الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس:
ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه
ومستند كل مع المناقشة
اختلف أهل العلم القائلون بالقسامة فيمن توجه إليه أيمان القسامة ابتداء.
فذهبت طائفة منهم إلى أنه يبدأ بالمدعين فتوجه إليهم الأيمان.
قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأمة في القديم والحديث أنه يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون (1) وقال ابن رشد: قال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون (2). وجاء في المقنع وحاشيته: ويبدأ بأيمان المدعين فيحلفون خمسين يمينا، هذا المذهب، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا، وهذا قول يحيى بن سعيد، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، ومالك، والشافعي (3).
واستدلوا لذلك بالسنة، والإجماع، والاستصحاب، والنظر، والقياس.
أما السنة:
فروى الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن، «عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير، أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم، فأقبل هو وأخوه حويصة، وهو أكبر منه، وعبد الله بن سهل؛ أخو المقتول، فذهب محيصة يتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة " كبر كبر " يريد السن فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب " فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " فقالوا: لا، قال: " فتحلف يهود؟ " قالوا:
(1) الموطأ على المنتقى ج7 ص55، وإكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(2)
بداية المجتهد ج2 ص439.
(3)
المقنع وحاشيته ج3 ص439. .
ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليه بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء (1)».
وعورض هذا الحديث أولا بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عبد الرحمن بن بجيد بن قبطي أحد بني حارثة، قال محمد بن إبراهيم وايم الله ما كان سهل بأعلم منه، ولكنه كان أسن منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احلفوا على ما لا علم لكم به، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار " أنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)» .
وقد أجاب ابن قدامة رحمه الله عن ذلك فقال: ولنا حديث سهل، وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في موطئه، وعمل به، وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه نفي فلا يرد به قول المثبت.
والثاني: أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - شاهد القصة وعرفها، حتى أنه قال ركضتني ناقة من تلك الإبل، والأخرى يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد، ولا حضر القصة.
والثالث: أن حديثنا مخرج في الصحيحين متفق عليه، وحديثهم بخلافه.
الرابع: أنهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا، فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه (3) وعورض حديث سهل ثانيا بما جاء في البخاري من رواية سعيد بن عبيد: فقال لهم: «"تأتون بالبينة على قتله " قالوا: ما لنا بينة، قال: " فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (4)» .
وما جاء في البخاري من رواية أبي قلابة، وفيه قال:«" أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه " فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم " قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (5)» .
وأجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بعد ذكره لمجموعة من الروايات فيها تقديم تحليف المدعين، قال: كذا في رواية سعيد بن عبيد لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولا، وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظه الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم (6) وقال أيضا: وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد المذكورة في حديث الباب بقول أهل الحديث: إنه وهم من رواية من أسقط من السياق تبرئة المدعين
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4711)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 2)، موطأ مالك القسامة (1630)، سنن الدارمي الديات (2353).
(2)
صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي كتاب القسامة (4710)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3)، موطأ مالك القسامة (1630)، سنن الدارمي الديات (2353).
(3)
المغني ج8 ص495، 496. .
(4)
صحيح البخاري الديات (6898)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4523)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
(5)
صحيح البخاري الديات (6899).
(6)
فتح الباري ج12 ص234.
باليمين؛ لكونه لم يذكر فيهم رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها، وهي تقضى على من لم يعرفها، نقله ابن حجر عن القاضي عياض (1) وما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة " (2)» .
قال ابن حجر في الكلام على سند هذا الحديث: قوله روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة (3)» الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر من حديث مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به قال أبو عمر: إسناده لين، وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عمرو مرسلا، وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق، ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث عثمان بن محمد عن مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة وهو ضعيف أيضا، وقال البخاري: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، فهذه علة أخرى (4).
أما الإجماع: فقال البيهقي: وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار " وهو سكران " رجلا آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لطيخ وشبهته، قال فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول، ثم يسلم إليهم فيقتلوه، قال خارجة بن زيد: فركبنا إلى معاوية وقصصنا عليه القصة، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص، فذكر الحديث، وفيه فقال سعيد: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله، فغدونا عليه، فأسلمه إلينا سعيد بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينا.
وفي بعض طرقه "وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول، ويقتلوا ويستحيوا، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة". انتهى بواسطة ابن القيم (5) وأما الاستصحاب: فقد نقل الأبي عن القاضي عياض أن القسامة أصل في نفسها، شرعت لحياة الناس، وليرتدع المعتدي، والدعاوى في الأموال على سننها، فكل أصل صحيح في نفسه يتبع، ولا تطرح سنة بسنة (6) وقد سبق ذكر هذا دليلا ونوقش هناك، فاكتفي به عن إعادة مناقشته خشية الإطالة.
(1) فتح الباري ج12 ص23. .
(2)
سنن الترمذي الأحكام (1341).
(3)
سنن الترمذي الأحكام (1341).
(4)
تخليص الجبر ج4 ص39. .
(5)
شرح ابن القيم لسنن أبي داود، وعليها عون المعبود ج12 ص254. .
(6)
إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
وأما النظر: فقال الأبي نقلا عن القاضي عياض: القسامة إنما تكون مع الشبهة القوية على القتل، ومع الشبهة صارت اليمين له (1).
وأما القياس: فقال ابن قدامة: ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان (2) ويمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع النص، وهو ما ورد من الأدلة دالا على البدء بالمدعى عليهم بالأيمان المتعارضة، ومن جهة الترجيح فلا نطيل الكلام بإعادتها.
وذهبت طائفة أخرى من أهل العلم إلى أنه يبدأ أولا بالمدعى عليهم فتوجه إليهم الأيمان.
قال الأبي نقلا عن الإمام مالك رحمه الله: وقال الكوفيون وكثير من البصريين والمدنيين، ويروى عن عمر أن المبدأ المدعى عليهم (3) ثم قال: قلت: واختلف هؤلاء فقال بعضهم: إن حلفوا برئوا، وقال بعضهم: يحلفون وتكون الدية عليهم.
وقال ابن قدامة، وقال الحسن: يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرءون وإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن: حقنا قبلكم ثم يعطون الدية (4) وقال أيضا: وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي: يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا، ويغرمون الدية (5) وقد استدل أصحاب هذا القول بالسنة، والأثر، والقياس:
أما السنة:
فمن ذلك ما أخرجه البخاري بالسند المتصل قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد، عن بشير بن سيار -الحديث إلى أن قال- فقال لهم:«" تأتون بالبينة على من قتله " قالوا: ما لنا بينة قال: " فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (6)» ، وفي رواية أبي قلابة قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود ما
(1) إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(2)
المغني ج8 ص496. .
