الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابع:
خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول
مع الأدلة والمناقشة
لا يخلو أمر النكول من أحوال: فإما أن ينكل المدعون جميعهم عن الأيمان، أو ينكل بعضهم، وفي هذه الحال لا يخلو إما أن يكون الناكل وارثا بالفعل، أو بالإمكان. وإما أن ينكل المدعى عليهم عن الأيمان جميعهم، أو ينكل بعضهم، وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك.
أ -
نكول المدعيين عن الأيمان أو نكول بعضهم
سبق فيما تقدم أن الحنفية لا يرون البدء بالمدعين في الأيمان كما يراه غيرهم من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. ولهذا لا تأتي عندهم مسألة نكول المدعين أو بعضهم إلا في حال الرد عليهم بعد نكول المدعين.
1 -
المذهب المالكي
أ - قال الباجي:
مسألة: لو نكل ولاة الدم عن القسامة، وقد وجبت لهم زاد أبو زيد عن ابن القاسم يحلف المدعى عليهم وبرئوا، وقد قال ابن المواز: فعلى المدعى عليه الجلد والسجن، قال: لم يختلف أصحاب مالك إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا جلد ولا سجن وليحلف كل من ادعى عليه القتل خمسين يمينا، ويسلم من الضرب والسجن، ومن لم يحلف حبس أبدا حتى يحلف.
وجه القول الأول أن العقوبة قد ثبتت بما أوجب القسامة، فالضرب والسجن حق لله تعالى، قاله عبد الملك بن الماجشون، والقتل حق للأولياء، فإن أسقط الأولياء حقهم بالنكول من القصاص لم يملكوا إسقاط حق الله تعالى، كما لو عفوا أو عفا السلطان عن الجلد، قال عبد الملك: إنه لا يملك ذلك.
ووجه القول الثاني: أن القتل لم يثبت قبله فيجب عليه عقوبته، ونكول الأولياء يبطل ما ادعوه من القتل فلا تجب فيه عقوبة سجن ولا ضرب (1).
ب - قال الباجي في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحلف لكم يهود (2)» يحتمل أن يكون على وجه رد الأيمان على المدعى عليهم حين نكول المدعين، وهي السنة عند مالك والشافعي أن يبدأ المدعون بالأيمان، فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم. وقال أبو حنيفة: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان، فإن أقسموا برئوا، وإن نكلوا ردت على المدعي، والدليل على ما نقوله الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ (3)» قال القاضي أبو محمد: قلنا: من هذا الحديث دليلان:
أحدهما: أنه بدأ المدعين بالأيمان.
والثاني: أنه نقلها عند نكولهم إلى المدعى عليهم. وقد روى أبو قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم «بدأ المدعى عليهم بالأيمان» وهو حديث مقطوع، وما رواه مسند من رواية أهل المدينة.
ومن جهة المعنى أن اليمين إنما يثبت في إحدى الجنبتين واللوث وهو الشاهد العدل قد قوى جهة المدعين فثبتت الأيمان في جنبتهم (4).
قال الإمام مالك: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم، قال يحيى: قال مالك: وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، وإن كان واحدا، فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ترد على المدعى عليهم، فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعى عليه حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
قال الباجي: قوله: فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم؛ يريد: إن قل عدد المعينين من العصبة، أو نكل بعضهم فإن كانوا أكثر من اثنين فنكل بعضهم عن معونة الولي فإن من بقي مع الولي ترد عليهم الأيمان حتى يستوفوا خمسين يمينا، فلا تبطل القسامة بنكول بعض المعينين من العصبة مع بقاء الولي أو الأولياء عن القيام بالدم والمطالبة به.
ولو نكل الولي لم يكن للمعينين القسامة ولا المطالبة بالدم، وكذلك لو كان الأولياء جماعة فنكل واحد منهم لم يكن لغيرهم قسامة في المشهور من المذهب؛ لأنه لا قسامة لغيرهم، وترد الأيمان على المدعى عليهم.
(1) المنتقى ج7 ص127.
(2)
صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
(3)
صحيح البخاري الأحكام (7192)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4715)، سنن أبو داود الديات (4521)، سنن ابن ماجه الديات (2677).
