الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الإنسان في الإسلام
إعداد
الدكتور محمد فتح الله الزيادي
أستاذ مشارك رئيس قسم الدراسات العليا
بكلية الدعوة الإسلامية طرابلس - ليبيا
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
يبدو لي من خلال ما وقع تحت يدي من المراجع والمقالات التي كتبت حول الموضوع أن المكتبة العربية - خاصة - متخمة بمادة متنوعة عن حقوق الإنسان في الإسلام، وكلها تحاول أن تبرهن - بصورة أو بأخرى - على أن الإسلام سبق غيره من الأديان والمذاهب المختلفة في التأكيد على حقوق الإنسان وإعطائها الأهمية المناسبة في التشريعات الإسلامية، ولذا فلا مناص من الاعتراف بأنه لا سبيل إلى جديد في هذا الموضوع، إذ تكفلت الدراسات السابقة ببيان ما احتواه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من نصوص تؤكد فرضية القول بسبق الإسلام للكثير من المواثيق والأعراف الدولية المعلنة في مجال حقوق الإنسان، كما أن هذه الدراسات تكفلت أيضاً ببيان جهود العلماء القدماء والمحدثين في التنظير لهذه الحقوق بصورة تجعلها جهداً أوليًّا سبق وفاق الكثير من جهود الغربيين المعاصرة في هذا المجال.
على الرغم من أن ورقتي هذه ستسير في نفس الاتجاه الذي سارت عليه الأبحاث السابقة في إظهار سبق وفضل الإسلام شريعة ورسالة، وفضل العلماء المسلمين تحليلاً وتنظيراً لـ حقوق الإنسان مع اختلاف - ولو قليلاً - في المنهج، إلا أننى مضطر لأن أبدأ هذه الورقة بالملاحظات التالية:
أولاً: هل مسألة حقوق الإنسان من الأمور الدينية التي تنطلق من أرضية عقدية تكسبها صفة القداسة لتكون بعد ذلك من صميم الدين الذي لا يمكن الاستهانة به؟ أم أنها أمر فطري طبيعي لا علاقة له بالدين إذ أنه يتعلق بالإنسان من حيث كونه بشر بغض النظر عن العرق واللون والدين وأية قيود أخرى محتملة؟ إن هذا التساؤل ضروري جداً عند البحث في قضية حقوق الإنسان في الإسلام، ذلك أن الإقرار بأن هذا الأمر ذو طبيعة دينية يقتضي البحث عنه في إطار الأديان والشرائع الأخرى كالمسيحية واليهودية، وهو ما لم أعثر عليه شخصيًّا خاصة بالمقارنة مع ما كتب عن الموضوع في إطار الفكر الإسلامي، فالفكر الغربي تعامل مع هذه القضية في إطار معالجة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ألمت بالمجتمع الغربي خلال فترات التاريخ المختلفة ولم ينظر إليها قط على أنها مسألة ذات علاقة بالدين، وليس أدل على ذلك "من أن الكنيسة المسيحية كانت حتى عهد البابا يوحنا 23 في القرن الماضي تدين فكرة حقوق الإنسان وتصفها بـ العلمانية، وتلصق بها الكثير من الصفات السلبية. ولم تجد حقوق الإنسان طريقاً إلى الفاتيكان إلا في 11 إبريل عام 1963 عندما أصدر الفاتيكان المنشور البابوي باسم السلام في الأرض "(1) .
وهذا الأمر يقودنا حتماً إلى السؤال المهم الذي تحتوي الملاحظة الثانية.
(1) د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة، مكتبة الشروق، ص 92.
ثانياً: ما هي مرجعية المناداة بـ حقوق الإنسان، أي ما هو منطلق الإعلانات والمواثيق الدولية لـ حقوق الإنسان؟ أهي مرجعية تعود إلى الإنسان ذاته بغض النظر عن الظروف التي تحيط به، وفي هذا الإطار نقول: إذا كان ذلك صحيحاً فلماذا التركيز على الحقوق دون بيان الواجبات؟ هل من المعقول أن نتحدث عن الحقوق دون أن نذكر الواجبات؟ وهل يمكن أن تنفصل الأولى عن الثانية؟ إننا إذا أهملنا الحديث عن الواجبات فإننا سنترك الإنسان ذاته يعيث في الأرض فساداً، يدمر حقوقه وحقوق الآخرين دون مراعاة لأي قيود اجتماعية أو عقدية أو سياسية، والأمر واضح تماماً فيما يقوم به الإنسان المعاصر من أبحاث علمية تؤدي إلى تدمير الكون وفناء الإنسان الذي نطالب بحقوقه وندبج الإعلانات والمواثيق لتأكيدها.
