الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخبرني حرب قال: سألت أحمد عن رجل من أهل الذِّمَّة شَتَم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يُقتَل.
*
ذكرُ قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة:
قال الخلال
(1)
: بابٌ فيمن تكلَّم في شيء من ذكر الرب تبارك وتعالى يريد تكذيبًا أو غيره. أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: كلُّ مَن ذكر شيئًا يُعرِّض به الربَّ تبارك وتعالى فعليه القتلُ مسلمًا كان أو كافرًا. قال: وهذا مذهب أهل المدينة.
أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدَّثهم قال: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن يهودي مرَّ بمؤذِّن وهو يُؤذِّن فقال له: كذبتَ، فقال: يُقتَل لأنَّه شتم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا
(2)
: وأقوال أحمد كلها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنَّه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلاف.
وكذلك ذكر عامَّة أصحابه متقدمُهم ومتأخرُهم، لم يختلفوا في ذلك، إلا أنَّ القاضي في «المجرد» ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركُها وفيها ضررٌ على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال، وهي: الإعانة على قتال المسلمين، وقتل المسلم والمسلمة، وقطع الطريق عليهم، وأن يؤوي للمشركين
(3)
جاسوسًا، وأن يعين عليهم بدلالةٍ مثل أن يكاتب المشركين
(1)
في «الجامع» (2/ 339).
(2)
في «الصارم المسلول» (2/ 19 وما بعدها).
(3)
في الأصل: «المسلمين» ، مستشكلًا إياه بـ «ظ» في الهامش. والمثبت من «الصارم» .
بأخبار المسلمين، وأن يزني بمسلمة أو يُصيبها باسم نكاح، وأن يفتن مسلمًا عن دينه. قال: فعليه الكفُّ عن هذا، شُرط أو لم يُشرَط، فإن خالف انتقض عهده. وذكر نصوص أحمد في نقضها مثل نصِّه في الزنا بمسلمةٍ، وفي التجسس للمشركين، وقتل المسلم وإن كان عبدًا
(1)
كما ذكر الخرقي
(2)
. ثم ذكر نصَّه في قذف المسلم: على أنَّه لا ينتقض عهده بل يُحَدُّ حدَّ القذف. قال: فتُخرَّج المسألة على روايتين. ثمَّ قال: وفي معنى هذه الأشياء ذكره اللهَ وكتابَه ودينَه ورسولَه بما لا ينبغي. قال: فهذه أربعة أشياء، الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها، ليس ذكرها شرطًا في صحة العقد فإن [أتوا] واحدةً منها نقضوا الأمان، سواءٌ كان مشروطًا في العهد أو لم يكن.
وكذلك قال في «التعليق»
(3)
بعد أن ذكر أنَّ المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال. قال: وفيه رواية أخرى: لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية وجَرْيِ أحكامنا عليهم. ثم ذكر نصَّ أحمد على أنَّ الذمي إذا قذف المسلم يُضرَب، قال: فلم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهَتْكِ عِرضه.
(1)
في الأصل: «عبد» ثم علامة لحق بعده، وفي الهامش:«الجهاد» ، كأنه قرأ «عبد»:«عند» فألحق به «الجهاد» في الهامش ليستقيم السياق، وكله وهم وخطأ.
(2)
في «المختصر» (11/ 479 مع المغني).
(3)
سمَّاه شيخ الإسلام في «الصارم» : «الخلاف» ، ويُعرَف بـ «التعليق الكبير في المسائل الخلافية» ، و «التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف» ، و «الخلاف الكبير» . وقد طُبعت منه بعض الأجزاء، ليس منها كتاب الجهاد. وانظر:«الأحكام السلطانية» للقاضي (ص 159) فقد ذكر فيه قريبًا من ذلك.
وتبع القاضي جماعةٌ من أصحابه ومن بعدهم
(1)
كالشريف وأبي الخطاب وابن عقيل والحلواني، فذكروا أنَّه لا خلافَ أنَّهم إذا امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام الملة انتقض عهدهم. وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها الضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال، أو فيها غضاضةٌ على المسلمين في دينهم مثل سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه= روايتين: إحداهما: ينتقض العهد، والأخرى: لا ينتقض عهده ويقام فيه الحدُّ، مع أنَّهم كلُّهم متفقون على أنَّ المذهب انتقاض العهد بذلك
(2)
.
ثم إنَّ القاضي والأكثرين لم يعُدُّوا
(3)
قذف المسلم من الأمور المُضِرَّة الناقضة، مع أنَّ الرواية المُخرَّجة إنَّما خُرِّجَت
(4)
مِن نصِّه في القذف
(5)
.
وأمَّا أبو الخطاب ومَن تبعه فإنَّهم نقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف، كما نقلوا حكم القذف إليها، حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين
(6)
.
(1)
في الأصل: «تقدم» ، تصحيف. والتصحيح من «الصارم» .
(2)
انظر: «الهداية» لأبي الخطاب (ص 227) و «التذكرة» لابن عقيل (ص 325).
(3)
في الأصل: «لم يعدَّ» ، والمثبت من «الصارم» .
(4)
في الأصل: «خرجه» ، تصحيف.
(5)
ظاهر هذه العبارة يوحي أن القاضي ومن معه خالفوا نصَّ الإمام في القذف. ونصُّ الإمام في القذف أنه غير ناقض للعهد كما سبق وسيأتي، فإذا لم يعدَّه القاضي والأكثرون من الأمور الناقضة لكانوا موافقين لنصِّ أحمد، فأخشى أن يكون:«لم يعدُّوه» سبق قلم وأن يكون قصد شيخ الإسلام: «عَدُّوا» ، فليُنظر.
(6)
انظر: «الهداية» لأبي الخطاب (ص 227) و «المقنع» (ص 150).
ثم إنَّ هؤلاء كلَّهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر، وذكروا أنَّ سابَّه يُقتَل وإن كان ذِمِّيًّا
(1)
، وأنَّ عهده ينتقض، وذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب، إلا أنَّ الحلواني قال: ويحتمل أن لا يُقتَل مَن سبَّ الله ورسوله إذا كان ذميًّا.
فصل
وسلك القاضي أبو الحسين طريقةً ثانيةً
(2)
في نواقض العهد فقال: أمَّا الثمانية التي فيها ضررٌ على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس، فإنَّها تنقض العهد في أصحِّ الروايتين. وأمَّا ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام ــ وهو ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي ــ فإنَّه ينقض العهد، نصَّ عليه.
ولم يُخرِّج في هذا رواية أخرى كما ذكر أولئك. وهذا أقرب من تلك الطريقة.
وعلى الرواية التي تقول: لا ينتقض العهد بذلك، فإنَّما ذلك إذا لم يكن مشروطًا عليهم في العهد. فأمَّا إن كان مشروطًا ففيه وجهان:
(1)
ومن ذلك ما ذكروا فيمن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يُقتل مسلمًا كان أو كافرًا. انظر: «مختصر الخرقي» (12/ 404 مع المغني)، و «رؤوس المسائل الخلافية» للشريف أبي جعفر (2/ 874)، و «المقنع» (ص 438).
