المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدة

إعداد

الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

الخبير بالموسوعة الفقهية

بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.

وبعد:

المشاركة المتناقصة: يمكن تحديد معالمها أو تعريفها بأنها:

عقد شركة بين طرفين في عين معينة (كعقار أو مصنع أو طائرة أو سفينة) يتفق الطرفان فيه على أن تؤول ملكية العين لأحد الطرفين في نهاية مدة معينة يبيع أحدهما للآخر جزءا محددا من نصيبه فيها، كالخمس مثلا خلال مدة خمس سنوات مثلا، لتصبح العين ملكا للمشتري جميعها في نهاية المدة، وعلى أن يؤجره ما يملكه فيها سنة فسنة خلال هذه المدة التي تتناقص فيها ملكيته، أو على أن يؤجراه لأجنبي عن العقد، ويقتسما الأجرة بنسبة ما يملكه، كل منهما في هذه العين من أسهم.

وينبثق عن هذا التصور عدة صور، لأنها إما أن تتم بصيغة تعاقد، بأن تجتمع عدة عقود في عقد بحيث تكون كلها منجَّزة، أو يكون بعضها حالا، وبعضها مضافا إلى أجل، أو تتم بصيغة تعاقد بات في البيع لبعض العين، وإجارة الباقي لمدة محددة، مع وعد من البائع (المؤجر) ببيع جزء ثان من العين بعد انتهاء مدة الإجارة (وهي السنة مثلا) للمستأجر (المالك لجزء من العين) ، أو مع وعد من هذا المستأجر (المالك لجزء من العين) بشراء جزء آخر من العين، بثمن محدد، أو بسعر السوق

أو مع مواعدة من الطرفين بإجراء هذا البيع بينهما بعد انتهاء السنة، ثم يتكرر هذا بتكرر الأجزاء الباقية من العين حتى يملك المستأجر في النهاية كل العين ذاتا ومنفعة.

أما الصورة الأولى: وهي التي تجتمع فيها عدة عقود منجزة في عقد واحد، والتي يمكن أن تكون صورتها:

بعتك ثلث نصيبي في هذه العين بثمن هو كذا معلوم ومحدد، وأجَّرْتُك ثلثيه بأجرة هي كذا (معلومة ومحددة) لمدة سنة تنتهي في 30/ 12/ 1422 هـ، وبعتك في نهاية هذه المدة المذكورة ثلثه بثمن هو كذا معلوم ومحدد، وأجرتك الثلث الباقي بأجرة هي كذا (معلومة ومحددة) ، لمدة سنة تنتهي في 30/ 12/ 1423 هـ، وبعتك بنهاية هذه المدة المذكورة الثلث الباقي والأخير من نصيبي في هذه العين بثمن هو كذا (معلوم، ومحدد) ، وعند انتهاء هذه المدة وتمام هذه العقود تكون العين كلها ملكا للشريك (المستأجر) ذاتا ومنفعة.

من خلال هذه الصورة يلزمنا أن نبرز الأمور التالية:

أولا: حقيقة عقد الشركة المبرم بين الشريكين، ونخص هنا بالبحث شركة الملك.

ثانيا: حكم اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في صيغة واحدة.

ثالثا: حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل.

رابعا: حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل.

خامسا: آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما أو غير ملزم.

سادسا: الحكم الشرعي للعقود المتصورة لصيغ المشاركة المتناقصة.

ص: 875

حقيقة هذا النوع من الشركة

حسب هذا التصور الذي أوردته فيما تقدم تكون هذه الشركة شركة ملك، وليست شركة عقد، لأن موضوع الشركة هنا عين معينة كعقار أو مصنع أو طائرة أو سفينة أو غيرها.

وشركة الملك هي:

أن يختص اثنان فصاعدا بشيء واحد، أو ما هو في حكمه، مثال الشيء الواحد: الدار الواحدة أو الأرض الواحدة أو ما شابه ذلك، تثبت فيها شركة الملك بين اثنين إذا اشترياها، أو ورثاها أو انتقلت إليهما بأي سبب آخر من أسباب الملك كالوصية والهبة والصدقة.

ومثال الذي في حكم الشيء الواحد: المتعدد المختلط، بحيث يتعذر أو يتعسر تفريقه لتتميز أنصبائه كأن يكون لكل واحد إردب من القمح أو لأحدهما إردب من القمح وللآخر إردب من الشعير، أو الكيسان من الدنانير ذات السكة الواحدة فيختلطان معا طواعية أو اضطرارا، كأن انفتق الكيسان المتجاوران، فتثبت في هذا المخلوط شركة ملك لكل واحد منهما بقدر ما لكل واحد منهما في هذا المخلوط من المقدار الذي يملكه قبل حدوث هذا الاختلاط.

