الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم، وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال، فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره، كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره.
فصل
واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم، واعتبر الشافعي ربع دينار، كما اعتبره في قطع السارق، ولم يعتبره مالك؛ لأنه يرى إجراء الحكم عليهم بالخروج قبل أخذ المال (1).
(فصل)
وقال أصحابنا: إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم، وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة -وهو المنعة - حصل باجتماعهم جميعا: وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم، ومن كان عونا أو ظهيرا، والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم، ومن كان منهم ردءا وظهيرا، ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم.
(1) قد يقال قول مالك هو الصحيح؛ لأن حد الحرابة منفرد يخالف حد السرقة.
قال
أبو بكر بن العربي
في تفسير آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) في الآية اثنتا عشرة مسألة، ثم ذكر في المسألة الأولى منها أن في قوله تعالى:{يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) مجازا بالتشبيه أو بالحذف على طريقة علماء الكلام.
ثم قال: المسألة الثانية في سبب نزولها وفيها خمسة أقوال:
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سورة المائدة الآية 33
الأول - أنها نزلت في أهل الكتاب، نقضوا العهد وأخافوا السبيل وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم.
الثاني - نزلت في المشركين، قاله الحسن.
الثالث - نزلت في عكل أو عرينة قدم منهم نفر على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتكلموا بالإسلام فقالوا: «يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسملوا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم (1)» .
وقال قتادة: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان «يحث على الصدقة وينهى عن المثلة (2)» .
هذا في الصحيح من قصتهم، وتمامها على الاستيفاء في صريح الصحيح، زاد الطبري: وفي ذلك نزلت هذه الآية، ورواه جماعة.
الرابع - أن هذه الآية نزلت معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن العرنيين، قاله الليث.
الخامس - قال قتادة: هي ناسخة لما فعل في العرنيين.
المسألة الثالثة - في تحقيق ذلك:
لو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ونصا صريحا. واختار الطبري أنها نزلت في يهود، ودخل تحتها كل ذمي وملي، وهذا ما لم يصح فإنه لم يبلغنا أن أحدا من اليهود حارب، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء.
ومن قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عكلا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقط قبلها، وقد قيل للكفار:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) وكذلك المرتد يقتل بالردة دون المحاربة، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنها في شأن العرنيين أقوى، ولا يمكن أن يحكم فيهم بحكم العرنيين من سمل الأعين وقطع الأيدي.
(1) صحيح البخاري المغازي (4192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(3)
سورة الأنفال الآية 38
(4)
سورة المائدة الآية 34
قلنا: ذلك ممكن لأن الحربي إذا قطع الأيدي وسمل الأعين فعل به مثل ذلك إذا تعين فاعل ذلك.
فإن. قيل: لم يكن هؤلاء حربيين، وإنما كانوا مرتدين والمرتد يلزم استتابته، وعند إصراره على الكفر يقتل.
قلنا: فيه روايتان: إحداهما أنه يستتاب والأخرى لا يستتاب.
وقد اختلف العلماء على القولين، فقيل: لا يستتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل هؤلاء ولم يستتبهم.
وقيل: يستتاب المرتد، وهو مشهور المذهب، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم استتابة هؤلاء لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب، ويرشد ويبين له الشكل، وتجلى له الشبهة.
فإن قيل: فكيف يقال: إن هذه الآية تناولت المسلمين وقد قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وتلك صفة الكفار؟.
قلنا: الحرابة تكون بالاعتقاد الفاسد، وقد تكون بالمعصية؛ فيجازى بمثلها، وقد قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2).
فإن قيل: ذلك فيمن يستحل الربا.
قلنا: نعم، وفيمن فعله فقد اتفقت الأمة على أن من يفعل المعصية يحارب كما لو اتفق أهل بلد على العمل بالربا، وعلى ترك الجمعة والجماعة.
المسألة الرابعة - في تحقيق المحاربة:
وهي إشهار السلاح قصد السلب مأخوذ من الحرب، وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه، والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3){الَّذِينَ آمَنُوا} (4).
وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه: قال ابن وهب: قال مالك: المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان. ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا إذا ظهر عليه يقتل، وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، قال مالك: والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء. وإن استخفى بذلك وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سورة البقرة الآية 279
(3)
سورة يونس الآية 62
(4)
سورة يونس الآية 63
فقطع السبيل أو قتل فذلك إلى الإمام يجتهد أي هذه الخصال شاء، وفي رواية عن ابن وهب: أن ذلك إن كان قريبا وأخذ بحدثان فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة، وفي ذلك أربعة أقوال:
الأول - ما تقدم ذكره لمالك.
الثاني - أنها الزنا والسرقة والقتل، قاله مجاهد.
الثالث - أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره، قاله الشافعي، ومالك في رواية، والأوزاعي.
الرابع - أنه المجاهر في الطريق لا في المصر، قاله أبو حنيفة وعطاء.
المسألة الخامسة - في التنقيح:
أما قول مجاهد فساقط إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة؛ فإن ذلك أفحش في الحرابة.
قال القاضي رضي الله عنه: ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها، فاحتملوها، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين؛ لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج، فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال. وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وأما قول من قال: إنه سواء في المصر والبيداء؛ فإنه أخذ بمطلق القرآن.
وأما من فرق فإنه رأى أن الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر؛ لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في المصر.
والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعصا من في المصر لقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره؛ فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة وكان
حدا فتحرر إن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا، خلافا للشافعي وغيره.
فإن قيل: هذا لا يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضم إليه القتل وأخذ المال؛ لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر.
والذي يدل على عدم التسوية بينهما أن الذي يضم إلى السعي بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال يجب القتل عليه ولا يجوز إسقاطه عنه، والذي ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خاصة يجوز ترك قتله يؤكده أن المحارب إذا قتل قوبل بالقتل، وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال، ورجله لإخافته السبيل. وهذه عمدة الشافعية علينا وخصوصا أهل خراسان منهم، وهي باطلة لا يقولها مبتدئ.
أما قولهم: كيف يسوى بين من أخاف السبيل وقتل وبين من أخاف السبيل ولم يقتل، وقد وجدت منه الزيادة العظمى وهي القتل.
قلنا: وما الذي يمنع من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى ولم أحلتم ذلك؟ أعقلا فعلتم ذلك أم شرعا؟ أما العقل فلا مجال له في هذا، وإن عولتم على الشرع فأين الشرع؟ بل قد شاهدنا ذلك في الشرع، فإن عقوبة القاتل كعقوبة الكافر، وإحداهما أفحش.
وأما قوله: لو استوى حكمهما لم يجز إسقاط القتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل كما لم يجز إسقاطه عمن أخاف وقتل.
قلنا": هذه غفلة منكم، فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعين القتل عليه فلم يجز مخالفته.
أما إذا أخاف ولم يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحل اجتهاد، فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به، ومن أداه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه، ولهذه النكتة قال مالك: وليستشر ليعلم الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم.
وأما قولهم: إن القتل يقابل القتل وقطع اليد يقابل السرقة وقطع الرجل يقابل المال، فهو تحكم منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة، وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود الشريعة لفحشه وقبح أمره.
المسألة السادسة - قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1)
(1) سورة المائدة الآية 33
فيها قولان:
الأول: أنها على التخيير، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم.
الثاني: أنها على التفصيل.
واختلفوا في كيفية التفصيل على سبعة أقوال:
الأول: أن المعنى أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل. قاله ابن عباس والحسن وقتادة والشافعي وجماعة.
الثاني: المعنى: إن حارب فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب، فإن قتل ولم يأخذ مالا قتل، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وهذا يقارب الأول إلا في الجمع بين قطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب.
الثالث: أنه إن قتل وأخذ المال وقطع الطريق يخير فيه الإمام إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ورجله، وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ويده ولم يصلبه، فإن أخذ بالأول فقتل قطع من خلاف، وإن لم يأخذ بالأول غرب ونفي من الأرض.