إن هذه النقطة بالذات تضعنا في مفترق طرق بين نظرة الإسلام للإنسان ونظرة المجتمعات غير الإسلامية له، فالإسلام اهتم بالإنسان مخلوقاً كرمه الله على سائر المخلوقات، وأسند له وظيفة من أشرف الوظائف بل هي أعظمها ألا وهي الخلافة في الأرض، هذه الخلافة التي تقتضي أن عليه واجبات يؤديها وله حقوق لا تتحقق الخلافة إلا بها، وهذه في مقابل تلك وكل خلل في واحدة ينال الثانية بنفس القدر، وهكذا يسير الإنسان في تناغم بين حقوقه وواجباته دون أن يكون بحاجة إلى أعراف أو قوانين وضعية تنظم حياته.
ثالثاً: السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إذا كانت الأديان - وفي مقدمتها الإسلام - قد تكفلت ببيان حقوق الإنسان وواجباته؛ فلماذا هذه المواثيق والإعلانات المختلفة التي تنادي بـ حقوق الإنسان؟ ما الذي يحرك هذه القضية ويجعلها في تصاعد مستمر على كافة المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية؟
ليس هناك مبرر معقول لهذا إلا وجود شعور قوي وقديم بأن الإنسان قد عانى ظلماً قويًّا من أطراف اجتماعية مختلفة حرمته من التمتع بحقوقه، وبالتالي حرمته من أداء وظيفته على هذه الأرض، ولسنا نعدم شواهد لهذا الظلم في المجتمعات كلها إسلامية أو غير إسلامية، إذاً خلفية البحث في حقوق الإنسان ليست كامنة في الاهتمام بالإنسان ذاته - كما هو الحال في الإسلام - وإنما هي في انحراف في مسيرة البشرية في التعامل مع الإنسان أدى إلى أن تنتهك حقوقه سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا بصورة لم يعد معها قادراً على أداء وظائفه، بل أصبح في كثير من الأحيان عاجزاً حتى عن المطالبة بحقوقه الطبيعية التي أكدت عليها جميع الأديان السماوية.
ولعل عالمنا العربي والإسلامي قد ناله نصيب وافر من هذه الانتهاكات لـ حقوق الإنسان بفعل عوامل مختلفة أهمها:
أ- ضعف الوازع الديني عند شرائح مختلفة في المجتمع الإسلامي.
ب- تخلف المستوى الثقافي لهذه المجتمعات بفعل ما خلفه الاستعمار من موروثات كان لها الأثر الكبير في تشكيل هذه المجتمعات وتطورها.
ج - انعدام الاستقرار السياسي في المجتمعات الإسلامية بفعل الصراع المستمر والمدمر على السلطة، والذي كان الإنسان المسلم الهدف الأول له.
لقد وجد الإعلام الغربي في هذا الواقع الإسلامي مرتعاً خصباً للقول بانعدام حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، ومن ثم ضرورة التدخل في هذه المجتمعات لصالح تأكيد حقوق الإنسان لتتحول القضية بعدها من مسألة إنسانية في ظاهرها إلى مسألة سياسية تستهدف إبقاء هذه المجتمعات تحت ضغط الحكومات الغربية واتهاماتها المستمرة، يقول عالم الإنثربولوجيا الكيني علي المزروعي:"يوجه دائماً النقد للمسلمين، لأنهم لم يقوموا بأفضل الإنجازات، لكن نادراً ما يسجل لهم أحد أنهم منعوا حدوث الأفظع في بلادهم. فلن تجد عندهم أبداً القتل المنظم للشعوب كما حدث في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، ولن تجد ما يشبه الرعب والإرهاب الستلايني، واقتلاع ملايين البشر من جذورهم تحت مسمى الخطة الجنسية، كما أن المسلمين لا يتحملون مسؤولية وجود نماذج للتفرقة العنصرية كالتي شهدتها جنوب أفريقيا من قبل الهولنديين بمباركة وموافقة كنيستهم الإصلاحية. ولا تجد شبيهاً أبداً للعنصرية اليابانية العنيفة التي شهدتها آسيا قبل عام 1945، ولا الثقافة العنصرية التي مارسها البيض ضد الزنوج في الجنوب الأمريكي بما تضمنه من قتل وإبادة وعنف وشنق دون محاكمة". (1)
(1) د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة، مكتبة الشروق، ص 94.
