الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
مذهب المالكية
1 -
(جاء في المدونة الكبرى ما نصه: (كتاب المحاربين)
(ما جاء في المحاربين)
قلت لابن القاسم: أرأيت أهل الذمة وأهل الإسلام إذا حاربوا فأخافوا ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا فأخذوا كيف يصنع بهم الإمام في قول مالك؟ قال: قال مالك إذا أخافوا السبيل كان الإمام مخيرا إن شاء قتل، وإن شاء قطع، قال مالك: ورب محارب لا يقتل وهو أخوف وأعظم في خوفه ممن قتل.
(قلت): فإن أخذه الإمام وقد أخاف ولم يأخذ مالا ولم يقتل أيكون الإمام مخيرا فيه، يرى في ذلك رأيه إن شاء قطع يده، وإن شاء قطع رجله، وإن شاء قتله وصلبه، أم لا يكون ذلك للإمام؟ قال: قال مالك: إذا نصب وأخاف وحارب وإن لم يقتل كان الإمام مخيرا، وتأول مالك هذه الآية قول الله تبارك وتعالى، في كتابه {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1)، قال فقد جعل الله الفساد مثل القتل.
قلت: وكذلك إن أخاف ولم يأخذ المال، قال: إذا أخاف ونصب ولم يأخذ المال فإن الإمام مخير، وقد قال مالك: وليس كل المحاربين سواء، قال مالك: منهم من يخرج بعصاه أو بشيء فيؤخذ على تلك الحال لم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل، قال مالك: فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر بذلك بأسا.
قلت: وما أيسره عند مالك؟ قال: أيسره وأخفه أن يجلد وينفى ويسجن في الموضع الذي نفي إليه.
قلت: وإلى أي موضع نفي هذا المحارب إليه إذا أخذ بمصر؟ (قال:) قد نفى عمر بن عبد العزيز من مصر إلى شغب، ولم أسمع من مالك فيه شيئا إلا أنه قال: قد كان ينفى عندنا إلى فدك أو خيبر، وقد كان لهم سجن يسجنون فيه.
قلت: وكم يسجن حيث ينفى؟ قال مالك: يسجن حتى تعرف له توبة.
قلت: أرأيت إن أخذه الإمام وقد قتل وأخذ الأموال وأخاف السبيل كيف يحكم فيه؟ (قال): يقتله ولا يقطع يده ولا رجله عند مالك.
(قلت:) ويصلبه؟ (قال): قال مالك: لم أسمع أحدا صلب إلا عبد الملك بن مروان؛ فإنه كان صلب الذي كان يقال له: الحارث؛ الذي كان تنبأ، صلبه عبد الملك، (قال): قال مالك:
(1) سورة المائدة الآية 32
وذلك إلى الإمام يجتهد في ذلك.
(قلت:) وكيف يصلبه في قول مالك، أحيا أم ميتا؟ (قال): لم أسمع من مالك إلا ما أخبرتك مما ذكر عن عبد الملك بن مروان فإنه صلب الحارث وهو حي وطعنه بالحربة بيده. (قال): وأنا أرى أن يصلب حيا ويطعن بعد ذلك.
قلت: أرأيت الذي أخذه الإمام ولم يقتل ولم يفسد ولم يخف السبيل إلا أنه قد حارب خرج بخشبة أو ما أشبه هذا أيكون للإمام أن يعفو عن هذا؟ قال: لا يكون للإمام أن يعفو عن هذا عند مالك، ولا عن أحد من المحاربين.
(قلت:) فكم يضربه في قول مالك؟ قال: يجتهد الإمام برأيه في ضربه ونفيه.
قلت: أرأيت المحاربين من أهل الذمة وأهل الإسلام في قول مالك أهم سواء؟ قال: نعم، والنصارى والعبيد والمسلمون في ذلك الحكم فيهم واحد عند مالك، إلا أنه لا نفي على العبيد.
