المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي ذكر بناء ما استهدم(3)منها، ورم شعثه، وذكر الخلاف فيه - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعضوهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم

- ‌اتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون

- ‌فصلفي ذكر أحاديث هذا الباب وعللها

- ‌المحاربون قطَّاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرمٌ يضمنون

- ‌ يرث المسلمُ الكافر بالموالاة

- ‌ذكر حكم أطفالهم

- ‌الباب الأول: في ذكر أحكامهم في الدنيا

- ‌الجهة الثانية(3): إسلام الأبوين أو أحدهما

- ‌الجهة الثالثة: تبعيَّة السَّابي

- ‌فصلفي ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌الجهة الرابعة: تبعيَّة الدار

- ‌فصلفي أدلة من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة

- ‌المذهب الأول: الوقف في أمرهم

- ‌المذهب الثاني: أنَّهم في النار

- ‌المذهب الثالث: أنَّهم في الجنة

- ‌المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين الجنة والنار

- ‌المذهب الخامس: أنَّهم مردودون إلى محض مشيئة الله فيهم بلا سبب ولا عمل

- ‌المذهب السادس: أنَّهم خدَمُ أهل الجنة ومماليكُهم

- ‌المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة

- ‌المذهب الثامن: أنَّهم يكونون يوم القيامة ترابًا

- ‌المذهب العاشر: أنَّهم يُمتحَنون في الآخرة

- ‌ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجَباتها

- ‌الفصل الأولفي أحكام البيع والكنائس

- ‌ذكر حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه الأماكن

- ‌الضرب الثالث: ما فُتِح صلحًا

- ‌ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب

- ‌فصلفي ذكر بناء ما استَهْدَم(3)منها، ورمِّ شَعَثِه، وذكر الخلاف فيه

- ‌فروعٌ تتعلَّق بالمسألة

- ‌فصلفي تملُّك الذمي بالإحياء في دار الإسلام

- ‌فصلقولهم: (ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها

- ‌فصلقولهم: (ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نكتم غشًّا للمسلمين)

- ‌فصل(1)قولهم: (ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُظهِر عليها صليبًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا

- ‌فصلقولهم: (ولا نخرج صليبًا ولا كتابًا في أسواق المسلمين)

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نخرج باعوثًا ولا شعانينًا

- ‌فصلقولهم: (ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا نجاوز المسلمين بموتانا)

- ‌فصلقولهم: (ولا ببيع الخمور)

- ‌فصلقولهم: (ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا)

- ‌فصلقولهم: (ولا نتخذ شيئًا من الرقيق الذي جرت عليه أحكام(1)المسلمين)

- ‌ذكر نصوص أحمد في هذا الباب

- ‌فصلقولهم: (وأن لا نمنع أحدًا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام)

- ‌فصل(1)وقولهم: (وأن نَلْزم زِيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبَّه بالمسلمين

- ‌فصلقولهم: (ولا عمامة)

- ‌فصلقولهم: (ولا في نعلين، ولا فَرْق شعر)

- ‌فصلوكذلك قولهم: (ولا بفرق شعر)

- ‌فصلفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره

- ‌فصلقالوا: (ولا نتشبَّه بالمسلمين في مراكبهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نتقلد السيوف)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكلم بكلامهم)

- ‌فصلقالوا: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية)

- ‌فصلقالوا: (ولا نتكنَّى بكناهم)

- ‌فصل: كيف يُكتَب إليهم

- ‌فصلقالوا: (ونُوقِّر المسلمين في مجالسهم

- ‌فصلقالوا: (ولا نعلم أولادنا القرآن)

- ‌فصل(1)قالوا: (وأن نضيف كلَّ مسلم عابر سبيل ثلاثةَ أيام

- ‌«الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلَّق بها»

- ‌فصل(1)قولهم: (وأن من ضرب مسلمًا فقد خلع عهدَه)

- ‌فصلقالوا: (ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا

- ‌المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما لا ينقضه

- ‌ذكر قول الإمام أحمد وأصحابه:

- ‌ ذكرُ قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة:

- ‌الدليل الرابع عشر: قوله: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا

- ‌ذكر الأدلة من السنة على وجوب قتل السابِّ وانتقاض عهده

الفصل: ‌فصلفي ذكر بناء ما استهدم(3)منها، ورم شعثه، وذكر الخلاف فيه

يمكَّنون من إحداث كنيسةٍ بعدُ وإن كانوا معتزلين عن

(1)

بلاد الإسلام.