(3)
إكمال إكمال المعلم ج4 ص395.
(4)
المغني ج8 ص495. .
(5)
المغني ج8 ص495. .
(6)
صحيح البخاري الديات (6898)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4523)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
قتلوه؟ " فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: "أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ " قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (1)».
ويمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الأول: الجمع، وسبق ذكر ذلك في مناقشة الدليل الأول للقائلين بأنه يبدأ بالمدعين.
الثاني: قال القاضي عياض: وما احتج به الآخرون من رواية من روى أنه بدأ بالمدعى عليهم.
قال المحدثون: هي وهم من راويها (2) ويمكن أن يناقش هذان الجوابان بما ذكره ابن رشد من أن الذين يرون البدء بالمدعى عليهم بالأيمان قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي تروى فيها تبدئة المدعين بالأيمان؛ لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه (3).
ويناقش الجواب الثاني بما ذكره ابن رشد من أن الأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة (4) ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بقول الحطاب: الرواية الصحيحة المستفيضة أنه إنما بدأ فيه بالمدعين (5) ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن محمد الصباح الزعفراني، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار، «زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا واحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، فقالوا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فانطلقنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال لهم: " تأتون بالبينة على من قتل هذا؟ " قالوا: ما لنا بينة قال: " فيحلفون لكم؟ " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (6)» .
ورد هذا الحديث بقول النسائي لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار، وبقول مسلم: رواية سعيد بن عبيد غلط، ويحيى بن سعيد أحفظ منه.
وقال ابن القيم: والصواب رواية الجماعة الذين هم أئمة أثبات أنه بدأ بأيمان المدعين، فلما لم يحلفوا ثنى باليهود، وهذا هو المحفوظ في هذه القصة، وما سواها وهم (7) ويقول الخطابي في المعالم: في الحديث حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم، إلا أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالا وأصح متونا.
(1) صحيح البخاري الديات (6899).
(2)
إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(3)
بداية المجتهد ج2 ص430. .
(4)
بداية المجتهد ج2 ص430. .
(5)
إكمال إكمال المعلم ج4 ص395. .
(6)
صحيح البخاري الديات (6898)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4523)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
(7)
شرح سنن أبي داود ج12 ص249 - 250. .
وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في اليمين بالمدعين سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج، وسويد بن النعمان (1) هذا ويمكن أن تجرى فيه المناقشة التي مضت في الدليل الأول.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أنبأنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، أخبرنا عباية بن رفاعة، «عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال:" لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ " قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، إنما هم اليهود، وقد يجترئون " يجترون " على أعظم من هذا، قال:" فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم "، "فاستحلفهم" فأبوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (2)».
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأمرين:
أحدهما: ما مضى من المناقشة من جهة المتن والدرجة.
الثاني: أن هذا الحديث من سنن الحسن بن علي بن راشد، وقد رمي بشيء من التدليس، قاله ابن حجر (3) ويجاب عن المناقشة الثانية بأنه جاء في السند: وأخبرنا هشيم، فزالت تهمة التدليس بذلك، وقد حسن ابن التركماني إسناده فقال: ومنها ما أخرج أبو داود بسند حسن عن رافع بن خديج، وساق الحديث (4) ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني أخبرنا "حدثني " محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عبد الرحمن بن بجيد قال: إن سهلا، وإن أوهم الحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود:" أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلناه وما علمنا له قاتلا.
قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة (5)».
ورد هذا الحديث أولا بقول المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام فيه، وبقول الإمام الشافعي: فقال قائل: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد؟ قلت: لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سمع منه، فهو مرسل فلسنا وإياك نثبت المرسل، وقد علمت سهلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، وساق الحديث سياقا لا يثبت به الإثبات، فأخذت به كما وصفت. انتهى بواسطة المنذري.
وفي الإصابة في ترجمة عبد الرحمن بن بجيد: قال أبو بكر بن أبي داود: له صحبة، وقال ابن أبي حاتم: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جدته، وقال ابن حبان: يقال له صحبة، ثم ذكره في
(1) عون المعبود على سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي ج12 ص254. .
(2)
سنن أبو داود الديات (4524).
(3)
أضواء البيان ج3 ص503. .
(4)
الجوهر النقي في الرد على البيهقي. .
(5)
صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4711)، سنن أبو داود الديات (4525)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3)، موطأ مالك القسامة (1630)، سنن الدارمي الديات (2353).
ثقات التابعين، وقال البغوي: لا أدري له صحبة أم لا.
وقال ابن عمر: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه فيما أحسب، وفي صحبته نظر؛ لأنه روى، فمنهم من يقول إن حديثه مرسل، وكان يذكر بالعلم. انتهى (1).
ويجاب ثانيا بما أجيب به عن الحديث الأول من هذه الأدلة.
ومنها ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا الحسن بن علي، أخبرنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، «عن رجال من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم:" يحلف منكم خمسون رجلا " فأبوا، فقال للأنصار: " استحقوا (2)»، فقالوا نحلف على الغيب يا رسول الله! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم).
ورد هذا الحديث بقول المنذري: قال بعضهم: وهذا حديث ضعيف لا يلتفت إليه، وقد قيل للإمام الشافعي رضي الله عنه ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب؟ فقال: مرسل، والقتيل أنصاري، والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم إذ كان كل ثقة، وكل عندنا بنعمة الله ثقة، قال البيهقي رضي الله عنه: وأظنه أراد بحديث الزهري ما روى عنه معمر عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار، وذكر هذا الحديث (3) وقال ابن القيم: وهذا الحديث له علة وهي أن معمرا انفرد به عن الزهري، وخالفه ابن جريج وغيره، فرووه عن الزهري بهذا الإسناد بعينه عن أبي سلمة وسليمان عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى فيها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود، ذكره البيهقي.
وفي قول الشافعي: إن حديث ابن شهاب مرسل - نظر، والرجال من الأنصار لا يمتنع أن يكونوا صحابة، فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من التابعين قد لقي جماعة من الصحابة، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله؛ لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين (4).
وأجيب عن هذا بقول ابن رشد عند ذكره لهذا الحديث بسنده هذا قال: وهو حديث صحيح الإسناد؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة (5).
(1) سنن أبي داود وعليها عون المعبود وشرح ابن القيم ج12 ص252.
(2)
قال في عون المعبود: فقال للأنصار استحقوا، في القاموس: استحقه استوجبه، والمراد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأنصار بأن يستوجبوا الحق الذي يدعونه على اليهود بأيمانهم، فأجابوا بأنهم لا يحلفون على الغيب ج12 ص253.
(3)
سنن أبي داود عليها عون المعبود ومعالم السنن للخطابي وشرح ابن القيم ج12 ص254 - 255. .
