الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم تقول له نفسه: لماذا لا يكون هذا الكون قد وجد بنفسه بلا موجود يوجده، ومدبر يدبره، ولا يلبث أن يجد صوتا من الأعماق قد يناديه: أخطأت التقدير، وجاوزت المعقول، أليست هذه صنعة، وكل صنعة لا بد لها من صانع؟ أليست شيئا حادثا، وكل حادث لا بد له من محدث؟ فكيف يحدث الشيء نفسه؟ هل رأيت قصرا أو حصنا أو مصنعا أو أداة صنعت نفسها؟ فإذا قلت: كلا، فالجواب: إن هذا الكون لم يصنع نفسه، بل صنعه وأوجده موجود عظيم.
* ثم يكرر هذا الصوت نداءه من الأعماق، ويزيد في إرشاده إلى الحق فيقول: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فلا يمكن أن يرجح الوجود على العدم بدون مرجح، فهل رأيت كفتي ميزان رجحت إحداهما على الأخرى بدون ما يرجحها ويثقلها، فإذا قلت: كلا، فالجواب: أن هذا الكون لا يمكن أن يترجح وجوده على عدمه السابق، إلا بموجد اختار إحداثه على إبقائه في حالة العدم.
وإذا قلت لك: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فذلك من باب التساهل معك، وإلا فالحقيقة أن العدم أرجح من الوجود لسبقه إياه، فترجيح الوجود عليه لا يكون إلا بقدرة قادر، ومشيئة حكيم.
وإذا كانت منزلة الصانع من العلم والحكمة على مقدار صنعته، فصانع هذا الكون ومبدعه لا بد أن قدرته وعلمه وتدبيره لا غاية لعظمتها، وأنه على كل شيء قدير.
* فماذا رأيت أيها المتأمل بعد هذا العلم؟ ستقول إن كنت من المؤمنين: لقد ازددت به إيمانا على إيمان، وستقول إن كنت مرتابا: لقد كشف عن نفسي غطاؤها، وأصبحت موقنا بخالق هذا الكون، وأما إن كنت سادرا في غيك، متأثرا بإضلال غيرك، فلم ترفع لذلك رأسا، ولم تحرك لتلك الآيات فكرا، ولم تتأثر بها سمعا ولا قلبا ولا بصرا، فإننا نقول لك:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1).
* * *
(1) سورة الحج الآية 46
وحدانية الخالق جل وعلا
يقول هذا المفكر المتأمل:
اتضح عندي تماما أن لهذا الكون خالقا عظيما، ثم إن الإسلام يطالب الناس بالإيمان بأن الخالق العظيم واحد لا شريك له، ولكننا نرى الصنعة العظيمة تحتاج إلى عدد من المهندسين والعمال لكي يحولوها من فكرة إلى واقع، وإزاء هذا أريد أن أظفر بدليل يريح نفسي ومنطق واضح
يهديني إلى ما يدعو إليه الدين الإسلامي من أن الخالق واحد أحد فرد صمد.
* ثم يسكت هذا المفكر هنيهة يسمع بعدها صوت مناد عابر، الحق يناديه من الأعماق قائلا: يا صاحبي، ليس شأن الكون كشأن سائر المنشآت، وليس شأن خالقه كشأن المهندسين والمخترعين، إن هذا الكون مرتبط بعضه ببعض برباط عجيب، ومتماسك بقوانين مشتركة، فلا يستطيع أن يوجده إلا إله يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يصح عقلا أن يشاركه أحد في خلقه، ولو كان معه إله آخر لفسد وتصدع وتهاوى، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (1){ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (2).
* إن المهندس يعجز عن تحقيق اختراعه بدون من يعاونه؛ لأن قدرته محدودة، وعلمه محدود، أما الخالق فلا غاية لقدرته، ولا منتهى لعلمه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3). إنه تعالى {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4). ومن كان كذلك لا يحتاج إلى خالق آخر يشاركه في إبداعه ولا إلى عمال يساعدونه في إبراز مراده، حتى يخرج من عالم المشيئة إلى عالم الوجود، وينتقل من عالم الممكن إلى عالم الموجود.
* فيقول هذا المفكر لضميره: نحن نسمع أن للخالق ملائكة، فما شأنهم مع الله، وقد قلت: إنه تعالى ليس له شريك ولا معين؟
فيقول منادي الإيمان: إن هؤلاء الملائكة من خلق الله وإبداعه، وعهد إليهم بما كلفهم به من التكاليف في أرضه وسمائه، وقد فعل ذلك بحكم ربوبيته لهم، وعبوديتهم لجلاله وعظمته، وشأنهم في ذلك كشأن الناس، خلقهم وعهد إليهم بمختلف مصالحهم ومنافعهم والعناية بالحيوانات التي أخضعها لسلطانهم، وعمارة الأرض التي يعيشون عليها، وزراعة وديانها ووهادها، ليعيشوا هم وحيواناتهم على حاصلاتها، وأقدرهم على استخراج المعادن من جوفها، والانتفاع بما في البحار من أرزاقها وخيراتها.
* فإذا كان بنو الإنسان ليست لهم قدرة ذاتية حتى يقال: إنهم يعينون الخالق بها على ما نيط بهم، بل هم يستمدون قدرتهم ممن خلقهم، فكذلك الملائكة ليست لهم قدرة ذاتية حتى يقال: إنهم يعينون الله فيما نيط بهم، وإذا كان بنو الإنسان لا يعملون فيما هو من خلقهم، ولا يرسلون ماء السماء على أرضهم، ولا ينبتون النبات الذي بذروا حبه في الأرض، بل الذي أنبته هو خالقهم، فكذلك الملائكة لا يعملون إلا فيما خلقه الله، ولا يقدرون على شيء إلا بإقدار الله، فهو الذي يعينهم، أما هم فلا يعينونه.
* * *
(1) سورة الملك الآية 3
(2)
سورة الملك الآية 4
(3)
سورة يس الآية 82
(4)
سورة الطلاق الآية 12