الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنه كان يقول: يا لقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه لو كان لي من أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة. وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة فإن سالما من أجل فقهاء المدينة " (1).
وأما الآثار فقد وردت آثار عن الخلفاء الأربعة وغيرهم تدل على مشروعية القسامة وبعضها لا يخلو من مقال.
* * *
(1). يرجع إلى نصب الراية ج4 ص393 وما بعدها والمحلى 11/ 65.
القائلون بعدم العمل بالقسامة
قال الأبي نقلا عن القاضي عياض: وأبطل الأخذ به - أي بهذا الركن فلم يثبت للقسامة حكما في الشرع - سالم بن عبد الله والحكم بن عيينة وسليمان بن يسار وقتادة وابن علية ومسلم بن خالد وأبو قلابة والمكيون وإليه نحا البخاري، واختلف قول مالك في الأخذ به في قتل الخطأ.
(ط) والشهير عنه إثباتها فيه وعنه أنه لا قسامة فيه (1).
ونسبه البخاري إلى معاوية وعمر بن عبد العزيز وستأتي مناقشة ما نسبه إليهما.
* * *
(1) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج4 ص394.
مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة
احتجوا بالسنة والاستصحاب والأثر:
أما السنة: فقال ابن حزم: نظرنا فيما يمكن أن يحتج به فوجدناه من طريق: نا طاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (1)» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (2)» وقوله عليه الصلاة والسلام: «بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك (3)» .
قالوا: فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال وبين الدعوى في الدماء والأموال، وأبطل كل ذلك ولم يجعله إلا بالبينة واليمين على المدعى عليه فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا لا فيمن يحلف ولا في عدد يمين، ولا في إسقاط الغرامة إلا بالبينة ولا مزيد.
وهذا كله حق إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا؛ وهو أن الذي حكم بما ذكروا - وهو المرسل إلينا من الله تعالى - هو الذي حكم بالقسامة وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها إذ كلها من عند الله تعالى، وكلها حق، وفرض الوقوف عنده والعمل به، وليس بعض أحكامه عليه السلام أولى بالطاعة من بعض، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية وتحت قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) ولا فرق بين من ترك حديث: «بينتك أو يمينه (5)» لحديث القسامة، وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث (6) ومما يوضح جواب ابن حزم رحمه الله ما قاله الخطابي رحمه الله قال: هذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام وللشريعة أن تخص، كما لها أن تعم ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة، كما لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول (7).
وجاء معنى ذلك عن ابن المنذر (8) وابن حجر (9).
وقد أورد ابن حزم رحمه الله اعتراضا على جوابه وأجاب عنه فقال: فإن قالوا: الدماء حدود ولا يمين في الحدود.
قيل لهم: ما هي الحدود؟ لأن الحدود ليست بموكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها بل هي واجبة لله تعالى وحده، لا خيار فيها لأحد ولا حكم، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي إن شاء استقاد وإن شاء عفا، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس، وفسد قول من فرق بينهما وبين حقوق الناس من أموال وغيرها إلا حيث فرق الله تعالى ورسوله بين الدماء والحقوق وغيرها وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط (10).
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552)، صحيح مسلم الأقضية (1711)، سنن الترمذي الأحكام (1342)، سنن النسائي آداب القضاة (5425)، سنن أبو داود الأقضية (3619)، سنن ابن ماجه الأحكام (2321)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 288).
(2)
صحيح البخاري الحج (1785)، صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن الترمذي الحج (856)، سنن النسائي مناسك الحج (2763)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 321)، موطأ مالك الحج (836)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
(3)
صحيح مسلم الإيمان (139)، سنن الترمذي الأحكام (1340)، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 317).
(4)
سورة البقرة الآية 85
(5)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4550).
(6)
المحلى ج11 ص77.
(7)
معالم السنن ج6 ص315.
(8)
الجامع لأحكام القرآن ج1 ص458.
(9)
فتح الباري ج12 ص197.
(10)
المحلى ج11 ص77.
وقد أجاب شيخ الإسلام بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق فقال: وهذه الأمور -أي أمثلة منها القسامة- من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة، وقال: فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين (1).
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال: وأما حديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (2)» فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى، وظهور اللوث وحلف خمسين يمين بمنزلة الشهادة أو أقوى، وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين، ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى (3) انتهى المقصود.