فشركة الأملاك نوعان: نوع يثبت بفعل الشريكين، ونوع يثبت بغير فعلهما.

أما الذي يثبت بفعلهما فنحو أن يشتريا شيئا معا، أو أن يوهب لهما، أو يُوصَّ لهما، أو يتصدق به عليهما فيقبلان، فيصير المشترى والموهوب والموصى به، والمتصدق به، مشتركا بينهما شركة ملك.

وأما الذي ثبت بغير فعلهما فكالميراث، بأن ورثا شيئا، فيكون الموروث مشتركا بينهما شركة ملك.

وأما حكم شركة الأملاك، فحكمها في النوعين واحد، وهو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، لا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، لأن المطلق للتصرف هو الملك أو الولاية، وليس لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية بالوكالة أو القرابة، ولم يوجد شيء من ذلك، وسواء كانت الشركة في العين أو الدين، لما قلنا (1) .

ولكي نبين حكم كل نوع من أنواع الشركة المتناقصة موضوع البحث نوضح القواعد العامة التي يمكن على ضوئها أن نبين ما يصح من الصور المثارة حول هذا الموضوع وما لا يصح.

(1)(البدائع: 6/ 56)

ص: 876

القواعد العامة التي ترتبط بموضوع المشاركة المتناقصة

يلزمنا أن نبين فما يلي آراء الفقهاء في حكم اجتماع أكثر من عقد في اتفاق واحد، ثم في حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، ثم حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل، ثم آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما أو غير ملزم.

أ- حكم اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في صيغة واحدة:

عقد البيع وعقد الإجارة كلاهما من العقود اللازمة، واجتماع العقود اللازمة إذا كانت واردة على محل صالح للتعاقد، تارة تكون متفقة الأحكام، وتارة تكون مختلفة الأحكام.

فإن كانت العقود اللازمة متفقة الأحكام كان اجتماعها صحيحا، كالبيع والبيع إذا كانت واردة على محال متعددة صالحة للتعاقد عليها، ويصح أن تكون واردة على محل واحد، طالما أن هذا المحل يقبل ورود العقدين عليه في نفس وقت الانعقاد- أي في مجلس العقد- وسواء كانت بعوض واحد، أم بأعواض متميزة، وسواء كانت لشخص واحد، أم لأكثر من شخص (1) .

وأما إن كانت مختلفة الأحكام كالبيع والإجارة، فإن اجتماعها يكون صحيحا أيضا عند بعض الفقهاء إذا استوفى كل عقد أركانه وشرائطه الشرعية، ويستثنى من ذلك ما إذا احتوت صيغة العقد على بيع وقرض، فإنه لا يصح، لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:((نهى عن بيع وسلف)) (2) .

(1)(يراجع لنا بحث: (اجتماع العقود المتفقة أو المختلفة الأحكام في عقد واحد) المقدم إلى الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، المنعقدة في 13 من رجب ستة 1419 هـ الموافق 2 من نوفمبر ستة 1998 م)

(2)

(روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة، والحاكم..، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. راجع: سبل السلام: 3/ 16؛ ونيل الأوطار: 5/ 179؛ ونظرية الشرط للمؤلف، ص 527- 548)

ص: 877

وقد قال بصحة اجتماعها المالكية والحنابلة (وهو المذهب) ، وقد علل المالكية جواز اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة والكراء بعدم التنافي بين العقدين، لأن الإجارة تماثل البيع في الأحكام والشروط، ولا تضاده (1) .

ولقد كان من بين القرارات الصادرة عن الندوة الفقهية الخامسة التي نظمها بيت التمويل الكويتي القرار التالي:

(يجوز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام، طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة، أم منهما معا، وذلك بشرط إلا يكون الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع، وألا يترتب على اجتماعها توسل إلى ما هو محرم شرعا)(2) .

(ومن ثم يجوز شرعا اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في اتفاق واحد إذا استوفى كل عقد أركانه وشرائطه الشرعية.