هذا المشهد - غير العلمي – لموضوع حقوق الإنسان يحيلنا إلى سؤال مهم وهو: هل موضوع حقوق الإنسان وما أثير حوله من قضايا فكرية وسياسية مختلفة يقع ضمن إطار المنظومة الغربية ومنهجية تعاملها مع العالم الشرقي؟ أم أنه إدراك حقيقي من العالم بضرورة أن يرتفع الوعي العالمي إلى المستوى الذي يمكنه من فتح المجال أمام الإنسان أن يعيش بحرية كما أراد الله أن يكون؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكن الوصول إلى هذا الوعي دون الإشارة إلى ما يعانيه الإنسان في المجتمع الغربي من انتهاكات فاضحة لحقوقه خاصة إذا كان ينتمي لأقلية عرقية أو دينية؟
إن معالجة مثل هذه الأسئلة وتحليلها بصورة علمية كفيل بأن يطلعنا على حقيقة الخلفية الفكرية للمناداة بـ حقوق الإنسان في العالم المعاصر، ومدى ما تختزنه هذه الخلفية من تصورات قد لا تمت إلى احترام الإنسان بأي صلة بل قد تؤدي نتائجها إلى مزيد من الانتهاكات المدمرة لحقوقه، كما أن معالجة هذه الأسئلة أيضاً كفيلة بأن تظهر لنا عظمة الإسلام في احترام الإنسان وتأكيد حقوقه بصورة حقيقية لا تكمن خلفها أي بواعث أخرى سوى كرامة الإنسان وعظمة دوره في إعمار الحياة على هذه الأرض.
* * *
الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام
لا يختلف اثنان في أن آيات القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة هي الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام؛ إذ هي الدين المعبر عن الشرعة الصحيحة التي أرادها الله للإنسان، وهي تنطلق من احترام الإنسان ذاته دون نظر إلى ظروف ألمت به، فالقرآن أعطى للإنسان تكريماً يفوق التصور، ذلك أن الله اختاره ليكون خليفة في الأرض:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] . وعلى الرغم من اعتراض الملائكة على إسناد هذا الدور الخطير إلى الإنسان {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فإن الله سبحانه وتعالى أكد هذا الدور وضرورته لاستمرار الحياة حيث قال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، ولعل مقتضيات الخلافة قد اقتضت أن ينال الإنسان تكريماً آخر تمثل في أمر الملائكة بالسجود للإنسان حيث قال:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72] . وتعضد هذا التكريم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] .
هذه النظرة الإلهية للإنسان وهذه المهمة العظيمة التي أسندت إليه رتبت أن ينال الإنسان كل ما يسندها ويوقي من شأنها لكي تتأكد واقعاً عملياً على الأرض، ولذلك يقول الله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . ويقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . فالتكريم الإلهي إذًا تعضد بتسخير الكون كله له ليتحقق الإعمار الذي أراده الله للحياة البشرية، وهذا يقتضي أن يوجد الإنسان منظومة من القواعد التي تحقق الاحترام الدائم لكافة أفراد الجنس البشري دون تدخل عوامل خارجية في ذلك، إذ التكريم والاحترام فطري وطبيعي لا يسلبه من الإنسان إلا طغيانه وتمرده على شرعة الله حين ينسى دوره في هذه الأرض ويتحول إلى حيوان يهدد الآخرين ويسلبهم ما منحهم الله من التكريم والاحترام، وهذا يقودنا بالطبع إلى أن نقرر أن حقوق الإنسان في الإسلام أصيلة في خلقته، وأن البحث فيها لا يكون إلا في إطار ما يوجده الإنسان من عوائق تهدد هذه الحقوق وتحاول أن تسلبها منه بدوافع مختلفة، فالحرية صفة فطرية لدى الإنسان لا تتحقق له الحياة بدونها، وهي مصدر كل تقدم وازدهار للحياة البشرية، ولا تسقط هذه الصفة إلا حين يتنكر الإنسان لحريات الآخرين ويعتدي عليها وبذلك يقع الخلل في الحياة البشرية، ولعل التاريخ يخبرنا بأن أكثر المجتمعات تمتعاً بالحرية أكثرها تقدمًّا ورقيًّا حضاريًّا، وكلما انتكست الحرية في مجتمع كلما تردت الحياة فيه وصارت أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية
…
وهكذا يصدق هذا القول على بقية منظومة الصفات البشرية الأخرى كالعدل والمساواة وحق الملكية والعمل وحق التدين
…
إلخ.
