الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال ابن حزم في المحلى:
مسألة: وكل ما حرم الله من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام، أو ميتة، أو دم، أو لحم سبع أو طائر، أو ذي أربع، أو حشرة، أو خمر، أو غير ذلك، فهو كله عند الضرورة حلال، حاشا لحوم بني آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل من ذلك شيء أصلا، لا بضرورة ولا بغيرها. وبعد أن ذكر وجه حل ذلك للمضطر قال: وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها، فلا يحل غير ذلك. اهـ (1). .
(1) ص426 ج5 من المحلى
المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب
فيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون
الأصل في المسلمين أنهم سواء في عصمة الدم ووجوب المحافظة على حياتهم، فإذا ركب منهم جماعة سفينة، ثم أحدق بها الخطر وخشي من فيها على أنفسهم الغرق، وعلموا أو غلب على ظنهم أن لا نجاة لهم إلا بتخفيف السفينة بإلقاء واحد منهم بالقرعة، فهل يجوز لهم ذلك أو لا؟ هذا محل نظر واجتهاد، ولذا اختلف فيه العلماء، فبعضهم لا يرى القرعة في مثل هذه المسألة، لاستواء الركاب في عصمة الدم، ووجوب محافظة كل منهم على حياته، فيحرم على كل منهم أن يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين، ويحرم عليهم جميعا أن يلقوا واحدا منهم بقرعة أو بدونها؛ لأن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية، وبعضهم يرى إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين لأن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى المصلحتين وهو إنقاذ الجماعة التي لم تلق في اليم بتفويت مصلحة من ألقي فيه، وهذا مستلزم لارتكاب أخف المفسدتين، وهو إلقاء أحدهم في اليم تفاديا لأشدهما وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة، وكون نجاة من بقي ظنية لا تأثير له في منع إلقاء واحد ما دام ظنا غالبا لا وهما، فإن الظن الغالب تبنى عليه الأحكام، فإن القتل العمد العدوان يثبت به حق القصاص بشهادة عدلين بالسرقة وأربعة بزنا البكر والمحصن إلى غير هذا مما يفيد غلبة الظن وتثبت به الأحكام في الضروريات الخمس المعروفة.
أما اعتبار القرعة أصلا تبنى عليه الأحكام فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه بعد ثبوته، وبناء الأحكام عليه في الكتاب والسنة في مسائل كثيرة متنوعة قد يفيد استقراؤها القطع بثبوت هذا الأصل، وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في العمل بالقرعة في مواضع كثيرة منها هذه المسألة.
وقال في نتائج الأفكار:
قوله: والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل، قال الشراح: هذا جواب الاستحسان، والقياس يأباها لأن استعمال القرعة تعليق الاستحقاق بخروج القرعة، وهو في معنى القمار، والقمار حرام، ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق أو المطلقة، ولكنا تركنا القياس ههنا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وليس هذا في معنى القمار؛ لأن أصل الاستحقاق في القمار يتعلق بما يستعمل فيه، وفيما نحن فيه لا يتعلق أصل الاستحقاق بخروج القرعة؛ لأن القاسم لو قال: أنا عدلت في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت ذاك الجانب. كان مستقيما إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه، وذلك جائز، ألا يرى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة كما قال الله تعالى: فساهم فكان من المدحضين وذلك لأنه علم أنه هو المقصود، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق بالأنبياء، فاستعمل القرعة لذلك، وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم لكون خالتها عنده؛ تطييبا لقلوبهم كما قال الله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد السفر (1)» تطييبا لقلوبهن. انتهى كلامهم.
وعزا في النهاية ومعراج الدراية هذا التفصيل إلى المبسوط. أقول: بين أول كلامهم هذا وآخره تدافع؛ لأنهم صرحوا أولا بأن مشروعية استعمال القرعة هاهنا جواب الاستحسان، والقياس يأبى ذلك لكونه في معنى القمار. وقالوا آخرا: إن هذا ليس في معنى القمار، وبينوا الفرق بينه وبين القمار، وذكروا ورود نظائر له في الكتاب والسنة، فقد دل ذلك على أنه ليس مما يأباه القياس أصلا، بل هو مما يقتضيه القياس أيضا فتدافعا. اهـ.
وقال في كتاب الأم: (كتاب القرعة):
أخبرنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (2) إلى قوله: {يَخْتَصِمُونَ} (3) وقال الله عز وجل: وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين (قال الشافعي): رحمه الله تعالى: فأصل القرعة في كتاب الله في قصة المقترعين على مريم، والمقارعي يونس مجتمعة، فلا تكون القرعة - والله أعلم - إلا بين قوم مستوين في الحجة ولا يعدو - والله تعالى أعلم - المقترعون
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2594)، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770)، سنن أبو داود النكاح (2138)، سنن ابن ماجه النكاح (1970)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 198)، سنن الدارمي الجهاد (2423).
