الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نكول المدعى عليهم
أ - قال شمس الدين السرخسي: إن نكلوا - أي المدعى عليهم - عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم، ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه، فإذا امتنع منه فإنه يحبس ليوفي ككلمات اللعان (1).
ب - وقال أيضا: وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا؛ لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل، وقد ازدادت بنكولهم، والأيمان مقصودة هاهنا فيحبسون لإيفائها (2).
ج - قال ابن الهمام على قول صاحب المتن: " ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف ": لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الأموال لأن اليمين بدل عن أصل حقه؛ ولهذا يسقط ببذل المدعي وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنهم لا يتميزون عن الباقي. ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ فكذلك الجواب، يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب، وهكذا الجواب في المبسوط.
وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل أن في القياس تسقط القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي: ألك بينة؟ فإن قال: لا، يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة. ووجهه أن القياس يأباه لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم؛ لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم تكن استحلفه يمينا واحدة؛ لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس. ثم إن حلف برئ وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، وإن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى (3).
(1) المبسوط ج26 ص121
(2)
الفروع ج3 ص456.
(3)
فتح القدير ج8 ص388 - 389.
قال قاضي زاده على قول صاحب المتن: " ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف ": قال تاج الشريعة: هذا إذا ادعى الولي القتل عمدا، أما إذا ادعاه خطأ فنكل أهل المحلة فإنه يقضي بالدية على عاقلته ولا يحبسون ليحلفوا. انتهى. " وأما سائر الشراح فلم يقيد أحد منهم هاهنا مثل ما قيده تاج الشريعة، إلا أن صاحبي النهاية والعناية قالا في صدر هذا الباب: " حكم القسامة القضاء بوجوب الدية إن حلفوا، والحبس حتى يحلفوا إن أبوا لو ادعى الولي العمد، ولو ادعى الخطأ فالقضاء بالدية عند النكول " انتهى.
ولا يخفى أن ظاهر ما ذكراه هناك يطابق ما ذكره تاج الشريعة هنا. أقول: لا يذهب عليك أن الظاهر من إطلاق جواب مسألة الكتاب هنا ومن اقتضاء دليلها الذي ذكره المصنف ومن دلالة قوله فيما بعد هذا الذي ذكرناه إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم، والدعوى في العمد أو الخطأ أن يكون الحبس إلى أن يحلف الناكل موجب النكول في كل واحدة من صورتي دعوى العمد ودعوى الخطأ، وعن هذا ترى أصحاب المتون قاطبة أطلقوا جواب هذه المسألة، وكذا أطلقه الإمام قاضي خان في فتاواه حيث قال: وإن امتنعوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا انتهى. وكذا حال سائر ثقات الأئمة في تصانيفهم، وكأن صاحب الغاية تنبه لهذا حيث قال في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية على العاقلة في ثلاث سنين عندنا، وعند الشافعي إذا حلفوا برئوا، وأما إذا أبوا القسامة فيحبسون حتى يحلفوا أو يقروا انتهى فإنه جرى في بيان حكمها أيضا على الإطلاق كما ترى.
ثم أقول: التحقيق هاهنا هو أن في جواب هذه المسألة روايتين: إحداهما أنهم إن نكلوا حبسوا حتى يحلفوا على الإطلاق وهو ظاهر الروايتين عن أئمتنا الثلاثة، والأخرى أنهم إن نكلوا لا يحبسون بل يقضى بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين بلا تقييد بدعوى الخطأ، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف. وقد أفصح عنه في المحيط البرهاني حيث قال: ثم في كل موضع وجبت القسامة وحلف القاضي خمسين رجلا فنكلوا عن الحلف حبسوا حتى يحلفوا، هكذا ذكر في الكتاب. وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: لا يحبسون، ولكن يقضى بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين. وقال ابن أبي مالك: هذا قوله الآخر، وكان ما ذكر في هذه الرواية قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول، إلى هنا لفظ المحيط.
ثم أقول: بقي هاهنا إشكال، وهو أنه قد مر في باب اليمين من كتاب الدعوى أن من ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لزمه الأرش في النفس وفيما دونها انتهى، فمقتضى إطلاق ذلك أن يكون موجب النكول في القسامة أيضا هو القضاء بالدية دون الحبس عند أبي يوسف ومحمد وإن ادعى ولي القتيل القصاص مع أن المذكور في عامة الكتب أن يكون موجب النكول في القسامة هو الحبس إلى الحلف بلا خلاف فيه من أبي يوسف ومحمد كما هو ظاهر الرواية، نعم قد ذكر أيضا في المحيط والذخيرة أنه روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه يقضي بالدية في القسامة أيضا عند النكول، لكن يبقى إشكال التنافي بين ما ذكر في المقامين على قول أبي يوسف في ظاهر الرواية وعلى قول
محمد مطلقا فتأمل في الدفع (1).