قلت: أرأيت إن أخذ وقد أخاف السبيل وأخذ المال؟ قال: قال مالك: إذا خرج ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل وأخذ بحضرة ما خرج أو خرج بخشبة أو ما أشبه ذلك ولم ينصب ولم يعل أمره، فإن الإمام يجلد مثل هذا وينفيه، قال مالك: وإن هو خرج وأخاف السبيل ونصب وعلا أمره ولم يأخذ المال فالإمام مخير، إن شاء قتله، وإن شاء قطع يده ورجله، قلت: فهل يجتمع مع القطع والفشل الضرب، قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، ولا أرى ذلك.
قلت: أرأيت إن هو قتل وأخذ المال وأخاف أيكون للإمام أن يقطع يده ورجله ولا يقتله؟ قال: لا يكون ذلك إلى الإمام إذا قتل وأخذ المال، قال مالك: فأرى أن يقتل، إن رأى ذلك الإمام - إذا أخذ المال ولم يقتل - أن يقتله قتله؛ لأن الله يقول في كتابه:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) فأخذ المال من الفساد في الأرض، وإنما يجتهد الإمام في الذي يخيف ولا يقتل ولا يأخذ مالا ويؤخذ يحضره ذلك قبل أن يطول زمانه، قال مالك: والذي تقطع يده ورجله لا أرى أن يضرب إذا قطعت يده ورجله.
قلت: فإن قتل وأخذ المال أتقطع يده ورجله وتقتله أم تقتله ولا تقطع يده ورجله في قول مالك؟ قال: القتل يأتي على ذلك كله، قال: وإنما يخير الإمام عند مالك إذا أخاف ولم يأخذ مالا ولم يقتل فأخذ بحضرة ذلك، فأما من طال زمانه، ونصب نصبا شديدا؛ فهذا لا يكون الإمام فيه مخيرا، ويقتله الإمام، وأما الذي أخذه بحضرة الخروج، فإن مالكا قال في هذا: لو أن الإمام أخذ بأيسره لم أر بذلك بأسا، وقد فسرت لك ذلك فهذا أصل قول مالك في هذه الأشياء.
قلت: أرأيت إن أخذ المحاربون من المال أقل مما تقطع
(1) سورة المائدة الآية 32
فيه اليد أقل من ثلاثة دراهم؟ قال: ليس حد المحاربين مثل حد السارق، والمحارب إذا أخذ المال قليلا كان أو كثيرا فهو سواء، والسارق لا يقطع إلا في ربع دينار.
قلت: أرأيت فإن قطعوا على المسلمين وعلى أهل الذمة أهو سواء في قول مالك؟ قال: نعم، ولقد بلغني عن مالك أخبرني عنه من أثق به عن غير واحد أن عثمان قتل مسلما وقتل ذميا على وجه الحرابة، قتله على مال كان معه، فقتله عثمان.
قلت: أرأيت إن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، وقد كانوا قتلوا وأخافوا وأخذوا الأموال وجرحوا الناس، قال: قال مالك: يضع عنهم حد الإمام كل شيء إلا أن يكونوا قتلوا فيدفعون إلى أولياء القتلى، وإن أخذوا المال أغرموا المال.
قلت: وكذلك الجراحات؟ قال: نعم.
قلت: ويدرأ عنهم القتل والقطع في الذي كان يجب عليهم لو أخذوا قبل أن يتوبوا؟ فأما ما صنعوا في أموال الناس وفي دمائهم وفي أبدانهم فهم يؤخذون بذلك عند مالك، إلا أن يعفى عنهم، قال: نعم.
قلت: أرأيت إن كانوا محاربين فقطعوا على الناس الطريق فقتلوا رجلا قتله واحد منهم إلا أنهم كانوا أعوانا له في تلك الحال إلا أن هذا الواحد منهم ولي القتل حين زاحفوهم، ثم تابوا وأصلحوا، فجاء ولي المقتول يطلب دمه أيقتلهم كلهم أم يقتل الذي قتل وليه وحده؟ قال: قال مالك: يقتلون كلهم إذا أخذوا على تلك الحال. قال ابن القاسم: فإن تابوا قبل أن يؤخذوا فأتى أولياء القتيل يطلبون دمه دفعوا كلهم إلى أولياء المقتول فقتلوا من شاءوا، وعفوا عمن شاءوا، وأخذوا الدية ممن شاءوا، وقد ذكر مالك عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - حين قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. فهذا يدلك على أنهم شركاء في قتله، فذلك إلى أولياء المقتول، يقتلون من شاءوا منهم، ويعفون عمن شاءوا منهم.
