصول الدين.

وقول محمد: «إنَّ ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد»

(1)

ليس كما قال، لأنَّ في حديث الأسود بن سريع

(2)

ما يبيِّن أنَّ ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد.

وروى بإسناده عن الحسن، عن الأسود بن سريعٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوامٍ بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟» ، فقال رجلٌ: أَوَليس إنما هم

(3)

أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوليس خيارُكم أولادَ المشركين؟ إنَّه ليس من مولود يُولَد إلا على الفطرة حتى يبلغَ فيُعبِّر عنه لسانُه، ويهوِّدُه أبواه أو ينصِّرانه» .

قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعةٌ، منهم: بكرٌ المزني، والعلاء بن زيادٍ، والسري بن يحيى

(4)

. وقد روي عن الأحنف عن

(1)

من قوله: «فلا أدري ما هذا» إلى هنا ليس في مطبوعة «التمهيد» .

(2)

سبق تخريجه (ص 114).

(3)

«إنما هم» تصحَّف في الأصل والمطبوع إلى: «آباؤهم» !

(4)

رواية بكر في «السنة» للخلال (870)، ورواية السري عند ابن حبان (132) وغيره. وأما رواية العلاء بن زياد فلم أجدها، وأخشى أن يكون سهوًا أو سبقَ قلمٍ من حافظ المغرب وأن الصواب:«المعلَّى بن زياد» ، فإنه رواه عن الحسن كما عند الطبراني في «الأوسط» (1984) و «الكبير» (837)، وعند لوين في «حديثه» (30). وقال البيهقي في «القضاء والقدر» (ص 344) بعد أن أخرجه من طريق يونس بن عُبيد عن الحسن:«وبمعناه رواه المعلى بن زياد، وأشعث، ومبارك بن فضالة، وغيرهم عن الحسن» .

ص: 155

الأسود بن سريعٍ

(1)

، وهو حديث بصري صحيح.

وروى عوفٌ الأعرابي، [عن أبي رجاءٍ العُطاردي]

(2)

، عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كل مولود يُولَد على الفطرة» ، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:«وأولاد المشركين»

(3)

. انتهى.

(1)

لم أجد هذا الحديث من رواية الأحنف عن الأسود. والمشهور من رواية الأحنف عنه حديث آخر، وهو: «أربعة يحتجون يوم القيامة

»، وسيأتي لاحقًا.

(2)

ما بين الحاصرتين مستدرك من «التمهيد» (18/ 68)، وقد سقط من «الدرء» (8/ 382) مصدر المؤلف. وسيأتي عند المؤلف على الصواب لاحقًا (ص 235).

(3)

هذا جزء من حديث سمرة في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الطويلة التي رآى فيها صنوفًا يُعذَّبون، ورآى فيها روضة مُعْتَمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل حوله ولدان كُثُر. ثُمَّ أخبر صلى الله عليه وسلم أن «الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة» ، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم:«وأولاد المشركين» .

هكذا أخرجه البخاري (7047) وأحمد (20094) وابن أبي شيبة (31126) والنسائي في «الكبرى» (7611) والروياني في «مسنده» (836) من خمسة طرقٍ عن عوف الأعرابي به، بلفظ:«فكل مولود مات على الفطرة» . وروي باللفظ الذي ذكره ابن عبد البر: «كل مولودٍ يولد على الفطرة» عند أبي عوانة (10053) وابن حبان» (655) من طريق النضر بن شميل عن عوفٍ به. والأول أشبه، لوروده في عامَّة الطرق، ولأن الشأن هنا ليس فيمن وُلد على الفطرة وهم كل المواليد، بل فيمن مات على الفطرة قبل أن يبلغ الحنث مُهَوَّدًا أو مُنَصَّرًا. والظاهر أن اللفظ الثاني رواه النضر بالمعنى حملًا له على الحديث الآخر المشهور. والله أعلم.

ص: 156

قال شيخنا

(1)

: أمَّا ما ذكره عن ابن المبارك ومالك فيمكن أن يقال: إنَّ المقصود أنَّ آخر الحديث يبيِّن أنَّ الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأنَّ منهم مَن يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم مَن يكفر فيدخل النار، فلا يُحتجُّ بقوله:«كل مولود يُولَد على الفطرة» على نفي القدر كما احتجت القدرية به، ولا على أنَّ أطفال الكفار كلَّهم في الجنة لكونهم وُلِدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أنَّ الأطفال على ما في آخر الحديث.

وأمَّا قول محمد، فإنَّه رأى الشريعة قد استقرَّت على أنَّ ولد الكافر يَتْبَع أبوَيْه في الدين في أحكام الدنيا، فيُحكَم له بحكم الكفر في أنَّه لا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يرِثه المسلمون، ويجوز استرقاقُه، وغير ذلك، فلم يَجُز لأحدٍ أن يحتجَّ بهذا الحديث على أنَّ حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين. وهذا حقٌّ، ولكنَّه ظنَّ أنَّ الحديث اقتضى الحكمَ لهم في الدنيا بأحكام أطفال المؤمنين، فقال: هذا منسوخٌ كان قبل الجهاد، لأنَّه بالجهاد أُبِيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يُسترَقُّ. ولكن كون الطفل يَتبَع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمرٌ ما زال مشروعًا، وما زال الأطفال تبعًا لآبائهم في الأمور الدنيوية، فالحديث لم يَقصِد بيانَ هذه الأحكام، وإنما قصَدَ ما وُلِدوا عليه من الفطرة.

وإذا قيل: إنَّه وُلِد على فطرة الإسلام أو خُلِق حنيفًا ونحو ذلك، فليس

(1)

في «درء التعارض» (8/ 382).

ص: 157

المراد به أنَّه حين خرج من بطن أمِّه يعلم هذا الدين ويريده، فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا. ولكن فطرته سبحانه موجِبةٌ مقتضيةٌ لمعرفة دين الإسلام ومحبته، ففُطِروا على فطرةٍ مستلزمةٍ للإقرار بالخالق ومحبته وإخلاص الدين له، وموجَباتُ الفطرة ومقتضَياتُها تحصل شيئًا بعد شيءٍ بحسب كمال الفطرة إذا سَلِمت عن المعارض، كما أنَّ كلَّ مولودٍ يُولَد فإنَّه يُولَد على محبَّةِ ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه. وهذا من قوله تعالى:{قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 49]، وقوله:{اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 2 ــ 3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضُرُّه. ثم هذا الحُبُّ والبُغض يحصل فيه شيئًا بعد شيء، ثم قد يَعرِض لكثير من الأبدان ما يفسد ما وُلد عليه من الطبيعة السليمة.

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: وأمَّا اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله، فقالت فرقةٌ: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخِلقة التي خُلِق عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنَّه قال: كل مولود يولد على خِلقةٍ يَعرِف بها ربَّه إذا بلغ مَبلَغ المعرفة، يريد أنَّ خَلْقه مخالفٌ لخِلقة البهائم التي لا تصِل بخِلقتها إلى معرفته

(3)

. قالوا: لأنَّ الفاطر هو الخالق.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 384) و «شفاء العليل» (2/ 409).

(2)

في «التمهيد» (18/ 68).

(3)

في الأصل: «معرفة» ، ولعل المثبت من «شفاء العليل» أشبه. ولفظ «التمهيد» و «الدرء»:«معرفة ذلك» .

ص: 158

قال: وأنكرَتْ أن يكون المولود يُفطَر على إيمانٍ أو كفرٍ، أو معرفة أو إنكارٍ.

قال شيخنا: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكُّن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملة. ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته حتى يُسأل عمَّن مات صغيرًا. ولأنَّ القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير.

وهو لمَّا نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنَّهم أولاد المشركين قال: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة»

(1)

. ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل.

وإن أراد بالفطرة القدرةَ على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فإذا فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها كان ذلك مستلزمًا للإيمان ولم يتخلَّف موجَبُه ومقتضاه.

فصل

(2)

قال أبو عمر

(3)

: وقال آخرون معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» يعني: البَدْأة

(4)

التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولودٌ على ما فطر الله عليه خلقه

(1)

جزء حديث الأسود بن سريع، تقدم تخريجه.

(2)

انظر: «درء التعارض» (8/ 386) و «شفاء العليل» (2/ 410).

(3)

«التمهيد» (18/ 78).

(4)

رسمه يحتمل: «البَداءة» ، وهما بمعنى.

ص: 159

من أنَّه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم واعتقادهم.

قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة، والفاطر: المبتدئ. فكأنَّه قال: يُولَد على ما ابتدأه عليه من الشقاء والسعادة، وغير ذلك ممَّا يصير إليه. واحتجوا بقوله:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 28].

وروى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أَدرِ ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها

(1)

.

وذكروا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دعائه: اللهم جبَّار القلوب على فِطراتها شقيها وسعيدها

(2)

.

قال شيخنا: حقيقة هذا القول أنَّ كل مولود يُولَد على ما سبق في علم الله

(1)

أخرجه أيضًا أبو عبيد في «غريب الحديث» (5/ 413) ــ ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (1559) ــ والطبري (9/ 175).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (30134) والطبراني في «الأوسط» (9089) والآجري في «الشريعة» (420) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1694) وغيرهم من رواية سلامة الكندي ــ وهو مجهول، وفي رواية ابن أبي شيبة أُبهم الراوي فلم يُسمَّ ــ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دعاء طويل متكلَّفٍ فيه.

قال ابن كثير: هذا مشهور من كلام علي إلا أنَّ في إسناده نظرًا. وضعَّفه السخاوي، وقال الألباني: منكر. انظر: «تفسير ابن كثير» (الأحزاب: 56) و «القول البديع» (ص 118 - 121) و «الضعيفة» (6544).

ص: 160

أنه صائرٌ إليه، ومعلومٌ أنَّ جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودةٌ على ما سَبَق في علم الله لها، والأشجار مخلوقةٌ على ما سبق في علم الله، وحينئذ فيكون كلُّ مخلوقٍ قد خلق على الفطرة.

وأيضًا: فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه»

(1)

معنًى، فإنَّهما فَعَلا به ما هو الفطرة التي وُلِد عليها. وعلى هذا القول فلا فرق في الفطرة بين التهويد والتنصير وبين تلقين الإسلام، فإنَّ ذلك كلَّه داخلٌ

(2)

فيما سبق به العلم.

وأيضًا: فتمثيله ذلك بالبهيمة قد وُلدت جمعاء ثم جدعت يبيِّن أن أبويه غيَّرا ما وُلِد عليه.

وأيضًا: فقوله: «على هذه الملة» وقوله: «إني خلقت عبادي حنفاء»

(3)

مخالفٌ لهذا.

وأيضًا: فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنَّه مِن حين كان جنينًا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في عِلم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيصٌ بغير مخصصٍ.

وقد ثبت في «الصحيح»

(4)

أنَّه قبل نفخ الروح فيه يُكتَب رزقه، وأجله

(1)

سبق تخريجه.

(2)

في هامش الأصل: «واحد» ، خلاف مصدر النقل.

(3)

سبق تخريجهما.

(4)

للبخاري (7454) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (2643) أيضًا، ولكن ليس فيه التصريح بأن الكتابة قبل النفخ.

ص: 161

وعمله، وشقي أو سعيد. فلو قيل: كل مولود يُنفَخ فيه الرُّوح على الفطرة لكان أشبه بهذا القول، مع أنَّ النفخ هو بعدَ الكتابة.

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيهٌ بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك.

قال محمد: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.

قال أبو عمر: ما رسمه مالك في «موطئه» وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدلُّ على أنَّ مذهبه في ذلك نحو هذا.

قال شيخنا: أئمة السنة مقصودهم أنَّ الخلق كلَّهم صائرون إلى ما سبق في علم الله من إيمانٍ وكفرٍ، كما في الحديث الآخر:«إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طُبع كافرًا»

(3)

، والطبع: الكتاب، أي: كُتِب كافرًا، كما قال:«فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد»

(4)

.

وليس إذا كان الله قد كتبه كافرًا يقتضي أنَّه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنَّه لا بدَّ أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير. كما أنَّ البهيمة التي وُلدت جمعاء وقد سبق في علمه أنَّها تُجدَع= كَتَب أنها مجدوعةٌ بجدعٍ يَحدُث لها بعد الولادة، ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعةً.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 388) و «شفاء العليل» (2/ 412).

(2)

في «التمهيد» (18/ 79).

(3)

أخرجه مسلم (2661)، وقد سبق (ص 112).

(4)

جزء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه، وقد سبق آنفًا.

ص: 162

فصل

وكلام أحمد في أجوبة متعدِّدة يدلُّ على أنَّ الفطرة عنده: الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنَّه آخر قوليه، فإنَّه كان يقول: إنَّ صبيان أهل الحرب إذا سُبُوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإذا كانوا مع الأبوين فهم على دينهما، وإن سُبُوا مع أحدهما ففيه روايتان، وكان يحتج بالحديث.