الرابع: قال الحسن مثله إلا في الآخر، فإنه قال: يؤدب ويسجن حتى يموت.
الخامس: قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال قطعوا من خلاف، وإن أخذوا المال وقتلوا فإن أبا حنيفة قال: يخير فيهم بأربع جهات: قتل صلب قطع، وقتل قطع وصلب، وهذا نحو ما تقدم وهذا سادس.
السابع: قال ابن المسيب ومالك في إحدى روايتيه بتخيير الإمام بمجرد الخروج، أما من قال لأن (أو) على التخيير فهو أصلها، وموردها في كتاب الله تعالى.
وأما من قال إنها للتفصيل فهو اختيار الطبري، وقال: هذا كما لو قال: إن جزاء المؤمنين إذا دخلوا الجنة أن ترفع منازلهم أو يكونوا مع الأنبياء في منازلهم وليس المراد حلول المؤمنين معهم في مرتبة واحدة، وهذا الذي قاله الطبري، لا يكفي إلا بدليل، ومعولهم قول
النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفسا بغير نفس (1)» ، فمن لم يقتل كيف يقتل.
قالوا: وأما قولكم: إنها على التخيير فإن التخيير يبدأ فيه بالأخف ثم ينتقل فيه إلى الأثقل، وههنا بدأ بالأثقل ثم انتقل إلى الأخف؛ فدل على أنه قرر ترتيب الجزاء على الأفعال، فترتب عليه بالمعنى، فمن قتل قتل، فإن زاد وأخذ المال صلب، فإن الفعل جاء أفحش، فإن أخذ المال وحده قطع من خلاف، وإن أخاف نفي.
الجواب: الآية نص في التخيير، وصرفها إلى التعقيب والتفصيل تحكم على الآية وتخصيص لها، وما تعلقوا منه بالحديث لا يصح؛ لأنهم قالوا: يقتل الردة ولم يقتل، وقد جاء القتل بأكثر من عشرة أشياء منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها، فلا تعلق بهذا الحديث لأحد. وتحرير الجواب القطع لتشغيبهم، إن الله تعالى رتب التخيير على المحاربة والفساد، وقد بينا أن الفساد وحده موجب للقتل، ومع المحاربة أشد.
المسألة السابعة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2)
وفيه أربعة أقوال:
الأول - يسجن، قاله أبو حنيفة وأهل الكوفة، وهو مشهور مذهب مالك في غير بلد الجناية.
الثاني: ينفى إلى بلد الشرك، قاله أنس والشافعي والزهري وقتادة وغيرهم.
الثالث - يخرجون من مدينة إلى مدينة أبدا، قاله ابن جبير وعمر بن عبد العزيز.
الرابع - يطلبون بالحدود أبدا، فيهربون منها، قاله ابن عباس والزهري وقتادة ومالك.
والحق أن يسجن فيكون السجن له نفيا من الأرض، وأما نفيه إلى بلد الشرك فعون له على الفتك، وأما نفيه من بلد إلى بلد فشغل لا يدان به لأحد، وربما فر فقطع الطريق ثانية.
وأما قول من قال: يطلب أبدا، وهو يهرب من الحد فليس بشيء، فإن هذا ليس بجزاء، وإنما هو محاولة طلب الجزاء.
المسألة الثامنة - قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} (3)
(1) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158)، سنن النسائي تحريم الدم (4019)، سنن أبو داود الديات (4502)، سنن ابن ماجه الحدود (2533)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 62)، سنن الدارمي الحدود (2297).
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة المائدة الآية 33
قال الشافعي: إذا أخذ في الحرابة نصابا قلنا: أنصف من نفسك أبا عبد الله، ووف شيخك حقه لله. إن ربنا تبارك وتعالى قال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1)، فاقتضى هذا قطعه في حقه. وقال في المحاربة:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) فاقتضى بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في السارق أن قطعه في نصاب وهو ربع دينار، وبقيت المحاربة على عمومها. فإن أردت أن ترد المحاربة إلى السرقة كنت ملحقا الأعلى بالأدنى، وخافضا الأرفع إلى الأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب - وهو يطلب النفس إن وقي المال بها - على السارق، وهو يطلب خطف المال، فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب، يحكم عليه بحكم المحارب.