قال: ولقد قال لي مالك في قوم خرجوا وقطعوا الطريق فتولى رجل منهم أخذ مالا كان مع رجل ممن أخذ، أخذه منه والآخرون وقوف، لا أنه بهم قوي، وأخذ المال فأراد بعض من لم يأخذ المال التوبة، وقد أخذ المال الذي أخذ ودفع إلى الذي لم يأخذ حصته، ماذا ترى عليه حين ذلك أحصته التي أخذ أم المال كله؟.
(قال): بل أرى المال كله عليه؛ لأنه إنما قوي الذي أخذ المال بهم، والقتل أشد من هذا، فهذا يدلك على ما أخبرتك به من القتل، ولقد ذكروا عن مالك عن عمر بن الخطاب أن بعضهم كان ربيئة للذين قتلوا فقتله عمر معهم، قلت: أرأيت إن كانوا قد أخذوا المال فلما تابوا كانوا عدما لا مال لهم أيكون ذلك لأصحاب المال دينا عليهم في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن
أخذوا قبل أن يتوبوا أقيم عليهم الحد فقطعوا أو قتلوا ولهم أموال أخذت أموال الناس من أموالهم، وإن لم يكن لهم يومئذ مال لم يتبعوا بشيء مما أخذوا بمنزلة السرقة؟ قال: نعم، وهو قول مالك فيما بلغني عمن أثق به وهو رأيي.
قلت: أرأيت إن أخذهم الإمام وقد قتلوا وجرحوا وأخذوا الأموال فعفا عنهم أولياء القتلى وأولياء الجراحات، وأهل الأموال أيجوز عفوهم في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز العفو هاهنا، ولا يجوز للإمام أن يعفو؛ لأن هذا حد من حدود الله قد بلغ السلطان فلا يجوز فيه العفو ولا يصلح لأحد أن يشفع فيه؛ لأنه حد من حدود الله.
قلت: فإن تابوا وأصلحوا وقد قتلوا أناسا من أهل الذمة ولم يقتلوا أحدا غيرهم؟ قال: أرى أن الدية في أموالهم لأولياء القتلى؛ لأن المسلم لا يقتل بالذمي عند مالك.
قلت: فإن كانوا ذميين أكان عليهم القود في قول مالك؟ قال: نعم؛ لأن مالكا قال: يقتل النصراني بالنصراني.
قلت: وكيف تعرف توبة هؤلاء النصارى المحاربين في قول مالك؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا، وأرى إن تركوا ما كانوا عليه قبل أن يقدر عليهم، فلا أرى أن يقام عليهم حد المحاربين.
قلت: أرأيت إن كانت فيهم امرأة أيكون سبيلها في قول مالك سبيل الرجال أم لا؟ وهل يكون النساء محاربات في قول مالك أم لا؟ قال: أرى أن النساء والرجال في ذلك سواء.
قلت فالصبيان؟ قال: لا يكونون محاربين حتى يحتلموا عند مالك؛ لأن الحدود لا تقام عليهم عند مالك، والحرابة حد من الحدود، والنساء إنما صرن محاربات؛ لأن مالكا قال: تقام عليهن الحدود، والحرابة حد من الحدود.
قلت: أرأيت إن قطعوا الطريق في مدينتهم التي خرجوا منها فأخذوا أيكونون محاربين في قول مالك؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت إن خرج مرة فأخذه الإمام فقطع يده ورجله، ثم خرج ثانية فأخذه الإمام أيكون له أن يقطع يده الأخرى ورجله الأخرى؟ قال: نعم إن رأى أن يقطعه قطعه.
قلت: وسمعته من مالك قال: لا، إلا أني أراه مثل السارق، ألا ترى أنه يقطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله فكذلك المحارب تقطع يده ورجله، فإن خرج ثانية فإن رأى الإمام أن يقطعه قطع يده الباقية ورجله.