ثم ذكر

(1)

نصَّ أحمد في رواية المروذي في سبي أهل الحرب أنَّهم مسلمون إذا كانوا صغارًا، وإن كانوا

(2)

مع أحد الأبوين، واحتج بقوله:«كل مولود يُولَد على الفطرة» الحديث.

وذكر نصَّه في رواية إسحاق بن منصور

(3)

: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم. وكذلك نقل يعقوب بن بختان

(4)

، قال أبو عبد الله: إذا مات أبواه، وهو صغيرٌ أُجبِر على الإسلام، وذكر الحديث:«فأبواه يهودانه وينصرانه» .

وقال في رواية عبد الكريم بن الهَيثَم العاقولي

(5)

في المجوسيين يُولَد لهما ولدٌ فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين ثم يُتوفَّى، قال: يدفنه المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» .

(1)

أي: شيخ الإسلام في «الدرء» (8/ 390) نقلًا عن «جامع الخلال» (1/ 97).

(2)

في الأصل: «كان» ، والتصحيح من مصدر النقل.

(3)

في «مسائله» (2/ 84)، وشيخ الإسلام صادر عن «جامع الخلال» (1/ 100).

(4)

في «جامع الخلال» (1/ 89).

(5)

في «جامع الخلال» (1/ 91).

ص: 163

وقال في رواية المَرُّوذي

(1)

في الأبوين الكافرين يموتان ويدعان طفلًا: يكون مسلمًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه» ، وهذا ليس له أبوان. قلت: يجبر على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا كثيرٌ في أجوبته، يحتج بالحديث على أنَّ الطفل إنَّما يصير كافرًا بأبويه، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرةُ الإسلامَ لم يكن بعدم أبويه يصير مسلمًا، فإنَّ الحديث إنَّما دلَّ على أنَّه يُولَد على الفطرة. ونقل عنه الميموني

(2)

: أنَّ الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.

فهذا آخر قولَي أبي عبد الله في الفطرة، وقد كان يقول أولًا: إنها ما فطروا عليه من الشقاوة والسعادة.

قال محمد بن يحيى الكحَّال: قلت لأبي عبد الله: «كل مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي [فطر]

(3)

الله الناس عليها: شقي أو سعيد.

وكذلك نقل الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث أنَّهم سَمِعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقوة والسعادة.

وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنَّه سأله عن قوله: «كل مولود يولد على

(1)

في «جامع الخلال» (1/ 89).

(2)

كما في «الجامع» (1/ 77).

(3)

زيادة لازمة من مصدر المؤلف.

ص: 164

الفطرة»، قال: على الشقاء والسعادة، وإليه يرجع كل ما خلق

(1)

.

وكذلك قال في رواية الحسن بن ثواب

(2)

: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يُولَد على الفطرة التي خُلِقوا عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في أم الكتاب؛ أَرفَعُ

(3)

ذلك إلى الأصل

(4)

.

قلتُ: أصحاب هذا القول يحتجون بقوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وبقوله:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]، وبقوله صلى الله عليه وسلم في خلق الجنين:«ثم يُبعَث إليه الملك فيُؤمَر بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد»

(5)

، وبقوله:«إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يومَ طُبِع كافرًا»

(6)

، وبالآثار المعروفة: الشقي من شقي في بطن أمه

(7)

، وغير ذلك من الآثار الدالة على القدر السابق، وأن الشقاوة والسعادة بقضاءٍ سابقٍ وقدرٍ

(1)

الروايات السابقة كلها في «الجامع» (1/ 79). والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 395) وما بعدها.

(2)

في الأصل: «أيوب» ، والمثبت من هامشه الصواب. والرواية في «الجامع» (1/ 77).

(3)

في الأصل: «لدفع» ، تصحيف. والمثبت من «درء التعارض» (8/ 396)، ويحتمل ضبطه:«ارْفَعْ» أمرًا. هذا، ولفظه في «الجامع»:«أرجع في ذلك» ، وهو الذي قد سبق (ص 103) أن نقله المؤلف من «الجامع» مباشرةً.

(4)

هنا انتهى النقل عن «الدرء» الذي بدأ (ص 154).

(5)

جزء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه، وقد تقدم قريبًا.

(6)

أخرجه مسلم (2661)، وقد تقدم غير مرة.

(7)

أخرجه مسلم (2645) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه.

ص: 165

متقدِّمٍ على وجود العبد. وهو حقٌّ لا ريبَ فيه، ولا نزاعَ فيه بين الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة، ولكن لا ينافي كونَ الطفل قد خُلِق على الفطرة التي هي دين الله، فإنَّ القدر السابق والعلم القديم اقتضى أن تهيَّأ له أسبابٌ تُخرِجه عن هذه الفطرة.

وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، أي

(1)

: لا يقدر أحدٌ أن يغيِّر الخِلقة التي خَلَق عليها عبادَه وفطرهم عليها مِن أنَّهم لو خُلُّوا ونفوسَهم لكانوا على الحنيفية. فخَلْقُهم على هذا الوجه لا تغييرَ له، وإنَّما التغيير بأسبابٍ طارئةٍ جاريةٍ على الخلقة.

وأمَّا قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، فغايته أن يدلَّ على أنَّه خلق الكافر كافرًا، والمؤمن مؤمنًا. وهذا متفق عليه بين الصحابة وجميع أهل السنة، وليس فيه ما ينفي كونَهم مخلوقين على فطرة الإسلام، ثم خُلِق لهم أسبابٌ أخرجَتْ من أخرجته منهم عنها.

وأمَّا قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28]، فقال سعيد بن جبيرٍ: كما كَتَب عليكم تكونون. وقال مجاهدٌ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} شقيًّا وسعيدًا. وقال أيضًا: يبعث المسلم مسلمًا والكافر كافرًا. وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ}

(2)

.

(1)

في الأصل: «أن» ، ولعل المثبت أشبه.

(2)

الآثار أخرجها الطبري (10/ 143 - 145). والمؤلف صادر عن «درء التعارض» (8/ 412).

ص: 166

وهذا يتضمَّن إثباتَ علمه وقدره السابق، وأنَّ الخلق يصيرون إليه لا محالة. وكون هذا مراد الآية غير متعيِّنٍ، فإنَّ الآية اقتضت حكمين:

أحدهما: أنَّه يُعيدهم كما بدأهم، على عادة القرآن في الاستدلال على المعاد بالبَدْأة.

والثاني: أنَّه سبحانه هدى فريقًا وأضلَّ فريقًا، فالأمر كلُّه له: بدؤهم وإعادتهم، وهداية من هدى منهم، وإضلال من أضلَّ منهم؛ وليس في شركائهم مَن يفعل شيئًا من ذلك.

وأمَّا أمر الملك بكَتْب شقاوة العبد وسعادته في بطن أمِّه، وقوله: الشقي من شقي في بطن أمه

(1)

= فحقٌّ لا يُخالِف فيه أحدٌ من أهل السنة، بل قد اتفقت كلمتهم وكلمة الصحابة قبلَهم على ذلك.

وأمَّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الغلام الذي قتله الخَضِر أنَّه طبع يوم طبع كافرًا

(2)

، فمثل ذلك سواءً. «وكافرًا» حالٌ مقدَّرةٌ لا مقارنةٌ، أي طبع مقدَّرًا كفرُه، وإلا فهو في حال كونه جنينًا وطفلًا لا يعقل كفرًا ولا إيمانًا.

فإن قيل: فإذا كان هكذا فلِمَ قتله الخَضِر؟ فالجواب ما قاله لموسى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 81]، فالله تعالى أمره بقتل ذلك الغلام لمصلحةٍ، وأَمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالكفِّ عن قتل النساء والذرية لمصلحةٍ، فكان في كلٍّ مِن أمرَيه

(3)

مصلحةٌ وحكمةٌ ورحمةٌ يشهدها أولو الألباب.

(1)

هو قول ابن مسعود، وقد سبق قريبًا.

(2)

أخرجه مسلم، وقد تقدم.

(3)

في المطبوع: «في كل ما أمر به» ، خلاف الأصل.

ص: 167

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أنَّ الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم، فقال: ألستُ بربكم؟ قالوا جميعًا: بلى، فأمَّا أهل السعادة، فقالوا: بلى، على معرفةٍ له طوعًا من قلوبهم، وأمَّا أهل الشقاوة فقالوا: بلى، كَرهًا غيرَ طوعٍ.

قالوا: ويصدِّق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82].

قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ اِلضَّلَالَةُ} [الأعراف: 28].

قال محمد بن نصرٍ المروزي

(3)

: سمعت إسحاق بن إبراهيم ــ يعني: ابن راهويه ــ يذهب إلى هذا المعنى، واحتجَّ بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 30]

(4)

. قال إسحاق: يقول: لا تبديل للخِلقة التي جَبَل عليها ولدَ آدمَ كلَّهم، يعني مِن الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 413) و «شفاء العليل» (2/ 423).

(2)

في «التمهيد» (18/ 83).

(3)

لعله في كتاب «الرد على ابن قتيبة» . وما زال النقل من «التمهيد» بواسطة «الدرء» .

(4)

سبق تخريجه.

ص: 168

واحتَجَّ بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]. قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنَّها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا: بلى، فقال: انظروا أن لا

(1)

تقولوا: إنَّا كنَّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل.

وذكر

(2)

حديث أُبَيِّ بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر

(3)

. قال: وكان الظاهر ما قاله موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 73]، فأعلم اللهُ سبحانه الخضرَ ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فُطِر عليها، وأنَّه لا تبديل لخلق الله، فأمره بقتله لأنَّه كان قد طُبِع يومَ طُبِع كافرًا.

قال إسحاق: فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبيِّن لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنَّهم لا يدرون ما جُبِل كلُّ واحدٍ عليه حين أُخرج من ظهر آدم، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حكمَ الدنيا في الأطفال:«أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن

(1)

أُعلِم عليها بالحمرة، ولم أتبيَّن المراد، ولعلها إشارة إلى استشكال الناسخ لها أو إلى عدم وجودها في نسخة أخرى.

(2)

أي: إسحاق احتجاجًا لقوله.

(3)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «الغلام الذي قتله الخضر طبعه اللهُ يوم طبعه كافرًا» . هذا لفظ إسحاق بإسناده، كما في «التمهيد» (18/ 86). وقد أخرجه مسلم (2661) بنحوه، وقد سبق غير مرة.

ص: 169

كان صغيرًا بين أبوين كافرَين أُلحِق بحكم الكفَّار، ومن كان صغيرًا بين أبوين

(1)

مسلمَين أُلحِق بحكم الإسلام. وأمَّا إيمان ذلك وكفرُه ممَّا يصير إليه فعِلْم ذلك إلى الله.

وإنَّما فضَّل الله الخضرَ في علمه بهذا على موسى ــ لمَّا أخبره بالفطرة التي فطره عليها ــ ليزداد موسى يقينًا وعلمًا بأنَّ مِن عِلم [الله]

(2)

ما لا يعلمه نبي ولا غيره، إلا قدْرَ ما علَّمهم

(3)

.

فصار الحكم على ما كان عند موسى، وما بطَنَ من علم الخضر كان الخضر مخصوصًا به. فإذا رأيتَ الصغير بين أبوين مسلمَين حكمتَ له بحكم الإسلام في المواريث والصلاة وكلِّ أحكام المسلمين، ولم تَعْتَدَّ بفعل الخضر، وذلك لأنَّه كان مخصوصًا بذلك لِما علَّمه الله من العلم الخفي، فانتهى إلى أمر الله في قتله

(4)

.

ولقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الوِلدان أفي الجنة هم ــ يعني: ولدان المسلمين والمشركين ــ؟ فقال: حسبُك ما اختصم فيه موسى والخضر

(5)

.

(1)

«كافرين

أبوين» سقط من المطبوع لانتقال النظر.

(2)

زيادة مقترحة لإقامة السياق، وقدَّرها صبحي الصالح:[الخضر]، ثم أضاف الاسم المعظم بعدُ:«إلا قدر ما علَّمهم [الله]» .

(3)

ليس في «التمهيد» (18/ 87) و «الدرء» (8/ 416) من هذه الفقرة إلا قوله: «وبعلم ذلك فَضَلَ الخضرُ موسى، إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصَّه بذلك العلم» .

(4)

لم ترد هذه الفقرة في «التمهيد» و «الدرء» .

(5)

أخرجه إسحاق في «مسنده» (2548 - ط. دار التأصيل) والحاكم (2/ 370) ــ وعنه البيهقي في «القضاء والقدر» (643) ــ بإسناد صحيح. وعزاه في «الدر المنثور» (9/ 612) إلى ابن أبي حاتم أيضًا.