(4)
شرح ابن القيم على سنن أبي داود ج12 ص253 - 254.
(5)
بداية المجتهد ج2 ص430. .
ويناقش بما سبق من أن جميع الروايات التي فيها البدء بالمدعى عليهم قال المحدثون: هي وهم من راويها.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه: «ولكن اليمين على المدعى عليه (1)» وفي لفظ: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (2)» رواه الشافعي في مسنده.
وقد أجاب ابن قدامة عن الاستدلال بهذا الحديث فقال: " اليمين على المدعى عليه " لم ترد به هذه القصة؛ لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم، وهنا قد أعطوا بدعواهم، على أن حديثنا أخص منه، فيجب تقديمه، ثم هو حجة عليهم؛ لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم، وقد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة (3)» وهذه الزيادة يتعين العمل بها؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة (4) وأجاب الخطابي أيضا فقال: وأما عن الحديثين الآخرين - حديث «شاهداك أو يمينه (5)» ، «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (6)» - فإن القسامة أصل في نفسها، شرع الحكم بها لتعذر إقامة البينة حينئذ؛ لأن القاتل في الغالب إنما يقصد الخلوة والغيلة، بخلاف سائر الحقوق.
وأيضا فإنها لم تخرج عن ذلك الأصل، لأنه إنما كان القول قول المدعى عليه في تلك الحقوق لقوة جنبته بشهادة الأصل، وهو أن الأصل براءة الذمة، وهذا المعنى موجود هنا، فإنا لم نجعل القول قول المدعي إلا لقوة جنبته باللوث الذي يشهد بصدقه، فقد أهملنا ذلك الأصل ولم نطرحه بالكلية (7).
وأما الأثر: فقال ابن رشد: واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد، وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزي فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا، فأبوا، فقضى عليهم بشطر الدية (8) ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه أثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تقدم المدعين، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بالآثار.
وهناك آثار لا تخلو من مقال تركنا ذكرها اختصارا، ومن أراد الرجوع إليها فعليه بمراجعة: نصب الراية، والدراية، وتلخيص الحبير، وشرح ابن القيم لسنن أبي داود.
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552)، صحيح مسلم الأقضية (1711)، سنن الترمذي الأحكام (1342)، سنن النسائي آداب القضاة (5425)، سنن أبو داود الأقضية (3619)، سنن ابن ماجه الأحكام (2321)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 288).
(2)
سنن الترمذي الأحكام (1341).
(3)
سنن الترمذي الأحكام (1341).
(4)
المغني ج8 ص 496. .
(5)
صحيح البخاري الرهن (2516)، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 379).
(6)
سنن الترمذي الأحكام (1341).
(7)
إكمال إكمال المعلم ج4 ص 395. .
(8)
بداية المجتهد ج2 ص 430. .
وأما القياس: فقال ابن الهمام: ولأن اليمين حجة في الدفع لا الاستحقاق، وحاجة الولي إلى الاستحقاق، ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل، فأولى ألا يستحق النفس المحرمة (1). ويمكن أن يجاب عن هذا القياس أولا بأنه قياس مع الفارق، وقد بين ذلك الإمام مالك رحمه الله فقال: " وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يتلمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون فيها ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول (2).
وثانيا: أنه قياس مع النص، والقياس مع النص لا يصح، والنص ما ورد من الأدلة الصحيحة على البدء بالمدعين.
(1) فتح القدير ج8 ص 385.
(2)
الموطأ على المنتقى ج7 ص 61. .
السادس: ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة، ومستند كل مع المناقشة،
وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أو لا
1 -
من يحلف من المدعين
اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من رأى أن الوارث هو الذي يقسم، ومنهم من رأى أن العصبة هم الذين يقسمون، فمن القائلين بأن الورثة هم الذين يقسمون الإمام الشافعي رحمه الله وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله وفيما يلي ذكر بعض ما قالوه في ذلك مع الأدلة والمناقشة.
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى- تحت ترجمة: " من يقسم فيه ويقسم عليه " قال: يحلف في القسامة الوارث البالغ غير المغلوب على عقله من كان منهم مسلما أو كافرا، عدلا أو غير عدل، ومحجور عليه، والقسامة في المسلمين على المشركين، والمشركين على المسلمين، والمشركين فيما بينهم مثلها على المسلمين لا تختلف.
لأن كلا: ولي دمه ووارث دية المقتول وماله، إلا أنا لا نقبل شهادة مشرك على مسلم، ولا نستدل بقوله بحال؛ لأن من حكم الإسلام إبطال أخذ الحقوق بشهادة المشركين.
وقال الشافعي أيضا تحت ترجمة " الورثة يقسمون ": وإذا قتل الرجل فوجبت فيه القسامة لم يكن لأحد أن يقسم عليه إلا أن يكون وارثا، كان قتله عمدا أو خطأ، وذلك أنه لا تملك النفس بالقسامة إلا دية المقتول، ولا يملك دية المقتول إلا وارث، فلا يجوز أن يقسم على ما لا يستحق إلا من له المال بنفسه، أو من جعل الله تعالى له المال من الورثة.
وقال الشافعي: لو وجبت في رجل القسامة وعليه دين وله وصايا فامتنع الورثة من القسامة فسأل أهل الدين أو الموصى لهم أن يقسموا لم يكن ذلك لهم، وذلك أنهم ليسوا المجني عليه الذي وجب له على الجانين المال، ولا الورثة الذين أقامهم الله تعالى مقام الميت في ماله بقدر ما فرض له منه.
وقال الشافعي: ولو ترك القتيل وارثين فأقسم أحدهما فاستحق به نصف الدية أخذها الغرماء من يده، فإن فضل منها فضل أخذ أهل الوصايا ثلثها من يده ولم يكن لهم أن يقسموا ويأخذوا النصف الآخر، فإن أقسم الوارث الآخر أخذ الغرماء من يده ما في يده حتى يستوفوا ديونهم، وإن استوفوا أخذ أهل الوصايا الثلث مما في يده، وإن كان للغرماء مائة دينار فاستوفوها من نصف الدية الذي وجب للذي أقسم أولا ثم أقسم الآخر رجع الأول على الآخر بخمسين دينارا، ولا يرجع عليه في الوصايا؛ لأن أهل الوصايا إنما يأخذون منه ثلث ما في يده لا كله كما يأخذه الغرماء.
قال الشافعي: ولا يقسم ذو قرابة ليس بوارث، ولا ولي يتيم من ولد الميت حتى يبلغ اليتيم، فإن مات اليتيم قام ورثته في ذلك مقامه، وإن طلب ذو قرابة وهو غير وارث القتيل أن يقسم جميع القسامة لم يكن ذلك له، فإن مات ابن القتيل أو زوجة له أو أم أو جدة فورثه ذو القرابة كان له أن يقسم؛ لأنه صار وارثا.