قلت: أرأيت إن أخذ الإمام هذا المحارب، وهو أقطع اليد اليمنى فأراد قطعه ورأى أن يقطعه كيف يقطعه، قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا، إلا أن قول مالك في السارق إذا كان أقطع اليد اليمنى أو أشل اليد اليمنى قطع رجله اليسرى وترك يده اليمنى فكذلك المحارب إذا لم تكن يده اليمنى قائمة قطعت يده اليسرى ورجله اليسرى، وهذا
عندنا بين لأن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) فالقطع في المحارب في يده ورجله جميعا إنما هما جميعا شيء واحد بمنزلة القطع في يد السارق أو رجله، إنما هو شيء واحد، فإذا أصاب إحدى اليدين شلل أو قطع رجع إلى اليد الأخرى والرجل التي تقطع معها؛ لأنهما في القطع بمنزلة الشيء الواحد في المحارب، ألا ترى أن السارق إذا أصيب أقطع اليد اليمنى أو أشل اليد اليمنى رجع الإمام إلى رجله اليسرى، فإن أصابه أيضا أقطع أصابع اليمنى قطع رجله اليسرى، ولم يقطع بعض اليد دون بعض، فكذلك إذا كانت اليد ذاهبة في المحارب لم تقطع الرجل التي كانت تقطع معها ولكن تقطع اليد الأخرى، والرجل التي تقطع معها حتى يكون من خلاف كما قال الله تعالى.
قلت: أرأيت المحارب يخرج بغير سلاح. أيكون محاربا أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأرى إن فعل ما يفعل المحارب من تلصصهم على الناس وأخذ أموالهم مكابرة منه لهم فأراه محاربا.
قلت: أرأيت الرجل الواحد هل يكون محاربا في قول مالك؟ قال: نعم، وقد قتل مالك رجلا واحدا كان قد قتل على وجه الحرابة، وأخذ مالا وأنا بالمدينة يومئذ.
قلت: أرأيت القوم يشهدون على المحاربين أنهم قد قطعوا الطريق عليهم وقتلوا منهم ناسا وأخذوا أموالهم منهم؟ قال: سألت مالكا عنهم فقال مالك: ومن يشهد على المحاربين إلا الذين قطع عليهم الطريق، قال: نعم، تجوز شهادتهم عليهم فيما شهدوا عليهم إذا كانوا عدولا، من قتل أو أخذ مال أو غير ذلك.
قلت: ويعطيهم هذه الأموال التي شهدوا عليها، وأن هؤلاء المحاربين قطعوا عليهم السبيل وأخذوها منهم أيعطيهم مالك هذا المال بشهادتهم؟ قال: نعم في رأيي، إذا شهد بعضهم لبعض، ولا تقبل شهادة أحد في نفسه في مال أخذ منه.
قلت: أرأيت المحاربين اللصوص. إذا أخذوا ومعهم الأموال فجاء قوم يدعون تلك الأموال، وليست لهم بينة، قال: سألت مالكا عنها، فقال مالك: أرى الإمام أن يقبل قولهم في أن المال لهم، ولكن لا أرى أن يعجل بدفع ذلك المال إليهم ولكن ليستأن قليلا ولا يطول حتى ينتشر ذلك، فإن لم يجئ لمال طالب سواهم دفعه إليهم وضمنهم، قال: فقلت لمالك: الجميل؟ قال لا، ولكن يشهد عليهم ونضمنهم في أموالهم بغير جميل إن جاء لذلك طالب، قلت أفيستحلفهم في قول مالك؟ قال: لم أسمعه من مالك، وأرى أن يحلفهم، قلت: رأيت القوم يخرجون تجارا
(1) سورة المائدة الآية 33
إلى أرض الحرب فيقطع بعضهم الطريق على بعض، وكلهم مسلمون، إلا أنهم قد قطعوا في دار الحرب على مسلمين مثلهم وذميين دخلوا دار الحرب بأمان؟ قال: قال مالك: في هؤلاء الخناقين الذين يخرجون مع الجيش إلى أرض الحرب فيخنقون الناس على أموالهم في دار الحرب في الطوائف، قال: بلغني عن مالك أنه قال: يقتلون، قلت: والخناق محارب عند مالك؟ قال: نعم، الخناق محارب إذا خنق على أخذ مال.
