الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابق منهما، فقال بعض الأصحاب: لم يعرض له فيها. وعندي أنَّه لا يُقَرُّ، لأنَّ التعلية مفسدةٌ وقد شككنا في شرط الجواز. وهذا تفريعٌ على ما ذكره الأصحاب من جواز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم، وعلى ما نصرناه فالمنع ظاهرٌ.
وخامسها: لو كان لأهل الذمة جارٌ من ضَعفة المسلمين، دارُه في غاية الانحطاط، فظاهر ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي أنَّهم كلَّهم يُكلَّفون حطَّ بنائهم عن داره أو مساواته. واستشكله الجويني في «النهاية»
(1)
ولا وجه لاستشكاله، والله أعلم.
فصل
في تملُّك الذمي بالإحياء في دار الإسلام
وقد اختلف العلماء في الذمي، هل يملك بالإحياء كما يملك المسلم؟ فنصَّ أحمد في رواية حرب، وابن هانئ، ويعقوب بن بختان، ومحمد بن أبي حرب على أنَّه يملك به كالمسلم.
قال حرب
(2)
: قلت: إنْ أحيا رجلٌ من أهل الذمة مَواتًا ماذا عليه؟ قال: أمَّا أنا فأقول: ليس عليه شيء، وأهل المدينة يقولون فيه قولًا حسنًا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر، وأهل البصرة يقولون قولًا عجيبًا، يقولون: يُضاعَف عليه العشر!
(1)
(18/ 54).
(2)
كما في «الجامع» (1/ 152).
قال
(1)
: وسألته مرةً أخرى قلت: إنْ أحيا رجلٌ من أهل الذمة مواتًا؟ قال: هو عشر. وقال مرةً: ليس عليه شيء.
وبهذا قالت الحنفية وأكثر المالكية
(2)
. وذهب بعض أصحاب أحمد إلى المنع
(3)
، منهم أبو عبد الله بن حامدٍ أخذًا من امتناع شُفْعَته على المسلم بجامع التمليك لما يخصُّ المسلمين.
وفرَّق الأصحاب بينهما بأنَّ الشفعة تتضمَّن انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، والإحياء لا يُنزَع به أحدٌ
(4)
.
والقول بالمنع مذهب الشافعية وأهل الظاهر وأبي الحسن بن القصَّار من المالكية
(5)
. وهو مذهب عبد الله بن المبارك إلا أن يأذن له الإمام.
واحتجَّ هؤلاء بأمور، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَوَتانُ الأرضِ لله ولرسوله ثمَّ هي لكم»
(6)
، فأضاف عموم الموات إلى المسلمين، فلم يَبْقَ فيه شيء للكفار.
ومنها: أنَّ ذلك من حقوق الدار، والدار للمسلمين.
(1)
ليس في مطبوعة «الجامع» . وقد نقله عن حرب أيضًا شيخ الإسلام في «الاقتضاء» (2/ 35).
(2)
انظر: «الاختيار لتعليل المختار» (3/ 67) و «النوادر والزيادات» (10/ 504).
(3)
انظر: «المغني» (8/ 148) و «الإنصاف» (16/ 83).
(4)
أي: ملكُ أحدٍ.
(5)
انظر: «الأم» (5/ 23)، و «المحلى» (8/ 243)، و «التبصرة» للخمي (7/ 3290).
(6)
انظر: «نهاية المطلب» (8/ 281) و «المغني» (8/ 148)، وسيأتي أنه لا يوجد حديث بهذا اللفظ.
ومنها: أنَّ إضافة الأرض إلى المسلم، إمَّا إضافةُ ملك وإمَّا إضافةُ تخصيص، وعلى التقديرين فتملُّك الكافر بالإحياء ممتنعٌ.
وبأنَّ المسلم إذا لم يملك بالإحياء في أرض
(1)
الكفار المُصالَح عليها، فأحرى أن لا يملك الذميُّ في أرض الإسلام.
واحتجَّ الآخرون
(2)
بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتةً فهي له»
(3)
.
وبأنَّ الإحياء من أسباب الملك، فمَلَك به الذميُّ كسائر أسبابه.
قالوا: وأمَّا الحديث الذي ذكرتموه: «موتان الأرض لله ورسوله» ، فلا يُعرَف في شيء من كتب الحديث، وإنما لفظه:«عاديُّ الأرض لله ورسوله ثم هو لكم»
(4)
، مع أنَّه مرسلٌ.
(1)
في الأصل: «الأرض» ، خطأ.
(2)
كصاحب «المغني» (8/ 149)، والمؤلف صادر عنه في بعض أوجه الاحتجاج.
(3)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2166، 2167) عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، وعن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفًا، والموقوف علَّقه البخاري في المزارعة (باب من أحيا أرضًا مواتًا) بصيغة الجزم.
وروي مسندًا موصولًا من وجوه، أشبهها: هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن جابر رضي الله عنه. أخرجه أحمد (14271) والترمذي (1379) والنسائي في «الكبرى» (5725، 5726) وابن حبان (5205) وغيرهم مِن طُرُق عن هشام به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الدارقطني في «العلل» (3279): يُشبه أن يكون محفوظًا. وانظر: «العلل» أيضًا (665، 3460)، و «إرواء الغليل» (1520، 1550)، و «أنيس الساري» (5387).
(4)
أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 88) ويحيى بن آدم في «الخراج» (269) وأبو عبيد في «الأموال» (688) وابن زنجويه (1008) وعلي بن حرب الطائي في «حديث سفيان بن عيينة» ــ كما في «الإيماء إلى زوائد الأجزاء» (7012) ــ والبيهقي (6/ 143) من طرق عن طاوس مرسلًا. وتمامه: «فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض فهو أحقُّ به» لفظ يحيى بن آدم.
وفي بعض الطرق عند البيهقي (7/ 143): عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، وفي بعضها: عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا متصلًا. والمرسل الصواب.
وعاديُّ الأرض: ما تقادم ملكه، فلا يُعرف له مالك اليوم، نسبةً إلى قوم عادٍ لقِدَمهم.
قالوا: ولو ثبت هذا اللفظ لم يَمنع تملُّكَ الذمي بالإحياء، كما يتملَّك بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد ما هو للمسلمين، فإنَّ المسلمين إذا ملكوا الأرض ملكوها بما فيها من المعادن والمنافع، ولا يمتنع أن يتملَّك الذمي بعض ذلك. وإقرار الإمام معهم على ذلك جارٍ مَجرى إذنه لهم فيه.
ولأنَّ فيه مصلحةً للمسلمين بعمارة الأرض وتَهْيِئَتها للانتفاع بها وكثرة مُغَلِّها
(1)
، ولا نقص على المسلمين في ذلك.
وأمَّا كون المسلم لا يملكها بالإحياء في دار العهد، فهذا فيه وجهان.
وأما كون الحربي والمستأمن لا يملكان بالإحياء فقد قال أبو الخطاب: إنَّهما كالذمي في ذلك. ولو سُلِّم أنَّهما ليسا كالذمي فالفرق بينهما ظاهرٌ، فإنَّا لا نُقِرُّ الحربيَّ المستأمَنَ
(2)
في دار الإسلام كما نُقِرُّ الذمي.
(1)
أي: غلَّتها. ورسمه في الأصل يشبه: «فعلها» ، وعليه جاء المطبوع، ولا معنى له.
(2)
كذا هنا صفةً للحربي، وسبق آنفًا معطوفًا عليه.