فصل

وقد روى أبو داود في «سننه»

(2)

عن أَسباط، عن السُّدِّي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلةٍ

الحديث، وفيه:«ولا تُهدَم لهم بيعةٌ، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يُفتَنون عن دينهم ما لم يُحدِثوا حدثًا أو يأكلوا الربا» .

فأبقى كنائسهم عليهم لمَّا كانت البلد لهم، وجعل الأمان فيها تبعًا لأمانهم على أنفسهم. فإذا زال شرط الأمان على أنفسهم بإحداث الحدث وأكل الربا، زال عن رقاب كنائسهم كما زال عن رقابهم.

‌فصل

في ذكر بناء ما استَهْدَم

(3)

منها، ورمِّ شَعَثِه، وذكر الخلاف فيه

قال صاحب «المغني»

(4)

فيه: «كل موضع قلنا: يجوز إقرارها، لم يجُزْ

(1)

في الأصل: «على» ، خطأ.

(2)

رقم (3041)، ومن طريقه البيهقي (9/ 202). إسناده لا بأس به، رجاله موثَّقون، على لينٍ في أسباط بن نصر.

(3)

المعروف في اللغة: انهدم وتهدَّم. وقد ورد «استَهْدَم» بمعناهما مطاوعًا لـ «هَدَم» في كتب الحنابلة والشافعية، وقد نصُّوا على أنه بفتح التاء مبنيًّا للفاعل، ومع ذلك كثُر ضبطُه مبنيًّا للمجهول في طبعاتِ كثيرٍ من كتب المذهبين، فليصحَّح. انظر:«تحرير ألفاظ التنبيه» للنووي (ص 203، 320)، و «المُطلع على أبواب المقنع» للبعلي (ص 225)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (11/ 8).

(4)

(13/ 241).

ص: 315

هدمُها».

وهذا ليس على إطلاقه، فإنَّ كنائس العَنْوة يجوز للإمام إقرارُها للمصلحة، ويجوز للإمام هدمُها للمصلحة. وبه أفتى الإمام أحمد المتوكلَ في هدم كنائس العَنوة كما تقدَّم

(1)

. وكما طلب المسلمون أخذ كنائس العنوة منهم في زمن الوليد حتى صالحوهم على الكنيسة التي زِيدَت في جامع دِمَشق

(2)

، وكانت مُقَرَّةً بأيديهم من زمن عمر رضي الله عنه إلى زمن الوليد، ولو وجب إبقاؤها وامتنع هدمها لمَّا أقرَّ المسلمون الوليد، ولغيَّره الخليفة الراشد ــ لمَّا وَلِي ــ عمرُ بن عبد العزيز، فلا تلازُمَ بين جواز الإبقاء وتحريم الهدم.

وقد اختلفت الرواية عن أحمد في بناء المُستهدِم ورمِّ الشَّعِث، فعنه المنع فيهما، ونصر هذه الرواية القاضي في «خلافه» . وعنه الجواز فيهما، وعنه يجوز رمُّ شعثها دون بنائها.

قال الخلال في «الجامع»

(3)

: باب البيعة تَهدَّمُ بأسرها أو تَهدَّمَ بعضُها. أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي: هل ترى لأهل الذِّمة أن يُحدِثوا الكنائس بأرض العرب؟ وهل ترى لهم أن يزيدوا في كنائسهم التي صولحوا عليها؟ فقال: لا يحدثوا في مصرٍ مصَّرته العرب كنيسةً ولا بيعةً، ولا يضربوا فيها بناقوسٍ. ولهم ما صُولِحوا عليه، فإن كان في عهدهم أن يزيدوا في

(1)

(ص 309)

(2)

تقدَّم (ص 298 - 299).

(3)

(2/ 427).

ص: 316

الكنائس فلهم، وإلَّا فلا. وما انهدم فليس لهم أن يبنوها.