قال القاضي: وكنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى بقاع العلم عن حضيض الجاهلين.
والمسكت للشافعي أنه لم يعتبر الحرز فلو كان المحارب ملحقا بالسارق لما كان ذلك إلا على حرز.
وتحريره أن يقول أحد شرطي السرقة فلا يعتبر في المحارب كالحرز والتعليل النصاب.
المسألة التاسعة - إذا صلب الإمام المحارب فإنه يصلبه حيا.
وقال الشافعي: يصلبه ميتا ثلاثة أيام؛ لأن الله تعالى قال {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (3) فبدأ بالقتل.
قلنا: نعم، القتل مذكور أولا، ولكن بقي أنا إذا جمعنا بينهما كيف يكون الحكم ههنا هو الخلاف، والصلب حيا أصح؛ لأنه أنكى وأفضح، وهو مقتضى معنى الردع الأصلح.
المسألة العاشرة - لا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول
(1) سورة المائدة الآية 38
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة المائدة الآية 33
مكافئا للقاتل.
وللشافعي قولان: منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء؛ لأنه قتل فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص. وهذا ضعيف؛ لأن القتل ههنا ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، فإن انضافت إليه إراقة الدم فحش؛ ولأجل هذا لا يراعى مال مسلم من كافر.
المسألة الحادية عشرة - إذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض: قتل الجميع.
وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل. وهذا مبني على تخيير الإمام وتفصيل الأحكام، وقد تقدم.
ويعضد هذا أن من حضر الوقعة شركاء في الغنيمة، وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردة، وهو الطالع فالمحارب أولى.
المسألة الثانية عشرة - قولة تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) وفيه خمسة أقوال:
الأول - إلا الذين تابوا من أهل الكفر، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
الثاني - إلا الذين تابوا وقد حاربوا بأرض الشرك.
الثالث - إلا المؤمنين الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.
الرابع - إلا الذين تابوا في حقوق الله، قاله الشافعي ومالك، إلا أن مالكا قال: وفي حقوق الآدميين، إلا أن يكون بيده مال يعرف أو يقوم ولي يطلب دمه فله أخذه والقصاص منه.
الخامس - قال الليث بن سعد: لا يطلب بشيء لا من حقوق الله ولا من حقوق الآدميين.
أما قول من قال: إن الآية في المشركين فهو الذي يقول إن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (2) عائد عليهم، وقد بينا ضعفه.
(1) سورة المائدة الآية 34
(2)
سورة المائدة الآية 34
وأما من قال: إنه أراد إلا الذين تابوا ممن هو بأرض الشرك، فهو تخصيص طريف، وله وجه طريف، وهو أن قوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) يعطي أنهم بغير أرض أهل الإسلام، ولكن كل من هو في دار الإسلام تأخذه الأحكام وتستولي عليه القدرة، وهذا إذا تبينته لم يصح تنزيله، فإن الذي يقدر عليه هو الذي يكون بين المسلمين، فأما الذي خرج إلى الجبل وتوسط البيداء في منعة فلا تتفق القدرة عليه إلا بجر جيش ونفير قوم فلا يقال: إنا قادرون عليه.
وأما من قال: أراد به المؤمنين فيرجع إلى الرابع والخامس، قلنا: إنا نقول: هو على عمومه في الحقوق كلها أو في بعضها.
فأما من قال: إنه على عمومه في الحقوق كلها فقد علمنا بطلان ذلك بما قام من الدليل على أن حقوق الآدميين لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها ولا يسقطها إلا بإسقاطه.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) فكانت هذه المغفرة عامة في كل حق.
قلنا: هذه مغفرة عامة بلا خلاف للمصلحة في التحريض لأهل الكفر على الدخول في الإسلام، فأما من التزم حكم الإسلام فلا يسقط عنه حقوق المسلمين إلا أربابها.
وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم في الشهادة: إنها تكفر كل خطيئة إلا الدين (3)» .
وأما من قال: إن حكمها أنها تكفر حقوق الله تعالى فهو صحيح؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)
وأما من قال في حقوق الآدميين: إن الإمام لا يتولى طلبها، وإنما يطلبها أربابها، وهو مذهب مالك فصحيح؛ لأن الإمام ليس بوكيل لمعينين من الناس في حقوقهم المعينة، وإنما هو نائبهم في حقوقهم المجملة المبهمة التي ليست بمعينة.
وأما إن عرفنا بيده مالا لأحد أخذه في الحرابة فلا نبقيه في يده؛ لأنه غصب، ونحن نشاهده والإقرار على المنكر لا يجوز؛ فيكون بيد صاحبه المسلم حتى يأخذه مالكه من يد
(1) سورة المائدة الآية 34
(2)
سورة الأنفال الآية 38
(3)
سنن الترمذي فضائل الجهاد (1640).
(4)
سورة المائدة الآية 34
صاحبه وأخيه الذي يوقفه الإمام عنده.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآيتين فيه خمسة عشر مسألة:
الأولى - اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في امرأتين، روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك:«أن قوما من عكل - أو قال: من عرنة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها؛ فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون، (2)» قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية: «فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم (3)» ، وفي رواية:«فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافلة، فأتي بهم قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: الآية (5)» . وفي رواية: قال أنس: «فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا (6)» ، وفي البخاري: قال جرير بن عبد الله في حديثه: «فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)» ، قال جرير:«فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم النار» ، وقد حكى أهل التواريخ والسيرة أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه يسار، وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم، وروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (8) إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال إن الآية نزلت في المشركين: عكرمة والحسن، وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (10)
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
صحيح البخاري الوضوء (233)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(3)
صحيح البخاري الحدود (6804)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(4)
صحيح البخاري الديات (6899)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 107).
(5)
سورة المائدة الآية 33 (4){إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}
(6)
صحيح البخاري الديات (6899)، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي تحريم الدم (4034)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 107).
(7)
صحيح البخاري الديات (6899)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(8)
سورة المائدة الآية 33
(9)
سورة المائدة الآية 34
(10)
سورة الأنفال الآية 38
وقوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يهدم ما قبله (1)» ، أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله - جل ثناؤه -:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين فوقف الأمر على هذه الحدود، وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس ذكره أبو داود، وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ، إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (3) الآية، أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتدين. لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي؛ ولذلك قال الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ولا يصلب أيضا، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد، وقال تعالى في حق الكفار:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (5) وقال في المحاربين {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (6) الآية، وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب، إذ هو مقتضى الكتاب، قال الله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (7)
(1) سنن الدارمي كتاب المقدمة (649).
(2)
سورة المائدة الآية 34
(3)
سورة المائدة الآية 33
(4)
سورة المائدة الآية 34
(5)
سورة الأنفال الآية 38
(6)
سورة المائدة الآية 34
(7)
سورة البقرة الآية 194
فمثلوا فمثل بهم إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة، وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم. وحكى الطبري عن السدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين، وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك وهذا ضعيف جدا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل في صحيح البخاري:«فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم (1)» . ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. وفي قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) واستعارة ومجاز إذ أن الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال. ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد. والمعنى يحاربون أولياء الله، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (3) حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح مسلم «استطعمتك فلم تطعمني (4)» الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في (البقرة).
الثانية - اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة، قال ابن المنذر اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة، وفي ذلك مرة، وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء، وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة، وقالت طائفة لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان والمغتال كالمحارب، وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سكر فأطعمه سما فقتله فيقتل هذا لا قودا.
الثالثة - واختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف. وإن أخذ المال وقتل قطعت يده
(1) صحيح البخاري الحدود (6804)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(2)
سورة المائدة الآية 33
(3)
سورة البقرة الآية 245
(4)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 404).
ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي. قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء. ونحوه قول الأوزاعي، وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي؛ لأن هذه الجناية زادت عن السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس، وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله، كقوله الشافعي، وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، أو كذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا: إن الواو للترتيب - وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين، فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية، ولا معنى (أو) في اللغة، قاله النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال:«سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: (من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة، ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه)» ، قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط، والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا.
الرابعة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) اختلف في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله أو يخرج من دار الإسلام هربا
(1) سورة المائدة الآية 33
ممن يطلبه، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه، وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني، وقال مالك أيضا والكوفيون: نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك.
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
…
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون، وقال: احبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة، وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه الحديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابه أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه. وإن كان غير مخوف الجانب (فظن أنه لا يعود إلى جناية) سرح، قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح.
الخامسة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) النفي أصله الإهلاك، ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام، ومنه النفاية لردي المتاع، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو.
قال الراجز:
كأن متنيه من النفي
…
مواقع الطير على الصفى
السادسة: قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما
(1) سورة المائدة الآية 33
يراعى في السارق، وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار، قال ابن العربي: قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب، وهو الصحيح، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يؤقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فانتفى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حية، ثم إن هذا قياس أصل على أصل، وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، والأدنى بالأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال؟! فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب، قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين وارتفعوا إلى بقاع العلم عن حضيض الجاهلين.
قلت: اليفع أعلى الجبل، ومنه غلام يفعة، إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض: الحفرة في أسفل الوادي، كذا قال أهل اللغة.
السابعة - ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما: أنها تعتبر المكافأة؛ لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، قال الله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (1) فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء.
الثامنة - وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع، وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل، وهذا أيضا ضعيف، فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة، وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردة، وهو الطليعة، فالمحارب أولى.
التاسعة - وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من
(1) سورة المائدة الآية 33
غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا؛ فإن كان كذلك اتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي:
العاشرة: لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله، وأخذوا بحقوق الآدميين فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب، فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه، أو يقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وإما ما استهلكه فلا يطلبه، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني؛ فإنه كان محاربا، ثم تاب قبل القدرة عليه. فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال هل يتبع دينا بما أخذ أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
الحادية عشرة - وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى.
قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها واجتلينا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي:
الثانية عشرة - تفسير مجاهد لها، قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة، وليس بصحيح، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب
في هذه الآية مخالف لذلك؛ اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج؛ فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال، وقد دخل هذا في معنى قوله تعالى:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1)
الثالثة عشر - قال علماؤنا ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك، وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل، ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة:«أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال: فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال: فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار (2)» وأخرجه البخاري ومسلم. وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: إن قتلته؟ قال: هو في النار (3)» ، قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم هذا مذهب ابن عمرو الحسن البصع وإياهم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال، إلا السلطان فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.
قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف، كالثوب والطعام هل يعطونه ويقاتلون، وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر، وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم.
الرابعة عشر - قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} (4) لشناعة المحاربة، وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات وركنها وعمادها الضرب في الأرض كما قال عز وجل:
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سنن النسائي تحريم الدم (4083)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 339).
(3)
صحيح مسلم الإيمان (140).
(4)
سورة المائدة الآية 33
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا وردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة (2)» والله أعلم.
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره، ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة، وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) أما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.
الخامسة عشرة - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم، بقوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول: إنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره، فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه، فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع.
وقيل: إنما لا يسقط الحد من المحاربين بعد القدرة عليهم، والله أعلم؛ لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة، وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة (يونس)، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم
(1) سورة المزمل الآية 20
(2)
صحيح البخاري الإيمان (18)، صحيح مسلم الحدود (1709)، سنن الترمذي الحدود (1439)، سنن النسائي البيعة (4161)، سنن الدارمي السير (2453).
(3)
سورة النساء الآية 48
(4)
سورة المائدة الآية 34
(5)
سورة المائدة الآية 34