الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صغار التابعين، وذلك أن صغار التابعين يروي أغلبهم عن كبار التابعين، وقد تصل الوسائط إلى سبعة أشخاص. وكان قد ظهر في ذلك الوقت من يرغب عن الرواية عنه، فإذا سكت الراوي عمن روى عنه فيحتمل أن يكون من هؤلاء، ويحتمل غيره، لذا كان الأولى رد حديثه، وقد مثل الشافعي رحمه الله بالزهري وابن المنكدر مع جلالتهما وفضلهما وانتقائهما الشيوخ الذين يرويان عنهم، فلما صرح الزهري بسليمان بن أرقم - وهو ضعيف جدا لا يقبل حديثه - رد مرسله ومرسل من كان كذلك، لذلك يقول رحمه الله:" يقولون يحابي ولو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم. "(1)، اهـ، فإذا كان الزهري مع انتقائه الشيوخ والفضل والعلم يروي عن مثل سليمان بن أرقم فما بالك بغيره الذي لم يصل إلى مثل الزهري في الانتقاء والإمامة في الحديث والتخيير وثقة الرجال!؟
* * *
(1) طبقات الشافعية لابن السبكي 2: 10.
6 -
مرسل سعيد بن المسيب
لقد اختلف علماء الشافعية بالنسبة لمرسلات سعيد رحمه الله فمنهم من يراها حجة، ومنهم من يراها ليست بحجة، بل هي كغيرها من المراسيل، وسبب اختلافهم راجع إلى فهم عبارة الإمام الشافعي التي وردت في مختصر المزني:" وإرسال ابن المسيب حسن ".
وسبب تخصيص مرسلات سعيد من غيرها عندهم؛ لأنه من أولاد الصحابة، فإن أباه المسيب ابن حزن من أصحاب الشجرة وبيعة الرضوان، وقد أدرك سعيد عمر وعثمان إلى آخر العشرة، وهو فقيه الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة، وقال الحاكم: وأيضا فقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره (1)، اهـ.
والعبارة كما جاءت في مختصر المزني: قال الشافعي: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، وعن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة ابن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه، قال: وبهذا نأخذ: كان اللحم مختلفا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر وإرسال ابن المسيب عندنا حسن (2)، اهـ.
قال النووي اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي حتى إن كثيرا منهم لا يعرفون غير ذلك، وليس الأمر على ذلك (3). وقال الخطيب: اختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي في قوله هذا، منهم من قال: أراد الشافعي به أن مرسل سعيد بن المسيب حجة؛
(1) راجع معرفة علوم الحديث ص 25 - 26.
(2)
مختصر المزني بهامش الأم 2: 157 - 158.
(3)
فتح المغيث 1: 140.
لأنه روى حديثه المرسل في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، واتبعه بهذا الكلام وجعل الحديث أصلا إذ لم يذكر غيره، فيجعل ترجيحا له، وإنما فعل ذلك لأن مراسيل سعيد تتبعت فوجدت كلها مسانيد عن الصحابة من جهة غيره. ومنهم من قال: لا فرق بين مرسل سعيد بن المسيب وبين مرسل غيره من التابعين، وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يجوز أن يحتج به على إثبات الحكم، وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح. وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه (1)، اهـ.
قلت: وقد رد الخطيب على القول الأول في " الفقيه والمتفقه "، فقال: والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح لمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلا من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلا يحتج به (2)، اهـ. وهذا هو الذي مال إليه ابن الصلاح فقال: ولهذا احتج الشافعي رضي الله عنه بمرسلات سعيد. . . ولا يختص ذلك عنده بإرسال ابن المسيب كما سبق (3)، اهـ. وذلك بعد أن قال: إن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر (4).، اهـ. وقال البيهقي: وقد ذكرنا لابن المسيب مراسيل لم يقبلها الشافعي حيث لم ينضم إليها ما يؤكدها ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، قال: وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ (5)، اهـ.