وقد أورد الشافعي رحمه الله اعتراضا على تخصيصه الوارث وأجاب عنه.
قال الشافعي: فإن قال قائل ففي حديث ابن أبي ليلى ذكر أخي المقتول ورجلين معه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «تحلفون وتستحقون (1)» فكيف لا يحلف الوارث؟ قلت: قد يمكن أن يكون قال ذلك لوارث المقتول هو وغيره، ويمكن أن يكون قال ذلك لوارثه وحده تحلفون لواحد، وقال ذلك لجماعتهم، يعني به يحلف الورثة إن كان مع أخيه الذي حكى أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وارث غيره، أو كان أخوه غير وارث له، وهو يعني بذلك الورثة.
فإن قال قائل: ما الدلالة على هذا؟ فإن جميع حكم الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سوى القسامة أن يمين المرء لا تكون إلا فيما يدفع بها الرجل عن نفسه، كما يدفع قاذف امرأته الحد عن نفسه،
(1) صحيح البخاري الجزية (3173)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
وينفي بها الولد، وكما يدفع بها الحق عن نفسه والحد من غيره، وفيما يأخذ بها الرجل مع شاهد ويدعي المال فينكل المدعى عليه وترد عليه اليمين فيأخذ بيمينه ونكول صاحبه بما ادعى عليه، لا أن الرجل يحلف فيبرئ غيره، ولا يحلف فيملك غيره بيمينه شيئا، فلما لم يكن في الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لغير وارث ويستحق بها الوارث لم يجز فيها -والله أعلم- إلا أن تكون في معاني ما حكم الله عز وجل من الأيمان، ثم رسوله صلى الله عليه وسلم ثم المسلمون من أنه لا يملك أحد بيمين غيره شيئا.
قال الشافعي: -رحمه الله تعالى-: ولا يجب على أحد حق في القسامة حتى تكمل أيمان الورثة خمسين يمينا، وسواء كثر الورثة أو قلوا، وإذا مات الميت وترك وارثا واحدا أقسم خمسين يمينا، واستحق الدية، وإن ترك وارثين أو أكثر فكان أحدهما صغيرا أو غائبا أو مغلوبا على عقله أو حاضرا بالغا فلم يحلف فأراد أحدهما اليمين لم يحبس على غائب ولا صغير، ولم يبطل حقه من ميراثه من دمه بامتناع غيره من اليمين ولا إكذابه دعوى أخيه ولا صغره، وقيل للذي يريد اليمين: أنت لا تستوجب شيئا من الدية على المدعى عليهم ولا على عواقلهم إلا بخمسين يمينا، فإن شئت أن تعجل فتحلف خمسين يمينا وتأخذ نصيبك من الميراث لا يزاد عليه قبلت منك، وإن امتنعت فدع هذا حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه خمسين يمينا، أو ورثته فتكمل أيمانكم خمسين يمينا، كل رجل منكم بقدر ما يجب عليه من الأيمان أو أكثر. ولا يجوز أن يزاد على وارث في الأيمان على قدر حصته من الميراث إلا في موضعين:
أحدهما: ما وصفت من أن يغيب وارث أو يصغر أو ينكل فيريد أحد الورثة اليمين، فلا يأخذ حقه إلا بكمال خمسين يمينا، فيزاد عليه في الأيمان في هذا الموضع، ولا يجبر على الأيمان، أو يدع الميت ثلاث بنين فتكون حصة كل واحد منهم سبعة عشر يمينا إلا ثلث يمين، فلا يجوز في اليمين كسر، ولا يجوز أن يحلف واحد ستة عشر يمينا، وعليه ثلث ويحلف آخر سبعة عشر ولا سبعة عشر زيادة (1)، ويحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا، فيكون عليهم زيادة يمين بينهم، وهكذا من وقع عليه أو له كسر يمين جبرها.
وإن لم يدع القتيل وارثا إلا ابنه وأباه أو أخاه أجزأه أن يحلف خمسين يمينا؛ لأنه مالك المال كله، وكل من ملك شيئا حلف عليه، وهكذا لو لم يدع إلا ابنته وهي مولاته حلفت خمسين يمينا وأخذت الكل: النصف بالنسب، والنصف بالولاء، وهكذا لو لم يدع إلا زوجته وهي مولاته.
وإذا ترك أكثر من خمسين وارثا سواء في ميراثه كأنهم بنون معا أو إخوة معا أو عصبة في (2) الفقد إليه سواء حلف كل واحد منهم يمينا وإن جازوا خمسين أضعافا؛ لأنه لا يأخذ أحد مالا بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه بلا يمين منه، ولا يملك أحد بيمين غيره شيئا، ولو كانت فيهم زوجة فورثت الربع أو الثمن حلفت ربع الأيمان ثلاثة عشر يمينا، ويزاد عليها كسر يمين، أو ثمن الأيمان سبعة أيمان يزاد عليها كسر يمين، كما وصفت من أنه لا يجوز إذا كان على وارث كسر يمين إلا أن يأتي بيمين تامة (3).
(1) قوله ولا سبعة عشر إلخ " كذا في الأصل وانظر .. .
(2)
قوله في الفقد إليه سواء أي مستوين في درجة النسب إلى الميت، كتبه مصححه.
(3)
الأم ج6 ص 80/ 82.
2 -
قال ابن قدامة: والرواية الثانية لا يقسم إلا الوارث، وتعرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم، هذا ظاهر قول الخرقي، واختيار أبي حامد، وقول الشافعي، فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم، فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول ابنين أو أخا وزوجا، حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا وأخوين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا، لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين، ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان، ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون، وهذا أحد قولي الشافعي.
وقال في الآخر: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى، وعن مالك أنه قال: ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط الآخر.
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم (1)» .
وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون، ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة.
ويفارق اليمين على المدعى عليه فإنها ليست حجة للمدعي، ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد لكونها لا تتبعض وما لا يتبعض يكمل كالطلاق والعتاق.
وما ذكره مالك لا يصح؛ لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها، فلم يجز كما لو تساوى الكسران بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها، أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها، وبالقياس على من عليه أكثرها، ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعي كثير وقليل كذا ها هنا، ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه، فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكثر (2).
3 -
قال الخرقي: وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل؛ لأن القسامة توجب القود، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية.
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4712)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3)، موطأ مالك القسامة (1631)، سنن الدارمي الديات (2353).
(2)
المغني ج8 ص 502.
قال ابن قدامة: أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا، فإن الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة.
وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي: لا قسامة في العبد، فإنه مال، فلم تجب القسامة فيه، كقتل البهيمة، ولنا أنه قتل موجب للقصاص، فأوجب القسامة كقتل الحر.