أخبرني أحمد بن أبي الهيثم

(1)

أنَّ موسى بن أحمد بن مُشَيشٍ

(2)

حدَّثهم في هذه المسألة أنه سأل أبا عبد الله فقال: ليس لهم أن يُحدثوا إلا ما صولحوا عليه، إلا أن يبنوا ما انهدم ممَّا كان لهم قديمًا.

قال الخلال: وإنَّما معنى قول أبي عبد الله هاهنا: «إنَّهم يبنون ما انهدم» يعني: مَرمَّةً يَرُمُّون. وأمَّا إن انهدمت كلُّها بأسرها، فعنده أنَّه لا يجوز إعادتها. وقد بيَّن أيضًا ذلك حنبلٌ عنه:

أخبرني عصمة بن عصامٍ قال: حدثنا حنبلٌ قال: سمعت أبا عبد الله قال: كلُّ ما كان ممَّا فتح المسلمون عَنْوةً فليس لأهل الذِّمة أن يُحدِثوا فيها كنيسةً ولا بِيعةً، فإن كان في المدينة لهم شيء فأرادوا أن يَرُمُّوه فلا يُحدِثوا فيه شيئًا إلا أن يكون قائمًا، فإن انهدمت الكنيسة أو البيعة بأسرها لم يبدلوا غيرها، وما كان من صُلحٍ كان لهم ما صولحوا عليه وشُرِط لهم، لا يغيَّر لهم شرطٌ شُرِط لهم.

(1)

في الأصل: «الخيثم» ، تصحيف. وفي مطبوعة «الجامع»:«أحمد بن الهيثم» ، ولم أتبيَّن الصواب.

(2)

كذا في الأصل و «الجامع» ، والظاهر أنه خطأ، فليس في أصحاب أحمد أحدٌ بهذا الاسم. وإنما هناك محمد بن موسى بن مُشَيش: مستملي أبي عبد الله، وجارُه، ومن كبار أصحابه، روى عنه مسائل. انظر:«تاريخ بغداد» (4/ 391) و «طبقات الحنابلة» (2/ 365).

ص: 317

قال الخلال: وهكذا هو في شرطهم أنَّه إن انهدم شيء رمُّوه، وإن انهدمت بأسرها لم يعيدوها.

قال القاضي في «تعليقه» : مسألة في البِيَع والكنائس التي يجوز إقرارها على ما هي عليه. إذا انهدم منها شيء أو تشعَّثَ فأرادوا عِمارته فليس لهم ذلك في إحدى الروايات نقلها عبد الله.

قال: ورأيت بخط أبي حفصٍ البَرْمَكي في رسالة أحمد إلى المتوكِّل في هدم البيع ــ روايةِ عبد الله بن أحمد عن أبيه ــ وذكر فيها كلامًا طويلًا إلى أن قال: وما انهدم فلهم أن يبنوها.

قال: وهذا يقتضي اختلاف اللفظ عن عبد الله، ويغلب في ظنِّي أنَّ ما ذكره أبو بكر أضبط ــ يعني: الخلَّال

(1)

ــ فإنَّه قال: أخبرني عبد الله قال: قال أبي: وما انهدم فليس لهم أن يبنوها. ثم ذكر النصوص التي ذكرناها في رواية حنبلٍ وابن مُشَيشٍ واختيارَ

(2)

الخلال منعَ البناء وجوازَ رمِّ الشعث.

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فقال أبو سعيد الإصطخري: يمنعون من ذلك. قال: حتى إن انهدم حائط البيعة مُنعوا من إعادته ورده، وإن انثلم منعوا من سَدِّه، وإن أرادوا أن يطيِّنوا وجه الحائط الذي يلينا منعوا منه، وإن طينوا وجه

(3)

الحائط الذي يلي البيعة كان لهم ذلك، وكذلك إن بنوا

(1)

في «الجامع» (2/ 427).

(2)

في الأصل: «واختار» ، ولعل المثبت أشبه، وقد سبق كلام الخلال من «جامعه» آنفًا.

(3)

«وجه» ساقط من المطبوع.

ص: 318

دون هذا الحائط الذي يلي البيعة حتى تهدَّم ذلك لم يجُزْ، لأنَّهم يُمنَعون من الإحداث وهذه الإعادةُ إحداثٌ.