وفي «المستوعب» في باب المرتد (2/ 484): «من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة قُتل أسلم أو لم يسلم» . مع أنه تابع القاضي في أبواب عقد الذمة (2/ 469، 478) فجعل مَن ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بالسوء على روايتين.
(2)
في الأصل: «طريق ثالثة» ، والتصحيح من «الصارم» .
أحدهما: ينتقض، قاله الخرقي
(1)
. قال أبو الحسن الآمدي: وهو الصحيح في كل ما شُرِط عليهم تركه، فصحَّح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئًا ممَّا شرط عليهم.
والثاني: لا ينتقض، قاله القاضي وغيره.
قال شيخنا
(2)
: وهاتان الطريقتان ضعيفتان، والذي عليه عامَّة المتقدمين ومَن تبعهم من المتأخرين إقرارُ نصوص أحمد على حالها، وهو قد نصَّ في مسائل سبِّ الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى أنَّه يُقتَل، وكذلك فيمن جسَّ على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع. وكذلك نقله الخرقي فيمَن قتل مسلمًا أو قطع الطريق
(3)
.
وقد نصَّ أحمد على أنَّ قذف المسلم وسِحره لا يكون نقضًا للعهد في غير موضع، وهذا هو الواجب، وهو تقرير المذهب
(4)
؛ لا يُخرَّج حكمُ إحدى المسألتين
(5)
إلى الأخرى بجَعْل
(6)
الروايتين في الموضعين، لوجود
(1)
في «المختصر» (13/ 236 مع المغني)، ولفظه:«من نقض العهد بمخالفة شيءٍ مما صولحوا عليه حلَّ دمُه وماله» .
(2)
«الصارم» (2/ 25).
(3)
لم أجده في «المختصر» فليُنظر.
(4)
في الأصل: «النصب» ، وعليه علامة استشكال بالحمرة. وليست هذه الجملة في «الصارم» ، ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
تحرَّف «إحدى المسألتين» إلى «أحد من المسلمين» في الأصل!
(6)
في الأصل: «وجعل» ، تصحيف، ويحتمل أن يكون صوابه:«وتُجعَل» أو «فتُجعَل» .
الفرق بينهما نصًّا واستدلالًا. وإذا وُجد معنًى يجوز أن يكون مستندًا للفرق لم يَجُز
(1)
التخريج.
قلت: لفظ القاضي في «التعليق» : مسألة: إذا امتنع الذميُّ من بذل الجزية ومِن جريان أحكامنا عليهم
(2)
صار ناقضًا للعهد. وكذلك إذا فعل ما يجب عليه تركُه والكفُّ عنه ممَّا فيه ضررٌ على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس، وهي ثمانية أشياء: الاجتماع على قتال المسلمين، وأن لا يزني بمسلمةٍ، ولا يصيبها باسم نكاحٍ، ولا يفتن مسلمًا عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عينًا، ولا يعاون على المسلمين بدلالةٍ ــ أعني لا يكاتب المشركين بأخبار المسلمين ــ، ولا يقتل مسلمًا.
وكذلك إذا [فعل] ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام، وهي أربعة أشياء: ذكر اللهِ، وكتابِه، ودينِه، ورسولِه، بما لا ينبغي؛ سواءٌ شَرَط عليهم الإمام أنَّهم متى فعلوا ذلك كان نقضًا لعهدهم أو لم يشرط في أصحِّ الروايتين. نصَّ عليها في مواضع، فقال في رواية أحمد بن سعيد في الذمي يمنع الجزية: إن كان واجدًا أُكرِه عليها وأخذت منه، وإن لم يُعطِها ضُرِبت عنقه.
(1)
في الأصل والمطبوع: «ولم يخرج» ، خطأ. وقارن بما في «الصارم» (2/ 25) فقد تصرَّف المؤلف في نقل الكلام على عادته. وتمحَّل صبحي الصالح رحمه الله في جعل سياق الكلام موافقًا لما في «الصارم» فغيَّر وبدَّل، وزاد وأقحم، ليخرج الكلام بعد ذلك ركيكًا متنافر الأجزاء، لا هو كما في «الصارم» ولا هو كما كتبه المؤلف.
(2)
بعده في الأصل: «حاكمًا» ، إقحام.
وفي رواية أبي الحارث في نصراني استكره مسلمةً على نفسها: يقتل، ليس على هذا صولحوا، فإن طاوعَتْه قُتِل وعليها الحدُّ
(1)
.
وفي رواية حنبل: كلُّ مَن ذكر شيئًا يُعرِّض به للربِّ عز وجل فعليه القتل مسلمًا كان أو كافرًا.
وكذلك نقل عنه جعفر بن محمد في يهودي سمع المؤذِّن يؤذِّن فقال: كذبتَ؛ يُقتَل لأنَّه شتم.
وفي رواية أبي طالب في يهودي شتم النبي صلى الله عليه وسلم: يُقتَل، قد نقض العهد. وإن زنى بمسلمةٍ يُقتَل، أُتي عمر بيهودي نخس
(2)
بمسلمة ثمَّ غشيها فقتله.
وقال الخرقي
(3)
في الذمي إذا قتل عبدًا مسلمًا: [يُقتَل لِنقضه العهد].
قال القاضي: وفيه رواية أخرى لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من بذل الجزية وجَرْيِ أحكامنا عليهم.
وقال في رواية موسى بن عيسى
(4)
المَوصِلي في المشرك إذا قذف مسلمًا: يُضرَب.
(1)
سبق عزو هذه الرواية وكذا الروايات الآتية.
(2)
غير محرَّر في الأصل، يشبه:«فحش» ، والمثبت هو الصواب كما سبق.
(3)
في «المختصر» (11/ 479 مع المغني)، وما بين الحاصرتين مستدرك من نصِّه، ولم يرد في الأصل.
(4)
في الأصل: «عيسى بن موسى» ، مقلوب. والتصحيح من «الأحكام السلطانية» (ص 159) و «طبقات الحنابلة» (2/ 403).
وكذلك نقل الميموني
(1)
في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم: ينكَّل به، يُضرَب ما يرى الحاكم.
وكذلك نقل عنه عبدُ الله
(2)
في نصراني قذف مسلمًا: عليه الحد.
قال: وظاهر هذا أنَّه لم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلمين مع ما فيه من إدخال الضرر عليه بهَتْكِ عِرضه. انتهى.
فتأملَّ هذه النصوص، وتأمَّل تخريجه
(3)
، فأحمد لم يختلف قوله في انتقاض العهد بسبِّ الله ورسوله والزنا بمسلمة، ولم يختلف نصُّه في عدم الانتقاض بقذف المسلم، فإلحاق مسبَّة الله ورسوله بمسبَّة آحاد المسلمين من أفسد الإلحاق، وتخريجُ عدم النقض به مِن نصِّه على عدم النقض بسبِّ آحاد المسلمين من أفسد التخريج. وأين الضرر والمفسدة من هذا النوع إلى المفسدة من النوع الآخر؟ وإذا كان المسلم يُقتَل بسبِّ الله ورسوله، والزنا مع الإحصان، ولا يُقتَل بالقذف، فكذلك الذِّمِّي. فالذي نصَّ عليه الإمام أحمد في الموضعين هو محض الفقه، والتخريج باطلٌ نصًّا وقياسًا واعتبارًا.