(1)(الفروق للقرافي: 3/142، الفرق 156)

(2)

(الندوة الفقهية الخامسة التي نظمها بيت التمويل الكويتي في الفترة من 13- 15 رجب سنة 1419 هـ (الموافق 2- 5 نوفمبر سنة 1998 م) وقد أسهمتُ في هذا الموضوع بأن قدمت بحثا في الندوة الفقهية الثالثة، وكان هو البحث الوحيد المقدم، وانتهيت إلى هذه النتيجة، ثم أعيد بحث الموضوع بصيغة أخرى، وقدمت فيه بحثا آخر، وذلك في الندوة الخامسة المذكورة، وانتهيت فيه إلى مثل النتيجة الأولى، واشترك معي بعض الأساتذة الباحثين في تقديم بحوث في نفس الموضوع، وانتهينا إلى نفس تلك النتيجة، والتي صيغ القرار على مقتضاها)

ص: 878

ب- حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن محدد مستقبل:

العقد المضاف في الفقه الإسلامي هو: العقد الذي صدر بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل، سواء أكانت مطلقة أم مقترنة بشرط، ومثاله في حال الإطلاق أن يقول شخص لآخر: آجرتك داري هذه مدة سنة بكذا ابتداء من أول السنة المقبلة، ويقبل الآخر، ومثاله في حال الاقتران بالشرط: أن يقول له: آجرتك داري هذه مدة سنة بكذا، ابتداء من أول السنة المقبلة، بشرط أن تدفع لي أجرتها كاملة عند ابتداء هذه السنة، فيقول الآخر: قبلت.

*وهذا العقد ينعقد علة لحكمه في الحال، ولكن لا يترتب عليه حكمه إلا عند مجيء الوقت الذي أضيف إليه، فلا يبتدئ عقد الإجارة إلا عد ابتداء السنة المقبلة التي حددت في العقد (1) .

) وعقد الإجارة من العقود التي يصح إضافتها إلى زمن مستقبل، سواء أكانت الإجارة واردة على منفعة عين معينة بالذات أم واردة على منفعة موصوفة مع التزامها في الذمة، مثال الأولى: أن يقول: آجرتك هذه السيارة مدة كذا بكذا من وقت كذا، ومثال الثانية: أن يستأجر سيارة موصوفة بصفات معينة يتفق عليها المتعاقدان، أو يقول: ألزمت ذمتك حمل كذا إلى مكة مثلا غرة شهر كذا بكذا ويقبل الآخر.

(فأما إذا كانت الإجارة واردة على منفعة في الذمة فباتفاق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يجوز إضافتها إلى زمن مسقبل قياسا على (السلم) إذ السلم بيع موصوف في الذمة ببدل عاجل (2) . فالمبيع في السلم (وهو المسلف فيه) عين موصوفة في الذمة، وهي مؤجلة، وهنا المؤجر منفعة موصوفة في الذمة وهي مؤجلة أيضا فتصح قياسا عليه.

(1)(نظرية الشرط في العقد، للمؤلف)

(2)

(فقد عرف الحنفية السلم بأنه: (اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلا وفي المثمن آجلا) ، وسمي بالسلم مع أنه بيع لما فيه من وجوب تقديم الثمن، فاختص باسم كالصرف، ولا بد من تأجيل المثمن عندهم إلى شهر ونحوه، وقال الطحاوي: أقله ثلاثة أيام، اعتبارا بمدة الخيار، وروي عنهم لو شرط نصف يوم جاز، لأن أدنى مدة الخيار لا تتقدر، فكذلك السلم. (الاختيار: 2/ 33- 35) . وعرفه المالكية بأنه بيع شيء موصوف (من طعام أو عرض أو حيوان أو غير ذلك مما يوصف، وخرج المعين فبيعه ليس بسلم) مؤجل في الذمة بغير جنسه، ومن شروط صحته حلول رأس المال فيه، فلا يصح الدخول فيه على التأجيل، وجاز تأخيره بعد العقد ثلاثا من الأيام، ولو كان التأخير بشرط عند العقد وأن يؤجل المسلم فيه بأجل معلوم. الشرح الصغير للصاوي: 3/ 261، ط. دار المعارف. وعرفه الشافعية بأنه:(بيع شيء موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا) فلم يقيدوا المسلم فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلا، لجواز السلم الحال عندهم، خلافا للحنفية والمالكية والحنابلة (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: 5/2؛ وروضة الطالبين: 3/242، ط. (دار الكتب العلمية) . وعرفه الحنابلة بأنه:(عقد على شيء يصح بيعه، موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد) ، الروض المربع، ص186)

ص: 879

(فأما إذا كانت الإجارة واردة على عين معينة بالذات فإنه يجوز إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل عند الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في إجارة الذمة، وكذا إجارة العين إذا أجرها لمستحق منفعتها آخر المدة الأولى قبل انقضائها.

فقد نص الحنفية على أنه (تصح الإجارة مضافة إلى الزمان المستقبل؛ لأن الإجارة تتضمن تمليك المنافع، والمنافع لا يتصور وجودها في الحال، فتكون مضافة ضرورة، ولهذا قال الحنفية: إن الإجارة تنعقد ساعة فساعة على حسب وجود المنفعة وحدوثها، وهذا هو معنى الإضافة.