ص: 170

وهو تفسير ما اقتصصنا مِن قبلُ مِن علم الله وحكمِ الناس أنَّهما مختلفان

(1)

، ألا ترى أنَّ عائشة رضي الله عنها حين قالت لمَّا مات صبيٌّ من الأنصار بين أبوين مسلمين: طوبى له، عصفورٌ من عصافير الجنة! فردَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مه يا عائشة! وما يدريكِ؟ إنَّ الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا

(2)

»

(3)

.

قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم.

قال شيخنا

(4)

: وما ذكرَتْه هذه الطائفةُ أنَّ المعنى أنَّ الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار، إن أرادوا به أنَّ الله سبق في علمه وقدَرِه بأنَّهم سيؤمنون ويكفرون، ويعرفون وينكرون، وأنَّ ذلك كان بمشيئة الله وقدَرِه وخلقه= فهذا حقٌّ لا يرُدُّه إلا القدرية. وإن أرادوا أنَّ هذه المعرفة والنكرة كانت موجودةً حين أخذ الميثاق، فهذا يتضمَّن شيئَين:

أحدهما: أنَّ المعرفة كانت موجودةً فيهم كما قال ذلك كثيرٌ من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه. فهذا إن كان حقًّا، فهو توكيدٌ لكونهم وُلِدوا على تلك المعرفة والإقرار. وهذا لا يُخالِف ما دلَّت عليه الأحاديث

(1)

«وهو تفسير

مختلفان» ليس في «التمهيد» ولا «الدرء» ، ولفظ «الدرء»: «قال إسحاق: ألا ترى

».

(2)

«وخلق النار وخلق لها أهلا» سقط من المطبوع.

(3)

أخرجه مسلم (2662) بنحوه، واللفظ لابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 88).

(4)

في «درء التعارض» (8/ 421).

ص: 171

الصحيحة من أنَّهم يُولَدون على الملة، وأنَّ الله خلقهم حنفاء، بل هو مؤيِّدٌ لها.

وأمَّا قوله: إنَّهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائعٍ وكافرٍ، فهذا لم يُنقَل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السُّدِّي في «تفسيره»

(1)

: لمَّا أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريةً بيضاء مثلَ اللؤلؤ كهيئة الذَّرِّ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح [صفحة]

(2)

ظهره اليسرى، فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذرِّ، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، وذلك قوله:{وَأَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} [الواقعة: 28]، {وَأَصْحَابُ اُلشِّمَالِ} [الواقعة: 43]. ثم أخذ منهم الميثاق، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التقيَّة، فقال هو والملائكة:{شَهِدْنَا أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} ، فليس أحدٌ من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنَّه ربُّه، وذلك قوله:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، وكذلك قوله:{قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150]، يعني يومَ أخذ الميثاق.

قال شيخنا

(3)

: فهذا الأثر إن كان حقًّا ففيه أنَّ كلَّ ولدِ آدمَ يعرف الله،

(1)

أخرجه الطبري (10/ 560 - 561) وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 85) ــ وابن تيمية صادر عنه ــ من طريق أسباط عن السدي به.

(2)

سقطت من الأصل.

(3)

«درء التعارض» (18/ 423).

ص: 172

فإذا كانوا وُلِدوا على هذه الفطرة فقد وُلِدوا على هذه المعرفة، ولكن فيه أنَّ بعضهم أقرَّ كارهًا مع المعرفة بمنزلة الذي يَعرِف الحقَّ لغيره ولا يُقِرُّ به إلا مُكرَهًا. وهذا لا يقدَح في كون المعرفة فطريةً، مع أنَّ هذا لم يبلُغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يُوثَق به، فإنَّه في تفسير السُّدِّي، وفيه أشياء قد عُرِف بطلان بعضها. وهذا هو السُّدِّي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، وهو ثقةٌ في نفسه. وأحسن أحوال هذه الأشياء أن تكون كالمراسيل إن كانت أُخِذَت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذٌ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرًا، وقد عُرف أنَّ فيها شيئًا كثيرًا ممَّا يُعلَم أنَّه باطلٌ؟ ولو لم يكن في هذا إلا معارضتُه لسائر الأحاديث التي تقتضي التسوية بين جميع الناس في ذلك الإقرار

(1)

.

وأمَّا قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 82]، إنَّما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقُلْ سبحانه: إنَّهم حين العهد الأول أسلموا طوعًا وكرهًا. يدلُّ على ذلك أنَّ ذلك الإقرار الأول جعله الله تعالى حُجَّةً عليهم عِند مَن يُثبِته، ولو كان فيهم مكرَهٌ لقال: لم أقُلْ ذلك طوعًا بل كرهًا، فلا تقوم به عليه حجةٌ.

قلت: وكذلك قوله

(2)

: «إنَّهم أقرُّوا على وجه التَقيَّة» كلامٌ باطلٌ قطعًا، فإنَّ التقيَّة: أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتِّقاء مكروهٍ يقع به لو لم يتكلَّم بالتقيَّة، وهم لم يكونوا يعتقدون أنَّ لهم ربًّا غير الله حتى يقولوا تقيةً: أنت

(1)

جواب «لو» محذوف لدلالة السياق عليه، أي: لكفى ذلك دليلًا على عدم صحته.

(2)

أي: قول السدِّي في الأثر المذكور.

ص: 173

ربُّنا، بل هم في حال كفرهم الحقيقي وعنادهم وتكذيبهم للرسل مُقِرُّون بأنَّ الله ربُّهم. وقد عرَضَ لهم ما غيَّر تلك الفطرة التي فُطروا عليها، فكانوا مع ذلك مُقِرِّين بأنَّه ربُّهم طوعًا واختيارًا لا تقيَّةً، فكيف يقولون ذلك تقيَّةً في الحال التي لم يعرِض لهم فيها شيء من أسباب الشرك، ولا كان هناك شياطين تُضِلُّهم؟ فهذا ممَّا يُعلَم بطلانُ تفسير الآية به قطعًا بلا توقُّفٍ.

وكذلك قوله: «فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا}» ، هذا خطأ

(1)

قطعًا، بل هو من تمام كلامهم وأنَّهم قالوا:{بَلَى شَهِدْنَا} ، أي: أقررنا، كما قال الرسل لما أخذ عليهم الميثاق في قوله:{لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ آاقْرَرْتُمْ وَأَخَذتُّمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 80].

وكأنَّ قائل هذا القول ظنَّ أنَّ قوله: {أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} تعليل

(2)

لقوله: {شَهِدْنَا} ، وذلك لا يلتئم علةً له، فقال:«قوله: {شَهِدْنَا} يقوله الله والملائكة» ، أي: شهدنا عليهم لئلَّا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} . ولكن ذلك تعليلٌ لأخذهم وإشهادهم على أنفسهم، أي: أشهدهم على أنفسهم فشهدوا لئلَّا يقولوا يوم القيامة ذلك. ليس المعنى: شهدنا لئلَّا يقولوا، ولكن: أشهَدَهم فشهدوا

(3)

لئلَّا يقولوا.

(1)

في الأصل والمطبوع: «خطاب» ، خطأ.

(2)

في الأصل: «تعليلًا» على توهُّم أن السياق: «ظن قولَه» .

(3)

«فشهدوا» ساقط من المطبوع.

ص: 174

يوضِّحه: أنَّ شهادتهم على أنفسهم هي المانعة من قولهم ذلك يوم القيامة، لا شهادة الله وملائكته عليهم. ولهذا يجحد العبدُ يومَ القيامة شِركه وفجوره مع شهادة الله وملائكته عليه بذلك، فيقول: لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا

(1)

منِّي ــ ولا يُقيم الله الحجة عليه

(2)

ــ فشهادته: حين تشهد عليه نفسه وتشهد عليه جوارحه، قال تعالى:{اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 64]. وهذا غاية العدل وإزالة شبه الخصوم من جميع الوجوه.

وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 150]، إنَّما معناه: لو شاء لوفَّقكم لتصديق رسله واتباع ما جاؤوا به، كما قال:{وَلَوْ شِئْنَا لَأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي اِلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدَى} [الأنعام: 36]. نعم، لو شاء في تقديره السابق لقدَّر إيمانهم جميعًا، فجاء الأمر كما قدَّره.

قال شيخنا

(3)

: وأمَّا احتجاج إسحاق بقول أبي هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا

(1)

في الأصل: «شهادًا» ، تصحيف. والمثبت لفظ حديث أنس عند مسلم (2969). ويحتمل أن يكون صوابه:«شهادةً» ، كما في المطبوع.

(2)

كذا العبارة في الأصل، ولعل فيها تصحيفًا. والمراد: أنه يظن أن الله لن يقيم الحجة عليه بهذا الشرط (أن يكون الشاهد منه). أو المعنى: أنه لا يرى أن بشهادة الله تقوم الحجة عليه.

(3)

«درء التعارض» (8/ 424).

ص: 175

إن شئتم: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، قال إسحاق: يقول: لا تبديل للخِلقة التي جبل عليها؛ فهذه الآية فيها قولان:

أحدهما: أن معناها النهي، أي: لا تُبدِّلوا دين الله الذي فطر عليه عباده. وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره كالثعلبي والزمخشري

(1)

، واختيار ابن جرير

(2)

.

والثاني: ما قاله إسحاق: أنَّها خبرٌ على ظاهرها، وأنَّ خلق الله لا يبدِّله أحدٌ، وهذا أصحُّ.

وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا يُبدَّل

(3)

، فلا يُخلَقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط. والمعنى: أن الخلق لا يتبدَّل، فيُخلقوا على غير الفطرة. ولم يُرِد بذلك أنَّ الفطرة لا تتغيَّر بعد الخلق، بل نفس الحديث يبيِّن أنَّها تتغيَّر، ولهذا شبَّهها بالبهيمة التي تُولَد جمعاء ثم تُجدَع، ولا تُولَد قط بهيمةٌ مخصيَّةً ولا مجدوعةً، وقد قال تعالى عن الشيطان:{وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} [النساء: 118]، فالله تعالى أَقدَرَ الخلقَ على أن يغيِّروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته.

وأمَّا تبديل الخلق بأن يُخلَقوا على غير تلك الفطرة، فهذا لا يقدر عليه

(1)

«الكشف والبيان» (21/ 151) و «الكشاف» (12/ 245 - فتوح الغيب).

(2)

«تفسير الطبري» (18/ 494).

(3)

في الأصل: «لا تبديل» . والتصحيح من «الدرء» .

ص: 176

إلا الله، واللهُ لا يفعله، كما قال:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} . ولم يقُل: لا تغيير، فإنَّ تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، فلا يكون خلقٌ بدل هذا الخلق، ولكن إذا غُيِّر بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الوِلادة قد حصل بَدَلُه.

وأمَّا قوله: «لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها ولدُ آدم كلُّهم من كفر وإيمان» ، فإن عنى بها أنَّ ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، فهذا حقٌّ. ولكن ذلك لا يقتضي أنَّ تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنعٌ، ولا أنَّه غير مقدورٍ، بل العبد قادرٌ على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهى الله عنه من الكفر، وعلى أن يُبدِّل حسناتِه بالسيئات، وسيئاته بالتوبة، كما قال:{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النمل: 11]، وقال:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اُللَّهُ سَيِّآتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. وهذا التبديل كلُّه بقضاء الله وقدَره. وهذا بخلاف ما فُطِروا عليه حين الولادة، فإنَّ ذلك خلق الله الذي لا يَقدِر على تبديله غيرُه، وهو سبحانه لا يبدِّله قط، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس، فإنَّه يبدِّله والعبد قادرٌ على تبديله بإقدار الله له على ذلك.

وممَّا يبيِّن ذلك أنَّه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، [فهذه فطرة محمودة أَمَر الله بها نبيه، فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أَمْرِ الله تعالى بها؟!

وقد تقدَّم تفسير السلف: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} ]

(1)

بأنَّه دين الله،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر. واستُدرك من «درء التعارض» (8/ 426) باللفظ الذي نقله به المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 430)، وفيه اختصار يسير.

ص: 177

ومنهم مَن فسره بأنَّه تبديل الخلقة بالخصاء ونحوه، ولم يقل أحد منهم إنَّ المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمانٍ إلى كفرٍ، ولا من كفرٍ إلى إيمانٍ؛ إذ تبديل ذلك موجود، وما وقع فهو الذي سبق به القدَر، والله عالمٌ بما سيكون، لا يقع خلاف معلومه، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي عَلِمه، وإن لم يقع كان عالمًا بأنَّه لا يقع.