وفارق البهيمة فإنها لا قصاص فيها، ويقسم على العبد سيده؛ لأنه المستحق لدمه.
وأم الولد، والمدبر، والمكاتب، والمعلق عتقه بصفة؛ كالقن؛ لأن الرق ثابت فيهم، وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا، أو الحر يقتل عبدا، فلا قسامة فيه، وفي ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك؛ لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود.
وقال القاضي: فيها القسامة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي؛ لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة، فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة، ولنا أنه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة، ولا يلزم شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه، بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص، ذكره القاضي؛ لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك، ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة (1).
ومن القائلين بأن العصبة هم الذين يحلفون: الإمام مالك رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وفيما يلي ذكر بعض ما قالوا في ذلك:
قال مالك: رحمه الله والقسامة تصير إلى عصبة المقتول، وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه، والذين يقتل بقسامتهم، وقال مالك أيضا: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا (2).
وقال الباجي: قوله: " يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا " يحتمل أن يريد إن كان الولاة أكثر من خمسين حلف منهم خمسون، فيكون "من" للتبعيض، ويحتمل أن يريد به: يحلف من هذا الجنس خمسون، فتكون "من" للجنس إذا كان ولاة الدم خمسين فلا خلاف أن جميعهم يحلف، وإن كانوا أكثر من خمسين فقد حكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتين:
(1) المغني ج7 ص 504 - 505.
(2)
الموطأ على المنتقى ج7 ص 58.
إحداهما: يحلف منهم خمسون خمسين يمينا.
والرواية الثانية: يحلف جميعهم، والذي ذكر ابن عبدوس، وابن المواز من رواية ابن القاسم، وابن وهب عن مالك: يحلف من الولاة خمسون، وقال المغيرة وأشهب وعبد الملك: وإن كانوا أكثر من خمسين وهم في العقد سواء ففي الموازية كالإخوة وغيرهم، فليس عليهم أن يحلف منهم إلا خمسون، وهذا المشهور من المذهب في كتب المغاربة من المالكيين، وإنما اختلفوا إذا كان الأولياء خمسين فأرادوا أن يحلف منهم رجلان خمسين يمينا، ففي المجموعة عن عبد الملك: لا يجزئهم ذلك وهو كالنكول.
وقال ابن المواز: ذهب ابن القاسم إلى أن يمين رجلين منهم خمسين يمينا يجزئ وينوب عمن بقي، قال محمد: وقول ابن القاسم صواب؛ لأن أهل القسامة تجزئ أيمان بعضهم عن بعض، ولو لم يجز ذلك ولم يقل أشهب إن كانوا ثلاثة يحلفون يمينا يمينا ثم يحلف عشرون منهم عشرون يمينا، ولو كانوا مائة متساوين أجزأ يمين خمسين، قال: وأما إذا تشاح الأولياء ولم يرضوا أن يحمل بعضهم عن بعض فلا بد من قول أشهب، وبه قال ابن القاسم.
فرع: وهذا إن كان إمساك من أمسك عن اليمين يحمل ذلك عنه، وأما إن امتنع عن اليمين فتسقط الدية، قاله ابن القاسم (1).
قال الباجي: مسألة: ولا يحلف في القسامة على قتل العمد أقل من اثنين قاله مالك في المجموعة، والموازية، قال ابن القاسم كأنه من ناحية الشهادة؛ إذ لا يقتل بأقل من شاهدين، قال أشهب وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في التعانه.
قال عبد الملك: ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد لأنهن لا يشهدن فيه، وإنما عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة، والجماعة اثنان فصاعدا، قال الله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (2). وأصل هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «قال للحارثيين " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (3)» ، وإنما كان ولي الدم رجلا واحدا وهو عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول عبد الله بن سهل وإنما كان حويصة ومحيصة ابني عم، فلما علق النبي صلى الله عليه وسلم الأيمان بجماعتهم ولم يقصرها على ولي الدم كان الظاهر أنها لا تثبت إلا في حكم الجماعة، وأقل الجماعة اثنان، وقد نص عليه ابن الماجشون واحتج عليه بآية الميراث {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (4) ولا خلاف أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس، كما يفعل الثلاثة الإخوة ولا يحجبها الأخ الواحد لأن اسم الإخوة لا يتناوله.
فرق: والفرق بين ولاة القتيل لا يقسم منهم أقل من اثنين، ويقسم من جنبة القاتل واحد، وهو القاتل أن جنبة القاتل إذا عدم منها اثنان وبطلت القسامة في جنبته فرجعت في جنبة القاتل فإن لم يكن معه من يحلف معه من جهتهم كان للطالب بالدم ما يرجع إليه وهو أيمان القاتل وأولياؤه، ولو لم يقبل من القاتل، وقد يعدم أولياء
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص 58 - 59.
(2)
سورة النساء الآية 11
(3)
صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
(4)
سورة النساء الآية 11
يحلفون معه لم يكن له ما يرجع إليه في تبرئة نفسه (1).
قال الباجي: مسألة: فإن كان ولاة الدم اثنين حلف كل رجل منهم خمسا وعشرين يمينا، وليس لأحدهما أن يتحمل عن صاحبه شيئا من الأيمان، قال ابن المواز عن ابن القاسم: ووجه ذلك أنه لا يجوز أن يحلف أحد في العمد أكثر من خمس وعشرين يمينا، قال ابن المواز عن ابن الماجشون: ولهما أن يستعينا بمن أمكنهما من العصبة، ويبدأ بيمين الأقرب فالأقرب، يحلفون بقدر عددهم مع المعينين، فإن حلف الأولياء أكثر مما ينوبهم في العدد مع المعينين جاز ذلك، وإن حلف المعينون أكثر لم يجز ذلك.
ووجه ذلك عندي أنه نوع من النكول.
وأما إذا تساووا على حسب العدد، أو كانت أيمان الولاة أكثر فإنها على وجه العون للولاة، ولو حلف أحد الوليين خمسا وعشرين ثم استعان الآخر بأربعة وعشرين من العصبة لم يجزه أن يحلف إلا ثلاثة عشر يمينا؛ لأن المعينين تتوجه معونتهم إليه وإلى صاحبه، كما لو حلفوا قبل أن يحلف الولي الأول.
قال الباجي: مسألة: فإن كان ولي الدم واحدا جاز له أن يستعين من العصبة بواحد وأكثر من ذلك ما بينه وبين خمسين رجلا.
والأصل في ذلك ما روى أبو قلابة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين اللذين ادعيا على اليهود: " أتحلفون وتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم (2)» فكان الظاهر أن هذا العدد لا يزاد عليه؛ لأن عدد الأنصار كان أكثر من ذلك، وتكون الأيمان بينهم على ما تقدم من التفسير.
