الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد الظفر سبق توبة وظهرت أمارة صدقه فوجهان: أوجههما: عدم تصديقه لاتهامه ما لم تقم بها بينة، وقيل في كل منهما قولان، ولا تسقط سائر الحدود المختصة بالله تعالى كحد زنا وسرقة وشرب مسكر بها أي بالتوبة قبل الرفع وبعده، ولو في قاطع الطريق في الأظهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حد من ظهرت توبته، بل من أخبر عنها بها بعد قتلها. والثاني تسقط بها قياسا على حد قاطع الطريق، وانتصر له جمع، نعم؛ تارك الصلاة يسقط حده بها عليهما ولا يسقط بها عن ذمي بإسلامه كما مر، ومحل الخلاف في الظاهر، أما فيما بينه وبين الله تعالى فحيث صحت توبته سقط بها سائر الحدود قطعا ومن حد في الدنيا لم يعاقب عليه. اهـ.
مذهب الحنابلة
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني ما نصه (كتاب قطاع الطريق)
الأصل في حكمهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، وبه يقول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية في المرتدين، وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وعبد الكريم؛ لأن سبب نزولها قصة العرنيين، وكانوا ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الرعاة فاستاقوا إبل الصدقة؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة حتى ماتوا، قال أنس: فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} (2) الآية، أخرجه أبو داود والنسائي، ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين.
ولنا قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (3) والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها، ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال، والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5).
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة المائدة الآية 34
(4)
سورة البقرة الآية 278
(5)
سورة البقرة الآية 279
مسألة: قال: (المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة).
وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد تعتبر لهم شروط ثلاثة: (أحدها): أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان ذلك منهم في القرى والأمصار فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق؛ لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء؛ ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا؛ فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه، وقال كثير من أصحابنا: هو قاطع حيث كان، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب؛ ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى.
يشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح وأن يأتوا مجاهرة. . . إلخ.
وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا، فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث، فليس هؤلاء بقطاع طريق؛ لأنهم في موضع يلحقهم الغوث عادة، وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون؛ لأنهم لا يلحقهم الغوث، فأشبه قطاع الطريق في الصحراء.
(الشرط الثاني) أن يكون معهم سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين؛ لأنهم لا يمنعون من يقصدهم، ولا نعلم في هذا خلافا، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين؛ لأنه لا سلاح معهم.
ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد.
(الشرط الثالث) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لا راجعون إلى منعة
وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.
مسألة - قال: (فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا وخلي).
روينا نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة ومجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق، وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع؛ لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي؛ لأن (أو) تقتضي التخيير كقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1)، وهذا قول سعيد بن المسيب، وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبى ثور وأبي داود، وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله؛ لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع فكان للإمام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق، وقال مالك: إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله.
ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق (2)» ، فأما (أو) فقد قال ابن عباس مثل قولنا، فإما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة الظهار والقتل، ويدل عليه أيضا أن العقوبات تختلف باختلاف الإجرام؛ ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف
(1) سورة المائدة الآية 89
(2)
رواه البخاري في الديات ورواه مسلم في القسامة بهذا المعنى ورواه أبو داود في الديات ص640 واللفظ له.
والسارق، وقد سووا بينهم مع اختلاف جناياتهم، وهذا يرد على مالك فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات، وهو مخالف للأصول التي ذكرناها.
وأما قول أبي حنيفة فلا يصح؛ لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لم يخير الإمام فيه كقطع السارق، وكما لو انفرد بأخذ المال، ولأن الحدود لله تعالى إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن.
وقد روي عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا برزة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف» ، وقيل: إنه رواه أبو داود وهذا كالمسند، وهو نص، فإذا ثبت هذا فإن قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس:
(الأول) إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب، وقتله متحتم لا يدخله عفو. أجمع على هذا كل أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من تحفظ عنه من أهل العلم. روي ذلك عن عمر، وبه قال سليمان بن موسى والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي؛ ولأنه حد من حدود الله تعالى فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود.
وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول، فيه روايتان:(إحداهما): لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، والأب بالابن؛ لأن هذا القتل حد الله تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة. (والثانية): تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر (1)» ، والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط الانحتام ولم يسقط القصاص، فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميا أو الحر عبدا أو أخذ ماله قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال، وغرم دية الذمي وقيمة العبد، وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي، وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال، وإن قتله لغير ذلك مثل أن يقصد لعداوة بينهما، فالواجب قصاص غير متحتم، وإذا قتل صلب لقول الله تعالى:{أَوْ يُصَلَّبُوا} (2) والكلام فيه في ثلاثة أمور:.
(أحدهما): في وقته، ووقته بعد القتل، وبهذا قال الشافعي، وقال الأوزاعي ومالك والليث وأبو حنيفة وأبو يوسف: يصلب حيا ثم يقتل مصلوبا يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في
(1) صحيح مسلم الصلاة (487)، سنن النسائي التطبيق (1134)، سنن أبو داود الصلاة (872)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149).
(2)
سورة المائدة الآية 33
الحياة كسائر الأجزية، ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه فلا يجوز.
ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف؛ فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1)، ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع كان قتلا بالسيف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة (2)» ، وأحسن القتل، هو القتل بالسيف، وفي صلبه حيا تعذيب له، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، وقولهم: إنه جزاء على المحاربة، قلنا: لو شرع لردعه لسقط بقتله كما يسقط سائر الحدود مع القتل، وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره، وهذا يحصل بصلبه بعد قتله، وقولهم: يمنع تكفينه ودفنه، قلنا: هذا لازم لهم؛ لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا.
(الثاني): في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره، قال أبو بكر: لم يوقت أحمد في الصلب، فأقول يصلب قدر ما يقع عليه الاسم، والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة؛ لأن المقصود يحصل به، وقال الشافعي: يصلب ثلاثا، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا توقيت بغير توقيف، فلا يجوز مع أنه في الظاهر يقضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره، ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل.
(الثالث): في وجوبه وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره، وقال أصحاب الرأي: إن شاء الإمام صلب، وإن شتاء لم يصلب.
ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب؛ ولأنه شرع حدا فلم يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود، إذا ثبت هذا فإنه إذا اشتهر أنزل ودفع إلى أهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.
(فصل) وإن مات قبل قتله لم يصلب؛ لأن الصلب من تمام الحد، وقد فات الحد بموته فيسقط ما هو من تتمته، وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل، كما لو قتل بمحدد؛ لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما، وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير، فظاهر كلام الخرقي أنهم يقتلون أيضا؛ لأنهم دخلوا في العموم.
(1) سورة البقرة الآية 158
(2)
رواه مسلم، في كتاب الصيد والذبائح ص106 (مسلم بشرح النووي ج7.