وقد بسط ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذا الجواب في موضع آخر (4).
وجواب ثالث عن مالك بن أنس رحمه الله قال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة وعمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن القتل وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك (5).
أما الاستصحاب فقال ابن رشد: وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها، فمنها: أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر. ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه.
فقال: ما تقولون في القسامة؟
فأضب القوم وقالوا: نقول: القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء.
(1) الفتاوى المصرية ج4 ص291.
(2)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4552)، صحيح مسلم الأقضية (1711)، سنن الترمذي الأحكام (1342)، سنن النسائي آداب القضاة (5425)، سنن أبو داود الأقضية (3619)، سنن ابن ماجه الأحكام (2321)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 288).
(3)
تهذيب سنن أبي داود ج6 ص 325 - 326.
(4)
إعلام الموقعين ج2 ص331 - 332.
(5)
الموطأ على المنتقى للباجي ج7 ص61.
فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟
قال: لا، وفي بعض الروايات قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أخذت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: أنهم إذا أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. قالوا: ومنها أن الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (1).
والجواب عن هذا الدليل من وجوه:
أحدها: بأن التعليق في عدم اعتبار القسامة بأنها من قبيل الحلف على ما لا يعلمه الحالف وهو غير مشروع قد أجيب عنه بما يلي:
قال الإمام الشافعي: " واحتج -أي القائل بهذا - بأن قال أحلفتهم على ما لا يعلمون؟ قلت: فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم، وإقرار القاتل عندهم بلا بينة ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير ذلك، قال: العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم قلت: ولا علم ثالث؟ قال: لا، قلت فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولد بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى على الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه؟ قال: على البينة، قلت: يقول لك: تظلمني؛ فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البينة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما، قال: يسأل، قلت: يقول لك فأنت تحلفني على ما تعلم أني لا أبر فيه. قال: وإذ سئلت فقد وسعك أن يحلف، قلت: أفرجل قتل أبوه فغبي من ساعته فسأل أولى أن يعلم؟ قال: نعم؛ قال بعض من حضره بل من قتل أبوه، فقلت فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم، والعلم يمكنه والقسامة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت ". اهـ (2).
وقال الشافعي أيضا: وإذا وجبت القسامة فلأهل القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل لأنه قد يمكن أن يعلموا باعتراف القتيل أو بينة تقوم عندهم لا يقبل الحاكم منهم ومن غيرهم غير ذلك من وجوه العلم التي لا تكون شهادة بقطع، وينبغي للحاكم أن يقول: اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات ويقبل أيمانهم متى حلفوا. اهـ (3).
(1) بداية المجتهد ج2 ص427 - 428.
(2)
اختلاف الحديث بهامش ج7 من الأم ص356 - 357 وفي مختصر المزني ص149 بهامش الأم ج5 هذا الجواب بإيجاز.
(3)
الأم ج6 ص79.
قال ابن قدامة: (قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (1)» وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر. ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه، وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة الظن (2).
ويمكن أن يقال: لا يلزم أن تكون اليمين على اليقين مطلقا، وتقرير ذلك أن شريعة الإسلام تبنى أحكامها على الظاهر لا على الباطن، وعلى الظن لا على اليقين، وهذا جار في أسانيد الأدلة ودلالاتها وبقائها، وفي الجزئيات التطبيقية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبار الآحاد ظنية الثبوت، ودلالة العموم على جميع أفراده مع احتمال مخصص، ودلالة المطلق على بعض ما يتناوله مع احتمال مقيد، ودلالة النص على مقتضاه مع احتمال ناسخ، ودلالة الظاهر على معناه مع احتمال دليل صارف له عن ظاهره إلى التأويل. هذه الأمور كلها ظنية ومع ذلك يعمل بها، ولو ترك العمل بهذا الباب فقيل: لا يعمل إلا باليقينيات لتعطل كثير من مواضع تطبيق الشريعة.
وأما من الناحية التطبيقية في حياته صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قضية اللعان؛ فبعدما انتهى المتلاعنان قال صلى الله عليه وسلم «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب، ثلاثا (3)» فهو صلى الله عليه وسلم قضى بمقتضى اللعان مع أن أحدهما كاذب يقينا، وهذا الاحتمال لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الحكم على الظاهر.