وقال مالك: القسامة في قتل الخطأ يقسم الذين يدعون الدم ويستحقون بقسامتهم يحلفون خمسين يمينا تكون على قسم مواريثهم من الدية، فإن كان في الأيمان كسور إذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قسمت فيجبر عليه تلك اليمين.
قال الباجي: وهذا على ما قال إن ولاة الدم الذين يدعون الدم يقسمون في قتل الخطأ مع الشاهد على القتل.
قال أشهب: وكذلك إن قال: دمي عند فلان قتلني خطأ. وقال عبد الملك: ويؤخذ في ذلك بشهادة النساء فيمن علم الناس بموته، وقال ابن المواز: اختلف قول مالك في القسامة على قول القتيل في الخطأ. وقال عيسى بن دينار: أخبرني من أثق به أن قول مالك في الغريم: لا يقسم في الخطأ بقول الميت، ثم رجع فقال: يقسم مع قوله. قال القاضي أبو محمد: وجه القول الأول أنه يتهم أن يريد غنى ولده وحرمة الدم أعظم.
ووجه القول الذي رجع إليه أنه معنى يوجب القسامة في العمد فأوجبها في الخطأ كالشاهد العدل.
" فرع " فإذا قلنا إنه يقسم مع قول القتيل فإنه يقسم مع قول المسخوط والرجال والنساء ما لم يكن صغيرا
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص 59.
(2)
صحيح البخاري الديات (6899).
أو عبدا أو ذميا (1).
قال الباجي: وقوله: "يحلفون خمسين يمينا" علق ذلك بالعدد؛ لأنها قسامة في دم، فاختصت بالخمسين كالعمد، ولهذا المعنى يبدأ فيها المدعون، وتكون الأيمان على الورثة إن كانوا يحيطون بالميراث على قدر مواريثهم، فإن كان في الأيمان كسر فالقسامة على أكثرهم حظا منها، قاله مالك في المجموعة.
قال عبد الملك: لا ينظر إلى كثرة ما عليه من الأيمان، وإنما ينظر إلى أكثر تلك اليمين، قال ابن القاسم: فإن كان على أحدهم نصفها وعلى الآخر ثلثها وعلى الآخر سدسها جبرت على صاحب النصف، وإن كان الوارث لا يحيط بالميراث فإنه لا يأخذ حصة من الدية حتى يحلف خمسين يمينا (2).
قال مالك: فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية، فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية، وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد (3).
قال الباجي: وهذا على ما قال أن حكم القسامة في قتل الخطأ غير حكمها في قتل العمد؛ لأنها لما اختصت القسامة في الخطأ بالمال كان ذلك للورثة رجالا كانوا أو نساء قل عددهم أو كثر، ولا يحلف في ذلك إلا وارث، وأما قتل العمد فإن مقتضاه القصاص، وإنما يقوم به العصبة من الرجال؛ فلذلك تعلقت الأيمان بهم دون النساء.
قال الأبي "ع": والأيمان في القسامة خمسون لا ينقص منها؛ لنص الحديث، يحلفها في الخطأ الورثة، فإذا لم تكن إلا امرأة لم تأخذ فرضها حتى تحلف الخمسين، وكذلك إن لم تكن الورثة إلا نساء فإنهن لا يأخذن فرضهن حتى يحلفن الخمسين يمينا، وإن كانت الورثة جماعة وزعت الأيمان على قدر المواريث.
قال الأبي: قلت: وإنما وزعت كذلك لأن الأيمان هي السبب في حصول الدية، فتوزع كما توزع الدية، فإن انكسرت منها يمين أو أكثر فإن استوت الأجزاء أكملت اليمين على كل واحد من المنكسر عليهم، وإن اختلفت كما لو كان الوارث ابنا وابنة فالمشهور أنه إنما تكمل اليمين على صاحب الجزء الأكبر، وقيل: تكمل على كل واحد من المنكسر عليهم (4).
قال الأبي "ع": فإن لم يحضر من الورثة إلا واحد وغاب الباقون لم يأخذ الحاضر نصيبه حتى يحلف الخمسين يمينا، فإذا قدم الغائب لم يأخذ حظه من الميراث حتى يحلف نصيبه من الأيمان، ولا يكتفى بحلف الحاضر (5).
(1) المنتقى على الموطأ ج7 ص63.
(2)
المنتقى على الموطأ ج7 ص63 - 64.
(3)
الموطأ وعليه المنتقى ج7 ص64.
(4)
الأبي ج4 ص395 - 396.
(5)
الأبي ج4 ص396.
قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد، فيمن تجب عليه أيمان القسامة؛ فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث، خمسون رجلا، كل واحد منهم يمينا واحدة. وهذا قول لمالك، فعلى هذا، يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه، فإن لم يبلغوا خمسين، تمموا من سائر العصبة، يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها، ويعرف كيفية نسبه من المقتول.
فأما من عرف أنه من القبيلة، ولم يعرف وجه النسب، لم يقسم؛ مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشيا، ولا يعرف كيفية نسبه منه، فلا يقسم؛ لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح، وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو قتل من لا يعرف نسبه، لم يقسم عنه سائر الناس، فإن لم يوجد من نسبه خمسون، ردت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين (1).
جاء في حاشية المقنع: قوله: "وعنه يحلف من العصبة. . . إلخ" هذا قول لمالك، ونصره جماعة من الأصحاب منهم الشريف وأبو الخطاب والشيرازي وابن البناء (2).
من يحلف من المدعى عليهم، إذا لم يحلف المدعون حلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، هذا في المذاهب الثلاثة، ويوافقهم المذهب الحنفي في أنه يحلف خمسون رجلا خمسين يمينا، وهذا إذا أمكن عند الجميع، وإذا لم يمكن فسيأتي بيانه في رد الأيمان، وقد بسط الكاساني رحمه الله الكلام على تحليف المدعى عليهم مع بيان خلاف أئمة المذهب الحنفي وفي مقدمتهم أبو حنيفة رحمه الله فذكرنا كلامه مفصلا.
قال الكاساني: وأما بيان سبب وجوب القسامة والدية فنقول: سبب وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير زجرا عن ذلك وحملا على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية.
لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ.
ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له، فكانت النصرة عليه؛ إذ الخراج بالضمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تبارك وتعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3).
ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة إما بالملك أو باليد، وهو التصرف فيه، فيتهمون
(1) المغني ج8 ص501.
(2)
حاشية المقنع ج3 ص440.
(3)
سورة البقرة الآية 286
أنهم قتلوه، فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم، وإلى هذا المعنى أشار سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- حينما قيل: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم، وإذا عرف هذا فنقول: القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة للأحاديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا.