وأبى ذلك سائر أصحاب الشافعي وقالوا: نحن قد أقررناهم على البيع، فلو منعناهم من رَقْع ما استَرَمَّ منه

(1)

وإعادةِ ما انهدم كان بمنزلة القلع والإزالة، إذ لا فرق بين أن يزيلها وبين أن يُقِرَّها عليهم ثم يمنعهم من عمارتها

(2)

.

واختلفت المالكية على قولين أيضًا، فقال ابن الماجشون: يُمنعون من رمِّ كنائسهم القديمة إذا رثَّت، إلا أن يكون ذلك في شرط عقدهم.

ونقل أبو عمر أنَّهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها

(3)

.

واحتجَّ القاضي على المنع بحديث رواه عن الخطيب عن ابن رِزقويه، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا بكر بن محمد القرشي، حدثنا سعيد بن عبد الجبار، عن سعيد بن سِنان، عن أبي

(4)

الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُبنى كنيسةٌ في الإسلام، ولا يُجدَّد ما خرب منها»

(5)

.

(1)

أي: ما حان له أن يُرَمَّ.

(2)

انظر: «نهاية المطلب» (18/ 50)، وسيأتي كلامه.

(3)

سبق توثيق كلام ابن الماجشون وابن عبد البر قريبًا.

(4)

في الأصل: «ابن» ، تصحيف.

(5)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» في ترجمة سعيد بن سنان (5/ 452) وابن زَبْر الرَّبعي في «شروط النصارى» (1، 2) وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/ 38) ــ وعنه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 6) ــ من طرق عن سعيد بن عبد الجبار به. وإسناده واهٍ، سعيد بن سنان متروكٌ منكر الحديث.

وقد صحَّ الشطر الأول منه موقوفًا على عمر من طريق آخر، وقد سبق (ص 288).

ص: 319

وهذا لو صحَّ لكان كالنصِّ في المسألة، ولكن لا يثبت هذا الإسناد، ولكن في شروط عمر عليهم: ولا نجدِّد ما خرب من كنائسنا.

قالوا: ولأنَّ تجديدها بمنزلة إحداثها وإنشائها، فلا يمكَّنون منه.

قالوا: ولأنَّه بناءٌ لا يَملك إحداثَه فلا يملك تجديدَه، كالبناء في أرض الغير بغير إذنه.

فإن قيل: الباني في ملك الغير بغير إذنه لا يملك الاستدامة فلا يملك التجديد، وهؤلاء يملكون الاستدامة فملكوا التجديد.

قيل: لا يلزم هذا، فإنَّه لو أعاره حائطًا لوضع خشبةٍ عليه جاز له استدامة ذلك، فلو انهدم الحائط فبناه صاحبه لم يملك المستعير تجديد المنفعة.

وكذلك لو ملك الذمِّيُّ دارًا عالية البنيان جاز له أن يستديم ذلك، فلو انهدمت فأراد بناءها لم يكن له أن يبنيها على ما كانت عليه، بل يُساوِي بها بنيان جِيرانه من المسلمين أو يحُطُّها عنه.

وأيضًا: فلو فتح الإمام بلدًا فيه

(1)

بيعةٌ خرابٌ لم يَجُز له بناؤها بعد الفتح، كذلك هاهنا.

وأيضًا: فإنَّه إذا انهدم جميعها زال الاسم عنها، ولهذا لو حلف: لا

(1)

في المطبوع: «في» ، خطأ.

ص: 320

دخلتُ دارًا، فانهدمت جميعها ودخل بَراحَها لم يحنث لزوال الاسم. فلو قلنا: يجوز بناؤها إذا انهدمت، كان فيه إحداث بيعة في دار الإسلام، وهذا لا يجوز كما لو لم يكن هناك بيعةٌ أصلًا.

قال المجوِّزون ــ وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثيرٌ من أصحاب مالك وبعض أصحاب أحمد ــ: لمَّا أقررناهم عليها تضمَّن إقرارُنا لهم جوازَ رمِّها وإصلاحها وتجديد ما خرب منها، وإلا بطَلت رأسًا، لأنَّ البناء لا يبقى أبدًا، فلو لم يجُزْ تمكينهم من ذلك لم يجُزْ إقرارها.