(الحال الثاني): قتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يقتلون ولا يصلبون. وعن أحمد رواية أخرى أنهم يصلبون؛ لأنهم محاربون يجب قتلهم، فيصلبون كالذين أخذوا المال، والأولى أصح؛ لأن الخبر المروي فيهم قال فيه:«ومن قتل ولم يأخذ المال قتل» ، ولم يذكر صلبا، ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده، فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ، ولو شرع الصلب هنا لاستويا، والحكم في تحتم القتل، وكونه حدا هاهنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال.
(فصل) وإذا جرح المحارب جرحا في مثله قصاص فهل يتحتم فيه القصاص، على روايتين:
(إحداهما): لا يتحتم؛ لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح، فإن الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي؛ فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل، فإنه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص.
(والثانية): يتحتم؛ لأن الجراح تابعة للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه، ولأنه نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى، وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فلبس فيه إلا الدية، وإن جرح إنسانا، وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة، وقال أبو حنيفة تسقط الجراح؛ لأن الحدود إنما اجتمعت وفيها قتل، سقط ما سوى البتل.
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد، وإنما هو قصاص متمحص فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة، وإن سلمنا أنه حد، فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وكقطع اليد والرجل.
(الحال الثالث): أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وهذا معنى قوله سبحانه: من خلاف، وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمنى السارق، ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق المخالفة، وليكون أرفق به في إمكان مشيه ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا، يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله؛ لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحين، فأما إن كان معدوم اليد والرجل، إما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقة أو قصاص، أو لمرض فمقتضى كلام الخرقي سقوط القطع عنه سواء كانت اليد اليمنى
والرجل اليسرى أو بالعكس؛ لأن القطع زيادة في على ذلك يذهب بمنفعة الجنس، إما منفعة البطش أو المشي أو كليهما، وهذا مذهب أبي حنيفة، وعلى الرواية التي تستوفي أعضاء السارق الأربعة يقطع ما بقي من أعضائه، فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها، ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك وجها واحدا، وهو مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأنه وجد في محل الحد ما يستوفي فاكتفي باستيفائه، كما لو كانت اليد ناقصة بخلاف التي قبلها، وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع، وكان حكمه حكم المعدوم، وإن قالوا: لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق.
(الحال الرابع): إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا.
(الحال الخامس): إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ويأتي ذكر حكهما - إن شاء الله تعالى -.
مسألة: قال: (ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله).
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، قال مالك وأبو ثور: للإمام أن يحكم عليه حكم المحارب؛ لأنه محارب لله ولرسوله، ساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز، فكذلك النصاب.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا قطع إلا في ربع دينار (1)» ، ولم يفصل، ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانختام، كذلك ههنا تتغلظ بقطع الرجل معها ولا تتغلظ بما دون النصاب، وأما الحرز فهو معتبر فإنهم لو أخذوا مالا مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع، وإن أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا على قياس قولنا في السرقة، وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق.
(1) رواه النسائي (كتاب قطع السارق ص81.
مسألة: قال: (ونفيهم أن يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد)
وجملته: أن المحاربين إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من
الأرض لقول الله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) ويروى عن ابن عباس أن النفي يكون في هذه الحالة، وهو قول النخعي وقتادة وعطاء الخراساني، والنفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان فلا يتركون يأوون بلدا، ويروى نحو هذا عن الحسن والزهري وعن ابن عباس أنه ينفى من بلده إلى بلد غيره كنفي الزاني، وبه قال طائفة من أهل العلم، قال أبو الزناد: كان منفى الناس إلى باضع من أرض الحبشة، وذلك أقصى تهامة اليمن، وقال مالك: يحبس في البلد الذي ينفى إليه كقوله في الزاني، وقال أبو حنيفة: نفيه حبسه حتى يحدث توبة، ونحو هذا قال الشافعي: فإنه قال في هذه الحال يعزرهم الإمام، وإن رأى أن يحبسهم حبسهم، وقيل عنه: النفي طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله تعالى، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال ابن سريج: يحبسهم في غير بلدهم، وهذا مثل قول مالك، وهذا أولى؛ لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق ويؤذون به الناس، فكان حبسهم أولى، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى، معناها: أن نفيهم طلب الإمام لهم، فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم.
ولنا ظاهر الآية فإن النفي الطرد والإبعاد، والحبس إمساك، وهما يتنافيان، فأما نفيهم إلى غير مكان معين فلقوله سبحانه:{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) وهذا يتناول نفيه من جميعها، وما ذكروه يبطل بنفي الزاني، فإنه ينفى إلى مكان يحتمل أن يوجد منه الزنا فيه، ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم، فيحتمل أن تتقدر مدته بما تظهر فيه توبتهم، وتحسن سيرتهم، ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزاني.
مسألة: - قال: (فإن تابوا قبل أن يقدر عليهم قطعت عنهم حدود الله تعالى، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال إلا أن يعفى لهم عنها)، لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه. فأما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء من الحدود؛ لقول الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضية
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة المائدة الآية 34
(4)
سورة المائدة الآية 34
العموم، ولأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه، ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته والرجوع عن محاربته وإفساده فناسب ذلك الإسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة.
(فصل) وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، فذكر القاضي: أنها تسقط بالتوبة؛ لأنها حدود الله تعالى؛ فتسقط بالتوبة كحد المحاربة، إلا حد القذف فإنه لا يسقط؛ لأنه حق آدمي؛ ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأنها لا تختص المحاربة، فكانت في حقه كهي في حق غيره، وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره.
(فصل) وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح، ففيه روايتان:
(إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (1)، وذكر حد السارق ثم قال:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3)» ، ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه:«هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه (4)» ، ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
(والرواية الثانية) لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5)، وهذا عام في التائبين وغيرهم، وقال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (6)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية، وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد
(1) سورة النساء الآية 16
(2)
سورة المائدة الآية 39
(3)
رواه ابن ماجة (كتاب الزهد ص 1420 ذكر صاحب الزوائد، وقال: إسناده صحيح.
(4)
سنن أبو داود الحدود (4419)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 217).
(5)
سورة النور الآية 2
(6)
سورة المائدة الآية 38
قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة، فقال في حق المرأة:«لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (1)» ، «وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني (2)»، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل؛ ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه.
فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل، فيه وجهان:(أحدهما): يسقط بمجردها، وهو ظاهر قول أصحابنا؛ لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه. (والثاني) يعتبر إصلاح العمل؛ لقول الله تعالى:{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3) وقال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (4) فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة، وقال بعض أصحاب الشافعي مدة ذلك سنة، وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز.
(فصل) وحكم الردء من القطاع حكم المباشر، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير؛ لأن الحد يجب بارتكاب المعصية، فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود. ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة، فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة، وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل جميعهم، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم.
(فصل) وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد من غيره في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا؛ لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع.
ولنا أنها شبهة تختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطء امرأة وما ذكروه لا أصل له فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وإن باشرا قتل وأخذا
(1) رواه مسلم في (الحدود ص 205) مسلم بشرح النووي، ورواه غيره.