في الذين يسقون الناس السيكران
قال: وقال مالك وهؤلاء الذين يسقون الناس السيكران إنهم محاربون إذا سقوهم ليسكروا فيأخذوا أموالهم، قال: قال مالك: هم محاربون يقتلون، قلت: هذا يدلني على قول مالك: أن من حارب وحده بغير سلاح أنه محارب، قال: نعم يستدل بهذا.
قلت: أرأيت محاربين أخذوا وقد أخذوا أموالا وأخافوا ولم يقتلوا فرأى الإمام أن يقطع أيديهم وأرجلهم ولا يقتلهم، فقطع أيديهم وأرجلهم ولم يقتلهم أيضمنهم المال الذي أخذوا وقد استهلكوه في أموالهم أم لا؟ قال: بلغني عن مالك أنه قال: هو مثل السرقة، وأنهم يضمنون إن كان لهم مال يومئذ، ولا يتبعون به دينا إذا لم يكن لهم مال.
قلت: أرأيت من قتل غيلة ورفع إلى قاض من القضاة فرأى أن لا يقتله، وأن يمكن أولياء المقتول منه ففعل فعفوا عنه ثم استقضى غيره فرفع إليه أفترى أن يقتله القاضي الثاني أم لا يقتله؛ لأنه قد حكم به قاض قبله في قول مالك قال: لا أرى أن يقتله؛ لأنه مما اختلف الناس فيه، قال: وقال لي مالك: من دخل على رجل في حريمه على أخذ ماله فهو عندهم بمنزلة المحارب يحكم فيه كما يحكم في المحارب.
قلت: أرأيت قوما محاربين شهد عليهم الشهود بالحرابة فقتلهم رجل قبل أن تزكى البينة، وقبل أن يأمر القاضي بقتلهم كيف يصنع مالك بهذا الذي قتلهم، قال: قال مالك: إن زكيت البينة أدب هذا الذي قتلهم ولم يفشل.
قلت: أرأيت إن لم تزك البينة وبطلت الشهادة أتقتله؟ قال: نعم في رأي.
قلت: أرأيت المحاربين؛ أجهادهم عند مالك جهاد؟ قال: قال مالك: نعم، جهادهم جهاد.
قلت: فإن شهدت الشهود بإقراره بالحرابة وهو منكر، أيقيم الإمام عليه الحد حد الحرابة أم لا؟ قال: لا يقام ذلك عليه ويقال. اهـ.
ب - جاء في الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل ما نصه (باب) في الحرابة:
وما يتعلق بها من الأحكام وعقبها السرقة لاشتراكها معها في بعض حدودها، وهو مطلق القطع، وليكون المشبه به في قوله الآتي واتبع كالسارق معلوما، وعرف المحارب المشتق من الحرابة فيعلم منه تعريفها بقوله:(المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك)؛ علة للقطع، أي من قطعها لأجل عدم الانتفاع بالمرور فيها، ولو لم يقصد أخذ مال السالكين والمراد بالقطع الإخافة لا المنع، وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه، وسواء كانت الطريق خارجة عن العمران أو داخلة كالأزقة، أو آخذ بالمد اسم فاعل معطوف على قاطع، (مال مسلم أو غيره) من ذمي ومعاهد ولو لم يبلغ نصابا، (على وجه يتعذر معه الغوث)، أي شأنه تعذر الغوث؛ فإن كان شأنه عدم تعذره فغير محارب بل غاصب، ولو سلطانا وقراءة " آخذ " بالمد اسم فاعل أولى من قراءته مصدر الإفادة أنه محارب، ولو لم يحصل منه قطع طريق فيشمل مسألة سقي السيكران، ومخادعة الصبي أو غيره ليأخذ ما معه وجبابرة أمراء مصر، ونحن وهم يسلبون أموال المسلمين ويمنعونهم أرزاقهم، ويغيرون على بلادهم ولا تتيسر استغاثة منهم بعلماء ولا بغيرهم.