قال المانعون: نحن نُقِرُّهم فيها مُدَّةَ بقائها كما نُقِرُّ المستأمَنَ مدَّةَ أمانه. وسِرُّ المسألة أنَّا أقررناهم إمتاعًا

(1)

لا تمليكًا، فإنَّا ملكنا رَقبتها بالفتح وليست ملكًا لهم.

واختار صاحب «المغني»

(2)

جواز رمِّ الشعث ومنع بنائها إذا استَهْدَمت. قال: لأنَّ في كتاب أهل الجزيرة لعِياض بن غَنْم: ولا نُجدِّد ما خرب من كنائسنا، وروى كثير بن مُرَّة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُبنَى كنيسةٌ في الإسلام ولا يُجدَّد ما خرب منها»

(3)

.

قال: ولأنَّ هذا بناءُ كنيسة في الإسلام فلم يَجُز، كما لو ابتُدِئ بناؤها، وفارق رمَّ ما شَعَث منها فإنَّه إبقاءٌ واستدامةٌ، وهذا إحداثٌ.

(1)

في الأصل والمطبوع: «اتباعًا» ، ولعل المثبت أشبه، وسيأتي قول المؤلف: «لم يملكوا رِقابها

وإنَّما مُتِّعوها إمتاعًا».

(2)

(13/ 241).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 321

قال: وقد حمل الخلَّال قولَ أحمد: «لهم أن يبنوا ما انهدم منها» أي: إذا انهدم بعضها، ومَنْعَه مِن بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلُّها، فجمع بين الروايتين.

فصل

وفي «النهاية» للجويني

(1)

: قال الأصحاب: إذا استرمَّت لم يمنعوا من مرمَّتها. ثم اختلفوا بعد ذلك فقال قائلون: ينبغي أن يَعمُروها بحيث لا يظهر للمسلمين ما يفعلون، فإنَّ إظهار العمارة قريبٌ من الاستحداث.

وقال آخرون: لهم إظهار العمارة، وهو الأصحُّ.

ثمَّ مَن أوجب عليهم الكِتمان قال: لو تَزلزَل جدارُ الكنيسة أو انتقض مُنعوا من الإعادة، فإنَّ الإعادة ظاهرةٌ. وإذا لم يكن من هدمه بدٌّ فالوجه أن يبنوا جدارًا داخل البيعة، ثم قد يُفضي هذا إلى أن يبنوا جدارًا

(2)

ثالثًا إذا ارتجَّ الثاني، وهكذا إلى أن تَفنى

(3)

ساحة الكنيسة.

قال: وهذا إفراطٌ لا حاصل له. فإن

(4)

فرَّعنا على الصحيح وجوَّزنا العمارة إعلانًا، فلو انهدمت الكنيسة، فهل يجوز إعادتها كما كانت؟ فيه وجهان مشهوران:

(1)

(18/ 50 - 51).

(2)

«داخل البيعة

جدارًا» سقط من المطبوع لانتقال النظر.

(3)

في المطبوع: «تُبنى» ، تحريف أفسد السياق.

(4)

في المطبوع: «فإنَّا» ، خلاف الأصل.

ص: 322

أحدهما: المنع، لأنَّه استحداث كنيسة.

والثاني: الجواز، لأنَّها وإن انهدمت فالعرصة كنيسةٌ، والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم.

فإن منعنا الإعادة فلا كلام، وإن جوَّزناها فهل لهم أن يزيدوا في خطها؟ على وجهين، أصحُّهما المنع، لأنَّ الزائد كنيسةٌ جديدةٌ، وإن كانت متصلةً بالأولى.

وإن أبقيناهم على كنيستهم فالمذهب أنَّا نمنعهم من ضرب النواقيس فيها، فإنَّه بمثابة إظهار الخمور والخنازير. وأبعد بعض الأصحاب في تجويز تمكينهم من ضرب الناقوس، قال: لأنَّه من أحكام الكنيسة. قال: وهذا غلط لا يُعتَدُّ به.

فصل

هذا حكم إنشاء الكنائس وإعادتها. فلو أرادوا نقلها من مكان إلى مكان وإخلاء المكان الأول منها، فصرَّح أصحاب الشافعي بالمنع، قالوا: لأنَّه إنشاء لكنيسة في بلاد الإسلام.