(4)
المنتقى ج7 ص55
وجه القول الأول: أنهم لما تساووا في الحق لم يكن نكول بعضهم مؤثرا في سقوط حق الباقين أصله قتل الخطأ.
ووجه الرواية الثانية: أن الحق لجماعتهم وليس بعضهم بأولى من بعض بإثباته وهو لا يتبعض " فرع ".
قال القاضي أبو محمد: وهذا في العصبة، وأما البنون والإخوة فرواية واحدة أن من نكل منهم ردت الأيمان على المدعى عليهم.
ووجه ذلك أن البنين والإخوة يردون الأم من الثلث إلى السدس فكان لقرابتهم مزية، والله أعلم.
وترد الأيمان على المدعى عليهم، وفي العتبية وغيرها لابن القاسم، ورواية عن مالك إذا نكل ولاة الدم عن القسامة، ثم أرادوا أن يقسموا لم يكن ذلك لهم إن كان نكولا بينا، ومن نكل عن اليمين فقد أبطل حقه.
ووجه ذلك أن نكول من يجب عليه اليمين توجب رد اليمين على المدعى عليه كالمدعي حقا يشهد له شاهد فينكل عن اليمين مع شاهده، فإن اليمين ترد على المدعى عليه.
" مسألة ": وإذا حلف الأولياء مع المعينين لهم من العصبة بدئ بالولي ولا يبدأ بأيمان المعينين لهم قاله في المجموعة والموازية، ابن القاسم قال: وإنما يعين الولي من قرابته منه معروفة فيلتقي معه إلى جد يوارثه فأما من هو من عشيرته من غير نسب معروف فلا يقسم، كان للمقتول أو لم يكن (1). .
قال الباجي: " فصل " وقوله: ولكن: ترد الأيمان على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا، يريد أنه يحلف الجماعة في النكول، كما يحلف الجماعة في الدعوى؛ لأن أيمان القسامة لما لم يحلف فيها إلا اثنان فما زاد من المدعى عليهم. وقد روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه لا يحلف إلا المدعى عليه وحده بخلاف المدعي. وقال مطرف: لأن الحالف المدعى عليه إنما يبرئ نفسه.
ووجه رواية ابن القاسم ما روى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال للمدعين: «أترضون خمسين يمينا من اليهود ما قتلوه (2)» فمقتضى ذلك أن القسامة مختصة بهذا العدد ولا يزاد عليه؛ لأن اليهود كانوا أكثر من خمسين، ومن جهة المعنى أنه لما جاز أن يحلف مع ولي الدم المدعى له غيره جاز أن يحلف مع المدعى عليه المنكر له غيره.
ووجه آخر أن الدماء مبنية على هذا، وهو أن يتحملها غير الجاني، كالدية في قتل الخطأ، فإن الأيمان لما كانت خمسين وكانت اليمين الواحدة لا تتبعض لم يجز أن يكون الحالفون أكثر من خمسين.
(1) المنتقى ج6
(2)
صحيح البخاري الديات (6899).
" مسألة ": فإذا قلنا يحلف غيره من عصبته فقد قال ابن القاسم ورواه هو وابن وهب عن مالك: يحلف خمسون من أولياء المقتول خمسين يمينا وإن لم يكن منهم من يحلف إلا اثنان حلفا خمسين يمينا وبرئ المدعى عليه، ولا يحلف هو معهم فيحلف هو بعضها وهم بعضها، فإن لم يوجد من يحلف من عصبته إلا واحد لم يحلف معه وحلف المدعى عليه وحده خمسين يمينا.
وقال عبد الملك: يحلف هو ومن يستعان به من عصبته على السواء، وله أن يحلف هو أكثر منهم، فإن لم يوجد من يعينه حلف هو وحده خمسين يمينا.
قال محمد: قول ابن القاسم أشبه بقول مالك في موطئه وإنما أراد محمد قول مالك يحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا.