وأمَّا قوله: «إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يومَ طُبِع كافرًا» ، فالمراد به: كُتِب وخُتِم، ولفظ «الطبع» لمَّا كان يستعمله كثيرٌ من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجِبِلَّة والخليقة ظنَّ الظَّانُّ أنَّ هذا مراد الحديث.

وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنَّه كان بالغًا مكلَّفًا

(1)

وسُمِّي غلامًا لقرب عهده بالبلوغ، وعلى هذا فلا إشكال فيه. ويحتمل أن يكون مميِّزًا عاقلًا وإن لم يكن بالغًا، وعليه يدل الحديث، وهو قوله:«ولو أدرك لأرهق أبويه»

(2)

، وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلَّفًا في تلك الشريعة إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنَّما عُلِم بشريعتنا، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلًا، كيف وقد قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ المميِّزين مكلَّفون بالإيمان قبل الاحتلام؟ كما قاله طائفةٌ من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو

(1)

في المطبوع: «مطلقًا» ، تحريف.

(2)

وهو تتمة حديث أُبيٍّ السابق.

ص: 178

اختيار أبي الخطاب

(1)

، وعليه جماعةٌ من أهل الكلام.

وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلامُ مكلَّفًا بالإيمان قبل البلوغ. ولو لم يكن مكلَّفًا، فكُفر الصبيِّ المميِّز معتبرٌ عند أكثر العلماء، فإذا ارتدَّ عندهم صار مرتدًّا له أحكام المرتدِّين، وإن كان لا يُقتَل حتى يَبلُغ فيثبت عليه

(2)

كفره. واتفقوا على أنَّه يُضرَب ويُؤدَّب على كفره أعظمَ ممَّا يُؤدَّب على ترك الصلاة.

فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغًا فلا إشكال، وإن كان مراهقًا غير بالغٍ فقتله جائزٌ في تلك الشريعة، لأنَّه قتله بأمر الله. كيف وهو إنَّما قتله دفعًا لصوله على أبويه في الدين؟ كما قال:{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]. والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله إلا بقتله

(3)

جاز قتله. بل الصبي إذا قاتل المسلمين قُتِل.

ولكن مِن أين يُعلَم أنَّ هذا الصبي اليوم يصول على أبويه أو غيرهما في دينهما حتى يَفتِنَهما عنه؟ فإنَّ هذا غيبٌ لا سبيلَ لنا إلى العلم به. ولهذا علَّق ابن عباس الفُتيا به فقال لنَجْدة

(4)

لمَّا استفتاه في قتل الغلمان: إنْ علِمتَ منهم ما علم الخَضِر من ذلك الغلام فاقْتُلْهم، وإلا فلا. رواه مسلم في

(1)

لم أقف عليه في كتب أبي الخطاب.

(2)

في هامش الأصل: «على» .

(3)

في الأصل: «لا اسام» ، غير محرَّر. والمثبت من هامشه.

(4)

في هامش الأصل: «اغده» ، غير محرر. ونجدة بن عامر الحروري من الخوارج.

ص: 179

«صحيحه»

(1)

.

ولكن يقال: قاعدة الشرع والجزاء أنَّ الله سبحانه لا يُعاقِب العِباد بما سيعلم أنَّهم يفعلونه، بل لا يُعاقِبهم إلا بعدَ فِعلهم ما يعلمون أنَّه نهى عنه وتقدَّم إليهم بالوعيد على فعله. وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنَّما فيها عِلمه بأسبابٍ تقتضي أحكامها، ولم يعلم موسى تلك الأسباب، مثل علمه بأنَّ السفينة كانت لمساكين، وأنَّ وراءهم ملكًا ظالمًا

(2)

إن رآها أخذها. فكان قلْعُ لوحٍ منها لتَسلَم جميعُها ثم يُعيده من أحسن الأحكام، وهو من دفع أعظم الشرَّين باحتمال أيسرهما. وعلى هذا، فإذا رأى إنسانٌ ظالمًا يستأصل مالَ مسلمٍ غائبٍ فدفعه عنه ببعضه كان محسنًا، ولم يلزمه ضمانُ ما دفعه إلى الظالم قطعًا، فإنَّه مُحسن وما على المحسنين من سبيل. وكذلك لو رأى حيوانًا مأكولًا لغيره يموت فذكَّاه لكان محسنًا ولم يلزمه ضمانه.

وكذلك كون الجدار لغلامَين يتيمَين وأبوهما كان صالحًا أمرٌ يعلمه الناس، ولكن خفي على موسى.

وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناسُ حتى أبواه، ولكن لحُبِّهما إياه لا يُنكِران عليه ولا يقبل منهما. وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجةٌ على أنَّه قَتل لِما يتوقع من كفره.

ولو قُدِّر أنَّ ذلك الغلام لم يكفر أصلًا، ولكن سبق في علم الله أنَّه إذا بلغ

(1)

برقم (1812/ 138 - 140).

(2)

في الأصل: «ملك ظالم» .

ص: 180

يكفر، وأَطلع الله الخضرَ على ذلك، فقد يقول القائل: قَتْلُه بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لِما علم أنَّ آباءهم لا يلدوا

(1)

إلا فاجرًا كفارًا، فدعا عليهم بالهلاك العامِّ دفعًا لشرِّ أطفالهم في المستقبل.

وقوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 29] لا ينافي كونهم مولودين على الفطرة الصحيحة، فإنَّ قوله:{فَاجِرًا كَفَّارًا} حالان مقدَّرتان، أي من سيفجر ويكفر.

فصل

(2)

وأمَّا تفسيره

(3)

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أنه

(4)

أراد به مجرَّد الإلحاق في أحكام الدنيا دون تغيير الفطرة= فهذا خلاف ما دلَّ عليه الحديث، فإنَّه شبَّه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيهًا للتغيير بالتغيير.

وأيضًا: فإنَّه ذكر هذا الحديث لما قتلوا أولادَ المشركين، ونهاهم عن قتلهم، وقال:«أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة»

(5)

، فلو أراد أنَّه تابعٌ لأبويه في الدنيا لكان هذا حجةً لهم، يقولون:

(1)

كذا على الحكاية للفظ الآية.

(2)

انظر: «درء التعارض» (8/ 430) و «شفاء العليل» (2/ 434).

(3)

أي تفسير إسحاق بن راهويه، وقد سبق حكاية قوله (ص 169).

(4)

في هامش الأصل: «إن» .

(5)

جزء من حديث الأسود بن سريع، وقد سبق (ص 114).

ص: 181

هم كفار كآبائهم فنقتلهم معهم.

وكون الصغير يَتبَع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنَّه لابُدَّ له من مُربٍّ يُربِّيه، وإنَّما يُربِّيه أبواه، فكان تابعًا لهما ضرورةً. ولهذا إذا سُبِي منفردًا عنهما صار تابعًا لسابيه

(1)

عند جمهور العلماء، وإن سُبِي معهما أو مع أحدهما، أو ماتا أو أحدهما، ففيه نزاعٌ ذكرناه فيما مضى.

واحتج الفقهاء والأئمة بهذا الحديث، ووجه الحجة منه: أنَّه إذا وُلِد على المِلَّة فإنَّما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيِّرانه عن

(2)

الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردًا عنهما لم يكن هناك من يغيِّر دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلمًا بالمقتضي السالم عن المعارض.

ولو كان الأبوان يجعلانه كافرًا في نفس الأمر بدون تعليمٍ وتلقينٍ لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر، ومعلومٌ أنَّ الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يَصِر مسلمًا؛ لأنَّه صار كافرًا حقيقةً. فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرًا حقيقةً لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعُلِم أنَّه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعًا لأبويه، لا لأنَّه صار كافرًا في نفس الأمر.

يبيِّن ذلك: أنَّه لو سباه كفارٌ ولم يكن معه أبواه لم يَصِر مسلمًا، فهو هنا كافرٌ في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوَّداه ونصَّراه ومجَّساه.

فعلم أنَّ المراد بالحديث أنَّ الأبوين يلقِّنانه الكفرَ ويعلِّمانه إيَّاه. وذَكَر

(1)

في الأصل: «لهما» ، خطأ. والتصحيح من «الدرء» ، وقد سبقت المسألة مفصَّلةً، وتأتي أيضًا في الفقرة الآتية.

(2)

في الأصل: «على» ، خطأ.

ص: 182

الأبوين لأنَّهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإنَّ كلَّ طفلٍ فلا بدَّ له من أبوين، وهما اللذان يربِّيانه مع بقائهما وقدرتهما.

ومما يبيِّن ذلك: قولُه في الحديث الآخر: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة حتى يُعرِب عنه لسانُه، فإمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا»

(1)

، فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميِّز، فحينئذ يَثبُت له أحد الأمرين. ولو كان كافرًا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يُولَد قبل أن يُعرِب عنه لسانُه.

وكذلك قوله في حديث عياض بن حمارٍ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إنَّي خَلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانًا»

(2)

= صريحٌ في أنَّهم خُلِقوا على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اجتالتْهم وحرَّمتْ عليهم الحلال وأمرتْهم بالشرك. فلو كان الطفل يصير كافرًا في نفس الأمر من حينِ يُولَد، لكونه يتبع أبوَيه في الدِّين، قبل أن يعلِّمه أحدٌ الكفرَ ويلقِّنه إيَّاه= لم يكن الشياطين هم الذين غيَّروهم

(3)

عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حينِ وُلِدوا تبعًا لآبائهم.

ومَنشَأ الاشتباه في هذه المسألة: اشتباهُ أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإنَّ أولاد الكفار لمَّا كانت تجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الوِلاية عليهم لآبائهم، وحضانةِ آبائهم لهم، وتمكينِ

(1)

أخرجه أحمد (14805) من حديث جابر، وقد سبق.

(2)

أخرجه مسلم (2865)، وقد سبق.

(3)

في الأصل: «غيَّرهم» ، خطأ.

ص: 183

آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثةِ بينهم وبين آبائهم، واسترقاقِهم إذا كان آباؤهم محاربين، وغير ذلك= صار يظُنُّ من يظُنُّ أنَّهم كفارٌ في نفس الأمر كالذي تكلَّم بالكفر وأراده وعمل به.

ومن هنا قال مَن قال: إنَّ هذا الحديث كان قبل أن تنزل الأحكام، كما قاله محمد بن الحسن

(1)

. وقد ردَّ عليه هذا القول غيرُ واحدٍ من الأئمة، فمنهم محمد بن نصر، قال في «كتاب الرد على ابن قتيبة»

(2)

: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن الحسن أنَّه سأله عن تفسير «كل مولودٍ يولد على الفطرة» ، فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر بالجهاد= فإنَّ هذا رجلٌ سُئِل عمَّا لم يُحسِنْه، فلم يدرِ ما يجيب فيه، وأَنِف أن يقول: لا أدري، فأجابه عن غير ما سأله عنه، فادَّعى أنَّه منسوخٌ، وإنَّما سأله أبو عبيد عن تفسير الحديث، ولم يسأله: أناسخٌ هو أو منسوخٌ؟ فكان الذي يجب عليه أن يفسِّر الحديثَ أولًا إن كان يُحسِن تفسيرًا، فيكون قد أجابه عمَّا سأله، ثم يخبر أنه منسوخٌ.

والذي ادَّعاه في هذا أنَّه منسوخٌ غيرُ جائزٍ، لأنَّ مَن أخبر عن شيء ثم أخبر عنه بخلاف ذلك كان مُكذِّبًا لنفسه، وذلك غيرُ جائز على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ مَن قال: سمعت كذا، أو رأيت كذا، ثم قال بعدُ: لم يكن ما أخبرت أنِّي سمعتُه ورأيتُه، أو أخبر أنَّ شيئًا سيكون، ثم أخبر أنَّه لا

(1)

فيما نقله عنه أبو عُبيد في «غريبه» ، وقد سبق (ص 104). وإلى هنا كان نقل المؤلف من «الدرء» (8/ 433)، وسيعود إليه بعد سياق ردِّ المروزي على محمد بن الحسن.

(2)

تقدم ذكره والنقل منه (ص 105 وما بعدها).

ص: 184

يكون= فقد أكذب نفسَه فيما أخبر، ودلَّ على أنَّه أخبر بما لا يعلمه، أو تعمَّد الكذب، أو قال بالظَّنِّ وكان جاهلًا ثمَّ رجع عن ظنِّه.