واشتراك الصور كلِّها في إدخال الضرر على المسلم لا يوجب تساويها في مقدار الضرر
(4)
وكيفيته، فالمسلم إذا فعل ذلك فقد أدخل الضرر أيضًا مع التفاوت في الأحكام.
(1)
كما في «الجامع» (2/ 343).
(2)
في «مسائله» (ص 425) وعنه في «الجامع» (2/ 342).
(3)
في الأصل: «تحريمه» ، تحريف.
(4)
في المطبوع: «الضرب» !
ثم يقال: يا لله العجب! أين ضرر المجاهرة بسبِّ الله ورسوله وكلامه ودينه على رؤوس الملأ، وقهر المسلمات وإن كنَّ شريفات على الزنا، إلى ضرر منع دينارٍ يجب عليه من الجزية؟!
وكذلك أين ضرر تحريقه لمساجد المسلمين والمنابر، إلى ضرر منعه لدينار وجب عليه!! فكيف يقتضي الفقهُ أن يقال: ينتقض عهده بمنع الدينار دون هذه الأمور؟ وأين ضرر امتناعه من قبول حكم الحاكم إلى ضرر مجاهرته بسبِّ الله ورسوله وما معه؟
وطريقة أبي البركات في «المحرر»
(1)
في تحصيل المذهب في ذلك أصحُّ طرق الأصحاب على الإطلاق. قال: وإذا لَحِق الذمِّي بدار الحرب مستوطنًا
(2)
، أو امتنع من إعطاء ما عليه، أو التزام أحكام الملة، أو قاتل المسلمين= انتقض عهده. وإن قذف مسلمًا أو آذاه بسحر في تصرُّفاته لم ينتقض عهده، نصَّ عليه في رواية جماعة، وقيل: ينتقض.
وإن فتنه عن دينه، أو قتله، أو قطع عليه الطريق، أو زنى بمسلمة، أو تجسَّس للكفَّار أو آوى لهم جاسوسًا، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء= انتقض عهده، نصَّ عليه. وقيل: فيه روايتان بناءً على نصِّه في القذف، والأصحُّ التفرقة.
وإذا أظهر منكرًا، أو رفع صوته بكتابه، أو ركب الخيل ونحوه= عُزِّر ولم ينتقض عهده. وقيل: ينتقض إن شُرط عليه تركُه، وإلا فلا.
(1)
(2/ 187 - 188).
(2)
في الأصل والمطبوع: «متوطنًا» ، خطأ.
فصل
وأمَّا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى:
قال في «الأم»
(1)
: وإذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب
…
وذكر الشروط إلى أن قال: وعلى أن أحدًا منكم إن ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكر به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونقض ما أُعطي من الأمان، وحلَّ لأمير المؤمنين مالُه ودمُه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم.
وعلى أنَّ أحدًا من رجالهم إن أصاب مسلمةً بزناءٍ
(2)
أو اسم نكاح، أو قطع الطريق على مسلم، أو فتن مسلمًا عن دينه، أو أعان المحاربين على المسلمين بقتالٍ أو دلالةٍ على عورات المسلمين أو إيواءٍ لعيونهم= فقد نَقَض عهدَه وأحلَّ دمَه ومالَه. وإن نال مسلمًا بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه
(3)
الحكم.
ثم قال
(4)
: فهذه الشروط اللازمة إن رضيها، فإن لم يَرضها فلا عقد له ولا جزية
(5)
.
(1)
(5/ 471 - 472)، والمؤلف صادر عن «الصارم» (2/ 26 - 29).
(2)
كذا في الأصل ممدودًا، وهي لغة.
(3)
في الأصل: «وفيه» ، خطأ.
(4)
«الأم» (5/ 474).
(5)
ظاهر هذا النقل أن قوله: «ولا جزية» معطوف على «فلا عقد له» . وليس كذلك في «الأم» ، بل هو كلام مستأنف، فسياقه: «
…
فلا عقد له. ولا جزية على أبنائكم الصغار، ولا صبي غير بالغ، ولا مغلوب على عقله، ولا مملوك».
ثم قال
(1)
: وأيُّهم قال أو فعل شيئًا مما
(2)
وصفته نقضًا للعهد وأسلم لم يُقتَل إذا كان ذلك قولًا. وكذلك إذا كان فعلًا لم يُقتَل إلا أن يكون في دين المسلمين أنَّ مَن فعله قُتِل حَدًّا أو قَصاصًا، فيقتل بحدٍّ أو قصاصٍ لا بنقض عهد.
وإن فعل ما وصفنا وشُرِط أنَّه نقضٌ لعهد الذِّمَّة، فلم يسلم، لكنَّه قال: أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها، أو صلح أجدِّده= عُوقِب ولم يقتل، إلا أن يكون فعل فعلًا يوجب القصاص والحدَّ. فأمَّا ما دون هذا من الفعل والقول، فكلُّ قولٍ فيُعاقَب عليه ولا يُقتَل.
قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشُرِط أن يُحِلَّ دمَه، فظُفِرَ به فامتنع من أن يقول: أُسلِم أو أُعطِي الجزية= قُتِل وأخذ ماله فيئًا.
ونصَّ في «الأم»
(3)
أيضًا أنَّ العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنا بالمسلمة ولا بالجَسِّ
(4)
، بل يُحَدُّ فيما فيه الحَدُّ، ويعاقب عقوبةً مُنكِّلةً فيما فيه العقوبة، ولا يُقتَل إلا بأن يجب عليه القتل.
قال: ولا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكمِ، بعد الإقرار والامتناع بذلك. ولو قال: أؤدِّي الجزية ولا أُقِرُّ بالحكم، نُبِذ إليه ولم يُقاتَل
(1)
«الأم» (5/ 476).
(2)
في الأصل: «قال أم نقل شيئًا كما» ، تصحيف.
(3)
(5/ 449).
(4)
غير محرَّر في الأصل، يحتمل أن يقرأ:«بالتجسُّس» .
على ذلك مكانَه، وقيل له: قد تقدَّم لك أمانٌ، فأمانُك كان للجزية
(1)
وإقرارك بها، وقد أجَّلناك في أن تُخرَج من بلاد الإسلام. ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قُتل إن قُدر عليه. هذا لفظه.
وحكى ابن المنذر والخطابي
(2)
عن الشافعي أيضًا: أن عهده ينتقض بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم ويقتل.
وأمَّا أصحابه فذكروا فيما إذا ذكر الله أو رسوله بسوء وجهين
(3)
:
أحدهما: ينتقض عهدُه بذلك سواءٌ شُرِط عليه تركه أو لم يشترط، كما إذا قاتلوا المسلمين أو امتنعوا من التزام الحكم؛ كطريقة أبي الحسين من أصحابنا، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي. ومنهم مَن خصَّ سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدَه بأن يوجب القتل.
والثاني: أنَّ السبَّ كالأفعال التي على المسلمين فيها ضررٌ من قتل المسلم والزنا بالمسلمة والجسِّ وما ذكر معه. وذكروا في تلك الأمور وجهين:
أحدهما: أنَّه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها لم ينتقض العهد بفعلها، وإن شرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بذلك وجهان.
والثاني: لا ينتقض العهد بفعلها مطلقًا.
ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالًا، وهي أقوالٌ مشارٌ إليها، فيجوز أن
(1)
كذا في «الصارم» ، وفي مطبوعة «الأم»:«تقدَّم لك أمانٌ بأدائك للجزية» .
(2)
انظر: «الأوسط» (13/ 483) و «معالم السنن» (3/ 296).
(3)
كما في «الصارم» (2/ 29 - 31).
تُسمَّى أقوالًا ووجوهًا.
هذه طريقة العراقيين، وقد صرَّحوا بأنَّ المراد شرطُ تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها، كما ذكره أصحاب أحمد.
وأمَّا الخراسانيون فقالوا: المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها. قالوا: لأنَّ الترك
(1)
موجَب نفسِ العقد. وذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: ينتقض العهدُ بفعلها. والثاني: لا ينتقض. والثالث: إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض وإلا فلا.
ومنهم مَن قال: إن شُرِط نُقِض وجهًا واحدًا، وإن لم يشرط فوجهان. وحسبوا أنَّ مراد العراقيين بالاشتراط هذا، فقالوا حكايةً عنهم: وإن لم يَجرِ شرطٌ لم ينتقض العهد، وإن جرى فوجهان. ويلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنَّه [إن] لم يَجرِ شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها قولًا واحدًا وإن صُرِّح بشَرْطِ تركها. وهذا غلطٌ عليهم، والذي نصروه في كتب الخلاف: أنَّ سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ينقض العهد ويوجب القتل، كما ذكرناه عن الشافعي نفسه.
فصل
وأمَّا مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا
(2)
: ينتقض العهد بالقتال،
(1)
في الأصل: «الشرط» ، والتصحيح من «الصارم» .
(2)
كما في «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 495 - 496)، ولعل المؤلف صادر عنه.
أو منع الجزية، أو التمرُّد على الأحكام، أو إكراه المسلمة على الزنا، أو التطلُّع على عورات المسلمين. قالوا: ومَن نقض عهده وجب قتله ولم يسقط بإسلامه
(1)
.
قالوا: ومَن سبَّ منهم أحدًا من الأنبياء وَجَب قتلُه إلا أن يُسلِم.
وأمَّا قطع الطريق والسرقة ونحوهما فحكمه فيها حكم المسلمين، يقام عليه فيه الحَدُّ كما يُقَام على المسلمين، وليس ذلك من باب نقض العهد.
قالوا: وأمَّا رفع أصواتهم بكتابهم وركوب السروج وترك الغيار وإظهار معتقدهم في عيسى ونحو ذلك ممَّا لا ضررَ فيه على المسلمين، فإنَّما يُوجِب التأديب لا القتل.
قالوا
(2)
: وإذا ظهر نقض العهد من بعضهم، فإن أنكر عليه الباقون وظهر منهم كراهية ذلك اختصَّ النقض به، وإن ظهر رضاهم بذلك كان نقضًا من جميعهم، فعلامة بقائهم على العهد إنكارهم على من نقض عهده.
فصل
وأمَّا أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا: لا ينتقض العهد إلا بأن يكون لهم مَنَعةٌ، فيمتنعون من الإمام، ويمنعون الجزية، ولا يمكنه إجراء الأحكام عليهم. فأمَّا إذا امتنع الواحد منهم عن أداء الجزية أو فعل شيئًا من
(1)
كذا، والظاهر أنه وهم، فنصُّ ابن شاس في «الجواهر»:«فإن أسلم لم يُقتَل، إذ قتله لنقض العهد لا للحد» . ومثله في «الذخيرة» للقرافي (1/ 459).
(2)
انظر: «الكافي» لابن عبد البر (1/ 484). ولم أجده في «الجواهر» لابن شاس.
هذه الأشياء التي فيها ضررٌ على المسلمين أو غضاضةٌ على الإسلام لم يَصِر ناقضًا للعهد
(1)
.
لكن من أصولهم أنَّ ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمُثقَّل والتلوُّط وسبِّ الذمي لله ورسوله وكتابه ونحو ذلك، إذا تكرَّر فعلى الإمام
(2)
أن يقتل فاعله تعزيرًا. وله أن يزيد على الحد المقدَّر فيه إذا رأى [المصلحة] في ذلك، ويحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من القتل في مثل هذه الجرائم على أنَّه رأى المصلحة في ذلك ويسمُّونه القتل سِياسةً. وكان حاصله أنَّ للإمام أن يعزِّر بالقتل في الجرائم التي تغلَّظَت
(3)
بالتكرار، وشُرِع القتل في جنسها. ولهذا أفتى أكثر أصحابهم بقتل مَن أكثر من سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه، وقالوا: يُقتَل سِياسةً. وهذا متوجِّهٌ على أصولهم
(4)
.
قال القاضي في «التعليق» : والدلالة على أنَّ نقض العهد يحصل بهذه الأشياء وإن لم يشترطه في عقد الذمة: أنَّ الأمان
(5)
يقتضي الكفَّ عن الإضرار، وفي هذه الأشياء إضرارٌ، فيجب أن ينتقض العهد بفعلها كما لو شرط ذلك في عقد الأمان.
(1)
انظر: «بدائع الصنائع» (7/ 113) و «الاختيار لتعليل المختار» (4/ 139).
(2)
كذا في الأصل، وفي «الصارم»:«فللإمام» ، وهو الصحيح.
(3)
رسمه في الأصل: «» .
(4)
هذه الفقرة من «الصارم» (2/ 31 - 32)، وقد نقلها منه ابنُ عابدين في «حاشيته» على «الدر المختار» (4/ 214 - 215) وقال:«لم أَرَ من صرَّح به عندنا، لكنه نقله عن مذهبنا وهو ثَبْت، فيقبل» .
(5)
في الأصل والمطبوع: «الإمام» ، تصحيف.
قال: ولأنَّ عقد الذمة عقد أمان فانتقض بالمخالفة من غير شرط كالهُدنة.
قلتُ: واحتجَّ غيرُه من الأصحاب بوجوه أُخَر سوى ما ذكره
(1)
.
منها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فلا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطاء الجزية.
والمراد بإعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها
(2)
إلى حين تسليمها وإقباضها. فإنَّهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكفُّ عنهم إلى أن نقبضها منهم، فمتى لم يلتزموها أو التزموها وامتنعوا من تسليمها لم يكونوا معطين لها. فليس المراد: يكونوا صاغرين حال تناوُل الجزية منهم فقط، ويفارقهم الصَّغار فيما عدا هذا الوقت، هذا باطلٌ قطعًا.
وإذا عُلم هذا فمَن جاهَرَنا بسبِّ الله ورسوله، وإكراه حريمنا على الزنا، وتحريق جوامعنا ودُورنا، ورفع الصليب فوق رؤوسنا= فليس معه من الصَّغار شيء، فيجب قتاله قطعًا
(3)
بنصِّ الآية حتى يصير صاغرًا.
(1)
المؤلف صادر عن «الصارم» (1/ 32 وما بعدها) في كثير من وجوه الاحتجاج الآتية، مع تحرير وزيادة وترتيب.
(2)
في الأصل: «أو التزامها» ، والمثبت من «الصارم» أشبه.
(3)
سقط من المطبوع.