وقالوا في إيضاح ذلك: إن القياس عدم جواز الإجارة لكون المنافع معدومة، لكن استُحسن جوازها (أي بالنصوص الواردة بصحتها من الكتاب والسنة) وصار العقد مضافا إلى حدوث المنافع، فينعقد العقد في كل جزء من المنفعة على حسب حدوثها شيئا فشيئا، ولذا قالوا: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة

فإذا ثبت أن الإجارة في حكم عقود متفرقة لانعقادها ساعة فساعة، وهي بهذا المعنى مضافة، فلا خفاء حينئذ في جواز إضافتها إلى الزمان المستقبل (1) .

(وقد فرق الحنفية بين صورتين من صور الإضافة إلى الزمان المستقبل:

الصورة الأولى: إضافة العقد إلى الزمان المستقبل، كأن يقول: آجرتك هذه الدار غدا شهرا بكذا، أو يقول وهو في يوم السبت مثلا: آجرتك هذه الأرض يوم الجمعة سنة بعشرة، أو قال وهو في رجب، أو في ربيع الأول: آجرتك دابتي هذه رأس شعبان شهرا بكذا، ونحو ذلك.

(1)(الفتاوى الهندية: 4/ 410، ط. بولاق، تبيين الحقائق: 5/ 148)

ص: 880

وقد اختلف مشايخ الحنفية في هذه الإجارة، فاختار الشيخ ظهير الدين أن الإجارة المضافة لا تجوز. وقال صاحب المحيط: إضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة. وقال في الفصول: المختار أنها جائزة، وكذا قال صدر الإسلام، ونص على الجواز فقط في الفتاوى الهندية حيث قال:(إذا أضاف الإجارة إلى وقت في المستقبل بأن قال: آجرتك داري هذه غدا، أو ما أشبهه فإنه جائز) .

* (قال في الذخيرة وفي الفتاوى الهندية: فلو أراد نقضها قبل مجيء الوقت، فعن محمد فيه روايتان:

في رواية: لا يصح النقض.

وفي رواية: يصح النقض، وجه هذه الرواية أنه لم يثبت للمستأجر حق في هذا العقد، لأنه غير منعقد أصلا، ولهذا لا يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة.

*ووجه الرواية الأولى القائلة بأنه لا يصح النقض أن العقد انعقد فيما بين المتعاقدين، وإن لم ينعقد في حق الحكم، فالآجر بالنقض يريد إبطال العقد المنعقد حقا للمستأجر، فلا يقدر على ذلك، وعلى هذه الرواية يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة) .

(وإذا باع المؤجر العين المؤجرة في الإجارة المضافة قبل مجيء ذلك الوقت، ذكر شمس الأئمة الحلواني أن فيه روايتين في المذهب: في رواية: لا ينفذ البيع، ولا تبطل الإجارة المضافة.

وفي رواية: ينفذ البيع وتبطل الإجارة، وبه أفتى شيخ الإسلام.

ص: 881

وفي فتاوى قاضي خان، والفتوى على أنه ينفذ البيع وتبطل الإجارة المضافة، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، وشرح الوقاية للشيخ قاسم رحمه الله (1) . ولعله اعتمد في هذا الرأي على أن الإجارة تنعقد شيئا فشيئا حسب تجدد المنفعة، فعقد الإجارة في حكم العقود المتجددة، كما سبق أن أوضحنا.

الصورة الثانية: ما نُصَّ عليه في فتاوى أبي الليث من أنه إذا قال لغيره: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك هذه الدار، أو إذا جاء الغد فقد آجرتك هذه الدار يجوز، وإن كان فيه تعليق- كذا في المحيط- وبه يفتى، كذا في القُنْيَةِ..، والحر إذا قال: بعت نفسي شهرا بكذا لعمل كذا فهو إجارة صحيحة، كذا في الظهيرية، وهكذا في الخلاصة.

ومن هذا يتبين لنا جواز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل محدد عند الحنفية، سواء أضيف عقد الإجارة إلى زمن مستقبل مثل: آجرتك سنة كذا بكذا، أم كانت في صوره تعليق مثل: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك، وبه يفتى عند الحنفية.

(1)(تبيين الحقائق وحاشيته: 5/ 148)

ص: 882

وقد تعرض الحنفية لمسألتين هامتين:

المسألة الأولى: هي حكم نقض الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل قبل مجيء الزمن المضافة إليه؟ وقد اختلفوا في ذلك، والأصح عند شمس الأئمة السرخسي أن الإجارة المضافة لازمة قبل وقتها، أي أنها تنعقد لازمة بمجرد صدور الصيغة مستوفية لأركانها وشروطها.