(2)
سنن ابن ماجه الحدود (2588).
(3)
سورة النساء الآية 16
(4)
سورة المائدة الآية 39
المال لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، ولا شيء على الردء لهما؛ لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء؛ لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة، وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة.
(فصل) وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد قطاع الطريق، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجب عليها الحد، ولا على من معها؛ لأنها ليست من أهل المحاربة كالرجل، فأشبهت الصبي والمجنون، ولنا أنها تحد في السرقة؛ فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتخالف الصبي والمجنون، ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود، فلزمها هذا الحد كالرجل إذا ثبت هذا، فإنها إن باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها؛ لأنهم ردء لها، وإن فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها، لأنها ردء له كالرجل سواء، وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي، فهل ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان: فإن قلنا: ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال، وإن قلنا: لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين.
(فصل) وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى، فإن كانت الأموال موجودة ردت إلى مالكها، وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على من أخذها، وهذا مذهب الشافعي، ومقتضى قول أصحاب الرأي أنها إن كانت تالفة لم يلزمهم غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق، ووجه المذهبين ما تقدم في السرقة، ويجب الضمان على الأخذ دون الردء؛ لأن وجود الضمان ليس بحد، فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب، ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم، وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان لاختص ذلك بالمباشر دون الردء لذلك، ولو وجب الضمان في السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا، والله أعلم.
(فصل) إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام: (القسم الأول): أن تكون خالصة الله تعالى، فهي نوعان:(أحدهما): أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن، ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة؛ فهذا يقتل ويسقط سائرها، وهذا قول ابن مسعود
وعطاء والشعبي والنخعي والأوزاعي وحماد ومالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا. ولنا قول ابن مسعود، قال سعيد: حدثنا حسان بن علي، حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله، قال: إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك، وقال إبراهيم: يكفيه القتل.
وقال: حدثنا هشيم، أخبرنا حجاج عن إبراهيم والشعبي وعطاء، أنهم قالوا مثل ذلك، وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين، ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا؛ ولأنها حدود الله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال، فإنه يكتفى بقتله ولا يقطع؛ ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر، ومع القتل لا حاجة إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص، فإن فيه غرض التشفي والانتقام، ولا يقصد منه مجرد الزجر.
إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم؛ لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص، وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه.
(النوع الثاني) أن لا يكون فيها قتل، فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه، ويبدأ بالأخف فالأخف، فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا، ثم حد للزنا، ثم قطع السرقة، وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك، ويدخل فيه القطع للسرقة، ولأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة؛ لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن، ثم يحد للشرب.
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف، ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في السنة، ومجمع على وجوبه، وهذا التقديم على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بغيره جاز ووقع، ولا يوالي بين هذه الحدود؛ لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه.
(القسم الثاني): الحدود الخالصة للآدمي، وهو القصاص وحد القذف، فهذه تستوفى كلها، ويبدأ بأخفها، فيحد للقذف ثم يقطع، ثم يقتل؛ لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم، وهذا قول الأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة: يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود، وقياسا على الحدود الخالصة الله تعالى، ولنا أن ما
دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم، وفارق حق الله تعالى؛ فإنه مبني على المسامحة.
(القسم الثالث): أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين، وهذه ثلاثة أنواع:
(أحدهما): أن لا يكون فيها قتل، فهذه تستوفى كلها، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وعن مالك أن حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين.
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب، ولا نسلم استواءهما، فإن حد الشرب أربعون، وحد القذف ثمانون، وإن سلم استواؤها لم يلزم تداخلهما؛ لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا؛ لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر، وفارق القتلين والقطعين؛ لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني، وهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف؛ لأنه اجتمع فيه معنيان خفته، وكونه حقا الآدمي شحيح إلا إذا قلنا: حد الشرب أربعون، فإنه يبدأ به لخفته، ثم بحد القذف، وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا إتلاف فيه ثم بالقطع، هكذا ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: يبدأ بالقطع قصاصا؛ لأنه حق آدمي متمحض، فإذا برأ حد للقذف، إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا؛ لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكيده.
(النوع الثاني) أن تجتمع حدود الله تعالى وحدود الآدمي وفيها قتل؛ فإن حدود الله تعالى تدخل في القتل، سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة، أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمناه، وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية؛ لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير، وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفائه الثاني براءة من الأول لوجهين:(أحدهما): أن الولاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص فيفوت حق الآدمي، (والثاني) أن العفو جائز فتأخره يحتمل أن يعفو الولي فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه.
(النوع الثالث): أن يتفق الحقان في محل واحد، ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا، فإن كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا، وما هو حق الآدمي كالقصاص، قدم القصاص لتأكد حق الآدمي، وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص، بدئ بأسبقهما؛ لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا، فيقدم أسبقهما، فإن
سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني، وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب؛ لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص، فسقط الصلب كما لو مات، ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته؛ لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب إلى الدية، وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته؛ لتعذر استيفاء القتل من القاتل، ولو كان القصاص سابقا فعفا ولي المقتول استوفي للمحاربة، سواء عفا مطلقا أو إلى الدية، وهذا مذهب الشافعي. وأما القطع فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه، سواء تقدم سببه أو تأخر، وإن عفا ولي الجناية استوفي الحد، فإذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه، فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة؛ لأنهما حدان، وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل؛ لأن القطع في المحاربة حد محض، وليس بقصاص، والقتل فيها يتضمن القصاص، ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية، ولو فات القطع لم يجب له بدل، وإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا، فإن رجله تقطع، وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما؛ لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع يد له كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض، وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية، وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته، أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل إن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجود قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه، إن قلنا: تقطع ثم قطعت هاهنا وإلا فلا، وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما، فإن كانت المحاربة سابقة، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتاه، وهل تقطع يسرى يديه للسرقة على الروايتين، فإن قلنا: تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة؛ لأنهما حدان، وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة. ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده، وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة؟ على وجهين:
(فصل) وإن سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حتما، ولم يصلب ولم تقطع
يده؛ لأنهما حدان فيهما قتل؛ فدخل ما دون القتل فيه، ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل ولم يوجد، وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه، فإذا اجتمعا تداخلا، وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالأول حتما، وللباقين ديات أوليائهم؛ لأن قتله استحق بقتل الأول، وتحتم بحيث لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات.
(فصل) إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان، وأخذ متاعهم لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما. وإن قالا: نشهد أن هذا قطع الطريق على فلان، وأخذ متاعه قبلت شهادتهما. ولم يسألهما الحاكم هل قطع عليكما معه أم لا؛ لأنه لا يسألهما مما لم يدع عليهما، وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما لم تقبل شهادته؛ لأنه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه، وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق، وقطعوها على فلان قبلت شهادتهما؛ لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه.