ولا يشترط عدد المحارب ولا قصده عموم الناس بل يعد محاربا (وإن انفرد بمدينة) قصد جميع أهلها أم لا (كمسقي السيكران، بضم الكاف، نبت معلوم؛ (لذلك) أي لأجل أخذ المال وأشد منه في تغييب العقل البنج، وأشد منه نبت يسمى الداتورة. والبنج، بفتح الباء الموحدة وسكون النون نبت معروف، والكاف للتمثيل إن قرئ آخذ اسم فاعل، وللتشبيع إن قرئ مصدرا، (ومخادع الصبي) أي المميز، إذ هو الذي يخدع (أو غيره) أي خدعه حتى أدخله مكانا (ليأخذ ما معه)، ولو لم يقتله وقتله من قتل الغيلة، (والداخل) عطف على مسقي أي وكالداخل، (في ليل أو نهار في زقاق أو دار) حال كونه (قاتل) حين الأخذ، (ليأخذ المال)، وأخذه على وجه يتعذر معه الغوث، واحترز بقول قاتل ليأخذ عما لو أخذه ثم علم به فقاتل لينجو به، فلا يكون محاربا بل هو سارق إن علم به خارج الحرز، لا قبله فمختلس إن نجا به.
ثم شرع في بيان حد المحارب، وأنه أحد أنواع أربعة كما في الآية بقوله:(فيقاتل بعد المناشدة)، والمناشدة مندوبة كما في الخطاب، ويندب أن تكون ثلاث مرات، يقال له ناشدتك الله ألا ما خليت سبيلنا ونحو ذلك، (إن أمكن)، فإن عاجل بالقتال قوتل بلا مناشدة بالسلاح أو غيره مما فيه هلاكه، فعلم من قوله "يقاتل" أنه يقتل، وهو أحد حدوده الأربع، والقاتل له مأرب المال حال حرابته له، وأما
الحاكم ولو بعد حرابته إذا قدر عليه قبل توبته كما يأتي، (ثم يصلب فيقتل)، عطف على مقدر، أي فيقتل ثم إلخ، وثم للترتيب الإخباري، ولو قال: أو يصلب إلخ كان أحسن و (أو) في الآية للتخيير، والمعنى أن الإمام مخير بين أن يقتله بلا صلب، أو يصلبه على خشبة ونحوها حيا غير منكوس الرأس، ثم يقتله مصلوبا قبل نزوله على الأرجح، وهذا هو النوع الثاني من أنواع حده، وأشار للثالث بقوله:(أو ينفى) الذكر (الحر) البالغ العاقل (كالزنا) في مسافة البعد كفدك وخيبر من المدينة، ولكنه يسجن هنا حتى تظهر توبته أو يموت، وأما في الزنا فيسجن سنة، فالتشبيه ليس بتام ويكون النفي بعد الضرب باجتهاد الإمام، ولم يذكره المصنف، والقتل مع الصلب والضرب مع النفي ظاهر القرآن خلافه.
فلعله أخذ منه من المعنى، وذلك لأن الحرابة أشد من الزنا بدليل أن الحد فيها أشد، والزنا قرن النفي فيه بالجلد، ومجرد صلب بلا قتل ليس فيه كبير ردع المفسدين في الأرض، فعلم أنه لا يضمن قتله بعده، وأشار للرابع بقوله:(أو تقطع يمينه) أي يده اليمنى من الكوع (ورجله اليسرى) من مفصل الكعبين (ولاء) بلا تأخير ولو خيف عليه الموت؛ لأن القتل أحد حدوده، فإن كان مقطوع اليمنى أو أشلها قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى؛ ليكون القطع من خلاف، وكذا إن كان أقطع الرجل اليسرى فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فإن لم يكن له إلا يد أو رجل قطعت، فإن كان له يدان أو رجلان فقط قطعت اليد اليمنى فقط، أو الرجل اليسرى فقط، وهذه الحدود الأربعة يخير الإمام فيها باعتبار المصلحة في حق الرجال الأحرار، وأما المرأة فلا تصلب ولا تنفى، وإنما حدها القتل أو القطع من خلاف، وأما العبد فحده ثلاثة، وهي ما عدا النفي كما أشار له المصنف - رحمه الله تعالى - بقوله: أو ينفى الحر، (وبالقتل