(2)
سورة آل عمران الآية 44
(3)
سورة آل عمران الآية 44
على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها. ثم قال: فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه، وتقطع ذلك عن غيره ممن هو في مثل حاله. (قال): وهكذا معنى قرعة يونس صلى الله عليه وسلم لما وقفت بهم السفينة، فقالوا: ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها، فتعالوا نقترع. فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأخرجوه منها وأقاموا فيها. وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم؛ لأن حال الركبان كانت مستوية، وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزمه قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم. (قال الشافعي): وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا، فجعل العتق تاما لثلثهم، وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها. وكذلك قسم خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره، وانقطع حقه عن غيره. (أخبرنا) ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب، «أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت، ليس لها مال غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (1)» . أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين، «أن رجلا من الأنصار إما قال: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم، وإما قال: أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (2)». إلى أن قال:(أخبرنا) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير، فاستشار عمر رجلا منهم خارجة بن زيد بن ثابت، فأقرع بينهم. قال أبو الزناد: وحدثني رجل عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم. ثم ساق كلاما وقال بعده:(قال الشافعي): وبهذا كله نأخذ، وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم إن كان أعتقهم عتق بتات في حياته، فهكذا فيما أرى الحديث، فقد دلت السنة على معان منها: إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت، فلما أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق الثلث وأرق الثلثين، استدللنا على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ماله، ورد مال غيره. اهـ المقصود (3). .
(1) صحيح مسلم الأيمان (1668)، سنن الترمذي الأحكام (1364)، سنن النسائي الجنائز (1958)، سنن أبو داود العتق (3958)، سنن ابن ماجه الأحكام (2345)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 446).
(2)
صحيح مسلم الأيمان (1668)، سنن الترمذي الأحكام (1364)، سنن النسائي الجنائز (1958)، سنن أبو داود العتق (3958)، سنن ابن ماجه الأحكام (2345)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 431)، موطأ مالك العتق والولاء (1506).
(3)
الأم للشافعي ج8 ص3/ 4 ط الأولى 1381هـ 1961م
وقال ابن حجر في فتح الباري
عند تفسير (1) قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية: أشار البخاري بذكر هذه الآية بذلك إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله، وهذا منه. اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: فساهم فكان من المدحضين: والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس، فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. اهـ.
وقال: (2) والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه؛ لأنه من باب الخطر والقمار، وحكي عن الحنفية إجازتها اهـ. وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها، فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن؛ لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح اهـ. وفيه مراعاة للمذهب، مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.
قال ابن حجر في فتح الباري (3)
مشروعية القرعة مما اختلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع.
(1) باب القرعة في المشكلات ج5 من فتح الباري
(2)
باب القرعة بين النساء ج9 من فتح الباري
(3)
باب القرعة في المشكلات من ج 5 من فتح الباري
وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا، فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الآخر فيقطع التنازع. وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصي بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا، وهو تعيين الملك، ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. اهـ.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية: فصل القرعة:
من طرق الأحكام الحكم بالقرعة، قال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذا يختصمون قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها، فقرع زكريا، وكان زوج خالتها، فضمها إليه. وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها. وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.
وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1){إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (2){فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (3) أي: فقارع، فكان من المغلوبين.
فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم،
(1) سورة الصافات الآية 139
(2)
سورة الصافات الآية 140
(3)
سورة الصافات الآية 141
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه (1)» .
* وفي الصحيحين أيضا عن عائشة: أن «النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (2)» ، وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين:«أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (3)» .
* وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عرض على قوم اليمين، فسارعوا إليه، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين: أيهم يحلف (4)» ، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أكره اثنان على اليمين، أو استحباها، فليسهما عليها (5)» ، وفي رواية أحمد:«إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها (6)» . وفيه أيضا «أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لواحد منهما بينة، فقال: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها (7)» .
* وفي الصحيحين عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار (8)» . ورواه أبو داود في السنن وفيه: «فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالا (9)» .
* فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها الكتاب، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، قال البخاري في صحيحه: ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد. وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة، وهي في جامعه، فذكر مقاصده.
* قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد: القرعة جائزة. وقال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله عن القرعة، ومن قال: إنها قمار. قال: إن كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل سوء يزعم أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار.
* قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن ابن أكثم يقول: إن القرعة قمار، قال: هذا قول رديء خبيث، ثم قال: كيف؟ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار، ولم يرضوا، قالوا: يقرع بينهم، وهو يقول: لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن، وتزوج خامسة، ولم يدر أيتهن التي طلق؟ قال: يورثهن جميعا، ويأمرهن أن يعتددن جميعا، وقد ورث من لا ميراث لها، وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها، والقرعة تصيب
(1) صحيح البخاري الأذان (615)، صحيح مسلم الصلاة (437)، سنن الترمذي الصلاة (225)، سنن النسائي الأذان (671)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 303)، موطأ مالك النداء للصلاة (295).
(2)
صحيح البخاري الشهادات (2661)، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770)، سنن أبو داود النكاح (2138)، سنن ابن ماجه النكاح (1970)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 198)، سنن الدارمي الجهاد (2423).
(3)
صحيح مسلم الأيمان (1668)، سنن الترمذي الأحكام (1364)، سنن النسائي الجنائز (1958)، سنن أبو داود العتق (3958)، سنن ابن ماجه الأحكام (2345)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 431)، موطأ مالك العتق والولاء (1506).
(4)
صحيح البخاري الشهادات (2674)، سنن أبو داود الأقضية (3616)، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 489).
(5)
صحيح البخاري الشهادات (2674)، سنن أبو داود الأقضية (3617)، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 524).
(6)
سنن أبو داود الأقضية (3617)، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 524).
(7)
سنن أبو داود الأقضية (3616)، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 524).
(8)
صحيح البخاري الحيل (6967)، صحيح مسلم الأقضية (1713)، سنن النسائي آداب القضاة (5401)، سنن أبو داود الأقضية (3583)، سنن ابن ماجه الأحكام (2317)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 320)، موطأ مالك الأقضية (1424).
(9)
صحيح البخاري المظالم والغصب (2458)، صحيح مسلم الأقضية (1713)، سنن الترمذي الأحكام (1339)، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422)، سنن أبو داود الأقضية (3583)، سنن ابن ماجه الأحكام (2317)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 320)، موطأ مالك الأقضية (1424).
الحق، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله، فقلت: إن بعض الناس ينكر القرعة، ويقول: هي قمار اليوم، ويقول: هي منسوخة؟ فقال أبو عبد الله: من ادعى أنها منسوخة، فقد كذب وقال الزور، القرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع في ثلاثة مواضع: أقرع بين الأعبد الستة، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر، وأقرع بين رجلين تدارآ في دابة، وهي في القرآن في موضعين.
* قلت: يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع، وإلا فأحاديث القرعة أكثر، وقد تقدم ذكرها. قال: وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين: أقرع بين القوم، فأيهم أصابته القرعة: كان له ما أصاب من ذلك، يجبر عليه.
* وقال الأثرم: إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها، وبينها، وقال: إن قوما يقولون: القرعة قمار، ثم قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم جهلوا فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن. قال الأثرم: وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن، فقال: حديث أبي الزناد؟ فقلت: نعم. قال أبو عبد الله: قال أبو الزناد: يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (1) أي أقرع، فوقعت القرعة عليه. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القرعة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءه وفعله، ثم قال: سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) قال حنبل: وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته التي قضى بها وقضى بها أصحابه بعده. وقال في رواية الميموني: في القرعة خمس سنن، حديث أم سلمة:«إن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء درست بينهم، فأقرع بينهم (4)» ، وحديث أبي هريرة - حين تدارآ في دابة - فأقرع بينهما، وحديث الأعبد الستة، وحديث أقرع بين نسائه، وحديث علي. وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ابن الزبير، وابن المسيب، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك.
* قال الميموني: وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة - فقال: أرى أنها من أمر النبوة، وذكر قوله تعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (5) وقوله: فساهم.
* وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد: القرعة في كتاب الله، والذين يقولون: القرعة قمار قوم جهال، ثم ذكر أنها في السنة، وكذلك قال في رواية ابنه صالح: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع، وهي في القرآن في موضعين.
(1) سورة الصافات الآية 141
(2)
سورة الحشر الآية 7
(3)
سورة المائدة الآية 92
(4)
صحيح البخاري المظالم والغصب (2458)، صحيح مسلم الأقضية (1713)، سنن الترمذي الأحكام (1339)، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422)، سنن أبو داود الأقضية (3583)، سنن ابن ماجه الأحكام (2317)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 320)، موطأ مالك الأقضية (1424).
(5)
سورة آل عمران الآية 44