قال ابن حزم في كتاب المحاربين بعد أن ذكر الخلاف في سبب نزول آية الحرابة والخلاف فيما تتحقق فيه الحرابة من الصحراء فقط أو الصحراء والمصر:
قال أبو محمد (1) رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا، وجب أن نطلب الحق من أقوالهم لعلم الصواب فتبعه بمن الله تعالى، فنظرنا فيما تحتج به كل طائفة لقولها فنظرنا فيما احتج به من قال: إن المحارب لا يكون إلا مشركا أو مرتدا فوجدناهم يذكرون: أنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا العباس بن محمد، نا أبو عامر العقدي عن إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، أو رجل قتل متعمدا فيقتل، أو رجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض (2)» ، وبما ذكره ابن جريج آنفا من قوله: ما نعلم أحدا حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أشرك.
(1) ص303 من ج 11 من المحلى.
(2)
سنن الترمذي كتاب الفتن (2158)، سنن النسائي تحريم الدم (4019)، سنن أبو داود الديات (4502)، سنن ابن ماجه الحدود (2533)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 62)، سنن الدارمي الحدود (2297).
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا فيما احتجوا به من ذلك فوجدنا الخبر المذكور لا يصح؛ لأنه انفرد به إبراهيم بن طهمان وليس بالقوي. وأما قول ابن جريج: ما نعلم أحدا حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أشرك، فإن محاربة الله تعالى، ومحاربة رسوله عليه السلام تكون على وجهين:
أحدهما من مستحل لذلك، فهو كافر بإجماع الأمة كلها، لا خلاف في ذلك إلا ممن لا يعتد به في الإسلام، وتكون من فاسق عاص معترف بحرمة، فلا يكون بذلك كافرا، لكن كسائر الذنوب من الزنا، والقتل، والغصب، وشرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك صوم شهر رمضان، وترك الحج؛ فهذا لا يكون كافرا؛ لما قد تقصيناه في كتاب الفصل وغيره، ويجمع الحجة في ذلك أنه لو كان فاعل شيء من هذه العظائم كافرا بفعله، ذلك لكان مرتدا بلا شك، ولو كان بذلك مرتدا لوجب قتله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من ارتد وبدل دينه، وهذا لا يقوله مسلم.
قال أبو محمد (فإن قال قائل): إننا لا نسلم أن من عصى بغير الكفر لا يكون محاربا لله تعالى ولرسوله عليه السلام.
(قلنا له): - وبالله تعالى التوفيق - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) الآية، كتب إلي أبو المرجى بن ذروان، قال: نا أبو الحسن الرحبي، نا أبو مسلم الكاتب، نا عبد الله بن أحمد بن المفلس، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا أبي، نا حماد بن خالد الخياط، نا عبد الواحد - مولى عروة - عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي (3)» ، وقال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (4) وإلى قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (5) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمارا الفئة الباغية (6)» ، فصح أنه ليس كل عاص محاربا، ولا كل محارب كافرا، ثم نظرنا في ذلك أيضا فوجدنا الله تعالى قد حكم في المحارب ما ذكرنا من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وإسقاط ذلك كله عنه بالتوبة قبل القدرة عليه فلو كان المحارب المأمور فيه بهذه الأوامر كافرا لم يخل من ثلاثة أوجه لا رابع لها، إما أن يكون حربيا مذ كان، وإما أن يكون ذميا فنقض
(1) سورة البقرة الآية 278
(2)
سورة البقرة الآية 279
(3)
مسند أحمد بن حنبل (6/ 256).
(4)
سورة الحجرات الآية 9
(5)
سورة الحجرات الآية 10
(6)
صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2916)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 289).
الذمة وحارب فصار حربيا، وإما أن يكون مسلما فارتد إلى الكفر، لا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة ولا يمكن، ولا يوجد غيرها، فلو كان حربيا مذ كان فلا يختلف من الأمة اثنان في أنه ليس هذا حكم الحربيين وإنما حكم الحربيين القتل في اللقاء كيف أمكن حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، من كان منهم كتابيا في قولنا وقول طوائف من الناس، أو من كان منهم من أي دين كان ما لم يكن عربيا في قول غيرنا، أو يؤسر فيكون حكمه ضرب العنق فقط بلا خلاف؛ كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحارث. وبني قريظة وغيرهم، أو يسترق، أو يطلق إلى أرضه كما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال الحنفي، وأبا العاصي بن الربيع وغيرهما، أو يفادى به كما قال الله تعالى:{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (1)، أو نطلقهم أحرارا ذمة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر فهذه أحكام الحربيين بنص القرآن والسنن الثابتة والإجماع المتيقن، ولا خلاف في أنه ليس الصلب ولا قطع الأيدي والأرجل ولا النفي من أحكامهم، فبطل أن يكون المحارب المذكور في الآية حربيا كافرا، وإن كان ذميا فنقض العهد فللناس فيه أقوال ثلاثة لا رابع لها: أحدها أنه ينتقل إلى حكم الحربيين في كل ما ذكرنا. والثاني: أنه محارب حتى يقدر عليه فيرد إلى ذمته كما كان ولا بد.
والثالث: أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، وقد فرق بعض الناس بين الذمي ينقض العهد فيصير حربيا، وبين الذمي يحارب فيكون له عندهم حكم المحارب المذكور في الآية لا حكم الحربي، فصح بلا خلاف أن الذمي الناقض لذمته المنتقل إلى حكم أهل الحرب ليس له حكم المحارب المذكور في الآية بلا خلاف، وبين هذا قول الله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (2) إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (3).
فأمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا، وهذا عموم يوجب الانتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال، وهذا يقتضي ولا بد أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده، (ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى: حتى ينتهوا، انتهاء دون انتهاء، فيكون فاعل ذلك قائلا على الله
(1) سورة محمد الآية 4
(2)
سورة التوبة الآية 12
(3)
سورة التوبة الآية 12
تعالى ما لا علم له به، وهذا حرام، قال الله تعالى:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)، وإن كان المحارب المذكور في الآية مرتدا عن إسلامه فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم المرتد بقوله:«من بدل دينه فاقتلوه (2)» ، وبينه الله تعالى بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (3)، فصح يقينا أن حكم المرتد الذي أوجب الله تعالى في القرآن وعلى لسان رسوله عليه السلام هو غير حكمه تعالى في المحارب، فصح يقينا أن المحارب ليس مرتدا، وأيضا فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم المرتد المقدور عليه ليس هو الصلب، ولا قطع اليد والرجل ولا النفي من الأرض؛ فصح بكل ما ذكرنا أن المحارب ليس كافرا أصلا، إذ ليس له شيء من أحكام الكفر، ولا لأحد من الكفار حكم المحارب، والرواية عن ابن عباس فيها الحسن بن واقد (4)، وليس بالقوي، وهو أيضا من قول ابن عباس لا سندا، فإذ قد صح ما ذكرنا يقينا فقد ثبت بلا شك أن المحارب إنما هو مسلم عاص، فإذ هو كذلك فالواجب أن ننظر ما المعصية التي بها وجب أن يكون محاربا، وأن يكون له حكم المحارب، فنظرنا في جميع المعاصي من الزنا والقذف والسرقة، والغصب والسحر والظلم، وشرب الخمر والمحرمات أو أكلها، والفرار من الزحف. وغير ذلك فوجدنا جميع هذه المعاصي ليس منها شيء جاء نص أو إجماع في أنه محارب، فبطل أن يكون فاعل شيء منها محاربا، وأيضا فإن جميع المعاصي التي ذكرنا والتي لم نذكر لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما. إما أن يكون فيها نص بحد محدود أو لا يكون فيها نص بحد محدود، فالتي فيها النص بحد محدود فهي الردة، والزنا، والقذف، والخمر، والسرقة. وجحد للعارية، وليس لشيء منها الحكم المذكور في الآية في المحارب فبطل أن يكون شيء من هذه المعاصي محاربة، وهذا أيضا إجماع متيقن. وأما ما ليس فيه من الله تعالى حد محدود لا في القرآن، ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن
(1) سورة البقرة الآية 169
(2)
رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، ص 172، (حاشية السندي)، ورواه غيره.