فإن قيل: فالمأمور به القتال إلى هذه الغاية
(1)
، فمن أين لكم القتل للمقدور
(2)
عليه؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ كل مَن أُمِرنا بقتاله من الكفار فإنَّه يُقتَل إذا قدرنا عليه.
الثاني: أنَّا
(3)
إذا كنَّا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يَجُز أن نعقد لهم عهد الذِّمَّة بدونها، ولو عُقد لهم [كان] عقدًا فاسدًا.
الثالث: أنَّ الأصل إباحة دمائهم، يُمسِك عصمتها الحَبْلان: حبلٌ من الله بالأمر بالكفِّ عنهم، وحبلٌ من الناس بالعهد والعقد، ولم يوجد واحدٌ من الحبلين. أمَّا حبل الله سبحانه فإنَّه إنَّما اقتضى الأمر
(4)
بالكفِّ عنهم إذا كانوا صاغرين، فمتى لم يوجد وصف الصَّغار المقتضي للكفِّ منهم وعنهم، فالقتلُ للمقدور
(5)
عليه منهم والقتالُ للطائفة الممتنعة واجبٌ.
وأمَّا حبل الناس فلم يعاهدهم الإمامُ والمسلمون إلا على الكفِّ عمَّا فيه إدخال ضرر على المسلمين وغضاضة في الإسلام، فإذا لم يوجد فلا عهد لهم من الإمام ولا من الله، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.
(1)
في الأصل: «فالمأثور
…
العناية».
(2)
في الأصل والمطبوع: «المقدور» ، والمثبت هو الصواب.
(3)
في الأصل: «أما» ، تصحيف.
(4)
في الأصل: «الا» ، نصف الكلمة.
(5)
في الأصل والمطبوع: «المقدور» ، والمثبت هو الصواب.
فصل
الدليل الثالث: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 7 - 12]، فنفى سبحانه أن يكون لمشرك عهدٌ ممَّن كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم إلا قومًا ذكرهم فجعل لهم عهدًا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلم أنَّ العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا.
ومعلومٌ أنَّ مُجاهَرتنا بتلك الأمور العِظام تقدح في الاستقامة، كما تقدح مُجاهرتنا بالمحاربة
(1)
فيها، بل مجاهرتنا بسبِّ ربِّنا ونبيِّنا وكتابِه وإحراق مساجدنا ودُورنا أشدُّ علينا من مجاهرتنا بالمحاربة إن كنَّا مؤمنين، فإنَّه يجب علينا أن نبذُلَ دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولا يُجهَر بين أظهرنا بشيء من أذى الله ورسوله. فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا مع القدح في أهون الأمرين، فكيف يستقيمون لنا مع القدح في أعظمهما؟!
يوضِّح ذلك قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يَرقُبوا الرَّحِم التي بينكم وبينهم ولا العهد، فعُلِم أنَّ مَن كانت حالته أنَّه إذا ظهر لم يَرقُب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهدٌ.
ومَن جاهرنا بالطعن في ديننا وسبِّ ربِّنا ونبيِّنا كان ذلك من أعظم الأدلة
(1)
في الأصل والمطبوع: «بالاستقامة» ، سهو أو سبق فلم. والسياق يقتضي المثبت، وقوله بعده:«فيها» أي: في الاستقامة.
على أنَّه لو ظهر علينا لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه، فإنَّه إذا كان هذا فِعله مع وجود العهد والذلة، فكيف يكون مع القدرة والدولة؟ وهذا بخلاف مَن لم يُظهِر لنا شيئًا من ذلك، فإنَّه يجوز أن يفي لنا بالعهد ولو ظهر.
فإن قيل: فالآية إنَّما هي في أهل الهُدنَة المقيمين في دارهم.
قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ لفظها أعمُّ. الثاني: أنَّها إذا كان معناها في أهل الذمة المقيمين بدارهم فثبوته في أهل الذمة المقيمين بدارنا أولى وأحرى.
فصل
الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ} [التوبة: 12]، فأمر سبحانه بقتال مَن نكث يمينه، أي: عهده الذي عاهدَنا عليه من الكفِّ عن أذانا والطعن في ديننا، وجَعَل علَّة قتاله ذلك، وعطف الطعن في الدين على نكث العهد وخصَّه بالذكر بيانًا أنَّه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال، ولهذا تغلَّظ على صاحبه العقوبة.
وهذه كانت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان يَهدِر دماء مَن آذى الله ورسوله وطعن في الدِّين ويُمسِك عن غيره.
فإن قيل: فالآية تدلُّ على أنَّ مَن نقض عهدَه وطعن في الدِّين فإنَّه يُقاتَل، فمن أين لكم أن من طعن في الدين ولم ينقض العهد
(1)
يُقاتَل؟ ومعلومٌ أنَّ
(1)
في الأصل لحق في الهامش غير محرر يشبه: «له» ولم يتبيَّن وجهه، وأثبت في المطبوع:«لم» ففسد السياق وانقلب المعنى.
الحكم المعلَّق بوصفين لا يَثبُت إلا بوجود أحدهما.
فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ هذا من باب تعليق الحكم بالوصفين المتلازمين اللَّذَين لا ينفَكُّ أحدهما عن الآخر، فمتى تحقَّق أحدُهما تحقَّق الآخر. وهذا كقوله تعالى:{وَمَن يُشَاقِقِ اِلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُلْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهْ مَا تَوَلَّى} [النساء: 114]، وكقوله:{وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ} [البقرة: 41]، وقوله:{وَمَن يَعْصِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]، ونظائره كثيرةٌ جدًّا.
فلا يُتصوَّر بقاؤه على العهد مع الطعن في ديننا، بل إمكان بقائه على العهد [مع منعه] دينارًا
(1)
أقربُ من بقائه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين، بل إن أمكن بقاؤه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين وسبِّه اللهَ ورسولَه أمكن بقاؤه عليه مع المحاربة باليد ومنع إعطاء الجزية، وهذا واضحٌ
(2)
لا خفاء به.
الجواب الثاني: أنَّه لا بدَّ أن يكون لكلِّ صفةٍ من هاتين الصفتين تأثير
(3)
في الحكم، وإلا فالوصف العديم التأثير لا يتعلَّق به الحكم، فلا يَصِحُّ أن
(1)
أي: من الجزية. وقد استشكل الناسخ «دينارًا» وكتب عليه «كذا» بالحمرة. وأما في المطبوع فصار «دينًا» ! وبالتقدير الذي بين الحاصرتين يستقيم السياق، ولعله سقط هو أو نحوه لانتقال النظر.
(2)
في الأصل: «أوضح» ، ولعل المثبت أشبه.
(3)
في الأصل والمطبوع: «ما يبين» ، تصحيف. والتصحيح من «الصارم» .
يقال: مَن أكل وزنى حُدَّ. ثم قد تكون كلُّ صفةٍ مستقِلَّةً بالتأثير لو انفردت، كما يقال: يُقتَل هذا لأنَّه زانٍ مرتدٌّ.
وقد يكون مجموع الجزاء مرتبًا على المجموع، ولكلِّ وصفٍ تأثيرٌ في البعض، كما قال تعالى:{وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].
