الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالواقع أن حمزة، كان يرعى المسلمين في السلام رعاية الأب لابنه والأم لولدها، كما كان يدافع عنهم في الحرب دفاع القائد الشجاع والبطل المغوار، وصدق كعب في رثائه:
فقد كان عزا لأيتامنا
…
وليث الملاحم في البزة
إنه بحق الأب الحنون والأم الرءوم للمسلمين كافة في السلام، والمدافع عنهم بروحه في الحرب.
لقد كان إنسانا رفيعا في سجاياه، من أولئك الذين هيأهم الله للخير والمثل العليا، فكان جل حياته رهين مثله العليا، لا يفكر بغيرها، ولا يعمل إلا من أجلها، فعاش لها ومات دفاعا عنها، ولا نعلم أنه شغل نفسه بالتجارة أو أتعب نفسه للثراء، فقضى عمره فقيرا، ومات فقيرا، ولم يكتنز درهما ولا دينارا، ولا اقتنى دارا أو عقارا، فكان فقيرا بالمادة، غنيا بالروح.
وكان عمره حين استشهد تسعا وخمسين سنة على قول من يقول: إنه كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين، وقيل: كان عمره أربعا وخمسين سنة (1).
فإذا ثبت لنا أن حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين (2)، وأنه ولد سنة (579 م)، واستشهد في السنة الثالثة الهجرية (624 م)، فمعنى ذلك أنه عاش ستا وخمسين سنة قمرية، وخمسا وخمسين سنة شمسية.
ومضى حمزة إلى ربه طاهر الذيل، عف اللسان، مرفوع الرأس، طيب الذكر، سخر طاقاته لخدمة عقيدته وخدمة الناس، ولم يسخر عقيدته ولا أحدا من الناس لخدمته، ملك روحه فما ضن بها على الإسلام، بل ضحى بها طوعا مقبلا غير مدبر، فكانت روحه اللبنة الصلدة في صرح الدين الحنيف.
(1) أسد الغابة (2/ 49).
(2)
أسد الغابة (2/ 46)
القائد
كان حمزة من أبطال المسلمين الأولين، مشهودا له بالشجاعة والإقدام، ولعل
شجاعته الفائقة هي التي فرضت احترامه الشديد على الناس قبل الإسلام وبعد الإسلام، بالإضافة إلى سجاياه الرفيعة الأخرى، التي يمكن أن أطلق عليها: سجايا الفروسية.
لقد اعتدى أبو جهل المخزومي على النبي صلى الله عليه وسلم فشجه حمزة شجة منكرة في البيت الحرام، وهو بين قومه بني مخزوم، وهم أعز قريش، فقام بنو مخزوم لينصروا أبا جهل، ولكن حمزة تحداهم جميعا بإعلانه الإسلام قائلا:"وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك، أنا أشهد أنه رسول صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يقول الحق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين"، فقال أبو جهل: "دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا (1).
لقد منع أبو جهل قومه بني مخزوم من نصرته على حمزة، لأنه كان يعلم أن نصرته ستكلفه وتكلف قومه غاليا، فانسحب من تحدي حمزة راضيا بالذل والهوان بين قومه بني مخزوم وحشد رجال قريش، خوفا من حمزة لا إشفاقا عليه، وهكذا تفرض الشجاعة نفسها فرضا على الأعداء والأصدقاء.
وعز الإسلام بحمزة والمسلمون بعد إسلامه، لأنه شجاع لا كالشجعان، وهو الذي جندل رجالات قريش في المبارزة يوم بدر، ويوم أحد أيضا، وفعل بهم الأفاعيل في القتال.
وحسبنا دليلا على مبلغ شجاعته الفائقة ما حظي به من تكريم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أطلق عليه: أسد الله، وأسد رسوله.
ولعل أكبر دليل على كفايته القيادية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قلده أول لواء في الإسلام، فبعثه على رأس سرية في ثلاثين من المهاجرين، ليتصدى لقافلة قريش بقيادة أبي جهل في ثلاثمائة من المشركين فاصطف الجانبان للقتال، ولكنهما حجزا فلم يكن هناك أي قتال، ولكن أثر سرية حمزة في المشركين من الناحية المعنوية كان عظيما.
وما كان حمزة في كل حياته يخشى أن يقع على الموت أو يقع الموت عليه، لهذا كان يضع علامة في رأسه أو على صدره، يتميز بها عن المجاهدين الآخرين، دون أن يحسب
(1) أسد الغابة (2/ 47).
أي حساب لإظهار شخصيته لأعدائه متحديا لهم غير هياب ولا وجل مما يكتنفه من هذا التحدي على حياته من أخطار.
وليس توليته أول قيادة إلا دليلا على ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة حمزة، لأنها أول مجابهة بين المسلمين والمشركين، ونتائجها تؤثر في معنويات الجانبين تأثيرا حاسما. وهذه الثقة النبوية، لشجاعته ولمزاياه القيادية الأخرى.
وكما كان حمزة موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم، كان موضع ثقة المسلمين كافة، وكان يبادلهم ثقة بثقة، والثقة المتبادلة من مزايا القائد المتميز.
كما كان موضع محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموضع محبة المسلمين جميعا، وكان حمزة يبادلهم حبا بحب وتقديرا بتقدير.
وقد تيسرت لحمزة مزايا القائد الثلاث الرئيسية: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
فقد وهبه الله طبعا هو طبع القائد الموهوب، فالشجاعة طبع أصيل فيه، وكان ألمعي الذكاء، وهذا أيضا من الطبع الموهوب.
ولعل ثقته العالية بنفسه في القتال، هي نتيجة من نتائج شجاعته وذكائه، فصقل هذا الطبع بالعلم المكتسب في التدريب على استعمال السلاح والفروسية وتحمل المشاق والصبر والمصابرة والإيمان العميق بالقضاء والقدر.
أما تجربته العملية، فقد مارس القتال من نعومة أظفاره في حرب الفجار، إلى استشهاده في غزوة أحد، فسقط مضرجا بدمائه، ولم يسقط من يده السيف.
أما مزايا القائد الفرعية أو الثانوية، فقد كان حمزة يتمتع بأكثرها وأهمها.
فقد كان سريع القرار سليم القرار، ذا إرادة قوية ثابتة، يتحمل المسئولية كاملة ولا يتهرب منها ولا يلقيها على عواتق غيره من القادة أو المرءوسين، له نفسية ثابتة لا تتبدل في حالة النصر أو الهزيمة، وكان عارفا بنفسيات رجاله وقابلياتهم؛ لأنه يعيش معهم ويقضي أكثر وقته بينهم، ذا شخصية نافذة قوية، له قابلية بدنية فذة، وماضي ناصع مجيد.