قال الباجي " فصل " وقوله خمسين يمينا وجه ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا (1)» ، ومن جهة المعنى أن الأيمان المردودة يعتبر بعدتها فيما انتقلت عنه كأيمان الحقوق فكذلك الأيمان الثانية في الخمسين؛ فإن عددها فيهما سواء كأيمان اللعان. (ج6 ص60 المنتقى).
قال ابن المواق على قول خليل: ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعد، انظر قوله: فسيأتي أن أولياء الدم إن كانوا أعماما وأبعد منهم فإن مالكا حلفهم مرة كالبنين، ومرة قال: إن رضي اثنان كان لهما أن يحلفا ويستحقا حقهما من الدية. ابن شاس: إن كان الولي واحدا استعان ببعض عصبته ثم نكول المعين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود. ومن ابن يونس قال ابن القاسم: إن كثر أولياء الدم أجزأ أن يحلف اثنان إذا تطاوعا ولم يترك باقيهم اليمين نكولا. قال في المدونة: فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل، كانوا اثنين أو أكثر. قال محمد: فرق مالك بين نكول أحد الأولياء عن القسامة قبل القسامة أو بعد أن حلف جماعتهم فقال: إن نكل منهم من له العفو قبل القسامة فلا قسامة لبقيتهم ولا دم ولا دية، ويحلف المدعى عليه خمسين يمينا إن لم يجد من عصبته من يحلف معه، وإن نكل بعد يمين جماعتهم لم يسقط حظ من بقي من الدية، ونكول هذا كعفوه راجعه فيه ابن عرفة: قول ابن شاس نكول المعين لغو واضح لعدم استحقاقه ما يحلف عليه (2) انتهى المقصود.
* * *
المذهب الشافعي
قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة نكول الورثة واختلافهم في القسامة ومن يدعى عليهم. قال الشافعي رحمه الله: فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أن يقسم خمسين يمينا ويستحق نصيبه من الميراث، وكذلك إن كان الورثة عددا كثيرا فنكلوا إلا
(1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4712)، موطأ مالك القسامة (1631).
(2)
التاج والإكليل على مواهب الجليل ج6 ص273.
واحدا (1)
المذهب الحنبلي
1 -
قال الخرقي: " فإن لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ ".
2 -
وقال ابن قدامة على ذلك ظاهر المذهب. وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة، وأبو الزناد، ومالك، والليث، والشافعي، وأبو ثور. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد، أنهم يحلفون، ويغرمون الدية؛ لقضية عمر، وخبر سليمان بن يسار. وهو قول أصحاب الرأي.
ولنا، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم (2)» أي: يتبرءون منكم، وفي لفظ قال:«فيحلفون خمسين يمينا ويبرءون من دمه (3)» .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود، وأنه أداها من عنده. ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فيبرأ بها، كسائر الأيمان، ولأن ذلك إعطاء بمجرد الدعوى، فلم يجز للخبر، ومخالفة مقتضى الدليل؛ فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده، كدعوى المال، وسائر الحقوق؛ ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم، فلم يشرع، كسائر الحقوق (4).
3 -
قال الخرقي: " فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ". 4 - وقال ابن قدامة: على ذلك يعني أدى ديته؛ لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر، فأبى الأنصار أن يحلفوا؛ وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده. كراهية أن يطل دمه ".
فإن تعذر فداؤه من بيت المال، لم يجب على المدعى عليهم شيء؛ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين، وقد امتنع مستحقوها من استيفائها، فلم يجب لهم غيرها، كدعوى المال (5).
5 -
قال ابن مفلح: " وإن نكلوا أو كانوا نساء حلف المدعى عليه خمسين، وعنه: يغرم الدية، وعنه: من بيت المال. اختاره أبو بكر، وقدم في الموجز: يمينا واحدة، وهو رواية في التبصرة. . . فإن لم يرض الأولياء بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال (6)
(1) الأم جـ 6 ص 82.
(2)
صحيح البخاري الأدب (6142)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669)، سنن الترمذي الديات (1422)، سنن النسائي القسامة (4716)، سنن أبو داود الديات (4520).
(3)
سنن الترمذي الديات (1422)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 3).
(4)
المغني ج8 ص497.
(5)
المغني ج8 ص497.
(6)
المبسوط ج26 ص111.