وقد تكون تلك الصفات متلازمةً، كلٌّ منها لو فرض تجرُّده لكان مؤثِّرًا على سبيل الاستقلال، فيُذكَر إيضاحًا وبيانًا للموجِب
(1)
.
وقد يكون بعضها مستلزمًا للبعض من غير عكسٍ، كما قال تعالى:{إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَيَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21].
وهذه الآية من أي الأقسام فُرِضت كانت دليلًا، لأنَّ أقصى ما يقال: إن نقضَ العهد هو المبيح للقتال، والطعنَ في الدِّين مؤكِّدٌ له مُوجِبٌ له. فنقول: إذا كان الطعن يغلِّظ قتال من ليس بيننا وبينه عهدٌ ويوجبه، فلأن يُوجِب قتلَ مَن بيننا وبينه ذِمَّةٌ ــ وهو ملتزمٌ للصَّغار ــ أولى، فإنَّ المعاهد له أن يُظهر في داره ما شاء من أمر دينه، والذِّمِّي ليس له أن يُظهر في دار الإسلام شيئًا من دينه الباطل.
الجواب الثالث: أنَّ مجرَّد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة ولو تجرَّد عن الطعن في الدِّين، وضررُه أيسر
(2)
من ضرر الطعن في الدين علينا، فإذا كان أيسر الأمرين مقتضِيًا للمقاتلة فكيف بأشدِّهما؟
(1)
رسمه في الأصل: «بالموجب» . والمثبت من «الصارم» .
(2)
في الأصل والمطبوع: «أشد» ، تصحيف.
الجواب الرابع: أنَّ الذمِّي إذا سبَّ الله والرسول أو عاب الإسلام علانيةً فقد نكث يمينَه وطعن في ديننا، ولا خلافَ بين المسلمين أنَّه يعاقب على ذلك بما يَردَعه ويُنكَّل به؛ فعُلِم أنَّه لم يعاهدنا عليه، إذ لو كان معاهدًا عليه لم تجُزْ عقوبتُه عليه كما لا يُعاقَب على شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك. وإذا كنا عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن فقد نكث يمينه من بعد عهده، فيجب قتلُه بنصِّ الآية.
قال شيخنا
(1)
: وهذه دلالةٌ ظاهرةٌ جدًّا، لأنَّ المُنازِع سلَّم لنا أنَّه
(2)
ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه، لكنَّه يقول: ليس كلُّ ما مُنع منه نقض عهدَه كإظهار الخمر والخنزير. ولكن الفرق بين مَن وُجد منه فِعْلُ ما مَنَع [منه] العهدُ ممَّا لا يضُرُّ بنا ضررًا بيِّنًا، كترك الغيار مثلًا وشرب الخمر وإظهار الخنزير، وبين مَن وُجِد منه فِعلُ ما منع منه العهدُ ممَّا
(3)
فيه غاية الضرر بالمسلمين وبالدين، فإلحاق أحدهما بالآخر باطلٌ.
يوضِّح ذلك الجواب الخامس: أنَّ النكث هو مخالفة العهد، فمتى خالفوا شيئًا ممَّا صُولِحوا عليه فهو نكثٌ؛ مأخوذٌ من نَكْث الحبلِ، وهو نقض قواه، ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة، كما يحصل بنقض جميع القُوى، لكن قد [يبقى من قواه ما]
(4)
يتمسَّك به الحبل، وقد يَهِن بالكلية.
(1)
«الصارم المسلول» (2/ 38 - 40).
(2)
في الأصل: «سلَّم أن لنا به» ، والمثبت من «الصارم»
(3)
في الأصل: «ما» .
(4)
ما بين الحاصرتين من «الصارم» . وكذا في الموضع الآتي.
وهذه المخالفة من المعاهد قد تُبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيًّا، وقد تُشعِّث العهد حتى تبيح عقوبتهم، كما أنَّ فَقْدَ بعض الشروط في البيع والنكاح وغيرهما قد يُبطِله بالكلية، وقد يبيح الفسخ والإمساك.
وأمَّا مَن قال: ينتقض العهد بجميع المخالفات، فظاهرٌ على قوله
(1)
.
قال القاضي في «التعليق» : واحتَجَّ المخالف
(2)
بأنَّهم لو أظهروا مُنكرًا في دار الإسلام، مثل إحداث البيع والكنائس في دار الإسلام، ورفعِ الأصوات بكتبهم، والضربِ بالنواقيس، وإطالةِ البناء على أبنية المسلمين، وإظهارِ الخمر والخنزير، وكذلك ما أُخِذ عليهم تركُه من التشبُّه بالمسلمين في ملبوسهم ومركوبهم وشعورهم وكُنَاهم [= لم ينتقض عهدهم]
(3)
.
قال: والجواب أنَّ مِن أصحابنا مَن جعله ناقضًا للعهد بهذه الأشياء، وهو ظاهر كلام الخِرَقي، فإنَّه قال
(4)
: ومن نقض العهد بمخالفة شيء ممَّا صولحوا عليه عاد حربيًّا؛ فعلى هذا لا نسِّلم. وإنَّ سلَّمناه فالمعنى
(5)
فيها أنَّه لا ضرر على المسلمين فيها، وإنَّما نُهُوا عن فعلِها لِما في إظهارها من المنكر،
(1)
انتهى كلام شيخ الإسلام، وسيرجع إليه المؤلف بعد النقل عن القاضي أبي يعلى.
(2)
في الأصل والمطبوع: «القاضي» ، سهو أو سبق قلم. والمثبت هو عادة القاضي في «التعليق» كما في القدر المطبوع منه.
(3)
زيادة لازمة لإقامة السياق.
(4)
في «المختصر» (13/ 236 مع المغني).
(5)
في الأصل: «فالعين» ، تصحيف. والمثبت جارٍ على سَنن القاضي في كتابه.
وليس كذلك في مسألتنا
(1)
، لأنَّ في فعلها ضررًا بالمسلمين، فبان الفرق. انتهى كلامه.
قال شيخنا
(2)
: فعلى التقديرين فقد اقتضى العقدُ أن لا يُظهروا شيئًا من عيب ديننا، وأنَّهم متى أظهروه فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظًا ومعنى، ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص.
فصل
وفي الآية دليل من وجه آخر، وهو قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا أَئمَّةَ اَلْكُفْرِ} ، وهم الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في ديننا، ولكن أقام الظاهرَ مقام المُضمَر تنبيهًا
(3)
على الوصف الذي استحقُّوا به المُقاتَلة، كقوله:{وَاَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا اُلصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] ونظائره، فدلَّ على أنَّ مَن نكث يمينه وطعن في ديننا فهو من أئمة الكفر، وإمام الكفر هو الداعي إليه المتَّبَع
(4)
فيه.
وإنما صار إمامًا في الكفر لأجل الطعن، وإلا فمجرَّد النكث لا يوجب ذلك. وهذا ظاهرٌ، فإنَّ الطاعن في الدين يعيبه ويذمُّه ويدعو إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فإذا طعن الذميُّ في الدين كان إمامًا في الكفر فيجب قتاله.
(1)
في الأصل والمطبوع: «ملَّتنا» !
(2)
«الصارم» (2/ 40).