بهذه الرؤية تكتسب حقوق الإنسان في الإسلام بعداً إنسانيًّا يرتقي فوق الفوارق التي يصنعها بعض البشر، كما أنها تكتسب صفة القداسة باعتبارها عطاء إلهيًّا يفوق أي عطاء من سلطة دنيوية مهما علا شأنها، ولذلك فإن المساس بهذه الحقوق أو انتهاكها يعتبر انتهاكاً لحرمة الدين ومساساً بشرع الله وهو أرقى درجات الاعتراف بهذه الحقوق، مما يؤكد أن الإسلام هو دين حقوق الإنسان وأنه سبق كل تصور بشري تضمنته الإعلانات والمواثيق الدولية الشرقية منها والغربية.
وعلى هدي آيات القرآن الكريم جاءت السنة النبوية لتعضد اتجاه فطرية حقوق الإنسان في الإسلام، ولتؤكد على قدسيتها وضرورة احترامها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في حجة الوداع:((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (1) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة)) (2) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يقف أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) (3) . وهذا الهدي النبوي الرفيع يشير بوضوح إلى أن معاملة الإنسان المسلم لأخيه الإنسان يجب أن تكون متجهة لذاته كبشر ذي إرادة واختيار، حتى ولو قاده اختياره ليكون غير مسلم بمعنى أن حقوق الإنسان التي ينادي بها الإسلام لا تخص المسلمين فقط، وإنما هي معاملة عامة لكل البشر، وفي هذا الإطار يرد في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر قال: "مرت بنا جنازة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا.. فقلنا: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي؟ قال: ((أليست نفساً؟)) .
(1) رواه ابن هشام: كنز العمال: 1 / 66، 2 / 22.
(2)
ورد هذا الحديث عند القرطبي في تفسيره بهذا اللفظ: "ومن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة "مرويًّا عن أبي داود عن صفوان بن سليم (8 / 115) - دار الكتاب العربي. وورد في كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني مرويًّا عن أبي داود أيضاً بلفظ: "من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة "دار إحياء التراث العربي - بيروت: 2/218، رقم الحديث (2341) .
(3)
رواه الطبراني.
وهكذا يتضح لنا أن الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يتميز بشمولية النظرة إلى الإنسان، حيث تشير النصوص إلى حقوقه في مختلف مظاهرها؛ ابتداء من حقه في الحياة وتحريم الاعتداء عليه وحرمانه من هذا الحق:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] . {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] .
ثم حقه في الحياة الحرة الكريمة التي يكون فيها هو المالك لزمام أمره: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14] .
ثم حقه في التدين: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] . {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] . {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23]
…
إلخ.
هذه الحقوق التي امتلأت بها الكتب والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع والتي لم تترك مجالاً لمزيد في تفصيل حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعقدية، ومن هنا وجب علينا فقط التذكير بأن الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام متكامل شمل جميع احتياجات الإنسان وما يحقق له السعادة الأخروية أيضاً، كما أن منطلقات الإسلام في تقرير حقوق الإنسان ثابتة لا تتأثر بتغير الزمان والمكان، فالإنسان له حقوقه تستمر الحياة حين المحافظة عليها وتنتكس الحياة بانتهاكها والاستخفاف بها.
* * *
حقوق الإنسان في واقع الحياة الإسلامية
إذا كان الإسلام - كما سبق - قد قدم تصوراً كاملاً لـ حقوق الإنسان يفوق في منطلقاته ومستهدفاته المواثيق والإعلانات الدولية والإقليمية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما مدى انعكاس هذا التصور في حياة المسلمين؟ وهل يعبر تاريخ المسلمين عن اقتراب حقيقي من هذا التصور؟ وعلى الرغم من أهمية هذا السؤال وضرورته إلا أنه يجب أن يلاحظ عليه ما يلي:
أولاً: الحكم على الإسلام من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لا من سلوكيات المسلمين وتصرفاتهم، وهذه هي المغالطة الكبرى التي يحاول الكتاب الغربيون والعلمانيون تمريرها حين الحديث عن الإسلام بقصد أو بدونه، وهو الأمر الذي رتب سوء فهم للكثير من القضايا الإسلامية في الفكر المعاصر، ولذا فنحن نقول بوضوح: إننا حين نتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام فإننا نتحدث عن الفكرة ولا نتحدث عن تطبيقاتها التي قد تقترب أو تبتعد بحسب التزام الإنسان أو عدم التزامه، فهي قضية خاضعة لقوة العقيدة وضعفها.