(3)
سورة آل عمران الآية 90
(4)
كذا بالأصل، والصواب الحسين بن واقد، وهو ثقة له أوهام كما في التقريب
يلحقها بحد المحاربة. فيكون شارعا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وهذا لا يحل بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام (1)» ، فوجب يقينا أن لا يستباح دم أحد ولا بشرته ولا ماله ولا عرضه، إلا بنص وارد فيه بعينه من قرآن، أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع متيقن من الصحابة رضي الله عنهم راجع إلى توقيف رسول الله - صلى الله عليه سلم -.
فبطل أن يكون شيء من المعاصي المذكورة هي المحاربة، فإذ لا شك في هذا فلم يبق إلا قاطع الطريق والباغي فهما جميعا مقاتلان، والمقاتلة هي المحاربة في اللغة فنظرنا في ذلك فوجدنا الباغي قد ورد فيه النص بأن يقاتل حتى يفيء فقط، فيصلح بينه وبين المبغي عليه؛ فخرج الباغي عن أن يكون له حكم المحاربين فلم يبق إلا قاطع الطريق، ومخيف السبيل، فهذا مفسد في الأرض بيقين، وقد قال جمهور الناس: إنه هو المحارب المذكور في الآية، ولم يبق غيره، وقد بطل كما قدمنا أن يكون كافرا ولم يقل أحد من أهل الإسلام في أحد من أهل المعاصي إنه المحارب المذكور في الآية إلا قاطع الطريق المخيف فيها أو في اللص، فصح أن مخيف السبيل المفسد فيها هو المحارب المذكور في الآية بلا شك، وبقي أمر اللص، فنظرنا فيه بعون الله تعالى فوجدناه إن دخل مستخفيا ليسرق أو ليزني أو ليقتل، ففعل شيئا من ذلك مختفيا، فإنما هو سارق عليه ما على السارق لا ما على المحارب بلا خلاف، أو إنما هو زان فعليه ما على الزاني لا ما على المحارب بلا خلاف، أو إنما هو قاتل فعليه ما على القاتل بنص القرآن والسنة فيمن قتل عمدا، وإن كان قد خالف في هذا قوم خلافا لا تقوم به حجة، فإن اشتهر أمره ففر وأخذ فليس محاربا؛ لأنه لم يحارب أحدا، وإنما هو عاص فقط، ولا يكون عليه له حكم المحاربة، لكن حكم من فعل منكرا فليس عليه إلا التعزير، وإن دافع وكابر فهو محارب بلا شك؛ لأنه قد حارب وأخاف السبيل وأفسد في الأرض فله حكم المحارب كما قال الشعبي وغيره.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما قول من قال: لا تكون المحاربة إلا في الصحراء، أو من قال: لا تكون المحاربة في المدن إلا ليلا فقولان فاسدان، ودعويان ساقطتان، بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع، ولا من قول صاحب، ولا من قياس، ولا من رأي سديد، وما يبعد أن يكون فيهم من هان عنده الكذب على الأمة
(1) صحيح البخاري الفتن (7078)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، سنن ابن ماجه المقدمة (233)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 39)، سنن الدارمي المناسك (1916).
كلها. فيقول: من حارب في الصحراء فقد صح عليه اسم محارب.
(ومن كتاب المحاربين)
قال أبو محمد رحمه الله: فإن اعترض معترض في أن المحارب لا يكون إلا من شهر السلاح بما ناه عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أنا إسحاق بن راهويه، أرنا الفضل بن موسى، نا معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن ابن الزبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر (1)» ، قال إسحاق: أرناه عبد الرزاق بهذا الإسناذ مثله ولم يرفعه، يريد أنه جعله من كلام ابن الزبير، قال ابن شعيب: وأنا أبو داود، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال:«من حمل السلاح ثم وضعه فدمه هدر (2)» ، حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، أخبرني أحمد بن شعيب، أنا أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرني ابن وهب، أنا مالك وأسامة بن زيد ويونس بن يزيد، أن نافعا أخبرهم عن عبد الله بن عمران، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من حمل علينا السلاح فليس منا (3)» .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كله حق وآثار صحاح لا يضرها إيقاف من أوقفها إلا أنه لا حجة فيها لمن لم علي المحارب إلا من حارب بسلاح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر في هذين الأثرين من وضع سيفه وشهر سلاحه فقط، وسكت عما عدا ذلك فيهما، ولم يقل عليه السلام: إن المحارب إلا من هذه صفته، فوجب من هذين الأثرين حكم من حمل السلاح، وبقي حكم من لم يحمل السلاح أن يطلب في غيرهما، ففعلنا فوجدنا ما ناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا حمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا زهير بن حرب، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، نا مهدي، ثنا ابن ميمون، عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه: «ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني (4)» ، فقد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمع الضرب، ولم يقل بسلاح ولا غيره، فصح أن كل حرابة بسلاح أو بلا سلاح فسواء، قال: فوجب بما
(1) سنن النسائي تحريم الدم (4097).
(2)
سنن النسائي تحريم الدم (4099).
(3)
صحيح البخاري الديات (6874)، صحيح مسلم الإيمان (98)، سنن النسائي تحريم الدم (4100)، سنن ابن ماجه الحدود (2576)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 142).
(4)
صحيح مسلم الإمارة (1848)، سنن النسائي تحريم الدم (4114)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 306).