كما بينوا حكم لزوم عقد الإجارة أثناء المدة السابقة على مدة الإجارة المتفق عليها فقالوا:

(إذا أضاف الإجارة إلى وقت في المستقبل بأن قال: آجرتك داري هذه غدا أو أشبهه فإنه جائز، فلو أراد نقضها قبل مجيء ذلك الوقت؛ فعن محمد - رحمه الله تعالى- روايتان:

في رواية: لا يصح النقض (أي لأنها لازمة)، وفي رواية قال: يصح النقض، وهذا يدل على أنها غير لازمة، كذا في المحيط.

ثم قال: (رجل قال لغيره: آجرتك دابتي هذه غدا بدرهم، ثم آجرها اليوم من غيره إلى ثلاثة أيام، فجاء الغد، وأراد المستأجر الأول أن يفسخ الإجارة الثانية، في حكمها روايتان عن أصحابنا:

في رواية: للأول أن يفسخ الإجارة الثانية (أي لأنها صدرت لازمة)، وبه أخذ نصير. وفي رواية: ليس له أن يفسخ (أي لأنها غير لازمة) وبه أخذ الفقيه أبو جعفر، والفقيه أبو الليث، وشمس الأئمة الحلواني، وهو قول عيسى بن أبان وعليه الفتوى.

* وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى: الأصح عندي أن الإجارة المضافة لازمة قبل وقتها، فلا تظهر الثانية في حق المستأجر الأول، هذا إذا كانت الأولى مضافة إلى الغد، ثم آجر إلى غيره إجارة ناجزة.

(أما لو كانت الإجارة مضافة إلى الغد ثم باع من غيره، ذكر في المنتقى فيه روايتان:

في رواية قال: ليس للآجر أن يبيع قبل مجيء الوقت، وفي رواية قال: إذا باع أو وهب قبل مجيء الوقت جاز ما صنع، وعليه الفتوى على أنه ينفذ البيع وتبطل الإجارة المضافة) وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، ثم إذا نفذ بيعه، فإن رد عليه بعيب بقضاء أو رجع في الهبة قبل مجيء وقت الإجارة عادت الإجارة على حالها، وإن عادت بملك مستقبل لا تعود الإجارة، كذا في فتاوى قاضي خان) .

ص: 883

*ومما نقلناه عن الحنفية يتضح لنا ما يأتي:

أولا: جواز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، سواء صدرت الصيغة مضافة، أو كانت في صورة تعليق، مثل أن يقول: آجرتك هذه أول الشهر بكذا، أو يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك هذه بكذا.

ثانيا: إذا صدر عقد الإجارة مضافا إلى زمن مستقبل فقد اختلف الحنفية في لزوم العقد أثناء الفترة السابقة على بداية عقد الإجارة، فعن محمد روايتان:

الرواية الأولى: أن عقد الإجارة المضاف يكون لازما، ولا يصح له أن ينقض هذه الإجارة في خلال هذه المدة.

الرواية الثانية: أنه لا يكون لازما خلال هذه المدة، وله حينئذ أن ينقضها.

(وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى- أن الأصح عنده أن الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل لازمة قبل مجيء وقتها، فلو أجرها إجارة ناجزة بعد الإجارة المضافة، فإن الإجارة الناجزة لا تظهر في حق الإجارة المضافة.

ثم أوردوا خلافا آخر فيما إذا باع المؤجر العين التي أجرها إجارة مضافة إلى زمن مستقبل، فقد ذكر في المنتقى أن فيه روايتين في صحة بيعه:

الأولى: ليس للآجر أن يبيع قبل مجيء الوقت.

ص: 884

والثانية: أنه يجوز له أن يييع أو يهب قبل مجيء الوقت- وعليه الفتوى- وينفذ البيع وتبطل الإجارة، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني.

*وأرى رجحان القول بلزوم عقد الإجارة إذا كان مضافا إلى زمن مستقبل في كلتا الصورتين، وذلك لأن القول بعدم لزوم العقد، مع أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يترتب عليه الخروج عن حكم عقد الإجارة، وهو أنه عقد لازم، وأيضا فإن القول بعدم لزومه يترتب عليه ضرر كبير بالمستأجر، ويضيع عليه فرصة الحصول على هذه المنفعة في هذا الوقت المحدد لعقد الإجارة، وذلك يضر بمصالحه ضررا بليغا، فضلا عن أنه يخالف عموم ما قضى به الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)) (1) .

المسألة الثانية عند الحنفية: أن إضافة فسخ الإجارة إلى زمن مستقبل صحيحة.