ولأن حفظ المحلة عليهم، ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، وهم المتهمون في قتله؛ فكانت القسامة والدية عليهم.
وكذا إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة؛ لما قلنا فيحلف منهم خمسون، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا تكرر الأيمان عليهم حتى تكمل خمسين يمينا.
لما روي عن سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه حلف رجال القسامة فكانوا تسعة وأربعين رجلا، فأخذ منهم واحدا، وكرر عليه اليمين حتى كملت خمسين يمينا. وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه خالفه أحد؛ فيكون إجماعا.
ولأن هذه الأيمان حق ولي القتيل، فله أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه، فإن أمكن الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى، وإن لم يمكن يستوفي عدد الأيمان التي هي حقه، وإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر اليمين على بعضهم ليس له ذلك، كذا ذكر محمد رحمه الله لأن موضوع هذه الأيمان على عدد الخمسين في الأصل لا على واحد، وإنما التكرار على واحد لضرورة نقصان العدد، ولا ضرورة عند الكمال.
وإن كان في المحلة قبائل شتى، فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم وعلى المشترين جميعا.
وجه قوله: أن الوجوب على أهل الخطة باعتبار الملك، والملك ثابت للمشترين؛ ولهذا إذا لم يكن من أهل الخطة أحد كانت القسامة على المشترين.
وجه قولهما: أن أهل الخطة أصول في الملك؛ لأن ابتداء الملك ثبت لهم، وإنما انتقل عنهم إلى المشترين، فكانوا أخص بنصرة المحلة وحفظها من المشترين، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم، وكان المشتري بينهم كالأجنبي، فما بقي واحد منهم لا ينتقل إلى المشتري.
وقيل: إن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهد بالكوفة، وكان تدبير أمر المحلة فيها إلى أهل الخطة، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة؛ كانوا من أهل الخطة أو لا، فبنى الجواب على ذلك، فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة؛ لأن كل واحد منهما عول على معنى الحفظ والنصرة.
فإن فقد أهل الخطة. وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد.
وعند أبي يوسف: عليهم جميعا.
له ما «روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أوجب القسامة على أهل خيبر، وكانوا سكانا، (1)» ولأن للساكن اختصاصا بالدار يدا، كما أن للمالك اختصاصا بها ملكا، ويد الخصوص تكفي لوجوب القسامة.
وجه قولهما: أن المالك أخص بحفظ الموضع ونصرته من السكان؛ لأن اختصاصه اختصاص ملك، وأنه أقوى من اختصاص اليد. ألا يرى أن السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون.
وأما إيجاب القسامة على يهود خيبر فممنوع؛ لأنهم كانوا سكانا، بل كانوا ملاكا، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم ووضع الجزية على رءوسهم، وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على وجه الجزية لا على سبيل الأجرة.
ولو وجد قتيل في سفينة فإن لم يكن معهم ركاب فالقسامة والدية على أرباب السفينة، وعلى من يمدها ممن يملكها أو لا يملكها، وإن كان معهم فيها ركاب فعليهم جميعا، وهذا في الظاهر يؤيد قول أبي يوسف في إيجابه القسامة والدية على الملاك والسكان جميعا.
وأبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- يفرقان بين السفينة والمحلة؛ لأن السفينة تنقل وتحول من مكان إلى مكان فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة إذا وجد عليها قتيل، بخلاف الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل، فيعتبر فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد. وكذا العجلة حكمها حكم السفينة؛ لأنها تنقل وتحول، ولو وجد القتيل معه رجل يحمله على ظهره فعليه القسامة والدية؛ لأن القتيل في يده.
ولو وجد جريح معه به رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: وفي قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه يضمن.
وجه القياس: أن الحامل قد ثبتت يده عليه مجروحا فإذا مات من الجرح فكأنه مات في يده، وهذا تفريع على من جرح في قبيلة فتحامل إلى قبيلة أخرى فمات فيهم، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وكذلك إذا كان على دابة، ولها سائق أو قائد أو عليها راكب فعليه القسامة والدية؛ لأنه في يده، وإن اجتمع السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا؛ لأن القتيل في أيديهم، فصار كأنه وجد في دارهم.
وإن وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا راكب عليها، فإن كان ذلك الموضع ملكا لأحد فالقسامة والدية على المالك، وإن كان لا مالك له فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت من الأمصار والقرى، وإن كان بحيث لا يسمع فهو هدر لما قلنا فيما تقدم.
فإن وجدت الدابة في محلة فعلى أهل تلك المحلة.
وكذلك إذا وجد في فلاة من الأرض أنه ينظر إن كان ذلك المكان الذي وجد فيه ملكا لإنسان فالقسامة
(1) سنن النسائي القسامة (4708)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 432).
والدية عليه، وإن لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار والقرى، إذا كانت بحيث يبلغ الصوت منها إليه، فإن كان بحيث لا يبلغ فهو هدر لما قلنا، وذكر في الأصل في قتيل وجد بين قريتين أنه يضاف إلى أقربهما.
لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر بأن يوزع بين قريتين في قتيل وجد بينهما (1)» .
وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه في قتيل وجد بين وادعة وأرحب، وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه سيدنا عمر رضي الله عنه أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فألزموا القسامة والدية، وذلك كله محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل، كذا ذكر محمد في الأصل، حكاه الكرخي رحمه الله والفقه ما ذكرنا فيما تقدم.
وكذا إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على أقربهما، فإن وجد في المعسكر في فلاة من الأرض، فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض؛ لأنهم أخص بنصرة الموضع وحفظه، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم، وهذا على أصلهما؛ لأن المعسكر كالسكان، والقسامة على الملاك لا على السكان على أصلهما، فأما على أصل أبي يوسف رحمه الله فالقسامة والدية عليهم جميعا، وإن يكن في ملك أحد بأن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والفسطاط، وعلى عواقلهم القسامة والدية.
لأن صاحب الخيمة خص بموضع الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع أهل المحلة، ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد فيها قتيل لا على أهل المحلة، كذا هاهنا.
وإن وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط منهم القسامة والدية، كذا ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأقرب أولى بإيجاب القسامة والدية؛ لما ذكرنا.
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية على جماعتهم، كالقتيل يوجد في المحلة جعل الخيام المحمولة كالمحلة على هذه الرواية، هذا إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا، فإن كانوا قد لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة، ولا دية في قتيل يوجد بين أظهرهم.
لأنهم إذا لقوا عدوا وقاتلوا فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمون؛ إذ المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا.