ذكرنا أن المحارب هو المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح أو بلا سلاح أصلا، سواء ليلا أو نهارا، في مصر أو في فلاة، أو في قصر الخليفة أو الجامع، سواء قدموا على أنفسهم إماما أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصحراء أو أهل قرية سكانا في دورهم، أو أهل حصن كذلك أو أهل مدينة عظيمة أو غير عظيمة، كذلك واحد أكان أو أكثر، كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال أو لجراحة أو لانتهاك فرج فهو محارب عليه وعليهم - كثروا أو قلوا - حكم المحاربين المنصوص في الآية؛ لأن الله تعالى لم يخص شيئا من هذه الوجوه إذ عهد إلينا بحكم المحاربين {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1)، ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله سبحانه لو أراد أن يخص بعض هذه الوجوه لما أغفل شيئا من ذلك. ولا نسيه ولا أعنتنا بتعمد ترك ذكره حتى يبنيه لنا غيره بالتكهن والظن الكاذب. . .) إلى أن قال:
(المحارب يقتل):
مسألة (هل لولي المقتول في ذلك حكم أم لا؟ قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام، نا ابن مفرج، نا الحسن بن سعد، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبر في عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: إن في كتاب لعمر بن الخطاب: والسلطان ولي من حارب الدين وإن قتل أباه أو أخاه فليس إلى طالب الدم من أمر من حارب الدين وسعى في الأرض فسادا شيء، وقال ابن جريج: وقال لي سليمان بن موسى مثل هذا سواء سواء حرفا حرفا، وبه إلى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: عقوبة المحارب إلى السلطان لا تجوز عقوبة ولي الدم ذلك إلى الإمام، قال: وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبي سليمان وأصحابهم.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الخبرين اللذين رويناهما من طريق ابن عباس ذكرناهما في كتاب الحج، وكتاب الصيام، وباب وجوب قضاء الحج الواجب، وقضاء الصيام الواجب عن الميت «اقضوا الله فهو أحق بالوفاء،
(1) سورة مريم الآية 64
دين الله أحق أن يقضى (1)»، وبقوله عليه السلام في حديث بريرة:«كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (2)» .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اجتمع حقان أحدهما لله والثاني لولي المقتول كان حق الله تعالى أحق بالقضاء، ودينه أولى بالأداء، وشرطه المقدم في الوفاء على حقوق الناس، فإن قتله الإمام أو صلبه للمحاربة كان للولي أخذ الدية في مال المقتول؛ لأن حقه في القود قد سقط فبقي حقه في الدية أو العفو عنها على ما بينا في كتاب القصاص، ولله الحمد. فإن اختار الإمام قطع يد المحارب ورجله أو نفيه أنفذ ذلك، وكان حينئذ للولي الخيار في قتله أو الدية أو المعاداة أو العفو؛ لأن الإمام قد استوفى ما جعل الله تعالى له الخيار فيه، وليس هاهنا شيء يسقط حق الولي إذ ممكن له أن يستوفي حقه بعد استيفاء حق الله تعالى، ولقد تناقض ههنا الحنفيون والمالكيون أسمج تناقض؛ لأنهم لا يختلفون في الحج والصيام والزكاة والكفارات والنذور، بأن حقوق الناس أولى من حقوق الله تعالى، وأن ديون الغرماء أوجب في القضاء من ديون الله تعالى، وأن شروط الناس مقدمة في الوفاء على شروط الله تعالى، وقد تركوا هاهنا هذه الأقوال الفاسدة. وقدموا حقوق الله تعالى على حقوق الناس، وبالله تعالى التوفيق.
ثم قال (مسألة): هل يبادر اللص أم يناشد؟ قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن الفضل الدينوري، نا محمد بن جرير الطبري، نا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى قالا جميعا: نا أبو عامر العقدي، نا عبد العزيز بن المطلب، عن أخيه الحكم بن المطلب، عن أبيه - هو المطلب بن حنطب - بن فهيذ بن مطرف الغفاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله سائل: إن عدا علي عاد فأمره أن ينهاه ثلاث مرات، قال: فإن أبى علي؟ فأمره بقتاله، وقال عليه السلام: إن قتلك فأنت في الجنة، وإن قتلته فهو في النار (3)».
حدثنا يوسف بن عبد البر النمري، نا عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الضبي، نا العقيلي، نا جدي، نا بعلي بن أسد العمي، نا محمد بن كثير السلمي، هو القصاب، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدار حرم، فمن دخل عليك حرمك فاقتله (4)» .
قال أبو محمد رحمه الله: الحديث الأول ليس بالقوي، ففيه الحكم بن المطلب، ولا
(1) صحيح البخاري الحج (1852)، سنن النسائي مناسك الحج (2633)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 240)، سنن الدارمي النذور والأيمان (2332).
(2)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن الترمذي الوصايا (2124)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن أبو داود العتق (3929)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 82)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 423).
(4)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 326).
يعرف حاله، والخبر الثاني فيه محمد بن كثير القصاب، وهو ذاهب الحديث، وليس بشيء، قال أبو محمد رحمه الله: والمعتمد عليه في الأخبار التي صدرنا بها في كتابنا في المحاربين من إباحة القتل دون المال وسائر المظالم، لكن إن كان على القوم المقطوع عليهم أو الواحد المقطوع عليه والمدخول عليه منزله في المصر ليلا أو نهارا في أخذ ماله أو في طلب زنا أو غير ذلك مهلة فالمناشدة فعل حسن لقول الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)، فإن لم يكن في الأمر مهلة ففرض على المظلوم أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه، وإن كان في ذلك إتلاف نفس اللص والقاطع من أول وهلة، فإن كان على يقين من أنه إن ضربه ولم يقتله ارتدع حرام عليه قتله، فإن لم يكن على يقين من هذا، فقد صح اليقين بأن مباحا له الدفع والمقاتلة فلا شيء عليه إن قتله من أول ضربه أو بعدها قصدا إلى مقتله أو إلى غير مقتله؛ لأن الله تعالى قد أباح له المقاتلة والمدافعة قاتلا ومقتولا، وبالله تعالى التوفيق.
فأما لو كان اللص من الضعف بحيث لا يدافع أصلا أو يدافع دفاعا يوقن معه أنه لا يقدر على قتل صاحب الدار فقتله صاحب المنزل فعليه القود؛ لأنه قادر على منعه بغير القتل فهو متعد. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا موسى بن إسماعيل، نا سفيان الثوري، عن مسلم الضبي، قال: قال إبراهيم النخعي: إن خشيت أن يبتدرك اللص فابدره، قال أبو محمد رحمه الله: هذا نظير قولنا، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت للزهري: إن هشام بن عروة أخبرني أن عمر بن عبد العزيز إذ هو عامل على المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك قطع يد رجل ضرب آخر بالسيف، فضحك الزهري وقال لي: أو هذا مما يؤخذ به؟ إنما كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز أن يقطع يد رجل ضرب آخر بالسيف، قال الزهري: فدعاني عمر بن عبد العزيز واستفتاني في قطعه، فقلت له: أرى أن يصدقه الحديث، ويكتب إليه أن صفوان بن المعطل ضرب حسان بن ثابت بالسيف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقطع النبي عليه السلام
(1) سورة النحل الآية 125
يده. وضرب فلان فلانا بالسيف زمن مروان فلم يقطع مروان يده، وكتب إليه عمر بذلك فمكث حينا يأتيه رجع كتابه ثم كتب إليه الوليد أن حسانا كان يهجو صفوان، ويذكر أنه ونساء أخر قد قاله الزهري: وذكرت أن مروان لم يقطع يده، ولكن عبد الملك قطع يده فاقطع يده، قال الزهري: فقطع عمر يده وكان من ذنوبه التي كان يستغفر الله تعالى منها.