جاء في نفس المرجع: (وقال شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى-: قال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى: إضافة الفسخ إلى مجيء الشهر، وغير ذلك من الأوقات صحيح، وتعليق الفسخ بمجيء الشهر، وغير ذلك لا يصح. والفتوى على قوله كذا في فتاوى قاضي خان) .

*وهنا يفرق المذهب في الحكم بين صيغتين من صيغ الفسخ:

الأولى: إذا قال: آجرتك هذه الدار، وفسختها أول شهر كذا المقبل، فإنه يصح.

الثانية: إذا قال: إذا جاء أول شهر كذا فقد فسخت الإجارة، فهذه الصورة لا يصح فيها تعليق الفسخ.

ونص المالكية على أن: (من أجر حيوانا أو غيره مدة معلومة كشهر أو سنة، يجوز له أن يؤاجره قبل انقضائها مدة تلي مدة الإجارة الأولى للمستأجر الأول، أو لغيره، ما لم يَجْرِ عرف بعدم إيجارها إلا للأول، كـ الأحكار في مصر، وإلا عمل بالعرف، لأن العرف كالشرط)(2) .

(1)(رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود)

(2)

(حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 10؛ الشرح الصغير: 4/ 23؛ والخرشي: 7/ 10؛ ومواهب الجليل للحطاب: 5/ 406)

ص: 885

ويؤخذ من هذا النص أن المالكية يجيزون أن يؤجر المالك العين المؤجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، إلى مدة أخرى تلي المدة الأولى للمستأجر أو لغيره. فإذا أضاف عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، مثل: أجَّرْتُك هذه الدار، المؤجرة حتى نهاية سنة 1422 هـ- لسنة 1423 هـ بكذا، كانت الإجارة صحيحة، سواء أجرها للمستأجر الأول الذي تنتهي إجارته بنهاية العام 1422هـ، أم أجرها لغيره، كل ذلك صحيح عند المالكية.

أما الشافعية فقد فرقوا في حكم إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل بين إجارة الذمة وإجارة العين:

فأما إجارة الذمة: فإنه يجوز تأجيل المنفعة في إجارة الذمة، مثل: ألزمت ذمتك الحمل بكذا إلى مكة أول يوم في شهر كذا، كالسلم المؤجل.

وأما إجارة العين: فقد نصوا على أنه لا تجوز إجارة عين لمنفعة مستقبلة، مثل إجارة الدار السنة الآتية، إلا أنه لو أجر العين لمستحق منفعتها آخر السنة الأولى قبل انقضائها جاز في الأصح. وهذا كالمستثنى مما قبله؛ لاتصال المدتين. ومن هذا القبيل: إجارة الأرض قبل أوان الزرع، والإجارة للحج قبل الإحرام به، لكن في وقت خروج أهل بلده لا قبله، وتصح إجارة نحو جمال للحج؛ لأن شغله ليس مانعا من أعمال الحج.

* ومنه كراء (العقب) أي النوب في الأصح، وهو أن يؤجر دابةَ رجل ليركبها بعض الطريق المحدد، والمؤجر يركبها البعض الآخر على التناوب، والبعض هنا يلزم أن يقدر بزمن تحتمله الدابة بلا مشقة.

أو يؤجرها رجلين ليركب هذا أياما، وذا أياما على التناوب، ويبين البعضين في الصورتين.

ويؤخذ مما قاله الشافعية هنا أنه يجوز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل في إجارة الذمة قياسا على السلم، وكذا يجوز إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل في إجارة العين إذا كانت الإجارة صادرة للمستأجر الأول قبل انقضاء مدة الإجارة الأولى، وذلك لاتصال المدتين، أما إذا كانت صادرة لغير المستأجر الأول فإنها لا تجوز.

ص: 886

وموضوعنا هنا هو إجارة العين في الزمن المستقبل عقب انتهاء مدة الإجارة الأولى، وإن كان المؤجر قد أجره جزءا من العين؛ لأن الباقي من العين المشتركة بينهما ملكه بطريق البيع، أو بأصل عقد الشركة.

وأجاز الحنابلة إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، سواء أكان يلي عقد الإجارة الأول، أم لم يكن، غير أنه يشترط بيان ابتداء المدة وانتهائها.