ولا يُعلَم أحدٌ يجوِّز الناسخ في أخبار الله غير صنفٍ من الروافض يصفونه بالبداء، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فلم يزل الله سبحانه عالمًا بما يكون، ومريدًا لما علم أنَّه سيكون، لم يستحدث علمًا لم يكن، ولا إرادةً لم تكن. فإذا أخبر عن شيء أنه كائنٌ فغيرُ جائزٍ أن يخبر أبدًا عن ذلك الشيء أنَّه لا يكون، لأنَّه لم يخبر أنَّه كائنٌ إلا وقد عَلِم أنَّه كائنٌ وأراد أن يكون، وهو الفاعل لِما يريد، العالِم بعواقب الأمور، لا تبدو له البَدَوات، ولا تحُلُّ به الحوادث، ولا تعتقبه الزيادة والنقصان. فقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولودٍ يولد على الفطرة» خبرٌ منه عن كل مولودٍ أنَّه يُولَد على الفطرة، فغير جائز أن يخبر أبدًا بخلاف ذلك فيقول: إنَّ كل مولودٍ يولد على غير الفطرة.

قال: وتفسير الحديث يدلُّ على خلاف ما قال ابن الحسن؛ قال الأسود بن سريع: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل الناس يومئذٍ حتى قتلوا

(1)

الذرية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولودٍ يولد على الفطرة» ، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوةٍ:«كل مولودٍ يولد على الفطرة» ، فأبان أنَّ هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بالجهاد، وزعم محمد بن الحسن أنَّ هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد، فخالف الخبر.

والراوي لهذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة والأسود بن سريعٍ وسمرة

(2)

.

(1)

في المطبوع: «قُتلت» .

(2)

سبق تخريجها.

ص: 185

وكلُّ هؤلاء لم يُدرِك أوَّل الإسلام؛ أسلم أبو هريرة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحوٍ من ثلاث سنين أو أربع، وكذلك الأسود بن سريعٍ وسَمُرة لم يدركا

(1)

أول الإسلام، فقوله: كان هذا في أوَّل الإسلام باطلٌ. انتهى كلامه.

قال شيخنا

(2)

: فإذا عُرِف أنَّ كونهم وُلِدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.

قال: وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمنٌ في الباطن يَكتُم إيمانَه فيَقتُله المسلمون، ولا يُصلُّون عليه، ويُدفَن في مقابر الكفار وتربة الكفار، وهو في الآخرة من أهل الجنة. كما أنَّ المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فحكم الدار الآخرة غير حكم دار الدنيا.

وقوله: «كل مولودٍ يولد على الفطرة» إنَّما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خُلِقوا عليها، وعليها الثواب في الآخرة إذا عمل بمُوجَبها وسَلِمت عن المعارض. لم يُرِد به الإخبار بأحكام الدنيا، فإنَّه قد عُلِم بالاضطرار من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ أولاد الكفار يكونون تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا، وأنَّ أولادهم لا يُنزَعون منهم إذا كان للآباء ذِمَّةٌ، وإن كانوا محاربين استُرِقَّت أولادهم، ولم يكونوا كأولاد المسلمين.

ولا نِزاع بين المسلمين أنَّ أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم، لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما: هل يُحكم بإسلامه؟

(1)

في الأصل: «يدرك» ، ولعل المثبت أشبه.

(2)

في «الدرء» (8/ 433).

ص: 186

قلت: وفيه عن أحمد ثلاث روايات منصوصات

(1)

:

إحداها: أنَّه يصير مسلمًا، واحتجَّ بالحديث.

والثانية: لا يصير بذلك مسلمًا، وهي قول الجمهور، واختيار شيخنا.

والثالثة: إنْ كَفَله المسلمون كان مسلمًا، وإلا فلا. وهي الرواية التي اخترناها، وذكرنا لفظ أحمد ونصَّه فيها

(2)

.

واحتجَّ شيخنا على أنَّه لا يُحكم بإسلامه بأنَّه إجماعٌ قديمٌ من السلف والخلف. قال: وهو ثابتٌ بالسنة التي لا ريب فيها، فقد عُلِم أنَّ أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، وأرض اليمن، وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولدٌ صغيرٌ، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة. وكذلك خلفاؤه، كان أهل الذمة في زمانهم طَبَق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان، وفيهم مِن يتامى أهل الذمة عددٌ كثيرٌ، ولم يحكموا بإسلام أحدٍ منهم، فإنَّ عقد الذِّمَّة اقتضى أن يتولى بعضُهم بعضًا، فهم يتولَّون حَضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولَّون

(3)

حضانة أولادهما.

وأحمد يقول: إنَّ الذمي إذا مات ورثه ابنُه الطفل، مع قوله: إنَّه يصير مسلمًا، لأنَّ أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم، ولأنَّ الإسلام حصل مع

(1)

تقدَّمت (ص 86 - 94) من «جامع الخلال» . وقد ذكر شيخ الإسلام في «الدرء» (8/ 434) الروايتين الأوليين دون الثالثة.

(2)

انظر: (ص 101).

(3)

في المطبوع: «يتوليان» . والمثبت من الأصل موافق لمصدر النقل.

ص: 187

استحقاق الإرث ولم يحصل قبله.

قال في «المحرر»

(1)

: «ويرث من

(2)

جعلناه مسلمًا بموته، حتى لو تُصُوِّر موتُهما ــ يعني الأبوين ــ معًا لوَرِثهما». نصَّ عليه في رواية أبي طالب

(3)

، ولفظ النصِّ في يهودي أو نصراني مات وله ولدٌ صغيرٌ فهو مسلم، إذا مات أبواه وَرِث أبويه.

وفيه رواية مخرجةٌ: أنه لا يرث، لأنَّ المانع من الميراث ــ وهو اختلاف الدين ــ قارن سببُه الحكمَ وهو الموت.

قال شيخنا

(4)

: هذا مبني على أصلٍ: وهو أنَّ الأهلية والمحلية هل يشترط تقدُّمهما على الحكم، أو تكفي مقارنتهما؟ فيها قولان في المذهب أشهرهما الثاني، والأول مذهب الشافعي. وهنا اختلاف الدين مانعٌ، فهل يشترط في كونه مانعًا ثبوتُه قبل الحكم، أو تكفي المقارنة؟ فهنا قد اشترط التقدُّم، كما ذَكر في كتاب البيوع فيما إذا باع عبدَه شيئًا وكاتَبَه

(5)

في صفقةٍ واحدةٍ أنَّه يصح البيع

(6)

، وفي الكتابة وجهان اتباعًا لأبي الخطاب والقاضي

(1)

(2/ 169). وهذا النقل ليس من «الدرء» .

(2)

في مطبوعة «المحرر» : «ممن» ، والأمر قريب فـ «من» هنا مفعول به، أي: يرث الطفلُ الأبوين اللذين جعلناه مسلمًا بموتهما.

(3)

كما في «جامع الخلال» (1/ 89)، وقد سبقت بتمام نصِّها (ص 94).

(4)

لم أجده في كتبه المطبوعة، ولعل ذلك من شرحه على «المحرر» .

(5)

في الأصل: «أو كاتبه» ، خطأ.

(6)

في «المحرر» (1/ 309): «بطل البيع» . وفي «الإنصاف» (11/ 162): «بطل البيع، وهو الصحيح من المذهب

وقيل: الصحة منصوص أحمد. واختاره القاضى، وابن عقيل فى النكاح، وأبو الخطاب».

ص: 188

في «المجرد» ، والصحيح: صحة الكتابة كما قال في «الجامع الكبير» وغيره، فإنَّ المانع أقوى، فإنَّ ثبوت الحكم في حال وجود مانعه بعيدٌ، إلا أن يقال: إنَّ مِن أصل أحمد أنَّه لو أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة استحق الميراث، فكيف يجعل الإسلام مانعًا وهو لو أسلم بعد موت قريبه الكافر لم يمنع الميراث، ولأنَّ الولاء بين الأب وابنه كانت ثابتةً إلى حين الموت، وما يحدث بعد الموت لا عبرة به.

قال القاضي في ضمن المسألة: واحتُجَّ بعين المُنازَع فيه بأن الحكم بإسلامه يوجب توريث المسلم من الكافر، لأنَّ عندكم أنه يرث الميت منهما. وهذا لا يجوز لأنَّ ثبوت الميراث واختلاف الدين أوجبهما

(1)

الموت، فهما يلتقيان في زمانٍ واحدٍ، فلا يصح اجتماعهما، كما لو قال لعبده: إذا مات أبوك فأنت حرٌّ، فلمَّا اجتمع الميراث والحرية في زمانٍ واحدٍ ــ وهو ما بعد الموت ــ لم يرث، كذلك هاهنا.

قال: والجواب أنَّ هذا يَبطُل بالوصية لأمِّ ولده، فإنَّ الوصية تستحقُّ بالموت، والحرية التي بها تصحُّ الوصية تستحقُّ أيضًا بالموت

(2)

، ومع هذا فإنَّهما تجتمعان، فتحصل الحرية وتصح بالوصية.

قال: وجوابٌ آخر: وهو أنَّه وإن كانا يلتقيان في زمانٍ واحدٍ إلا أنَّ حقَّه

(1)

في المطبوع: «أوجبه» ، خلاف الأصل.

(2)

«والحرية

بالموت» سقط من المطبوع.

ص: 189

ثابتٌ في ماله إلى حين الوفاة، واختلاف الدين ليس معين

(1)

من جهة الوارث، فلا يسقط حقُّه من الميراث، كالطلاق في المرض. ويفارق العبدَ لأنَّه لا حقَّ له في الميراث، فلهذا إذا التقيا بعد الموت لم يرث.

وجوابٌ آخر: أنَّه لا يمتنع أن يحصل الميراث قبل اختلاف الدين، كما قال الجميع في رجلٍ مات وترك ابنين وألفَ درهمٍ وعليه دَينٌ ألفُ درهمٍ: إنهما لا يرثان الألف، ولو مات أحد الابنين وترك ابنًا، ثم أبرأ الغريمُ، أخذ ابنُ الميت حِصَّتَه بميراثه عن أبيه، وإن لم يكن مالكًا له حين الموت، لكن جعل في حكم من كان مالكًا لتقدُّم سببه.

قال شيخنا: أمَّا مسألة الحرية، فإنَّها تصلح أن تكون حجةً للقاضي لا حجةً عليه، لأنَّ الحرية شرطٌ كما أنَّ الكفر مانعٌ، وكما أنَّ مقارنة الشرط لا تؤثِّر ولا تفيد فيها، فكذلك مقارنة المانع. وهكذا كان القاضي قد نقض عليهم بهذه الصورة؛ أولًا ذكرها في جوابه، وهذا جيدٌ. ثم ذكرها في حجتهم مع أنَّ هذه الصورة فيها نظر، فإنَّ [الحرية]

(2)

حدثَتْ قبل انتقال الإرث إلى غيره.

قلت: وهذا من أصحِّ شيء، لأنَّ النسب علة الإرث، ولكن منع من إعمال النسب مانعُ الرق، ثم زال المانع قبل انتقال الإرث إلى غير الولد، فلو

(1)

كذا في الأصل، أخشى أن يكون فيه تصحيف.

(2)

بياض في الأصل مقدار كلمة، وقدَّرها صبحي الصالح:«مقارنة المانع» ، ولا يصح. والمثبت يؤيده قول المؤلف الآتي: «

مانع الرق، ثم زال المانع قبل انتقال الإرث إلى غير الولد».

ص: 190

مَنَعناه الإرثَ لعطَّلنا إعمال النسب في مقتضاه مع أنَّه لا مانعَ له حين اقتضائه، فإنَّ النسب

(1)

اقتضى حُكمَه بالموت، وهو في هذه الحال لا مانعَ له، وهذا ظاهرٌ جدًّا.

قال القاضي: فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال وجعفر بن محمد

(2)

ــ واللفظ له ــ في نصراني مات، وله امرأةٌ نصرانيةٌ حُبلى، فأسلمَت بعد موته ثم وَلدَت: لا يرث الولد، إنَّما مات أبوه وهو لا يُعلَم ما هو، وإنما يرِث في الولادة، ويحكم [له بحكم]

(3)

بالإسلام. فظاهرُ هذا أنَّه حَكَم بإسلامه، ولم يَحكم بالميراث.

قيل: يحتمل أن يُخرَّج من هذا روايةٌ: أنَّا نحكم بإسلامه ولا نحكم له بالميراث، وهو القياس لئلَّا يرث مسلم من كافرٍ. ويحتمل أن يفرَّق بينهما، فإذا مات أحدهما ــ وهو مولودٌ ــ حُكم بإسلامه ووَرِثه، وإن كان حملًا حكم بإسلامه ولم يرثه. وهو ظاهر تعليل أحمد، لأنَّه قال:«إنَّما مات أبوه وهو لا يُعلَم ما هو» ، لأنَّه إذا أسلمت الأمُّ فالمانع قويٌّ لأنَّه مُجمَعٌ عليه، وإذا مات الأب فهو ضعيف لأنه مختلفٌ فيه.

