المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيحكم التسعير - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة

- ‌ حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها

- ‌فضل الدعوة

- ‌كيفية الدعوة

- ‌ المقصود من الدعوة والهدف منها

- ‌وعد بطائفة ناجية

- ‌حكمتشريح جثة المسلم

- ‌بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتاوعصمة دمه ووجوب حقنه حيا

- ‌بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منهاوما يترتب على ذلك من مصالح

- ‌ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالاتدعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين

- ‌المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي

- ‌المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي إذا لم يجد شيئا غيره

- ‌المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطبفيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون

- ‌المسألة الخامسة: تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الهلاك به وفيهم النساء والأطفال

- ‌ فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء

- ‌ أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه

- ‌القسامة عند الفقهاء

- ‌ بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل ومناقشة كل منهما

- ‌مستند القائلين بعدم العمل بالقسامة مع المناقشة

- ‌القائلون بعدم العمل بالقسامة

- ‌مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة

- ‌ ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيهاومنشأ ذلك مع المناقشة

- ‌ ضابط اللوث في اللغة وعند الفقهاء

- ‌بيان صوره مفصلة واختلاف العلماء فيها مع المناقشة

- ‌الصورة الأولى: التدمية

- ‌الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل

- ‌الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح وعدل بالقتل

- ‌الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره

- ‌الصورة الخامسة: قتيل الصفين

- ‌الصورة السادسة: قتيل الزحام

- ‌الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة

- ‌تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف

- ‌ هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا أو يجوز أن يكون أكثر لو منبهما

- ‌ ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه

- ‌إذا كان في المدعين والمدعى عليهم نساء وصبيان فهل عليهم قسامة

- ‌هل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا

- ‌ خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول

- ‌ نكول المدعيين عن الأيمان أو نكول بعضهم

- ‌نكول المدعى عليهم

- ‌ ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية

- ‌ خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد

- ‌هدي التمتع والقران

- ‌أولا: ابتداء وقت الذبح

- ‌ثانيا انتهاء وقت ذبح الهدي

- ‌ثالثا: ذبح الهدي ليلا

- ‌رابعا: مكان ذبح الهدي

- ‌خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق

- ‌مصادر ومراجع هذا البحث

- ‌القراررقم 43 وتاريخ 13/ 4 / 1396ه

- ‌وجهة نظرلصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع

- ‌الفصل الأولمعنى التسعير وحكمه

- ‌المبحث الأولتعريف التسعير

- ‌المبحث الثانيحكم التسعير

- ‌المبحث الثالثرأي شيخ الإسلام ابن تيميةفي حكم التسعير

- ‌الفصل الثانيتسعير أجور الأشخاص والعقارات

- ‌المبحث الأولتسعير أجور الأشخاص

- ‌تحديد أجور العمال

- ‌ نظرية حد الكفاف أو الأجر الحدي

- ‌ نظرية إنتاجية العمل

- ‌ نظرية المساومة

- ‌بيان حكم ذلك في الشريعة الإسلامية

- ‌طريقة تحديد الأجور في الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الثانيتسعير أجور العقارات