فقد نصوا على أنه: (لا يشترط أن تلي مدة الإجارة العقد، فلو أجره سنة خمس في سنة أربع صح العقد؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها؛ فجاز العقد عليها مفردة كالتي تلي العقد، سواء كانت العين المؤجرة مشغولة وقت العقد بإجارة أو رهن، أو غيرهما، إذا أمكن التسليم عند وجوبه، أو لم تكن مشغولة، لأنه إنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوبه، كـ السلم لا يشترط وجود القدرة عليه حال العقد. فلا تصح إجارة أرض مشغولة بغراس أو بناء للغير وغيرهما، إلا أن يأذن مالك الغراس أو البناء، فينبغي القول بالصحة، وإذا كان الشاغل لا يدوم، كالزرع ونحوه، أو كان الشغل بما يمكن فصله عنه كبيت فيه متاع.. جازت إجارته لغيره وجها واحدا

*وإن علق الإجارة بشهر مفرد، كرجب، فلا بد أن يبين من أي سنة، وإن علقها بيوم فلا بد من أن يعينه من أي أسبوع دفعا للإبهام.

وإذا أجره في أثناء الشهر مدة لا تلي العقد، فلا بد من ذكر ابتدائها كانتهائها؛ ليحصل العلم بها، وإن كانت المدة تلي العقد لم يحتج إلى ذكر الابتداء، ويكون ابتداؤها من حين العقد. وكذا إن أطلق فقال: أجرتك شهرا أو سنة أو نحوهما، كأسبوع، فيصح، ويكون ابتداؤها من حين العقد لقصة شعيب عليه السلام، وكمدة السلم. اختاره في المغني، ونصره في الشرح، والمذهب لا يصح، نص عليه، لأنه مطلق فافتقر إلى التعيين) .

ص: 887

ونص الحنابلة على صحة كراء العقبة:

قال ابن قدامة: قال أصحابنا: يصح كراء العقبة، وهو مذهب الشافعي، ومعناها: الركوب في بعض الطريق، يركب شيئا ويمشي شيئا، لأنه إذا أجاز اكتراؤها في الجميع، جاز اكتراؤها في البعض. ولا بد من كونها معلومة، إما أن يقدرها بفراسخ معلومة، وإما بالزمان، مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارًا ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول. وإن أتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما، جاز. فإن أكترى عقبة، وأطلق، احتمل أن يجوز، ويحمل على العرف ويحتمل ألا يصح؛ لأن ذلك يختلف، وليس له ضابط فيكون مجهولا. وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام، ويمشي ثلاثة أيام، أو ما زاد ونقص، جاز. وإن اختلفا، لم يجبر الممتنع منهما؛ لأن فيه ضررا على كل واحد منهما؛ الماشي لدوام المشي عليه، وعلى الجمل لدوام الركوب عليه، ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير وإن اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة، جاز، ويكون كراؤهما طول الطريق، والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه. وإن تشاحا، قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة، أو لأحدهما الليل وللآخر النهار. وإن كان لذلك عرف، رجع إليه. وإن اختلفا في البادئ منهما، أقرع بينهما. ويحتمل ألا يصح كراؤهما، إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما؛ لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما، فلم يصح. كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما (1) .

(1)(المغني: 8/ 96-97، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح الحلو)

ص: 888

الخلاصة:

مما تقدم يتبين لنا ما يلي:

أ- أن الفقهاء قدا أجازوا إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، كما صرح بذلك الحنفية والمالكية، والشافعية (بالضوابط التي سبق بيانها) والحنابلة، سواء أكانت الإجارة إجارة ذمة أم إجارة عين

طالما حددت المدة وحددت الأجرة، وأمكن تسليمها عند بداية مدة عقد الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل، قياسا على السلم- كما صرح الشافعية والحنابلة- فإنه يشترط فيه القدرة على تسليم المسلم فيه وقت حلوله لوجوب تسليمه حينئذ، ولا يشترط وجود القدرة عليه حين العقد.

ب- إذا صح إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، فإنه يصح أن تتوالى عقود الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل على هذه العين- كلا أو بعضا- طالما استوفى كل عقد من عقود الإجارة أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكان محل العقد مملوكا جميعه للمؤجر أم كان يملك البعض الذي يؤجره فقط، وسواء أجره لشريكه في هذه العين أم لغير شريكه، فيصح أن يؤجر الشريك المالك لثلثي العين المشتركة نصيبه لشريكه المالك لثلثها مدة سنة 1423 هـ بكذا مثلا، وأن يؤجره أيضا ثلث هذه العين مدة سنة 1424 هـ بكذا (وهي المدة التالية لمدة الإجارة الأولى) أي أنه يصح عقد عقود إجارة متلاحقة ومتوالية (مضافة إلى زمن مستقبل) على هذه العين المشتركة بينهما، ويمكن أن يتنامى ويتزايد مقدار المعقود عليه (محل عقد الإجارة) حسبما يملكه المستأجر (الشريك) من العين المشتركة بينهما، وبالمقابل يتناقص وينكمش المعقود عليه حسب تناقص وانكماش ما يملكه المؤجر (الشريك) من هذه العين المشتركة بينهما، إلى أن تصبح العين جميعها ملكا للشريك (المستأجر للأجزاء التي كان يملكها شريكه) في نهاية عقود الإجارة المعقودة بينهما، ذاتا ومنفعة.