يجب قتله) مجرد أو مع صلب، ولا يجوز قطعه أو نفيه بقتل حر مسلم بل، (ولو بكافر) أو عبد (أو بإعانة) على القتل بمسك أو إشارة بل، ولو يتقوى بجاهه إذ لولا جاهه ما تجرأ القاتل على القتل فجاهه أعانه عليه حكما، (ولو جاء) المحارب القاتل (تائبا) قبل القدرة عليه إذ توبته لا تسقط حقوق الآدميين، (وليس للولي) أي ولي المقتول (العفو) عن القاتل قبل مجيئه تائبا؛ لأن الحق لله، وأما بعد مجيئه تائبا فله العفو؛ لأن قتله حينئذ قصاص لا حراب (وندب) للإمام النظر بالمصلحة، ولا يتعين عليه شيء بخصوصه؛ لأن (أو) في الآية للتخيير، فالأولى (لذي التدبير) من المحاربين (القتل)؛ لأن
القطع مثلا لا يدفع ضرره، (و) لذي (البطش) إذا لم يقتل أحدا (القطع) من خلاف، (ولغيرهما ولمن وقعت منه) الحرابة (فله) بلا قتل أحد (النفي والضرب) بالاجتهاد، وما ذكره المصنف من الندب هو المذهب، (والتعيين) فما يندب فعله (للإمام لا لمن قطعت، يده ونحوها)، من جرح وأخذ مال فلا كلام له؛ لأن ما يفعله الإمام بالمحارب ليس عن شيء معين، وإنما هو عن جميع ما وقع منه في حرابته من إخافة وأخذ مال وجرح وغير ذلك لا لخصوص ما وقع لهذا الشخص، (وغرم كل) أي كل واحد بانفراده من المحاربين إذا أخذوا شيئا من الأموال (عن الجميع)؛ لأنهم كالحملاء فكل من قدر عليه منهم أخذ بجميع ما أخذه هو وأصحابه (مطلقا)، أي سواء كان ما أخذه أصحابه باقيا أم لا، جاء المحارب تائبا أم لا، نابه بشيء مما نهبوه أم لا، لتقوي بعضهم ببعض؛ فكانوا كالحملاء كما تقدم، ومثلهم البغاة والنصاب واللصوص، (وأتبع) المحارب (كالسارق)، فإن سقط عنه الحد بمجيئه تائبا أغرم مطلقا أيسر أو أعسر، وإن قتل أو قطع أغرم إن أيسر من الأخذ إلى القطع أو القتل فيؤخذ من تركته؛ لأن اليسار المتصل كقيام المال، وإلا فلا غرم والنفي كالقطع على الراجح، وقيل: كسقوط الحد فيغرم فيه مطلقا، (ودفع ما بأيديهم لمن طلبه) أي ادعاءات وصفه كما توصف اللقطة (بعد الاستيناء)، وبعد (اليمين) من الطالب خوف أن يأتي غيره بأثبت مما أتى به، ولا يؤخذ منه حميل، وإنما يدفعه له الإمام ويشهد عليه، فإن جاء غيره بأثبت منه نزعه منه ودفعه لذلك الغير (أو بشهادة رجلين) عدلين (من الرفقة)، وأولى من غيرهم بلا استيناء؛ ولذا أخر البينة عن الاستيناء فتجوز شهادة بعضهم لبعض ما لم يشهد العدل لأبيه أو ابنه أو نحوهما، وأولى لنفسه على أن ما يصدر من الشخص لنفسه لا يسمى شهادة، (وإنما هو دعوى فلا حاجة لقوله:(لأنفسهما) وبقي الرجل والمرأتان أو أحدهما مع يمين الطالب، والظاهر أنه كالعدلين لثبوت الأموال بذلك، فكأنه احترز بالرجلين عن الرجل بلا يمين معه من الطالب.
(ولو شهد اثنان عدلان عند الحاكم على رجل اشتهر بالحرابة (أنه) أي هذا الشخص هو (المشهر بها) أي بالحرابة عند الناس (ثبتت) الحرابة بشهادتهما، (وإن لم يعايناها) منه فللإمام قتله بشهادتهما، (وسقط حدها) أي الحرابة دون غيرها كالزنا والقذف والشرب والقتل، (بإتيان الإمام طائعا) قبل القدرة عليه لا إن تاب بعد القدرة عليه، (أو ترك ما هو عليه) من الحرابة، وإن لم يأت الإمام، وإنما عليه غرم ما أخذه مطلقا أيسر أو أعسر بقي ما أخذه أم لا كما قدمه.