- ‌طريقة تحديد الإيجارات

- ‌الفصل الثالثإلزام ولي الأمر بسعر السوق وعدم النقص عنه

- ‌الفصل الرابعتنظيم التسعير

- ‌المبحث الأولالحالات التي يجب فيها التسعير

- ‌ حاجة الناس إلى السلعة

- ‌ حالة الاحتكار

- ‌ حالة الحصر

- ‌ حالة التواطؤ

- ‌المبحث الثانيالاستعانة بأهل الخبرة في التسعير

- ‌المبحث الثالثمراقبة الأسعار

- ‌الفصل الخامسعقوبة مخالفة التسعير

- ‌عقوبة مخالفة التسعير في المملكة العربية السعودية

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع هذا البحث

- ‌الفهرس

- ‌الإسراء وفلسطينودولة اليهود

- ‌المرسل عند الإمام الشافعي

- ‌ المرسل قبل الشافعي

- ‌ مرسل الصحابي

- ‌ مرسل كبار التابعين

- ‌ حجية المرسل بعد الاعتضاد

- ‌ مرسل صغار التابعين

- ‌ مرسل سعيد بن المسيب

- ‌إيجاد جذر المعادلة بطريقة التوسطلابن الهيثم

- ‌طريقة التوسط

- ‌الواحد الصمد

- ‌البيان

- ‌وحدانية الخالق جل وعلا

- ‌الأدلة العقلية على استحالة الشريك

- ‌نكاح الشغار

- ‌في المواريث

- ‌من آثار عملية نقل الدم

- ‌في زكاة أموال جمعت للتجارة

- ‌في الزكاة

- ‌في الرضاعة

- ‌في إفطار رمضان والقضاء والكفارة

- ‌في الرضاعة

- ‌حكم الإحدادعلى الملوك والزعماءفي نظر الشريعة الإسلامية

- ‌من أخبار الرئاسةللأمانة العامة لهيئة كبار العلماء

- ‌تنبيه وتصحيح

الفصل: ‌المبحث الثانيحكم التسعير

‌المبحث الثاني

حكم التسعير

للعلماء في حكم التسعير عدة آراء منها:

القول بالمنع مطلقا، وإلى هذا ذهب بعض الشافعية والحنابلة ورواية عن الإمام مالك.

القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة وإليه ذهب متأخرو الزيدية.

القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار، وإليه ذهب الحنفية ورواية أخرى عن مالك، وفيما يلي بيان هذه المذاهب بشيء من التفصيل وأدلة أصحاب كل مذهب ومناقشتها.

* * *

الرأي الأول

عدم جواز التسعير مطلقا

ص: 239

وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على أدلة بعضها من الكتاب والسنة وبعضها من العقل والمنطق.

أولا: دليلهم من الكتاب:

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1).

ووجه الدلالة من هذه الآية أنها تفيد إطلاق الحرية للبائع، والتسعير حجر عليه وإلزام له بصفة معينة في البيع؛ إذ قد لا يكون راضيا به فيكون كالأكل بالباطل الذي نهت الآية الكريمة عنه.

* * *

المناقشة: نوقش هذا الدليل بأن التسعير لا يخالف هذه الآية الكريمة؛ لأن التسعير ما هو إلا إلزام للتجار ببيع السلعة بسعر المثل الذي يراعى عند تحديده مصلحة البائع والمشتري، وعلى هذا فلا يكون فيه أكل لأموال الناس بالباطل، بل على العكس من ذلك نجد أن ترك الحرية المطلقة للتجار ليبيعوا بأزيد من القيمة الحقيقية للسلعة مستغلين في ذلك حاجة الناس لها هو بعينه أكل أموال الناس بالباطل.

فالتسعير العادل الذي أذنت فيه الشريعة ليس فيه أكل المشتري مال التاجر بغير حق؛ لأن السعر يراعى فيه القيمة الحقيقية للسلعة مع إضافة كسب معقول للتاجر.

ويعتبر إجبار التاجر على البيع في هذه الحالة إكراها بحق، ويكون من جنس إكراه المدين على بيع ماله لوفاء دينه.

فإن قيل: وما وجه الحق في إجبار البائع على البيع بسعر محدد؟

قلنا: إن إرخاء الأسعار للمسلمين عامة ومنع الإجحاف بهم واستغلالهم من أهم الحقوق.

* * *

(1) سورة النساء الآية 29

ص: 240

ثانيا: دليلهم من السنة

1 -

ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (1)» رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.

2 -

ما روي عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر. فقال: " بل أدعو الله ". ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله سعر. فقال: " بل الله يخفض ويرفع (2)» .

ووجه الدلالة من هذين الحديثين: أنهما يدلان على تحريم التسعير، ويتضح ذلك من وجهين:

أولهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن التسعير مع أن الصحابة طلبوا منه ذلك وتكرر الطلب منهم ومع ذلك لم يسعر، فلو كان التسعير جائزا لأجابهم إلى طلبهم. وعلى هذا يكون التسعير غير جائز.

ثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل امتناعه عن التسعير بأنه ظلم، والظلم حرام. وعلى هذا يكون التسعير حراما.

(1) سنن الترمذي البيوع (1314)، سنن أبو داود البيوع (3451)، سنن ابن ماجه التجارات (2200)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 286)، سنن الدارمي البيوع (2545).

(2)

سنن أبو داود البيوع (3450)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 337).

ص: 241

المناقشة نوقش هذان الدليلان بأنهما لا يدلان على تحريم التسعير مطلقا؛ لأن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير محمول على حالة خاصة وهي أن التجار في ذلك الوقت كانوا أهل تقوى وصلاح، وكانوا يبيعون بأسعار مناسبة، والغلاء في ذلك الوقت لم يكن يرجع إلى جشع التجار وإنما كان ناتجا عن قلة السلع المعروضة وكثرة الطلب عليها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التسعير صراحة فلم يقل: لا يجوز التسعير أو التسعير حرام أو نحوا من ذلك، ولكن كل ما جاء في الحديثين أنه لم يسعر لأنه لم تكن هناك حاجة إليه.

وعلى هذا فليس في الحديثين ما يدل على عدم جواز التسعير في حالة جشع التجار وتجاوزهم الحد المعقول بالبيع بأكثر من قيمة المثل.

وفي الرد على من استدل بهذين الحديثين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط (1)» الحديث، فقد غلط فإن هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل. ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه. فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم. . . "

ورد الإمام ابن القيم رحمه الله على من استدل بهذين الحديثين في منع التسعير، بمثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

* * *

(1) سنن الترمذي البيوع (1314)، سنن أبو داود البيوع (3451)، سنن ابن ماجه التجارات (2200)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 286)، سنن الدارمي البيوع (2545).

ص: 242

ثالثا: حادثة عمر مع حاطب

فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما.

فقال له: مدان لكل درهم.

فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك في بيتك فتبيعه كيف شئت.

فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.

ووجه الدلالة من هذه القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع عن التسعير والإلزام به بعد ما رأى أنه أخطأ، واعترف بأنه ما قاله لحاطب بالسوق إنما كان اجتهادا منه. فدل ذلك على أن التسعير غير جائز.

المناقشة

نوقش هذا الدليل بأن هذه القصة رويت عن صحابي، وقول الصحابي لا يستقيم للحجية إلا إذا كان مستندا على نص من كتاب أو سنة أما إذا اعتمد على الرأي المجرد فلا يكون حجة، وإذا افترضنا أنه حجة فقد جاء للخليفة في هذه القصة رأيان:

الأول: الأخذ بالتسعير، والثاني: الرجوع عنه، وهو ما أخذ به أصحاب هذا المذهب واستندوا إليه في القول بعدم جواز التسعير.

ونقول لهم بأن هذه القصة جاءت في قضية خاصة وهي البيع بأقل من سعر السوق، والراجح أنه لا يجوز التسعير في هذه الحالة لما فيه من المصلحة لعامة الناس بالبيع بسعر رخيص.

على أن المحتجين بقضية حاطب لم يأخذوا بما صح عن عمر رضي الله عنه في قضايا كثيرة حيث خالفوه في إجبار بني العم على النفقة على ابن عمهم، وعتق كل ذي رحم محرم إذا ملك، وغير ذلك.

على أن هذا الأثر لا يصح عن عمر من رواية سعيد بن المسيب؛ لأنه لم يسمع من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن فقط.

ص: 243

وإنما الذي روى عن عمر -على فرض صحته - هو بخلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن عمر أراد بقوله: " إما تزيد في السعر " أي أن تبيع من المكاييل أكثر مما تبيع بهذا الثمن، حيث جاء من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب.

قال: " وجد عمر حاطب بن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة.

فقال: كيف تبيع يا حاطب؟

قال: مدين.

فقال عمر: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعا وإلا فلا تبع في أسواقنا، وإلا ف

سيبوا في الأرض ثم أجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم ".