والذي يتوجَّه أن يقال: إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت منعنا نقلها بطريق الأولى، فإنَّها إذا لم تُعَد إلى مكانها الذي كانت عليه فكيف تُنشأ في غيره؟

وإن جوَّزنا إعادتها، وكان

(1)

نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين،

(1)

في الأصل: «فكان» ، والمثبت مقتضى السياق.

ص: 323

لكونهم ينقلونها إلى موضع خفيٍّ لا يُجاوِره مُسلِم، ونحو ذلك= جاز بلا ريبٍ، فإنَّ هذا مصلحةٌ ظاهرةٌ للإسلام والمسلمين، فلا معنى للتوقُّف فيه. وقد ناقلهم المسلمون من الكنيسة التي كانت جِوار جامع دمشق إلى بقاء الكنائس التي هي خارج البلد، لكونه أصلح للمسلمين

(1)

.

وأمَّا إن كان النقل لمجرَّد منفعتهم وليس للمسلمين فيه منفعة، فهذا لا يجوز لأنَّه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفر، فهو كما لو أرادوا جعلها خمَّارةً أو بيت فسقٍ، وأولى بالمنع، بخلاف ما إذا جعلنا

(2)

مكان الأولى مسجدًا يُذكر الله فيه وتقام فيه الصلوات، ومكَّنَّاهم من نقل الكنيسة إلى مكان لا يتأتَّى فيه ذلك، فهذا ظاهر المصلحة للإسلام وأهله، وبالله التوفيق.

فلو انتقل الكفار عن محلَّتهم وأخلوها إلى محلَّة أخرى، فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلة وإعطاءَ القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم.

فصل

هذا حُكم بِيَعهم وكنائسهم. فأمَّا حكم أبنيتهم ودُورهم: فإن كانوا في محلَّة مفردة عن المسلمين لا يجاورهم فيها مسلم تُرِكوا وما يبنونه كيف أرادوا. وإن جاوروا المسلمين لم يمكَّنوا من مطاولتهم في البناء، سواءٌ كان الجار ملاصقًا أو غيرَ ملاصقٍ، بحيث يطلق عليه اسم الجار قَرُب أو بَعُد.

(1)

انظر ما سبق (ص 299).

(2)

في الأصل: «جعلها» ، والمثبت أشبه.

ص: 324

قال الشافعي رحمه الله تعالى

(1)

: «ولا يُحدِثون بناءً يَطُولون به بناءَ المسلمين» . وهذا المنع لِحقِّ الإسلام لا لِحقِّ الجار، حتى لو رضي الجار بذلك لم يكن لرضاه أثرٌ في الجواز. وليس هذا المنع معلَّلا بإشرافه على المسلم، بحيث لو لم يكن له سبيلٌ على الإشراف جاز، بل لأنَّ الإسلام يعلُو ولا يُعلَى.

والذي تقتضيه أصول المذهب وقواعد الشرع أنَّهم يُمنَعون من سُكنى الدَّار العالية على المسلمين بإجارةٍ أو عاريةٍ أو بيعٍ أو تمليكٍ بغير عِوَضٍ، فإنَّ المانعين من تعلية البناء جعلوا ذلك من حقوق الإسلام، واحتجُّوا بالحديث وهو قوله:«الإسلام يَعلُو ولا يُعلَى»

(2)

. واحتجُّوا بأنَّ في ذلك إعلاءَ رتبةٍ لهم على المسلمين، وأهل الذمَّة ممنوعون من ذلك.

قالوا: ولهذا يُمنَعون من صدور المجالس ويُلجَؤون إلى أضيق الطرق، فإذا مُنِعوا من صدور المجالسِ ــ والجلوسُ فيه عارضٌ ــ فكيف يمكَّنون من السُّكنى اللازمة فوق رؤوس المسلمين؟ وإذا مُنِعوا من وسط الطريق

(1)

في «الأم» (5/ 493) و «مختصر المزني» ، وقد سبق (ص 311).

(2)

أخرجه الروياني في «مسنده» (783) والدارقطني (3620) والبيهقي (6/ 205) من حديث عائذ بن عمرو المُزني رضي الله عنه مرفوعًا. في إسناده ضعف لجهالة بعض رواته.

وقد صحَّ عن ابن عباس موقوفًا عليه، أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (352) وابن زنجويه (506) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 257) من طريقين عن عكرمة عنه. وعلَّقه البخاري في الجنائز (باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟) عن ابن عباس مجزومًا به.