ثانياً: إن هذا السؤال يجب أن يطرح بقوة في ميدان الفكر الغربي الذي يشهد تنظيراً متعدد الاتجاهات لـ حقوق الإنسان، ويحاول منظروه ومفكروه أن يؤكدوا أن العالم الغربي هو عالم حقوق الإنسان، فهل ما احتوته إعلانات حقوق الإنسان غربية المنشأ تجد صداها في الحياة الغربية، أم أن هناك صوراً كثيرة من التطبيقات الغربية تعبر عن عمق الهوة بين النظرية والتطبيق؟!
في كل الأحوال يجب أن نعترف بأن التاريخ الإسلامي قد شهد نماذج مشرقة في احترام حقوق الإنسان، وشهد في ذات الوقت نماذج سيئة لا تعبر عن الإسلام ولا تقترب منه، فمن الأول نذكر مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم الشهيرة لأبي ذر حين عير بلالاً بأمه؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنك امرؤ فيك جاهلية)) . ونذكر الوثيقة الحقوقية الكبرى التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت بالصحيفة أو دستور المدينة، ونذكر وصايا الخليفة أبي بكر الصديق إلى أمراء الجيوش، ونذكر الصور التي رسمتها عدالة العمرين، كما نذكر حق التعبير وحرية الرأي في تخطئة امرأة لرأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقبوله لذلك والانصياع له، ونذكر قولته الشهيرة رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ "
…
إلخ، ذلك من صور السلوك الإسلامي الحقيقي الذي سطره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين كانوا قرآناً يمشي على الأرض.
وفي الوقت الذي نفتخر فيه بهذه الصور العظيمة التي تظهر حقيقة الإسلام في احترام الإنسان وأحقيته في التمتع بحقوقه، فإننا لا نستطيع أن ننكر صوراً تاريخية كانت غاية في انتهاك حقوق الإنسان، منها على سبيل المثال اغتصاب حقوق الإنسان السياسية في صور البيعة القسرية التي شهدتها بعض العصور، وانتهاك حقوق الإنسان الفكرية في عدد من الحوادث التي ألجمت بعض الأفواه عن أن تفكر وتعبر بحرية والتي منها خلافات الرأي حول مسألة خلق القرآن، وكذلك تغييب حقوق الإنسان في المجال الاجتماعي كما هو الحال في بعض التفسيرات المتعلقة بوظيفة المرأة في المجتمع الإسلامي.. إلخ، ذلك من الصور السلبية التي لا تعبر على الإطلاق عن حقيقة الإسلام ولا تقترب منه، يضاف إلى ذلك ما تعانيه دول العالم الإسلامي المعاصر من ترد لـ حقوق الإنسان في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية، مما جعل العالم الغربي يضع العالم الإسلامي مثلاً على انتهاكات حقوق الإنسان.
وأيًّا كان واقع الحياة في المجتمع الإسلامي الماضي والحاضر قريباً من التصور القرآني أو بعيداً عنه، فإن ذلك لا يغير من حقيقة هذا التصور ودعوته إلى أن يكون الإنسان هو محور الحياة وأن سائر المخلوقات الأخرى قد سخرت له ليعيش بكامل حقوقه ويؤدي جميع واجباته، هذا التصور الذي يجعل من مسألة حقوق الإنسان عطية من عند الله يجب على المؤمنين المحافظة عليها مرضاة لربهم، وهذا ما يوفر لها مصداقية وثباتاً أكثر من كونها عطية من سلطان أو حاكم أو هيئة، أو كونها عطية من إعلان أو ميثاق تصدره منظمات أو دول ثم تعدله متى شاءت وتتقاعس عن تطبيقه أحياناً.
* * *
حقوق الإنسان ومجمع الفقه الإسلامي
عودة إلى ما بدأت به هذه الورقة من أن الكتابات في موضوع حقوق الإنسان في الإسلام تفوق الحصر، وأن البحث في هذا الموضوع ما لم يكن متجهاً إلى معالجة إشكالية العجز الغربي عن فهم الفكر الإسلامي خاصة في هذه القضية فلن يؤدي هذا البحث إلى جديد، ومن هنا أتساءل عن خلفية أن يتضمن جدول أعمال مجمع الفقه الإسلامي في أكثر من دورة مسألة حقوق الإنسان في الإسلام، هل هو زيادة التأكيد على أن الإسلام كان له السبق في إقرار حقوق الإنسان وفرض احترامها، وهو الأمر الذي أعتقد أنه أخذ نصيباً وافراً من البرهنة العلمية في معظم الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، غير أن هذا في تصوري لا يقدم ولا يؤخر في مسألة تعاطي العالم الآخر - وخاصة الغربي - مع هذه القضية وتطبيقاتها المعاصرة في العالم الإسلامي على صعيديها النظري والعلمي.