فهذا هو أثر عمر مع حاطب في الزبيب كما يجب أن يظن بعمر.

فإن قالوا: إن في هذا ضررا على أهل السوق.

قلنا: هذا باطل. بل في قولكم أنتم الضرر على أهل البلد كلهم، وعلى المساكين، وعلى هذا المحسن إلى الناس، ولا ضرر في ذلك على أهل السوق؛ لأنهم إن شاءوا أن يرخصوا كما فعل هذا فليفعلوا، وإلا فهم أملك بأموالهم كما هذا أملك بماله.

وخلاصة القول: أنه ليس في قصة عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة دليل على منع التسعير.

رابعا: الأدلة العقلية

وقد أراد أصحاب هذا المذهب تأييد ما ذهبوا إليه - من القول بمنع التسعير - بأدلة من العقل والمنطق منها:

1 -

قالوا إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن.

ص: 244

نقول: إن الإمام ليس معنيا برعاية مصلحة فريق من الناس وهم التجار، ولكنه معني برعاية مصالح كل الأمة، فليس من العدل والإنصاف أن يترك الإمام الفرصة للتجار في الاحتكار واستغلال الناس بحجة عدم الحجر عليهم في التصرف في أموالهم، بل من مصلحة المسلمين إجبار التجار على البيع بسعر المثل، وليس في إلزامهم بالبيع بسعر المثل ظلم أو إجحاف بهم، حيث إن على الإمام مراعاة مصلحة التجار بتحديد سعر يتضمن ربحا معقولا لهم.

2 -

قالوا: إن التسعير يمنع الجالبين عن القدوم بسلعهم إلى البلد حتى لا يجبروا على البيع بغير ما يريدون وكذلك أهل السوق يمتنعون من بيع ما لديهم من السلع فيخفونها ليبيعوها بالثمن الذي يرضيهم فينشأ عن ذلك ما يعرف بالسوق السوداء.

المناقشة

نقول: إن ولي الأمر يملك من الوسائل ما يحمل به الجالبين على القدوم لبيع ما بأيديهم من السلع، ولديه القدرة على استخراج السلع من مخابئها، كما يمكنه أن يقوم هو بالجلب وبيع السلع بسعر التكلفة فيحمل بذلك التجار على بيع ما لديهم من البضائع، فيقضي بذلك على الاحتكار والاستغلال.

الخلاصة

أن الرأي القائل بمنع التسعير رأي مرجوح لأنه أمكن مناقشة ما استدل به أصحابه من أدلة وتفنيد ما أوردوه من حجج.

وعليه يظهر لنا أنه ليس في الإسلام ما يمنع من التسعير طالما روعي فيه مصلحة جميع الأطراف من بائعين ومشترين.

ص: 245

الرأي الثاني

القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم

وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على ما يلي:

أولا: حديث أنس رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أن يسعر قال: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر (1)» . . . الحديث.

وحديث أبي هريرة وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بل الله يخفض ويرفع (2)» الحديث.

ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امتنع عن التسعير في أقوات الآدميين وأعلاف البهائم؛ لأنها أغلب السلع المتداولة في ذلك الوقت؛ فيحمل المنع من التسعير عليها فقط.

المناقشة

نقول: إنه ليس في الحديثين ما يدل من قريب ولا من بعيد على قصر منع التسعير على قوت الآدمي وعلف البهائم، ولم يرد أن هاتين السلعتين يغلب وجودهما في السوق. وحمل الحديثين على هذا المعنى فيه تكلف وتحميل للألفاظ بمعان لا تحتملها.

هذا وقد سبق مناقشة هذين الحديثين بما يغني عن إعادته هنا.

ثانيا: قالوا إن تسعير الأقوات قد يدفع التجار إلى إخفاء السلع مما يؤدي إلى حدوث مجاعات ومفاسد أكبر مما ينتج عن عدم التسعير ولذلك لا يجوز تسعير الأقوات وعلف البهائم، ويجب ترك الحرية للتجار يبيعونها كيفما شاءوا.