قلت: هذه الرواية لا تُعارِض نصَّه على الميراث في المسألة المتقدمة، لأنَّ الميراث إنَّما يثبت بالوضع، والإسلام قد تقدَّم عليه، وأنَّه ثبت له حكم الإسلام بسببين: متفقٍ عليه، ومختلفٍ فيه، وكلاهما سابقٌ على سبب

(1)

في الأصل: «السبب» ، ولعل المثبت أولى.

(2)

أسندهما الخلال في «الجامع» (2/ 407).

(3)

من «الجامع» ، ولعله سقط لانتقال النظر.

ص: 191

الإرث، فوُجِد سببُ الإرث بعد سَبْق الإسلام. وفي مسألتنا وُجِد الإرث والإسلام معًا لاتِّحاد سببهما. والله أعلم.

قلت: ما ذكره شيخنا

(1)

إنَّما يدل على أنَّ الطفل إذا كفَلَه أقاربُه من أهل الذِّمَّة فهو على دينهم، ولا يدلُّ على أنَّه لا نحكم بإسلامه إذا كفَلَه المسلمون.

فصل

وأمَّا قول إسحاق: إنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأعراف: 172] أنَّها الأرواح قبل الأجساد، فإسحاق ــ رحمه الله تعالى ــ قال بما بلغه، وانتهى إلى علمه، وليس ذلك بإجماع، فقد اختلف الناس: هل خُلِقت الأرواح قبل الأجساد

(2)

أو معها؟ على قولين حكاهما شيخنا

(3)

وغيره.

وهل معنى الآية: أخذُ الذرية بعضهم من بعضٍ وإشهادُهم بما فطرهم عليه، أو إخراجهم من ظهر آدم واستنطاقهم؟ على قولين مشهورين.

والذين قالوا: إنَّ الأرواح خُلِقت قبل الأجساد ليس معهم نصٌّ من

(1)

مما سبق (ص 61) من أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وغيرها، وكان فيهم من يموت وله ولدٌ صغيرٌ، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة، ولا خلفاؤه من بعده.

(2)

في المطبوع: «الأجساد قبل الأرواح» ، وهو مقتضى ما في هامش الأصل. والمثبت من متنه هو الصواب.

(3)

انظر: «درء التعارض» (8/ 422).

ص: 192

كتاب الله ولا سنَّة رسوله، وغاية ما معهم قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية، وقد عُلِم أنَّها لا تدلُّ على ذلك.

وأمَّا الأحاديث التي فيها أنَّه أخرجهم مثل الذَّرِّ، فهذا هل هو أشباحهم أو أمثالهم؟ فيه قولان، وليس فيها صريحٌ بأنَّها أرواحهم.

والذي دلَّ عليه القرآن والسنة والاعتبار: أنَّ الأرواح إنَّما خُلِقت مع الأجساد أو بعدها، فإنَّ الله سبحانه خَلَق جسدَ آدم قبل رُوحِه، فلمَّا سوَّاه وأَكمَل خَلْقَه نفخ فيه من رُوحه، فكان تعلُّق الروح به بعد خلق جسده

(1)

.

وكذلك سُنَّته سبحانه في خلق أولاده، كما دلَّ عليه حديث عبد الله بن مسعودٍ المتفق على صحته

(2)

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الرُّوح» .

وقد غلِط بعض الناس حيث ظَنَّ أنَّ نفخ الروح إرسالُ الروح وبعثُها إليه، وأنَّها كانت موجودةً قبل ذلك، ونفخُها تعلُّقُها به. وليس ذلك مراد الحديث، بل إذا تكامل خلقُ الجنين أرسل الله إليه المَلَك فنفخ فيه نفخةً، فتَحْدُث الرُّوحُ بتلك النفخة، فحينئذ حدثَتْ له الروحُ بواسطة النفخة.

وكذلك كان خلق المسيح: أرسل الله الملكَ إلى أمِّه، فنفخ في فرجها نفخةً فحمَلَت بالمسيح، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا

(1)

وقد بحث المؤلف هذه المسألة بالتفصيل في المسألة الثامنة عشرة من «كتاب الروح» (2/ 453 - 510).

(2)

البخاري (3208) ومسلم (2643)، وقد سبق غير مرة.

ص: 193

بَشَرًا سَوِيًّا (16) قَالَتْ إِنِّيَ أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (17) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِاَهَبَ

(1)

لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 - 19].

وهذا صريحٌ في إبطال قول من قال: إنَّ هذه الروح التي خاطبها هي روح المسيح

(2)

، فإنَّ روح المسيح إنَّما حدثَتْ من تلك النفخة التي نفخها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكيف يقول المسيح لأمِّه: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ

(3)

لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}؟ وكيف يكون قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 90] أي: مِن روح ولدها، فتكون روح المسيح هي النافخةَ لنفسها في بطن أمه؟! وهذا قول تَكثُر الدلائل على بطلانه، وإنَّما أشرنا إلى ذلك إشارةً.

فصل

وقالت طائفةٌ أخرى

(4)

: لم يُرِد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الفطرة هاهنا كفرًا ولا إيمانًا، ولا معرفة ولا إنكارًا. وإنَّما أراد أنَّ كلَّ مولود يُولَد على السلامة

(1)

رسمه في الأصل: «ليهب» على لفظ قراءة أبي عمرو، وهي قراءة نافع ويعقوب أيضًا، فإنهم قرأوا بالياء على الغيبة، أي: ليهب لكِ اللهُ؛ ولكن المصاحف جميعها اتفقت على رسمها بالألف بعد اللام وإن كان قد قرئ بالياء في قراءات سبعية كما سبق. انظر: «مختصر التبيين لهجاء التنزيل» (4/ 828) و «النشر» (2/ 317).

(2)

هو قول أبي العالية كما سبق (ص 139 - 140).

(3)

كذا في الأصل هنا على قراءة الهمزة للمتكلم، خلافًا لقراءة أبي عمرو التي سبقت آنفًا. والظاهر أن المؤلف قصد هذه القراءة بعينها هنا لأنها تبيِّن ضعف هذا القول، إذ كيف يقول روح المسيح:{لأَهَب لك غلامًا زكيًّا} ، فيكون الواهب هو الموهوب نفسه؟!

(4)

كما في «درء التعارض» (8/ 442) و «شفاء العليل» (2/ 441) نقلًا عن «التمهيد» (18/ 69).

ص: 194

خِلقةً وطَبعًا وبِنْيةً، وليس معه كفرٌ ولا إيمانٌ، ولا معرفة ولا إنكارٌ، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ.

واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء (يعني: سالمةً)، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء (يعني: مقطوعة الأذن)؟»

(1)

، فمثَّل قلوب بني آدم بالبهائم، لأنَّها تولد كاملة الخلق لا يتبيَّن فيها نقصانٌ، ثم تُقطَع آذانها بعدُ وأنوفها، فيقال: هذه بحائر، وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفرٌ حينئذ ولا إيمانٌ، ولا معرفة ولا إنكارٌ، كالبهائم السالمة

(2)

، فلمَّا بلغوا استهوَتْهم الشياطين، فكفر أكثرُهم، وعصم الله أقلَّهم.

قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيءٍ من الكفر أو الإيمان في أوَّليَّة أمرهم ما انتقلوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، ويكفرون ثم يؤمنون.

قالوا: ويستحيل أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا، لأنَّ الله أخرجه في حالٍ ما يفقهون

(3)

فيها شيئًا، قال تعالى:{وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فمن لم يعلم شيئًا استحال منه كفرٌ أو إيمانٌ، أو معرفة أو إنكارٌ.

قال أبو عمر

(4)

: هذا القول أصحُّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد

(1)

سبق مرارًا.

(2)

في الأصل: «السائمة» ، تصحيف. وقد سبق على الصواب آنفًا.

(3)

كتب فوقه في الأصل: «يفقه» ، وعليه المطبوع.

(4)

في «التمهيد» (18/ 70)، والنقل من «الدرء» (8/ 443).

ص: 195

الولدان عليها، وذلك أنَّ الفطرة: السلامةُ والاستقامةُ، بدليل قوله في حديث عياض بن حمارٍ:«إنَّي خلقت عبادي حنفاء»

(1)

يعني على استقامةٍ وسلامةٍ، وكأنَّه ــ والله أعلم ــ أراد الذين خَلَصُوا من الآفات كلِّها والمعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية، إذ لم يعملوا بواحدةٍ منهما.

ومن الحجة أيضًا في هذا: قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 14]، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

قال شيخ الإسلام

(2)

: هذا القائل إن أراد بهذا أنَّهم خُلِقوا خَالِين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام= فهذا قول فاسد، لأنَّه حينئذ لا فرقَ بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب. فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يجعلانه مسلمًا ويهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه. فلمَّا ذكر أنَّ أبويه يكفِّرانه دون الإسلام عُلِم أنَّ حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر.

وأيضًا: فإنَّه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامةٌ ولا عطبٌ، ولا استقامةٌ ولا زيغٌ، إذ نسبتُه إلى كلٍّ منهما نسبةٌ واحدةٌ، وليس هو بأحدهما

(1)

أخرجه مسلم (2865)، وقد سبق غير مرة.

(2)

في «درء التعارض» (8/ 444).

ص: 196

أولى منه بالآخر، كما أنَّ الورق قبل الكتابة لا يثبت له حكمُ مدحٍ ولا حكم ذمٍّ، والتراب قبل أن يبنى مسجدًا أو كنيسةً لا يثبت له حكمُ واحدٍ منهما. وبالجملة: فكلُّ ما كان قابلًا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحِقَّ مدحًا ولا ذمًّا، والله تعالى يقول:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: 29]، فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها، فكيف لا تكون ممدوحةً؟!

وأيضًا: فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شبَّهها بالبهيمة المجتمعة الخَلْق، وشبَّه ما يَطرَأ عليها من الكفر بجَدْعِ الأنف والأذن، ومعلومٌ أنَّ كمال الخِلقة ممدوحٌ ونقصَها مذمومٌ، فكيف تكون قبل النقص لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

فصل

(1)

وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفةٌ من الناس أنَّ المعنى أنَّهم وُلِدوا على الفطرة السليمة التي لو تُرِكت على صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الصحة= فهذا القول قد يقال: إنه لا يَرِد عليه ما يرد على الذي قبله، فإنَّ صاحبه يقول: في الفطرة قوةٌ تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن الصحيح قوةٌ يحبُّ بها

(2)

الأغذيةَ النافعة. وبهذا كانت محمودةً، وذُمَّ من أفسدها.

لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية، هل هي كافيةٌ في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلةٍ

(1)

الفصل من المؤلف، ولا يزال الكلام لشيخ الإسلام.

(2)

في الأصل: «لها» ، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» (2/ 444).

ص: 197

تتعلَّمها من خارج؟ فإن كانت المعرفة تَقِف على أدلةٍ تتعلَّمها من خارج أمكن أن توجد تارةً، وتعدم أخرى. ثم ذلك السبب الخارج امتنع أن يكون مُوجِبًا للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون مُعرِّفًا ومُذكِّرًا، فعند ذلك إن وجب حصولُ المعرفة كانت المعرفة واجبةَ الحصول عند وجود تلك الأسباب، وإلَّا فلا.

وحينئذٍ فلا يكون فيها إلا قبولُ المعرفة والإيمان إذا وَجَدتْ مَن يعلِّمها أسبابَ ذلك، و [معلوم أن فيها قبولَ الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلِّمها]

(1)

أسبابَ ضدِّه من التهويد والتنصير والتمجيس. وحينئذٍ فلا فرقَ فيها بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنَّما فيها قوةٌ قابلةٌ لكلٍّ منهما واستعدادٌ له، لكن يتوقَّف على المؤثِّر الفاعل من خارج. وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه، وبيَّنَّا أنَّه ليس في ذلك مدحٌ للفطرة.

وإن كان فيها قوةٌ تقتضي المعرفة بنفسها ــ وإن لم يوجد من يعلِّمها أدلَّة المعرفة ــ لَزِم حصول المعرفة فيها بدون ما تسمعه

(2)

من أدلَّة المعرفة، سواءٌ قيل: إن المعرفة ضروريةٌ فيها، أو تحصل بأسبابٍ كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن تسمع كلامَ مستدلٍّ، فإنَّ النَّفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا تحتاج معه إلى كلام أحدٍ. فإن كان كلُّ مولود يُولَد على هذه الفطرة، لزم أن يكون المقتضي للمعرفة حاصلًا لكلِّ مولود، وهو المطلوب، والمقتضي التام يستلزم مقتضاه.

(1)

ما بين الحاصرتين من «الدرء» (8/ 446)، وبه يستقيم المعنى.

(2)

في هامش الأصل: «تعرفه» ، خلاف مصدر النقل.