أم أن المجمع أراد أن يوحي إلى الباحثين بأن هناك الكثير من القضايا المعاصرة ذات الصلة ب حقوق الإنسان تنتظر معالجاتهم الفقهية بروح جديدة ومنهجية معاصرة تلتزم بالثوابت: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني أعتقد أن هناك عدداً من القضايا المهمة في حياة المسلمين تهدد مسألة حقوق الإنسان في الإسلام وتفتح المجال أمام مزيد من الانتقادات الغربية والعالمية للعالم الإسلامي في هذا الميدان، كما أنها تؤدي بالطبع إلى مزيد من العراقيل أمام تقديم الإسلام إلى العالم ووضعه في الصورة الصحيحة التي تؤدي إلى احترامه عالميًّا وزيادة الإقبال عليه ديناً عالميًّا صالحاً لحل كل مشكلات الحياة المعاصرة والمستقبلية، كما صلح لحل مشكلات الماضي وصنع حضارة لا زالت تضع بصماتها القوية على جدار الحضارة الإنسانية.
في مقدمة هذه القضايا تأتي مسألة تعامل المسلمين مع المرأة من منطلق شرعي: حريتها في مقابل حرية الرجل - وضعيتها ووظيفتها في الحياة المعاصرة - ميراثها.. إلخ. ففي هذه القضية نتفق جميعاً أننا لسنا نواجه إشكالية النص وإنما نواجه إشكالية الفهم ومن ثم التطبيق، فإذا كنا نبيح للمرأة أن تقود الدولة بكاملها في بلد إسلامي ونمنعها أن تشارك في أي سلم سياسي في بلد آخر، وإذا كنا نبيح للمرأة أن تتقلب في الوظائف الإدارية في بلد ونمنعها من ممارسة بعض المهام في بلد آخر، وهكذا في اللباس وحرية الرأي والتعبير.. إلخ، إذا كنا كذلك داخل عالمنا الإسلامي فكيف يمكن أن نقنع العالم الآخر بسبق الإسلام في قضية حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق المرأة.
ونمر أيضاً على ذكر حق الإنسان في حرية التدين وعلاقة ذلك بحد الردة وأحكامه في الشريعة الإسلامية، هل نستطيع أن نعالج الموضوع بخطاب شرعي قوي يضع الحد في إطاره الحقيقي ويبعده عن سطحية بعض المفكرين الذين أدت كتاباتهم إلى أن يقف هذا الحد في مواجهة صريحة مع آيات حرية العقيدة في القرآن.
لا أريد الاسترسال في ذكر هذه القضايا التي تتخذ وسيلة للهجوم على الإسلام والمسلمين وتعطي لأعداء الإسلام مبرراً للقول بانتهاكه لـ حقوق الإنسان، وإنما أريد أن أشير إلى أن مجمع الفقه الإسلامي بإمكانه أن يقوم بدور كبير وضروري في هذا المجال، وذلك بالتركيز على مثل هذه القضايا لإظهار مستهدفات الشريعة ومقاصدها في معالجة هذه المسائل، وكذلك تحريرها من الكثير من الخلافات التي لا طائل من ورائها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على فهم دينه وأن يمكننا من تقديمه إلى هذا العالم المضطرب بصورة يقتنع فيها العالم بأن الإسلام هو الأصلح لحل جميع مشكلاته الحياتية.
والله الموافق والهادي إلى سواء السبيل.
* * *
المراجع
1-
حقوق الإنسان، د. أحمد ظاهر.
2-
حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، د. فيصل شطناوي.
3-
حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، د. فيصل شطناوي.
4-
الحق قديم.. وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية، د. غانم جواد.
5-
حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، حسن الباش.
6-
حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، محمد الغزالي.
7-
حقوق الإنسان في الإسلام، د. محمد الزحيلي.
8-
حقوق الإنسان في الإسلام، د. علي عبد الواحد وافي.
9-
الإسلام وحقوق الإنسان، د. القطب محمد القطب طبلبة.
10-
حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام الترمانيني.
11-
الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود، د. مراد هوفمان.
* * *