قال أبو محمد رحمه الله: إن كان رفع السيف على سبيل إخافة الطريق فهو محارب عليه حكم المحارب، وإن كان لعدوان فقط لا قطع طريق فعليه القصاص فقط إلى المجروح، فإن لم يكن هنالك جرح فلا شيء إلا التعزير فقط، وبالله تعالى التوفيق.
(مسألة) قطع الطريق من المسلم على المسلم وعلى الذمي سواء، وذلك لأن الله تعالى إنما نص على حكم من حاربه وحارب رسوله صلى الله عليه وسلم أو سعى في الأرض فسادا، ولم يخص بذلك مسلم من ذمي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1)، وليس هذا قتلا للمسلم بالذمي، ومعاذ الله من هذا لكنه قتل له بالحرابة، ويمضي دم الذمي هدرا، وكذلك القطع على امرأة أو صبي أو مجنون كل ذلك محاربة صحيحة يستحق بها ما ذكرنا من حكم المحاربة، وأما الذمي إن حارب فليس محاربا لكنه ناقض الذمة؛ لأنه قد فارق الصغار فلا يجوز إلا قتله، ولا بد أو يسلم فلا يجب عليه شيء أصلا في كل ما أصاب من دم أو فرج أو مال، إلا ما وجد في يده فقط؛ لأنه حربي لا محارب، وبالله تعالى التوفيق.
وأما المسلم يرتد فيحارب فعليه أحكام المحارب كلها على ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين الذين اقتص منهم قودا، وأقام عليهم حكم المحاربة، وكانوا مرتدين محاربين متعدين، وبالله تعالى التوفيق، اهـ المقصود.
وقال ابن تيمية الحفيد رحمه الله (2):
فصل
ومن ذلك عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق: الذين يعترضون الناس بالسلاح في
(1) سورة مريم الآية 64
(2)
ص309 من ج28 من مجموع الفتاوى.
الطرقات ونحوها، ليغصبوهم المال مجاهرة: من الأعراب والتركمان، والأكراد والفلاحين، وفسقة الجند أو مردة الحاضرة، أو غيرهم. قال الله تعالى فيهم:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وقد روى الشافعي رحمه الله في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض (2).
وهذا قول كثير من أهل العلم: كالشافعي وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة. وإن كان لم يقتل: مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها، ويقطع من رأى قطعة مصلحة، وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال، كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا. والأول بإجماع العلماء، ذكره ابن المنذر، ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، لأنه قتله لغرض خاص.
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق، فكان قتلهم حدا لله، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل، مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا، فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل؛ لأنه قتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم.
وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط، والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة، وأن الردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، فإن عمر بن
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
تقدم ما في سنده في ص25 من الإعداد.
الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين، والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء، ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته.
والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد متسريهم على قاعدهم (1)» ، يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت؛ لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس (2)» ، وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم.
وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه: مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه (3)» ، أخرجاه في الصحيحين، وتضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى من نفس ومال. وإن لم يعرف عين القائل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وفي ذلك قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (4).
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا -؛ فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وهذا معنى قول الله تعالى:{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (5) تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه، وكذلك تحسم يد السارق بالزيت.
(1) رواه ابن ماجه، في كتاب الديات (باب المسلمون تتكافأ دماؤهم) ورواه غيره بغير هذا اللفظ
(2)
سنن أبو داود الجهاد (2749)، سنن ابن ماجه الجهاد (2853)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 160).
(3)
صحيح البخاري الإيمان (31)، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2888)، سنن النسائي تحريم الدم (4122)، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4268)، سنن ابن ماجه الفتن (3965)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 51).
(4)
سورة البقرة الآية 178
(5)
سورة المائدة الآية 33
وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل؛ فإنه قد ينسى، وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا، ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه أو هربوا وتركوا الحراب؛ فإنهم ينفون، فقيل: نفيهم تشريدهم، فلا يتركون يأوون في بلد، وقيل: هو حبسهم، وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك.
والقتل المشروع: هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه؛ لأن ذلك أروح أنواع القتل، وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (1)» رواه مسلم، وقال:«إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان (2)» ، وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس، ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل عند جمهور العلماء، ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون، وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف، حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما:«ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا؛ فنفعل بهم مثل ما فعلوا (3)» ، والترك أفضل كما قال الله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (4){وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (5)، قيل: إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا» ؛ فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (6)
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955)، سنن الترمذي الديات (1409)، سنن النسائي الضحايا (4413)، سنن أبو داود الضحايا (2815)، سنن ابن ماجه الذبائح (3170)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 125)، سنن الدارمي الأضاحي (1970).
(2)
سنن أبو داود الجهاد (2666)، سنن ابن ماجه الديات (2682)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 393).
(3)
سنن أبو داود الجهاد (2667)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 429)، سنن الدارمي الزكاة (1656).
(4)
سورة النحل الآية 126
(5)
سورة النحل الآية 127
(6)
سورة الإسراء الآية 85
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1)، وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة.
ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب. فأنزلت مرة ثانية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر» ، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم يقول: اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (2)».
ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال، فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس، وقال أكثرهم: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد. وهذا قول مالك - في المشهور عنه - والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب: لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر "المنسر"، وكانوا يسمون ببغداد العيارين، ولو حاربوا بالعصي والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليح ونحوها؛ فهم محاربون أيضا، وقد حكي عن بعض الفقهاء: لا محاربة إلا بالمحدد، وحكى بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل، وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن.
فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع، كما أن قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي، ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو بعصي فهو مجاهد في سبيل الله.
(1) سورة هود الآية 114
(2)
صحيح مسلم الجهاد والسير (1731)، سنن الترمذي السير (1617)، سنن أبو داود الجهاد (2613)، سنن ابن ماجه الجهاد (2858)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 358)، سنن الدارمي السير (2439).
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله، وهذا يسمى القتل غيلة، ويسميهم بعض العامة المعرجين، فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء:
أحدهما: أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به.
والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم، والأول أشبه بأصول الشريعة، بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به.
واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان، وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم، على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادا عاما.
فصل
وهذا كله إذا قدر عليهم، فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان، فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم، قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا، ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره، ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم، فهذا قتال وذاك إقامة حد.
وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام، فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك.
وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود: قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون
الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات، أو الجبلية الذي يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق، وكالأحلاف الذي تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق، ويسمون ذلك " النهيضة "، فإنهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ أموالهم إلا أن تكون أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم نعلم عين الأخذ، وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه، لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منهم على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين، من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك:
بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد، فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد أو تخاف عاقبته، ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره، ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها، وأكثرهم يأبون ذلك، فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم.
وأما من كان لا يقطع الطريق، ولكنه يأخذ خفاره أو ضريبة من أبناء السبيل على الرءوس والدواب والأحمال ونحو ذلك، فهذا مكاس، عليه عقوبة المكاسين، وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله، وليس هو من قطاع الطريق، فإن الطريق لا ينقطع به، مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية:«لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له (1)» ، ويجوز للمظلومين - الذين تراد أموالهم - قتال المحاربين بإجماع المسلمين، ولا يجب بذل لهم من المال لا قليل ولا كثير، إذا أمكن قتالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد (2)» .
(1) رواه مسلم كتاب الحدود (ص 203 مسلم بشرح النووي) ورواه غيره.
(2)
رواه أبو داود (في كتاب السنة رقم الحديث 4772، ورواه الترمذي (في كتاب الديات رقم الحديث 1421) وقال حديث حسن صحيح.
وهذا الذي تسميه الفقهاء " الصائل، وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلى بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به؛ فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال، بخلاف المال، فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز، وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه، وهل يجب إليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره.
وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره.
فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية - وقد أخذوا الأموال التي للناس - فعليه أن يستخرج في منهم الأموال التي للناس ويرد عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم، وكذلك السارق، فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب، حتى يمكنوا من أخذه يإحضاره أو توكيل من يحضره، أو الإخبار بمكانه، كما يعاقب كل ممتنع عن حق وجب عليه أداؤه، فإن أنه قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها، حتى تؤديه، فهؤلاء، أولى وأحرى، وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال، فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليهم، فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال، وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه.
وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيرهم عندهم أو عند السارق، فقيل: يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين، وهو قال الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، وتبقى مع الأعمار في ذمتهم إلى ميسرة، وقيل: لا يجتمع الغرم والقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل، يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار، وهو قول مالك رحمه الله.
ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين وإقامة الحد
وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله، فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى البيكار، وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة، فإن كان لهم أقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات.
فإن هذا من سبيل الله، فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون، فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين، جاز ولو كانت بهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف؛ فأعطى الإمام من الفيء والمصالح والزكاة لبعض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره، فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز، وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم، وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول الشريعة.
ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية، ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم، من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل.
فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم أو لم يرضهم، فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية؛ لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا، والواجب أن يقال فيه ما يقال في الردء والعون لهم، فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأكثر أهل العلم، وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلى وصلب، وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب، وقيل: يخير بين هذين، وإن كان لم يأذن لهم: لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال، وعطل بعض الحقوق والحدود.
ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم، ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي، ومنعه أن يستوفى منه الواجب بلا عدوان، فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه الله
ورسوله، روى مسلم في صحيحه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من أحدث حدثا، أو آوى محدثا (1)» ، وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث، فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به، فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث، كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب، فمن وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها.
ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه، فإنه يجب عليه الإعلام به، والدلالة عليه، ولا يجوز كتمانه، فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وذلك واجب: بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل، فإنه لا يحل الإعلام به؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، بل يجب الدفع عنه: لأن نصر المظلوم واجب، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما. فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (2)» .
وروى مسلم نحوه عن جابر، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة، ونصر المظلوم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن لبس الحرير، والقسي، والديباج، والإستبرق (3)» ، فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره، حتى يخبر به؛ لأنه امتنع من حق واجب عليه، لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم، ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به.
وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاء وغيرهم، في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل، وليس هذا بمطالبة للرجل بحق وجب على غيره، ولا عقوبة على جناية غيره، حتى يدخل في قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4)، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا لا يجني جان إلا على نفسه (5)» ، وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره، وهو ليس
(1) صحيح البخاري الحج (1870)، صحيح مسلم الحج (1370)، سنن النسائي القسامة (4734)، سنن أبو داود المناسك (2034)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 119).
(2)
صحيح البخاري الإكراه (6952)، سنن الترمذي الفتن (2255)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 99).
(3)
صحيح البخاري النكاح (5175)، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066)، سنن الترمذي الأدب (2809)، سنن النسائي الجنائز (1939)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 287).
(4)
سورة الأنعام الآية 164
(5)
سنن الترمذي الفتن (2159)، سنن ابن ماجه المناسك (3055).
وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال، أو يعاقب الرجل بجريمة قريبة أو جاره، من غير أن يكون هو قد أذنب، لا يترك واجب، ولا يفعل محرم، فهذا الذي لا يحل، فإنما هذا، فإنما يعاقب على ذنب نفسه، وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو يعلم المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين، فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بعضهم ببعض، وإما معاداة أو بغضا للمظلوم، وقد قال الله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1).
وإما إعراضا - عن القيام لله، والقيام بالقسط الذي أوجبه الله - وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه، كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه، الذين إذا قيل لهم: انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض.
وعلى كل تقدير فهذا الضرب، يستحق العقوبة باتفاق العلماء.
ومن لم يسلك هذه السبل، عطل الحدود وضيع الحقوق، وأكل القوي الضعيف.
وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين، وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفي به دينه. أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه، وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره، كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة، وكما تجب الدية على عاقلة القاتل، وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره، وهو لا يحضره، كالقطاع والسراق وحماتهم، أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه، فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن، وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر، ويجتمع شبهة وشهوة، والواجب تمييز الحق من الباطل.
وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير، أو كان بينهما قرابة أو صداقة؛ فإنهم يرون الحمية الجاهلية، والعزة بالإثم، والسمعة عند الأوباش، أنهم ينصرونه - وإن كان ظالما مبطلا - على المحق المظلوم: لا سيما إن كان الظالم رئيسا
(1) سورة المائدة الآية 8
يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا أو عجزا: وهذا - على الإطلاق - جاهلية محضة، وهي من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا، وقد ذكر أنه إنما كان سبب كثير من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب، إلى نحو هذا، وكذلك سبب دخول الترك والمغول دار الإسلام، واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا.
ومن أذل نفسه لله فقد أعزها، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1)، وقال تعالى عن المنافقين:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2)، وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (3){وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4){وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (5).
وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما أن ينصره، وأن لا يثبت أنه مظلوم بمجود دعواه؛ فلطالما اشتكى الرجل وهو ظالم، بل يكشف خبره من خصمه وغيره، فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن، إما بالصلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة.
وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي، أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل لو غلظ وقع فيها بينهما: سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (6)
(1) سورة فاطر الآية 10
(2)
سورة المنافقون الآية 8
(3)
سورة البقرة الآية 204
(4)
سورة البقرة الآية 205
(5)
سورة البقرة الآية 206
(6)
سورة الحجرات الآية 9