ويمكن أن يقال أيضا: إذا حلف أنه لم يقتل ولا يعلم قاتلا فهذا يقين في الظاهر من الجهتين فإن قوله: "لم يقتله" هذا نفي لصدور القتل منه وقوله: " ولا يعلم له قاتلا " هذا نفي لعلمه بالقاتل، ومورد النفي في الصورتين مختلف لكن كل منهما يقين في الظاهر بحسبه، وتحقق مطابقة الظاهر للباطن لا يتوقف عليه ربط الحكم الشرعي بالظاهر وإن كان مخالفا للباطن.
ثانيها: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة؛ يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا وكذا فيحلفون، قال: فقلت له: ليس ذلك لك قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده وإنك إن تتركها أوشك الرجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه فإن للناس في القسامة حياة (4).
ثالثها: يمكن أن يقال إن قصة أبي قلابة أكثر ما يقال فيها: إنها أثر تابعي فهل يصح أن يكون معارضا لقول معصوم؟ كلا. فلا عبرة بقول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم.
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي كتاب القسامة (4710)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3)، موطأ مالك القسامة (1630)، سنن الدارمي الديات (2353).
(2)
المغني ج8 ص91 - 94.
(3)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4747)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3179)، سنن أبو داود الطلاق (2256)، سنن ابن ماجه الطلاق (2067).
(4)
المصنف ج10 ص39.
رابعها: ويمكن أن يقال إن قولهم " الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء " غير صحيح؛ لأن المشرع هو الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة متنوعة وكل طريق منها أصل بنفسه، والمشرع هو الذي جعله أصلا، فلا يصح أن تعارض هذه الأصول بعضها ببعض بل كل أصل منها يعمل في موضعه، ومن ذلك القسامة؛ الثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم:«يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (1)» وفي رواية مسلم " فيسلم إليكم".
خامسها: قولهم البينة على المدعي واليمين على من أنكر قد سبق الجواب عنه في معرض الإجابة عن الدليل الأول من أدلة القائلين بعدم العمل بالقسامة.
قال المانعون من العمل بالقسامة: ومما يؤيد دليل الاستصحاب أن ما ورد من الأحاديث في الحكم بالقسامة ليس نصا في ذلك، بل هي محتملة يتطرق إليها التأويل، فلم تنهض لمقاومة الاستصحاب، فوجب تأويلها لتتفق مع الأصول الأخرى.
قال ابن رشد: ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام.
ولذلك قال لهم: " أتحلفون خمسين يمينا " أعني لولاة الدم، وهم الأنصار، قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: " فيحلف لكم اليهود " قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السنة.
قالوا: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2).
* * *
وأما الأثر فمن ذلك:
ما قال البخاري في صحيحه، قال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية.
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4713)، سنن أبو داود الديات (4520)، سنن ابن ماجه الديات (2677)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3)، موطأ مالك القسامة (1630)، سنن الدارمي الديات (2353).
(2)
بداية المجتهد ج2 ص420.
قال ابن حجر: وقد وصله حماد بن سلمة في مصنفه ومن طريقه ابن المنذر، قال حماد عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها، وأن معاوية يعني ابن أبي سفيان لم يقد بها، وهذا سند صحيح.
واعترض عليه بما نسبه ابن حجر إلى ابن بطال قال: وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها، ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قلت -القائل ابن حجر -: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال:" حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا ".
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بثلاثة أجوبة ذكرها بقوله: ويمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك " ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك، أو بالعكس (1).
وقد أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة لكن لم يصرح فيها بالقتل.
ويمكن أن يجاب عن هذا الأثر بالأجوبة السابقة.
وقال البخاري في صحيحه: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة - وكان أمره على البصرة - في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى به إلى يوم القيامة.
قال ابن حجر: وصله سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا حميد الطويل قال: كتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز، وذكر الأثر، وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال: وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا صحيح. وقد اعترض على هذا الأثر بقول ابن حجر: وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة، كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطال أن في مصنف حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة (2).
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بقوله: ويجمع بأنه كان يرى ذلك لما كان أميرا على المدينة، ثم رجع لما ولي الخلافة، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة حيث احتج على عدم القود بها فكأنه وافقه على ذلك (3).
(1) فتح الباري ج12 ص231 - 232.
(2)
الفتح ج12 ص232.
(3)
الفتح ج12 ص232.