(3)
في الأصل والمطبوع: «بينهما» ، تصحيف عن المثبت.
(4)
في الأصل: «الممتنع» ، تصحيف. والتصحيح من «الصارم» .
وقوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} علَّةٌ أخرى لقتاله. فأمَّا على قراءة الكسر
(1)
فتكون الآية
(2)
قد تضمَّنَت ذكر المقتضي للقتال ــ وهو نكث العهد والطعن في الدين ــ وبيانَ عدمِ المانع من القتال وهو الإيمان العاصِم
(3)
.
وأمَّا على قراءة فتح الألف فالأيمان جمع يمينٍ
(4)
. وهي أحسن القراءتين، لأنه قد تقدَّم في أول الآية قوله:{وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم} ، فأخبر سبحانه عن سبب القتال ــ وهو نكث الأيمان والطعن في الدين ــ ثم أخبر أنه لا أيمان لهم تعصمهم من القتل، لأنهم قد نكثوها.
والمراد بالأيمان هنا العهود لا القسم بالله، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية، وإنما عاهدهم، ونسخة الكتاب محفوظةٌ
(5)
ليس فيها قسمٌ، وهذا لأن كلًّا من المتعاهدين يمدُّ يمينه إلى الآخر، ثم صار مجرد الكلام بالعهد يُسمَّى يمينًا، وإن لم يحصل فيه مدُّ اليمين. وقد قيل: سمِّي العهد يمينًا [لأنَّ اليمين]
(6)
هي القوة والشدة، كما قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ
(1)
أي: كسر همزة {أَيْمَانَ} ، وهي قراءة ابن عامر وحدَه. انظر:«النشر» (2/ 278).
(2)
في الأصل: «الاسر» ، تحريف.
(3)
هذا إذا كان الإيمان بمعنى الإيمان بالله ورسوله. ويحتمل أن يكون الإِيمان مصدر «آمَنَه» إذا أمَّنه، أي: أعطاه الأمان. فيكون المعنى: لا يُؤمَنون، أي: لا يجوز إعطاؤهم الأمانَ بعد نكثهم وطعنهم.
(4)
في الأصل: «بهن» !
(5)
في الأصل: «» ، ولعله تصحيف عن المثبت. وفي «الصارم»:«معروفة» .
(6)
ما بين الحاصرتين من «الصارم» .
بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]، ولما كان الحلف معقودًا مشدودًا سمِّي يمينًا.
فاسم اليمين جامعٌ للعهد الذي بين العبد وبين ربِّه ــ وإن كان نذرًا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«النذر حلفةٌ»
(1)
ــ وللعهد الذي بين المخلوقين. ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنقُضُوا اُلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، فالنهي عن نقض
(2)
العهود وإن لم يكن فيها قسمٌ.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اِللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، ولم
(3)
يكن هناك قسمٌ.
ومنه قوله تعالى: {وَاَتَّقُوا اُللَّهَ اَلَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَاَلْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، معناه: تتعاهدون وتتعاقدون به.
والمقصود: أن كل
(4)
من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدًا يقتضي أن
(1)
أخرجه أحمد (17340) وأبو يعلى (1744) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «النذر يمين» ، وإسناده ضعيف. والمحفوظ في حديث عقبة لفظُ مسلمٍ (1645) وغيره:«كفارة النذر كفارة اليمين» .
ولفظ «النذر حلفة» ذكره الإمام أحمد في «مسائله» برواية صالح (1/ 396) موقوفًا على عقبة من قوله. وذكره شيخ الإسلام في مواضع من تصانيفه، تارةً مرفوعًا كما هنا (أي: في الصارم 2/ 42)، وتارةً موقوفًا كما في «الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» (ص 118، 364، 531).
(2)
في الأصل والمطبوع: «بعض» ، والتصحيح من «الصارم» .
(3)
في الأصل: «وإن لم» ، ولعله سهو. والمراد أن بيعة الرضوان لم يكن فيها قسم.
(4)
في الأصل: «كان» ، تصحيف.
لا يفعل ذلك، فهو إمامٌ في الكفر لا يمين له، فيجب قتله بنص الآية. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمامٍ في الكفر، وهو من خالف بفعل
(1)
شيء مما صولح عليه.
فصل
الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ اِلرَّسُولِ} [التوبة: 13]، فجعل همهم بإخراج الرسول موجِبًا لقتالهم لما فيه من الأذى له.
ومعلومٌ قطعًا أن سبَّه أعظم أذًى له من مجرد إخراجه من بلده، ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه ولم يعفُ عمَّن سبه. فالذمي إذا أظهر سبه صلى الله عليه وسلم فقد نكث عهده، وفعل ما هو أعظم من الهمِّ بإخراج الرسول، وبدأ بالأذى
(2)
فيجب قتاله.
فصل
الدليل السادس: قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اُللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15]، فأمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين، ورتَّب على ذلك ستة أشياء: تعذيبهم بأيدي
(3)
المؤمنين، وخزيهم، والنصرة
(1)
رسمه في الأصل: «» .
(2)
إشارة إلى قوله تعالى في تمام الآية المذكورة: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
(3)
في المطبوع: «بأذى» ، تصحيف.
عليهم، وشفاء صدور المؤمنين، وذهاب غيظ قلوبهم، وتوبته على غيرهم. والتقدير: إن تقاتلوهم يحصُلْ هذا.
وإذا كانت هذه الأمور مرتبةً على قتال الناكث والطاعن في الدين، وهي أمور مطلوبة= كان سببها المقتضي لها مطلوبًا للشارع، وهو القتال. وإذا كانت هذه الأمور مطلوبةً حاصلةً بالقتال لم يَجُزْ تعطيل القتال الذي هو سببها مع قيام المقتضي له من جهة من يقاتله، وهو النكث والطعن في الدين. فشفاء الصدور الحاصل من ألم النكث والطعن، وذهابُ الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك= مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول.
ولا ريب أن من أظهر سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر من سفك دماء بعضهم وأخذِ أموالهم، فإن هذا يثير
(1)
الغضب لله والحميةَ له ولرسوله، وهذا القدر لا يهيِّج في قلب المؤمن غيظًا
(2)
أكثر منه، بل المؤمن المسدَّد لا يغضب هذا الغضب إلا لله ورسوله. والله سبحانه يحب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل السبَّاب لأوجهٍ:
أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدًا من المسلمين، فلو أذهب التعزير والتأديب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من سبِّ نبيهم مثلَ غيظهم من سبِّ واحدٍ منهم، وهذا باطلٌ قطعًا.
(1)
في الأصل: «يبين» ، تصحيف.
(2)
في الأصل: «غيظ» ، والتصحيح من «الصارم» .
الثاني: أن شتمه أعظمُ عندهم من أن يسفك دماءَ بعضهم
(1)
؛ [فـ] ـلو قَتَل واحدًا
(2)
منهم لم يشفِ صدورَهم إلا قتلُه، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل السابِّ أولى وأحرى.
الثالث: أن الله جعل قتالهم هو السببَ في حصول الشفاء، والأصل عدم سببٍ آخرَ يُحصِّله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خُزاعة ــ وهم القوم المؤمنون ــ من بني بكر الذين قاتلوهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس
(3)
. فلو كان شفاءُ صدورهم وذهابُ غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين
(4)
نكثوا أو طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه الناس.