ص: 198

فتبيَّن أنَّ أحد الأمرين لازمٌ: إمَّا كون الفطرة مستلزمةً للمعرفة، وإمَّا استواء الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها.

وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكنٌ بلا ريبٍ؛ فإمَّا أن تكون هي مُوجِبةً مُستلزِمةً له، وإمَّا أن يكون مُمكِنًا

(1)

بالنسبة إليها ليس بواجبٍ لازمٍ لها. فإن كان الثاني لم يكن فرقٌ بين الكفر والإيمان، إذ كلاهما ممكنٌ بالنسبة إليها. فتبيَّن أنَّ المعرفة لازمةٌ لها واجبةٌ، إلا أن يُعارِضها مُعارِضٌ.

فإن قيل: ليست موجِبةً مستلزمةً للمعرفة، ولكنَّها إليها أميل مع قبولها للنكرة.

قيل: فحينئذٍ إذا لم تستلزم المعرفةَ، وُجِدت تارةً وعدمت أخرى، وهي وحدَها لا تُحصِّلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام في ذلك كالتهويد والتنصير والتمجيس. ومعلومٌ أنَّ هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض، لكن مع ذلك لمَّا لم تكن الفطرة مقتضيةً لشيء منها أضيفت إلى السبب. فإن لم تكن الفطرة مقتضيةً للإسلام صارت نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن يُذكَر كما ذُكِر ذلك.

وهذا كما لو كانت لم تقتضِ الأكل

(2)

إلا بسببٍ منفصل

(3)

. والنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أي: الإيمان. وفي الأصل: «ممكنة» ، خلاف مقتضى السباق واللحاق، وخلاف مصدر النقل.

(2)

في الأصل والمطبوع: «الأجل» ، تصحيف. والتصحيح من هامش الأصل.

(3)

أي: ولكنه ليس كذلك، فإن الفطرة تقتضيه بنفسها. والسياق في «الدرء» (8/ 448):«وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتضِ الأكل عند الجوع مع القدرة عليه، لم يوجد الأكلُ إلا بسببٍ منفصل» ، فيحتمل أن يكون المؤلف أثبته كذلك فسقط ما تحته خط من الناسخ لانتقال النظر. ويحتمل أنه اختصره كما هو المثبت، ويؤيده سياق المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 446).

ص: 199

شبَّه اللَّبَن بالفطرة لمَّا عُرِض عليه اللَّبَن والخمْر، واختار اللَّبَن، فقال له جبريل:«أصبتَ الفِطرةَ، ولو أخذتَ الخمرَ لَغَوَتْ أمَّتُك»

(1)

. والطفل مفطورٌ على أنَّه يختار شُربَ اللبن بنفسه، فإذا تمكَّن من الثدي لزم أن يرتضع لا مَحالة، فارتضاعه ضَروري إذ لم يوجَد معارض، وهو مولود على أن يرتضع. فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجَد معارض.

وأيضًا: فإنَّ حُبَّ النَّفس وخضوعَها لله تعالى وإخلاصَ الدين له، والكفرَ والشركَ والنفورَ والإعراضَ عنه= إمَّا أن تكون نسبتهما إلى الفطرة سواءً، أو

(2)

الفطرة مقتضية للأول دون الثاني. فإن كانا سواءً لزم انتفاء المدح، ولم يكن فرقٌ بين اقتضائها للكفر واقتضائها للإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها، وهذا باطلٌ قطعًا.

وإن كان فيها مقتضٍ للأول دون الثاني، فإمَّا أن يكون المقتضي مستلزمًا لمقتضاه عند عدم المعارض، وإمَّا أن يكون متوقِّفًا على شخصٍ خارجًا

(3)

(1)

أخرجه البخاري (3437) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: «إذ» ، تصحيف.

(3)

كذا في الأصل منصوبًا على الحال.

ص: 200

عنها. فإن كان الأوَّل ثبت أنَّ ذلك من لوازمها، وأنَّها مفطورةٌ عليه

(1)

لا يُفقَد إلا إذا أفسدت الفطرة. وإن قيل: إنَّه متوقِّفٌ على شخص، فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفيةً كما يجعلها مجوسيةً، وحينئذٍ فلا فرقَ بين هذا وهذا. وإذا قيل: هي إلى الحنيفية أميَل كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل.

فتبيَّن أنَّ فيها قوةً مُوجِبةً للحبِّ لله والذلِّ له وإخلاص الدين له، وأنَّها موجِبةٌ لمقتضاها إذا سَلِمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شُرب اللَّبن الذي فُطِرت على محبَّته وطلبه.

فصل

(2)

وممَّا يبيِّن هذا أنَّ كلَّ حركةٍ إراديةٍ فإنَّ المُوجِب لها قوةٌ في المريد، فإذا أمكن الإنسانَ أن يحبَّ اللهَ ويعبدَه ويُخلِصَ له الدين كان فيه قوةٌ تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحيِّ المريد الفاعل. ولا يشترط في إرادته إلا مجرَّد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبَّة لله إذا شعرت به يقتضي حبَّه إذا لم يحصل معارضٌ. وهذا موجودٌ في محبَّة الأطعمة والأشربة والنكاح، ومحبة العلم، وغير ذلك.

وإذا كان كذلك، وقد ثبت في النفس قوة المحبَّة لله والذلِّ له وإخلاص الدين له، وأنَّ فيها قوةَ الشعور به= لَزِم قطعًا وجود المحبَّة فيها والذلِّ في

(1)

في الأصل: «على» ، تصحيف.

(2)

الفصل من المؤلف، ولا يزال النقل من «الدرء» (8/ 449).

ص: 201

الفعل

(1)

، لوجود المقتضي الموجِب إذا سَلِم عن المعارض. وعُلِم أنَّ المعرفة والمحبة لا يُشترط فيهما وجودُ شخصٍ منفصل وإن كان وجودُه قد يذكِّر ويحرِّك، كما إذا خُوطِب الجائع بوصف الطعام، والمغتلم بوصف النساء، فإنَّ هذا مما يذكر ويحرك، لكن لا يشترط ذلك لوجود الشهوة. فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقَّف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذلِّ له ومحبته، وإن كان ذلك مذكرًا ومحركًا ومزيلًا للمعارض المانع.

وأيضًا: فالإقرار بالصانع بدون عبادته والمحبة له وإخلاصِ الدين له لا يكون نافعًا، بل الإقرار مع البغض أعظم استحقاقًا للعذاب. فلا بد أن يكون في الفطرة مقتضٍ للعلم ومقتضٍ للمحبة، والمحبةُ مشروطةٌ بالعلم، فإنَّ ما لا يَشعُر به الإنسان لا يحبُّه، ومحبَّة الأشياء المحبوبة لا تكون بسبب من خارج، بل هي أمرٌ جبليٌّ فطريٌّ. وإذا كانت المحبَّة فطريَّةً فالشعور فطريٌّ. ولو لم تكن المحبَّة فطريَّةً لكانت النفس قابلةً لها ولضِدِّها على السواء، وهذا ممتنع.

فعُلِم أن الحنيفية من موجَبات الفطرة ومقتضَياتها. والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال

(2)

الحنيفية، وذلك مستلزمٌ للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم؛ فعُلِم أنَّ الفطرة ملزومةٌ لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمةٌ لها، وهو المطلوب.

(1)

في «الدرء» : «بالفعل» ، وكذا في «الشفاء» (2/ 447)، وهو أولى.

(2)

في الأصل: «الأعمال» ، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» (2/ 451).

ص: 202

فصل

في تلخيص هذه الأقوال التي حكيناها

* فمنها قولان من جنسٍ واحدٍ وهما:

قول من يقول: وُلِدوا على ما سبق به القدر.

وقول من يقول: وُلِدوا على وجود المقدَّر، وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول طوعًا وكرهًا.

* وقولان من جنسٍ، وهما:

قول من يقول: وُلِدوا قادرين على المعرفة.

وقول من يقول: وُلِدوا قابلين لها وللتهوُّد والتنصُّر: إما مع التساوي، أو مع رجحان القبول للإسلام.

* وقولان من جنسٍ، وهما:

قول من يقول: وُلِدوا على فطرة الإسلام.

وقول من يقول: وُلِدوا على الإقرار بالصانع، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق.

* وقولان من جنسٍ، وهما:

قول من يقول: وُلِدوا على سلامة القلب وخلوِّه من الكفر والإيمان.

وقول من يقول: وُلِدوا مُهيَّئين لذلك قابلين له.

* وقولان من جنسٍ، وهما:

ص: 203

قول من يقول: الحديث منسوخٌ.

وقول من يَقِف في معناه.

والصحيح من هذه الأقوال: ما دل عليه القرآن والسنَّة أنَّهم وُلِدوا حُنَفاء على فطرة الإسلام، بحيث لو تُركوا وفِطَرَهم لكانوا حُنفاء مسلمين، كما وُلِدوا أصِحَّاء كاملي الخِلقة، فلو تُركوا وخَلقهم لم يكن فيهم مجدوع ولا مشقوق الأذن. ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك شرطًا مقتضيًا غير الفطرة، وجعل خلاف مقتضاها من فعل الأبوين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: «إني خلقتُ عبادي حنفاء، وإنَّهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم»

(1)

، فأخبر أنَّ تغيير الحنيفية التي خُلِقوا عليها بأمرٍ طارئ من جهة الشيطان. ولو كان الكفار منهم مفطورين على الكفر لقال: خلقتُ عبادي مشركين، فأتتهم الرسل فاقتطعتهم عن ذلك! كيف وقد قال:«خلقتُ عبادي حنفاء كلَّهم» ؟! فهذا القول أصح الأقوال، والله أعلم.

* * * *

(1)

سبق تخريجه.

ص: 204

ذكر أحكام أطفالهم في الآخرة

واختلاف الناس في ذلك، وحجَّة كلِّ طائفةٍ على ما ذهبت إليه

وبيان الراجح من أقوالهم

(1)

فذهبت طائفةٌ من أهل العلم إلى التوقُّف في جميع الأطفال، سواءٌ كان آباؤهم مسلمين أو كفارًا، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة.

وخالفهم في ذلك آخرون، فحكموا لهم بالجنة، وحكوا الإجماع على ذلك. قال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحدٌ أنَّهم في الجنة

(2)

.

واحتجَّ أرباب التوقف بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعودٍ وأنس بن مالك وغيرهما: «إنَّ الله وكَّل بالرحم مَلَكًا، فإذا أراد الله أن يقضيَ خَلْقه قال الملَك: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك، وهو في بطن أمِّه»

(3)

.

وكذلك قوله في حديث ابن مسعودٍ: «ثم يُرسَل إليه الملك، فيُؤمَر بأربع كلماتٍ: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد» . متفقٌ على صحته.

(1)

وقد فصَّل المؤلف القول في هذه المسألة أيضًا في «طريق الهجرتين» (2/ 841 - 877)، كما ذكرها باختصار في «تهذيب السنن» (3/ 206 - 222).

(2)

إنما قال ذلك في أطفال المسلمين، وسيأتي نصُّ الرواية عنه.

(3)

هذا لفظ حديث أنس، أخرجه البخاري (318) ومسلم (2646). وأما حديث ابن مسعود المتفق عليه فقد سبق مرارًا. وفي الباب حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه عند مسلم (2645).

ص: 205

ووجه الدلالة من ذلك أنَّ جميع من يُولَد من بني آدم إذا كُتب السعداء منهم والأشقياء قبل أن يُخلَقوا وجب علينا التوقُّف في جميعهم، لأنَّا لا نعلم هذا الذي تُوفِّي منهم: هل هو ممن كُتِب سعيدًا في بطن أمِّه أو كُتِب شقيًّا.

واحتجت هذه الطائفة بما رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا! عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أَوْ

(2)

غيرُ ذلك يا عائشة؛ إنَّ الله خلق للجنَّة أهلًا: خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا: خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم».

وفي لفظ آخر: «وما يُدريكِ يا عائشة؟»

(3)

.

قالوا: فهذا الحديث صحيح صريح في التوقُّف فيهم، فإنَّ الصبِيَّ كان من أولاد المسلمين، ودُعِي النبي صلى الله عليه وسلم ليصلِّيَ عليه كما جاء ذلك منصوصًا عليه.

قال الآخرون: لا حجة لكم في شيء ممَّا ذكرتم.

أمَّا حديث ابن مسعود وأنس، فإنَّما يدلُّ على أنَّ الله سبحانه كتب سعادة الأطفال وشقاوتهم وهم في بطون أمهاتهم، ولا ينفي أن تكون الشقاوة

(1)

رقم (2662/ 31).

(2)

قيل في ضبطه: «أَوَ غير ذلك

؟» على الاستفهام، لكنه خلاف الظاهر. انظر:«مشارق الأنوار» (1/ 53).