(1) سنن الترمذي البيوع (1314)، سنن أبو داود البيوع (3451)، سنن ابن ماجه التجارات (2200)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 156)، سنن الدارمي البيوع (2545).

(2)

سنن أبو داود البيوع (3450)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 337).

ص: 246

المناقشة

يناقش هذا الدليل بأن التسعير لا يعني وضع أسعار ثابتة للسلع يتعين الأخذ بها في كل زمان ومكان، وإنما المراد بالتسعير هو وضع سعر لكل سلعة بعد معرفة قيمتها الحقيقية مع إضافة كلفة وصولها إلى أرض المشتري ثم إضافة نسبة معقولة من الربح للتاجر، وبهذا ينتفي لحوق الضرر بالتجار.

على أن لولي الأمر السلطة التامة في إلزام التجار بالبيع بالسعر الذي حدده لهم، ومنعهم من إخفاء السلع عن الناس.

الخلاصة

إن القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم قول مردود؛ إذ أنه استند على حجج واهية أمكن الرد عليها.

وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من تسعير الأقوات عند الأخذ بالتسعير، بل على العكس فإنه كلما كانت الحاجة إلى السلعة عامة كان التسعير واجبا، وليس هناك حاجة أشد من حاجة الناس إلى الأقوات.

* * *

ص: 247

الرأي الثالث

القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار وتواطئهم على رفع السعر بقصد ضرر المستهلكين، فهنا يجب تدخل ولي الأمر لرفع الضرر بالعدل الذي هو من متطلبات وحقوق الرعية على الراعي؛ فإن التسعير في هذه الحالة مصلحة عامة.

وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:

أولا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد (1)» .

ووجه الاستدلال من الحديث أن الشارع لم يعط المالك الحق بأخذ زيادة على القيمة حيث أوجب إخراج الشيء من ملكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، فكيف إذا كانت حاجة الناس إلى تملك الطعام والشراب واللباس وغيره؟

فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل إنما هو التسعير في الحقيقة حيث إنه من جنس سلطة الشريك في انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه لأجل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو أعظم؟

فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، وتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية الذي وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء.

(1) صحيح البخاري العتق (2522)، صحيح مسلم الأيمان (1501)، سنن الترمذي الأحكام (1346)، سنن النسائي البيوع (4699)، سنن أبو داود العتق (3940)، سنن ابن ماجه الأحكام (2528)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 112)، موطأ مالك العتق والولاء (1504).

ص: 248

فإن عموم الناس بحاجة لشراء الطعام واللباس، فلو أعطي أرباب السلع الحرية في البيع بما يشاءون لكان ما يلحق الناس من الضرر أعظم وأفحش.

ثانيا: إن القول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة بإرخاء الأسعار للناس وحمايتهم من جشع التجار واستغلالهم.

ثالثا: إن القول بالتسعير فيه سد للذرائع ومن الثابت أن سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة.

وسد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها مفسدة، ومن المسلم به أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراما، فترك الحرية للناس في البيع والشراء بأي ثمن دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، ولكنه قد يؤدي إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس، فيقضي هذا الأصل الشرعي بسد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.

فإن قيل إن التسعير فيه تقييد لحرية التجار في البيع وهذا ضرر بهم والضرر منهي عنه شرعا.

نقول: إن الضرر الحاصل من منع التسعير أعظم بكثير من الضرر الناتج من إجبار التجار على البيع بسعر، ولا شك أن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأصغر.

وهكذا يتضح من كلام العلماء الذين أجازوا التسعير أنهم لم يجيزوه لذاته بل لأنه إجراء وقائي لصد ظلم الظالمين واحتكار المحتكرين.

* * *

الخلاصة

إن القول بالتسعير وإلزام التجار بالبيع بثمن المثل عند تجاوزهم الأسعار - التي تحقق لهم ربحا معقولا - وظهور بوادر الجشع والاستغلال، لهو الرأي المختار الذي يجب العمل به والمصير إليه، وذلك لقوة أدلته وسلامتها من الرد، ولما فيه من تحقيق مصالح الأمة ودفع الضرر عن الناس.

ص: 249