وقال أيضا على قوله: " وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فتوجيه بالنص لا بالقياس " قوله فيه بحث؛ لأنه إن أراد بإطلاق النصوص إطلاقها بحسب لفظها فهو مسلم لكن لا يجدي هنا نفعا، إذ من القواعد المقررة عندهم أن النص الوارد على خلاف القياس يختص بمورده والنصوص فيما نحن فيه واردة على خلاف القياس كما صرحوا به، فلا بد وأن تكون مخصوصة بموردها وهو ما إذا وجد القتيل في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم كما ذكر في وجه القياس وإن أراد إطلاقها بحسب المورد أيضا فهو ممنوع إذ لم يسمع في حق القسامة نص ورد فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض أهل المحلة بعينه كما لا يخفى على من تتبع النصوص الواردة في هذا الباب (2).
* * *
المذهب المالكي
قال الباجي: " فصل ": وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبرئ.
وقوله: وبرئ يريد برئ من الدم وعليه جلد مائة وسجن عام قاله مالك وابن القاسم. وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف وفي النوادر. وقد ذكر ابن القاسم فيه عن مالك قولا لم يصح عند غيره أن المدعى عليهم إذا ردت عليهم الأيمان فنكلوا فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة ويقتص منه في الجرح يريد فيمن ثبت جرحه واحتيج إلى القسامة أنه من ذلك الجرح مات، وقال القاضي أبو محمد: في المدعى عليه القتل وأتى المدعون بما يوجب القسامة ونكلوا عن اليمين حلف المدعى عليه القتل وتسقط عنه الدعوى، فإن نكل ففيها روايتان:
إحداهما يحبس إلى أن يحلف. والثانية: تلزمه الدية في ماله وأراه أشار لرواية ابن القاسم. " فرع " فإذا قلنا أنه يحبس إلى أن يحلف فإن حبس وطال حبسه فقد روى القاضي أبو محمد يخلى سبيله وفي العتبية والموازية يحبس حتى يحلف قال ابن المواز: فقد اتفقوا على أن هذا إن نكل سجن أبدا حتى يحلف (3).
* * *
(1) نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة فتح القدير ج8 ص388 - 389.
(2)
نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة فتح القدير ج8 ص389 - 390.
(3)
ج6 ص61.
المذهب الشافعي
قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة: (فإذا حلفوا برئوا وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية إن كانت عمدا ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل، ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ؛ لأنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه (1).
وقال الشافعي: في " باب الإقرار والنكول والدعوى والدم ". وإذا ادعوا على عشرة فيهم صبي رفعت حصة الصبي عنهم من الدية إن استحقت وإن نكلوا حلف ولاة الدم وأخذوا منهم تسعة أعشار الدية فإذا بلغ الصبي حلف فبرئ أو نكل فحلف الولي وأخذ منه العشر إذا كان القتل عمدا. قال الشافعي: وإذا ادعوا على جماعة فيهم معتوه فهو كالصبي لا يحلف وذلك أنه لا يؤخذ بإقراره على نفسه فإن أفاق من العته أحلف، وتسعه اليمين بعد مسألته عما ادعوا عليه وإن نكل حلف ولاة الدم واستحقوا عليه حصته من الدية وإن ادعوا على قوم فيهم سكران لم يحلف السكران حتى يفيق، ثم يحلف فإن نكل حلف أولياء الدم واستحقوا عليه حصته من الدية. .
* * *
المذهب الحنبلي
1 -
قال ابن قدامة: إن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا، وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا، وهو قول أبي حنيفة، ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها، كسائر الأيمان. إذا ثبت هذا، فإنه لا يجب القصاص بالنكول؛؛ لأنه حجة ضعيفة، فلا يشاط بها الدم، كالشاهد واليمين، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال نص عليه أحمد. وروى عنه حرب بن إسماعيل، أن الدية تجب عليهم، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه حكم ثبت بالنكول، فيثبت في حقهم هاهنا، كسائر الدعاوى، ولأن وجوبها في بيت المال، يفضي إلى إهدار الدم، وإسقاط حق المدعين، مع إمكان جبره، فلم يجز، كسائر الدعاوى، ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال بها، فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه، كما في سائر الدعاوى، وهاهنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله، ولم يجبر على اليمين؛ لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية. وقال أصحاب الشافعي: إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين، إن قلنا: موجبها المال. فإن حلفوا، استحقوا، وإن نكلوا، فلا شيء لهم.
وإن قلنا: بوجوب القصاص. فهل ترد على المدعين؟ فيه قولان.
(1) الأم ج6 ص85 في اختلاف المدعي والمدعى عليه في الدم.