(3)

أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1/ 141) وابن عساكر في «معجم الشيوخ» (1248) والذهبي في «السير» (14/ 462).

ص: 206

والسعادة بأشياءَ علمها سبحانه منهم، وأنَّهم عامِلوها لا محالة، تفضي بهم إلى ما كتبه وقدَّره، إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة مَن يُشقيه منهم بأنَّه يُدرِك ويعقل ويكفر باختياره.

فمن يقول: أطفال المؤمنين في الجنة، يقول: إنَّهم لم يُكتَبوا في بطون أمهاتهم أشقياء، إذ لو كُتِبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمنَ التكليف، ويفعلوا الأسباب التي قُدِّرت وُصلةً إلى الشَّقاوة التي تُفضي بصاحبها إلى النار، فإنَّ النار لا تُدخَل إلا جزاءً على الكفر والتكذيب الذي لا يُمكِن إلا من العاقل المُدرِك. والدليل على ذلك قوله تعالى:{فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا اَلْأَشْقَى (15) اَلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى} [الليل: 14 - 16]، وقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ (9) فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 8 - 10]، وقوله لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 83]، إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحةٌ في أنَّ النار جزاء الكافرين المكذِّبين.

وأمَّا حديث عائشة رضي الله عنها، وإن كان مسلم رواه في «صحيحه»

(1)

فقد ضعَّفه الإمام أحمد وغيره

(2)

.

(1)

رقم (2662/ 31). وأخرجه أيضًا أحمد (24132) وأبو داود (4713) وغيرهم.

(2)

سيأتي نصُّ أحمد في ذلك. وانظر: «العلل ومعرفة الرجال» برواية ابنه عبد الله (1380)، و «الضعفاء» للعقيلي (3/ 160)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 343) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 462).

ص: 207

وذكر ابن عبد البر

(1)

عِلَّتَه بأنَّ طلحة بن يحيى انفرد به عن عمَّته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، وطلحة ضعيفٌ.

وقد قيل: إنَّ فُضَيل بن عمرو رواه عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواءً

(2)

. هذا كلامه.

قال الخلال

(3)

: أخبرني منصور بن الوليد أنَّ جعفر بن محمد حدَّثهم قال: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أطفال المسلمين؟ فقال: ليس فيه اختلاف أنَّهم في الجنة.

أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أنَّ إسحاق بن منصورٍ حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه: أمَّا أولاد المسلمين فإنَّهم أهل الجنة.

أخبرني عبد الملك المَيموني: أنَّهم ذاكروا أبا عبد الله أطفالَ المؤمنين، وذكروا له حديثَ عائشة رضي الله عنها في قصة الأنصاري، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فسمعت أبا عبد الله يقول غير مرةٍ: «وهذا حديث

» وذكر فيه رجلًا

(1)

في «التمهيد» (18/ 90، 105).

(2)

أخرجه مسلم (2662/ 30) وأبو عوانة (11689) وابن حبان (138) وغيرهم من طريق العلاء بن المسيِّب عن فضيل بن عمروٍ به. ولكن قال أحمد كما في «العلل ومعرفة الرجال» (1380): «وما أراه سمعه إلا من طلحة» ، يعني: أن متابعة فضيل لا تنفع، لأن فضيلًا لم يسمعه من عائشة بنت طلحة، وإنما سمعه من طلحة بن يحيى فدلَّسه بإسقاطه. (تنبيه: هذا ما ظهر لي من كلام الإمام أحمد، وإلا فنصُّ الرواية في «العلل» وتفسير ابنه لها مُشوَّش جدًّا).

(3)

في «الجامع» (1/ 66 - 69).

ص: 208

ضعَّفه

(1)

، وهو طلحة.

وسَمِعتُه يقول غير مرةٍ: وأحدٌ يشك أنهم في الجنة؟ ثمَّ أملى علينا الأحاديث فيه.

وسمعتُه غير مرةٍ يقول: هو يُرجى لأبويه، كيف يُشَكُّ فيه؟!

وقال أبو عبد الله: واختلفوا في أطفال المشركين، فابن عباس يقول

(2)

: كنت أقول: [هم]

(3)

مع آبائهم حتى لقيت رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثني عن رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عنهم

(4)

فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»

(5)

.

وقال الحسن بن محمد بن

(6)

الحارث: سمعتُ أبا عبد الله يسأل عن

(1)

كذا العبارة في الأصل و «الجامع» . وزاد محققو الكتابين: «ضعيف» بين الحاصرتين بعد «حديث» . ولعل الإمام أحمد كان قد قال: «هذا حديث طلحة، وهو ضعيف» أو نحوه، فلم يستحضر الميموني اسم الراوي فعبَّر هكذا، ويكون:«وهو طلحة» بيانًا من الخلال.

(2)

بعده في الأصل زيادة: «ما يقول» ، ولم يتبيَّن وجهها، وليست في مصدر النقل.

(3)

من «الجامع» .

(4)

في الأصل: «عليهم» ، خطأ.

(5)

أخرجه أحمد (20697، 23484) وأبو داود الطيالسي (539) وابن أبي عاصم في «السنة» (221) والفريابي في «القدر» (175، 176) بإسناد جيِّد.

(6)

إلى هنا كانت صورة الأصل بين يدي. وما بعده إلى (ص 298) اعتمدت على مقابلة الشيخ محمد عزير شمس لنسخته من طبعة صبحي الصالح على الأصل الخطي في الهند، وما أثبت عليها من الفروق والتصحيحات.

ص: 209

السقط إذا لم تُنفَخ فيه الروح، فقال: الحديث: «يجيء السقطُ مُحْبَنطِئًا»

(1)

. قال الخلال: سألت ثَعلبًا عن «السقط محبنطئًا» ، فقال: غضبان

(2)

، ويقال: قد ألقى نفسه.

وقد أُجِيب عنه بعد التزامِ صحَّتِه

(3)

بأنَّ هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلِّمه الله بأنَّ أطفال المؤمنين في الجنَّة. وهذا جواب ابن حزم

(4)

وغيره.

وأجابت طائفةٌ أخرى عنه بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ردَّ على عائشة رضي الله عنها لكونها حكمَتْ على غيبٍ لم تعلمه، كما فعل بأمِّ العلاء إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون

(5)

: شهادتي عليك أنَّ الله أكرمك، فأنكر عليها وقال لها:

(1)

تمامه: «فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب وأبواي؟ فيقال له: ادخل الجنة أنت وأبواك» . أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5746) من حديث سهل بن حنيف، وفي «الكبير» (19/ 416) من حديث معاوية بن حيدة، وأخرجه أبو يعلى (المطالب: 1630، 1631) من حديث أبي موسى وابن مسعود، وابنُ ماجه (1608) وأبو يعلى (468) من حديث علي، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (7191) عن رجل من حلب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ وأسانيد جميعها واهية. وأصحُّ شيء في الباب مرسل ابن سيرين عند عبد الرزاق (10343) بإسناد صحيح إليه.

انظر: «الضعيفة» (1413، 3267، 5893).

(2)

يؤيده أن لفظه في حديث عليٍّ: «إن السِّقط ليُراغِمُ ربَّه أنْ أَدخَلَ أبويه النار» ، والمراغمة هي المغاضبة.

(3)

أي: حديث عائشة «عصفور من عصافير الجنة» وردِّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

(4)

في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/ 64).

(5)

رُسم في الأصل هنا وفي الموضع الآتي بالضاد: «مضعون» .

ص: 210

«وما يدريكِ أن الله أكرمه؟» ، ثم قال:«أما هو فقد جاءه اليقين، وأنا أرجو له الخير، واللهِ ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل به»

(1)

، فأنكر عليها جزمَها وشهادتها على غيبٍ لا تعلمه، وأخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يرجو له الخير.

ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان أحدكم مادحًا أخاه فليقل: أحسب فلانًا ــ إن كان يرى أنه كذلك ــ ولا أزكي على الله أحدًا»

(2)

.

وقد يقال: إنَّ من ذلك قولَه في حديثٍ لسعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه حين قال له: أعطيتَ فلانًا وتركتَ فلانًا وهو مؤمنٌ، فقال:«أَوْ مسلم»

(3)

، فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنَّه غيبٌ، دون الإسلام، فإنَّه ظاهرٌ.

وإذا كان الأمر هكذا، فيُحمَل قوله لعائشة رضي الله عنها:«وما يدريك يا عائشة؟» على هذا المعنى، كأنَّه يقول لها: إذا خلق الله للجنة أهلًا وخلق للنار أهلًا، فما يدريكِ أنَّ ذلك الصبي من هؤلاء أو من هؤلاء؟

وقد يقال: إنَّ أطفال المؤمنين

(4)

إنَّما حُكِم لهم بالجنة تبعًا لآبائهم لا بطريق الاستقلال، فإذا لم يُقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتَبَعه بها؟

(1)

أخرجه البخاري (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري (2662، 6162) ومسلم (3000) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2941 - دار الكتب العلمية) عن معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه، ومن طريق عبد الرزاق كلٌّ من أحمد (1522) وأبو داود (4683) وابن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (560) والنسائي (4992) وابن حبان (163).

(4)

في هامش الأصل: «المسلمين» .

ص: 211

يوضِّحه: أنَّ الطفل غير مستقلٍّ بنفسه بل تابعٌ لأبويه، فإذا لم يُقطع لأبويه بالجنة لم يجُزْ أن يقطع له بالجنة. وهذا في حق المُعيَّن، فإنَّا نقطع للمؤمنين بالجنة عمومًا، ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة إلا بنصٍّ. فهكذا أطفال المؤمنين نقطع بأنهم في الجنة، ولا نقطع للمعيَّن منهم بأنه في الجنة

(1)

. فلهذا ــ والله أعلم ــ أَنكر على أمِّ العلاء حكمَها على عثمان بن مظعون بذلك.

واحتجوا أيضًا

(2)

بقوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جَمعاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تَجدَعونها؟» ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت من يموت وهو صغيرٌ؟ قال:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(3)

. فلم يخُصُّوا بالسؤال طفلًا من طفل، ولم يَخُصَّ بالجواب، بل أطلق الجواب كما أطلقوا السؤال، ولو افترق الحال في الأطفال لفصَّل وفرَّق بينهم في الجواب.

وهؤلاء لو تأملوا ألفاظه وطُرَقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج، فإنَّ هذا الحديث روي من طرقٍ متعددةٍ:

فمنها حديث أبِي بِشْر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ــ أو أطفال المشركين ــ فقال: «الله

(1)

من قوله: «إلا بنص .. » إلى هنا سقط من المطبوع.

(2)

أي: القائلون بالتوقف في جميع الأطفال.

(3)

أخرجه البخاري (6599) ومسلم (2658/ 24) من حديث معمر، عن همَّام بن منبِّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 212

أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم»، رواه عن أبي بِشْر جماعةٌ منهم: شُعبة وأبو عَوَانة

(1)

.

ومنها حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد اللَّيثي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:«الله أعلم إذ خلقهم ما كانوا عاملين»

(2)

.

ومنها حديث الوليد بن مسلم، عن عُتبة

(3)

بن ضَمْرة، أنَّه سمع عبد الله بن قيسٍ

(4)

مولى مدرك بن عُفَيف قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن أولاد المشركين، فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(5)

.

(1)

رواية شعبة عند أحمد (3165) والبخاري (1383، 6597) وغيرهما. ورواية أبي عوانة عند أحمد (3034) ومسلمٌ (2660) وأبي داود (4711) وغيرهم.

(2)

أخرجه أحمد (7520) والبخاري (1384) ومسلم (2659/ 26).

(3)

في الأصل: «عقبة» ، تصحيف.

(4)

كذا في الأصل، ويقال:«عبد الله بن أبي قيس» ، وهو أصح. وقد اختُلف أيضًا في اسم مولاه على أقوال. انظر:«التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 173) و «الثقات» لابن حبان (5/ 44).

(5)

لم أجد من أخرجه من طريق الوليد بن مسلم. أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1678) من طريق بقية بن الوليد، عن عتبة بن ضمرة، عن عبد الله بن أبي قيس مولى عازب بن مدرك، عن عائشة به. وأخرجه أحمد (24545) والطبراني في «مسند الشاميين» (1240) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1602) وغيرهم من طريق أبي المغيرة عن عُتبة به. وأخرجه أبو داود (4712) من طريق آخر عن عبد الله بن أبي قيس به بنحوه، وسيأتي لفظه (ص 221). والحديث صحيح بهذه الطرق.

تنبيه: في كل هذه الروايات عن عتبة بن ضمرة به أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابها أولًا فقال: «هم مع آبائهم» ، فقالت عائشة: بلا عمل؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . وأخشى أن يكون سقط من الناسخ لانتقال النظر.

ص: 213