ص: 325

المشترك ــ والمرورُ فيه عارضٌ ــ فأُزِيلوا منه إلى أضيقه وأسفله، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا لقيتموهم في طريقٍ اضطَرُّوهم إلى أضيقه»

(1)

= فكيف يمكَّنون أن يعلوا في السكنى الدائمة رقابَ المسلمين؟ هذا ممَّا تدفعه أصول الشرع وقواعده.

وقول بعض أصحاب أحمد والشافعي: إنَّهم إذا ملكوا دارًا عاليةً من مسلم لم يجب نقضُها، إن أرادوا به أنَّه لا يمتنع ثبوت ملكهم عليها فصحيح.

وإن أرادوا به أنَّهم لا يُمنَعون من سكناها فوق رقاب المسلمين ــ وقد صرَّح به الشيخ في «المغني» وصرَّح به أصحاب الشافعي

(2)

، ولكن الذي نصَّ عليه في «الإملاء»

(3)

أنَّه إذا ملكها بشِرًى أو هبةٍ أو غير ذلك أُقِرَّ عليها، ولم يصرِّح بجواز سكناها ــ فهو

(4)

في غاية الإشكال. وتعليلُهم واحتجاجهم بما حكيناه عنهم يدل على منع السكنى. وهذا هو الصواب، فإنَّ المفسدة في العلو ليست في نفس البناء، وإنَّما هي في السكنى. ومعلومٌ أنَّه إذا بناها المسلم وباعهم إيَّاها فقد أراحهم من كلفة البناء ومشقَّته وغرامته، ومكَّنهم من سكناها وعلوِّهم على رقاب المسلمين هنيئًا مريًّا. فيا لله العجب! أي مفسدةٍ

(1)

أخرجه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

انظر: «المغني» (13/ 242) و «نهاية المطلب» (18/ 52 - 53).

(3)

كتاب «الإملاء» في حكم المفقود، وانظر نحوه في «البيان» للعمراني (12/ 279).

(4)

في الأصل: «وهو» ، والمثبت مقتضى السياق، لكونه جواب «وإن أرادوا به أنَّهم لا يمنعون من سكناها» .

ص: 326

زالت عن الإسلام وأهله بذلك؟! بحيث إنَّهم إذا تَعِبوا وقاسَوا الكُلفة والمشقَّة في التعلية مُنعوا من ذلك، فإذا تعب فيه المسلم وصَلِي بحرِّه جازت لهم السكنى وزالت مفسدة التعلية! ولا يخفى على العاقل المُنصِف فساد ذلك.

ثمَّ كيف يستقيم القول به على أصول من يحرِّم الحِيَل، فيمنعه من تعلية البناء، فإذا باع الدار لمسلم ثمَّ اشتراها منه جاز له سُكناها وزالتْ بذلك مفسدة التعلية؟!

ولأنَّهم إذا مُنِعوا من مُساواة المسلمين في لباسهم وزيِّهم ومراكبهم وشعورهم وكناهم، فكيف يمكَّنون من مساواتهم بل من العلو عليهم في دُورهم ومساكنهم؟!

وطردُ قولِ من جوَّز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم: أن يجوِّز لباس الثياب التي مُنعوا منها إذا ملكوها من مسلم، وإنَّما يُمنَعون ممَّا نسجوه واستنسجوه؛ وهذا لا معنى له.

والعجب أنَّهم احتجُّوا لأحد الوجهين في منع المساواة بأنَّهم ممنوعون من مساواة المسلمين في الزيِّ واللباس والركوب، ثم يجوِّزون علوَّهم فوق رؤوس المسلمين بشِرَى الدور العالية منهم، وقد صرَّح المانعون بأنَّ المنع من التعلية المذكورة من حقوق الدين لا من حقوق الجيران.

وهذا فرعٌ تلقَّاه أصحاب الشافعي عن نصِّه في «الإملاء» بإقرارهم على ملك الدار العالية، وتلقَّاه أصحاب أحمد عنهم، ولم أجد لأحمد بعد طول التفتيش نصًّا بجواز تملك الدار العالية فضلًا عن سكناها، ونصوصه وأصول

ص: 327