ولو وجد قتيل في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على أهل القرية؛ لأن صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه وحفظها من أهل القرية، فكان أولى بإيجاب القسامة والدية عليه، كصاحب الدار مع أهل المحلة. . . . . ولو وجد قتيل في دار إنسان، وصاحب الدار من أهل القسامة فالقسامة والدية على صاحب الدار، وعلى عاقلته، كذا ذكر في الأصل، ولم يفصل بين ما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب -رحمهما الله- أن القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا أو غيبا.
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/ 39).
وقال أبو يوسف رحمه الله: لا قسامة على العاقلة، هكذا ذكر فيه.
وقال الكرخي رحمه الله: إن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا في القسامة، وإن كانت غائبة فالقسامة على صاحب الدار تكرر عليه الأيمان، والدية عليه وعلى عاقلته.
أما دخول العاقلة في القسامة، إذا كانوا حضورا فهو قولهما، وظاهر قول أبي يوسف: لا قسامة على العاقلة يقتضي أن لا يدخلوا في القسامة.
وجه قول زفر رحمه الله: أنه لما لزمتهم الدية لزمتهم القسامة، كأهل المحلة، ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة وبالولاية والتهمة فلا تشاركه العاقلة كما لا يشارك أهل المحلة غيرهم.
ووجه قولهما: أن العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار ونصرتها كما يلزم صاحب الدار. وكذا يتهمون بالقتل كما يتهم صاحب الدار، فقد شاركوا في سبب وجوب القسامة، فيشاركونه في القسامة أيضا، وبهذا يقع الفرق بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي رحمه الله.
لأن معنى التهمة ظاهر الانتفاء من الغيب. وكذا معنى النصرة؛ لأنه لا يلحق ذلك الموضع نصرة من جهتهم إلا أنه تجب عليهم الدية؛ لأن وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق بالتهمة؛ فإنهم يتحملون عن القاتل المعين، إذا كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا، وسواء كانت الدار فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل فعلى رب الدار وعلى عاقلته القسامة والدية.
أما على أصل أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فظاهر؛ لأنهما يعتبران الملك دون السكنى؛ فكان وجود السكنى فيها والعدم بمنزلة واحدة.
وأما أبو يوسف رحمه الله فإنما يوجب على الساكن لاختصاصه بالدار يدا، ولم يوجد ها هنا، وسواء كان الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا فالقسامة والدية على أرباب الملك؛ لما قلنا، وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء أو اختلف فالقسامة والدية بينهم بالسوية، حتى لو كانت الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فالقسامة عليهما وعلى عاقلتهما نصفان، ويعتبر في ذلك عدد الرءوس لا قدر الأنصباء كما في الشفعة؛ لأن حفظ الدار واجب على كل واحد منهما، والحفظ لا يختلف؛ ولهذا تساويا في استحقاق الشفعة؛ لأن الاستحقاق لدفع ضرر الدخيل، وإنه لا يختلف باختلاف قدر الملك، وذكر في الجامع الصغير فيمن باع دارا وجد فيها قتيل قبل أن يقبضها المشتري: أن القسامة والدية على البائع، إذا لم يكن في البيع خيار، فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف ومحمد: الدية على مالك الدار إن لم يكن في البيع خيار، فإن كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له. وعند زفر رحمه الله الدية على المشتري إلا أن يكون للبائع خيار، فتكون الدية عليه.
وجه قول زفر: أن الملك للمشتري إذا لم يكن فيه خيار. وكذا إذا كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار المشتري
لا يمنع دخول المبيع في ملكه عنده، فإذا كان الخيار للبائع فالملك له؛ لأن خياره يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف.
وجه قولهما أنه إذا لم يكن فيه خيار فالملك للمشتري، وإنما للبائع صورة يد من غير تصرف، وصورة اليد لا مدخل لها في القسامة، كيد المودع، فكانت القسامة والدية على المشتري، وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له؛ لأنها إذا صارت للبائع فقد انفسخ البيع، وجعل كأنه لم يكن، وإن صارت للمشتري فقد انبرم البيع وتبين أنه ملكها بالعقد من حين وجوده.
وأما تصحيح مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فمشكل من حيث الظاهر؛ لأنه يعتبر الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد، وإن كانت اليد يد تصرف كيد الساكن، والثابت للبائع صورة يد من غير تصرف، فأولى أن لا يعتبره، لكن لا إشكال في الحقيقة؛ لأن الوجوب بترك الحفظ، والحفظ باليد حقيقة، إلا أنه يضاف الحفظ إلى الملك؛ لأن استحقاق اليد به عادة، فيقام مقام اليد، فكانت الإضافة إلى ما به حقيقة الحفظ أولى، إلا أن مطلق اليد لا يعتبر، بل اليد المستحقة بالملك، وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف يد الساكن، وإذا وجد رجل قتيلا في دار نفسه فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قولهما -رحمهما الله- لا شيء فيه، وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهم الله وروي عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قولهم.
وجه قولهم: أن القتل صادفه، والدار ملكه، وإنما صار ملك الورثة عند الموت، والموت ليس بقتل؛ لأن القتل فعل القاتل، ولا صنع لأحد في الموت، بل هو من صنع الله تبارك وتعالى فلم يقتل في ملك الورثة فلا سبيل إلى إيجاب الضمان على الورثة وعواقلهم، ولأن وجوده قتيلا في دار نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه بنفسه فيكون هدرا.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل، لا وقت وجود القتل، بدليل أن من مات قبل ذلك لا يدخل في الدية، والدار وقت ظهور القتيل لورثته؛ فكانت القسامة والدية عليهم وعلى عواقلهم تجب، كما لو وجد قتيلا في دار ابنه، فإن قيل: كيف تجب الدية عليهم وعلى عواقلهم، وأن الدية تجب لهم؟ فكيف تجب لهم وعليهم؟ وكذا عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا، وفيه إيجاب لهم أيضا وعليهم، وهذا ممتنع، فالجواب ممنوع أن الدية تجب لهم بل للقتيل؛ لأنها بدل نفسه فتكون له، وبدليل أنه يجهز منها، وتقضى منها ديونه، وتنفذ منها وصاياه، ثم ما فضل عن حاجته تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه، والورثة أقرب الناس إليه، وصار كما لو وجد الأب قتيلا في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أنه تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته ولا يمتنع ذلك؛ لما قلنا، كذا هذا.
وإن اعتبرنا وقت وجود القتل فهو ممكن أيضا.
لأنه تجب على عاقلته لتقصيرهم في حفظ الدار فتجب عليهم الدية حقا للمقتول، ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن حاجته، وذكر محمد إذا وجد ابن الرجل أو أخوه قتيلا في داره أن على عاقلته دية ابنه ودية أخيه، وإن كان هو وارثه؛ لما قلنا: إن وجود القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل فيلزم عاقلته