(1)
بعده في الأصل: «بعضًا دمائهم» ، ثم ضرب الناسخ على الكلمة الثانية، وحقُّ الأولى أن يُضرب عليها أيضًا، إذ المراد: أن شتم الكافر للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم عندهم من أن يسفك ذلك الكافر دماءَ بعضهم. وقارن بـ «الصارم» (2/ 47).
(2)
في الأصل: «واحد» ، والمثبت أشبه.
(3)
كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «كُفُّوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر» ، فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم قال لهم:«كُفُّوا السلاح» . أخرجه أحمد (6681) وابن أبي شيبة (38059) بإسناد حسن. وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن حبان (5996)، ومن مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة (38057) بنحوه.
(4)
في الأصل: «الذين» .
فصل
الدليل السابع: قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ اَلْخِزْيُ اُلْعَظِيمُ} [التوبة: 63]، ذكر سبحانه هذه الآية عقيب قوله:{وَمِنْهُمُ اُلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُن} [التوبة: 61]، فجعلهم مؤذين له بقولهم:{هُوَ أُذُن} ، ثم قال:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، فجعلهم بهذا محادِّين. ومعلومٌ قطعًا أن من أظهر مسبة الله ورسوله والطعن في دينه أعظم محادةً له ولرسوله
(1)
.
وإذا ثبت أنه محادٌّ فقد قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي اِلْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20]، والأذل أبلغ من الذليل. ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله، لأن من كان دمُه ومالُه معصومًا لا يُستباح فليس بأذلَّ، يدل عليه قوله تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ اِلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اَللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ اَلنَّاسِ} [آل عمران: 112]، فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد، فعُلِم أنَّ من له عهدٌ وحبلٌ يأمن به على نفسه وماله لا ذلَّة عليه وإن كانت عليه المسكنة، فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة. وقد جعل سبحانه المحادِّين في الأذلِّين، فلا يكون لهم عهد، إذ العهد ينافي الذلةَ كما دلت عليه الآية.
وهذا ظاهر، فإن الأذل ليس له قوةٌ يمتنع بها ممن أراده بسوءٍ، فإذا كان [له] من المسلمين عهدٌ يجب عليهم به نصرُه ومنعُه فليس بأذلَّ. فثبت أن المحادَّ لله ورسوله لا يكون له عهدٌ يعصمه.
(1)
في الأصل: «ورسوله» .
فصل
الدليل الثامن: قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والكبت: الإذلال والخزي والصرع
(1)
على الوجه. قال النضر وابن قتيبة
(2)
: هو الغيظ والحزن. وقال أهل التفسير
(3)
: {كُبِتُوا} أُهلكوا
(4)
وأُخزوا وحُزِنوا.
وإذا كان المُحادُّ مكبوتًا، فلو كان آمنًا على نفسه وماله لم يكن مكبوتًا بل مسرورًا جذلًا يشفي صدره من الله ورسوله آمنًا على دمه وماله، فأين الكبت إذًا؟
ويدل عليه قوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ، فخوَّفهم بكبتٍ نظير كبت من قبلهم، وهو الإهلاك من عنده أو بأيدي عباده وأوليائه.
وقوله: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] عقيب قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ} دليل على أن المحادَّةَ مغالَبةٌ ومعاداةٌ حتى يكون أحدُ المحادِّين غالبًا. وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم، فعُلم أن المحادَّ ليس بمسالمٍ، فلا يكون له أمانٌ مع المحادَّة. وقد جرت سنة الله سبحانه أن الغلبة لرسله بالحجة والقهر، فمن أُمِر منهم بالحرب نُصِر
(1)
في الأصل: «والتصرع» ، تصحيف.
(2)
انظر: «غريب القرآن» له (ص 110، 457).
(3)
انظر: «مجاز القرآن» لأبي عُبيدة (2/ 255)، «تفسيرالطبري» (22/ 466)، و «معالم التنزيل» (8/ 54).
(4)
في الأصل: «هلكوا» ، والمثبت من «الصارم» .
على عدوِّه، ومن لم يُؤمر بالحرب أُهلِك عدوُّه.
يوضِّحه أنَّ المحادَّة مشاقةٌ، لأنَّها من الحدِّ والفصل والبينونة، وكذلك المشاقة من الشِّقِّ، وكذلك المعاداة من العُدوة وهي الجانب، يكون أحد العدوَّين في شقٍ وجانبٍ وحدٍّ، وعدوُّه الآخر في غيرها. والمعنى في ذلك كله معنى المقاطعة والمفاصلة، وذلك لا يكون إلا مع انقطاع الحبل الذي بيننا وبين أهل العهد، لا يكون مع اتصال الحبل أبدًا.
يوضحه: أنَّ الحبل وُصلةٌ وسببٌ، فلا يجامع المفاصلة والمباينة.
وأيضًا: فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فقد قال تعالى: {فَاَضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَاَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اُللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اُلْعِقَابِ} [الأنفال: 12 - 13]، فأمر بضرب أعناقهم، وعلَّل ذلك بمشاقَّتهم ومُحاددتهم
(1)
، وكل من فعل ذلك وجب أن يضرب عنقه. وهذا دليل تاسعٌ في المسألة.
وتركيبه
(2)
هكذا: هذا مشاقٌّ لله ورسوله، والمشاق لله ورسوله مستحقٌّ ضربَ العنق، وقد تبيَّنت صحة المقدمتين.
ونظير هذا الاستدلال: قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمِ اِلْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي اِلدُّنْيا وَلَهُمْ فِي اِلْآخِرَةِ عَذَابُ اُلنّارِ} [الحشر: 3]، والتعذيب في الدنيا هو القتل والإهلاك، ثم علَّل ذلك بالمشاقَّة، وأخَّر عنهم ذلك التعذيب
(1)
كذا في الأصل بفكِّ الإدغام.
(2)
في الأصل: «تركته» ، فأثبت صبحي الصالح:«ترتيبه» ، والمثبت أقرب إلى الرسم.
لما سبق من كتابة الجلاء عليهم. فمن
(1)
وجدت منه المشاقَّة [من] غيرهم ممن لم يَكتب عليه الجلاء استحقَّ عذاب الدنيا الذي أخَّره عن أولئك. وهذا دليل عاشرٌ في المسألة.
فصل
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه الأفعال أذًى لله ورسوله قطعًا، بل أذى الله ورسوله يحصل بدونها.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52]، فيجب أن يكون هذا الملعون في الدنيا والآخرة عادم النصير بالكلية، فلو كان مالُه ودمُه معصومَين لوجب على المسلمين نصرته وكانوا كلُّهم أنصارَه. وهذا مخالفةٌ صريحةٌ لقوله:{فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} .
يوضحه الدليل الثاني عشر: وهو أن هذا مؤذٍ لله ورسوله، فتزول العصمة عن نفسه وماله لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله»
(2)
، فندب إلى قتله بعد العهد، وعلَّل ذلك بكونه آذى الله ورسوله، وستأتي قصته إن شاء الله تعالى.
فصل
الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
(1)
في الأصل: «فمتى» ، تصحيف.
(2)
أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.