قال النووي فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه، وأما قول القفال: مرسل ابن المسيب حجة عندنا فهو محمول على التفصيل المتقدم، قال: ولا يصح تعلق من قال إنه حجة بقوله: إرساله حسن؛ لأن الشافعي لم يعتمد عليه وحده، بل لما انضم إليه من قول أبي بكر ومن حضره من الصحابة وقول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة، وقد نقل ابن الصباغ وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة، وهو مذهب مالك وغيره فهذا عاضد ثان للمرسل (6)، اهـ. قلت: وقد نقل أن الشافعي كان يحتج بمرسلات سعيد في القديم لكونه يروي عن كبار الصحابة أو كان مرسله يعضده قولهم، وأنها سبرت فوجدت مأخوذة عن أبي هريرة لما بينهما من الوصلة والمصاهرة وأما مذهبه في الجديد أنه كغيره (7)، وقال النووي وأما قول القفال:. . . . قال الشافعي في الرهن الصغير: مرسل سعيد عندنا حجة فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين (8)، قلت: والذي في الرهن الصغير، قال: أي المناظر فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا، ولم تقبلوه عن غيره؟ قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا آثره عن أحد فيما عرفنا عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول ويسمي من يرغب عن الرواية عنه ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض من لم يلحق من أصحابه - المستنكر، الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم ولم نحاب
(1) الكفاية 571 - 572.
(2)
الفقيه والمتفقه227.
(3)
المقدمة ص 49.
(4)
المقدمة ص49
(5)
فتح المغيث 1: 140.
(6)
التدريب 1: 200.
(7)
راجع تدريب الراوي 1: 200 - 201.
(8)
فتح المغيث 1: 140 والتدريب 1: 200.
أحدا، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفنا من صحة روايته، وقد أخبرني غير واحد من أهل العلم عن يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن أبي ذئب، اهـ. قلت: والحديث الذي أشار إليه هو:
قال الشافعي: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه (1)» . فقد روى الشافعي هذا الحديث، مرسلا من طريق ابن أبي ذئب، ومتصلا مرفوعا من طريق ابن أبي أنيسة، فليس للقفال فيه دليل على ما ذكره حتى يقول بأنه حجة، ولا لمن يقول:" فهذا كلام الشافعي يدل دلالة قوية على ما ذكره القفال المروزي الذي نقله عنه النووي آنفا "(2).
وذلك لأن الشافعي روى الحديث متصلا، ورواه مرسلا، ومن الطريق نفسه فهو عاضد له - كما مر في مرسلات كبار التابعين - والسنة قائمة في الحديث المتصل المرفوع أكثر من قيامها بالحديث المرسل. وقد نص الشافعي على أن المرسل ضعيف لا تثبت الحجة به ثبوتها بالمتصل، ما لم يعضده مسند صحيح، وهذا أكبر دليل على العاضد المسند من نفس طريق المرسل كما ذكره الشافعي في أول شروط مرسل كبار التابعين.
نعم، ذكر ميزة لمرسلات سعيد لا توجد عن غيره ممن أرسل، ومع هذا فلا يخرج مرسله عن مرسلات كبار التابعين عن القيود والشروط التي وضعها فقوله:" فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعة " يوضح أن مرسله كمرسل غيره من كبار التابعين الذين كانوا كحاله رحمه الله، ولهذا قال الإمام النووي: ومذهب الشافعي: إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته، وذلك بأن يروي مسندا أو مرسلا من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم أو أكثر العلماء، سواء عنده في هذا مرسل سعيد بن المسيب وغيره (3)، اهـ، قلت: وعلى هذا: فالحديث الذي ذكره الشافعي في بيع اللحوم بالحيوان يصلح مثالا لقسم المرسل المقبول، فقد عضده قول صحابي وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وذكر السيوطي أن له شاهدا مرسلا آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسندا، فقال: وروى البيهقي في المدخل من طريق الشافعي: عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة قال: قدمت المدينة فوجدت جزورا قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءا، فقال لي الرجل من أهل المدينة:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت» ، فسألت عن ذلك الرجل فأخبرت عنه خيرا، قال البيهقي فهذا حديث أرسله ابن المسيب، ورواه القاسم بن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلا، والظاهر أنه غير سعيد؛ فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم بن أبي بزة المكي حتى يسأل عنه. قال: وقد روينا من حديث الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم،
(1) الأم 3: 164 والحديث رواه أيضا الأوزاعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو داود والبزار والدارقطني.
(2)
انظر الحديث المرسل ص 40.
(3)
شرح البخاري للنووي ص 11.
إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة، وفي غير حديث العقيقة، فمنهم من أثبته فيكون مثالا للفصل الأول، يعني ما له شاهد مسند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضا مرسلا، انضم إلى مرسل سعيد (1)، اهـ.
ومن خلال ما ذكرته يترجح أن الشافعي رحمه الله قد سوى بين مرسلات سعيد وغيره من كبار التابعين، إلا أنه قد وضع ميزة لمرسل سعيد على غيره أنه أصح المراسيل. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
(1) التدريب 1: 201.