هذا إذا كان الشريك هو المستأجر للعين، أما إذا كان المستأجر أجنبيا عن العقد، فإنه يمكن أيضا أن تعقد له عقود إجارة متتالية مضافة إلى زمن مستقبل أو عقد إجارة واحد، طبقا لما يتفقان عليه، ويكون العائد من الأجرة لكل منهما حسب ما يملكه من نصيب في هذه العين المشتركة بينهما.

ص: 889

أما بيع الشريك قدرا من نصيبه في كل عام فيأتي إيضاحه في حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل، أو الوعد به، أو بالشراء، أو بهما.

*ولا بد من أن يكون كل عقد من عقود الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل مستوفيا أركانه وشرائطه الشرعية وقت صدوره، سواء من حيث الصيغة، أو العاقدان، أو المعقود عليه (العين المؤجرة والأجرة) ، ومدة عقد الإجارة بداية ونهاية

جـ- حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل:

ذهب جمهور الفقهاء على عدم جواز إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل:

فقد نص الحنفية على أن (البيع، وإجازته، وفسخه، والقسمة، والشركة، والهبة، والنكاح، والرجعة، والصلح عن مال، وإبراء الدين) هذه الأشياء لا تجوز إضافتها إلى الزمان المستقبل، لأنها تمليك، وقد أمكن تنجيزها للحال، فلا حاجة إلى الإضافة، بخلاف الإجارة وما شاكلها، لأنه لا يمكن تمليكها للحال، لأن المنفعة تتجدد، ساعة فساعة، على حسب وجود المنفعة وحدوثها، ولهذا قالوا: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة- كما سبق أن أوضحناه في مذهب الحنفية في حكم إضافة الإجارة (1) .

إلا أنه قد جاء في الفتاوى البزازية أن الفقيه أبو الليث رحمه الله قال: (البيع إلى النيروز إذا كان البايع والمشتري يعلمان الوقت الذي فيه النيروز يجوز البيع) . ومعلوم أن النيروز هو عيد الربيع عند الفرس، وموعده في مارس من كل عام، فهل إذا باعه هذه السلعة عند قدوم هذا الزمن المعلوم يجوز البيع؟ . قال الفقيه أبو الليث: إن البيع جائز، فإذا جاز البيع إلى النيروز فإن حملنا ذلك على البيع لا على الثمن، فإن البيع المضاف إلى زمن مستقبل معلوم لكلا المتعاقدين كأول شهر كذا أو أول سنة كذا يكون بيعا صحيحا بناء على هذا الاحتمال، لأنه معلوم لكلا المتعاقدين، أما إن حملناه على تأجيل الثمن فإنه لا يفيدنا جديدا في هذا الصدد، لأن تأجيل الثمن جائز بالاتفاق.

(1)(تبيين الحقائق: 5/148؛والفتاوى الهندية4/396؛ الفتاوى البزازية في التعليق: 4/ 426)

ص: 890

وجاء في الفتاوى البزازية: (باع إلى الحصاد فسد، ولو باع وأجله إلى الحصاد جاز)(1) .

*أما المالكية فيقول القرافي: (ولا يصح تعليق البيع والإجارة بأن يقول: إن قدم زيد فقد بعتك، أو آجرتك؛ بسبب أن انتقال الأملاك يعتمد الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق، فإن شأن المعلق عليه أن يعترضه عدم الحصول) ثم قال: (وقد يكون معلوم الحصول، كقدوم الحاج، وحصاد الزرع، ولكن الاعتبار في ذلك بجنس الشرط، دون أنواعه وأفراده فلوحظ المعنى العام دون خصوصيات الأنواع والأفراد) ومثله تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية (2) .

ومن هذا النص عند المالكية يتبين لنا أنهم لا يجيزون تعليق عقد البيع على الشرط، لأن المعلق عليه يعترضه عدم الحصول، ثم قالوا: إن هذا الحكم نفسه يطبق على ما إذا كان معلوم الحصول كقدوم الحاج، وحصاد الزرع..، إذ قدوم الحاج معلوم الحصول، ومثله حصاد الزرع، ومع ذلك أعطوه نفس الحكم، ومنه يؤخذ أنه لو كان البيع مضافا إلى أجل، والأجل محقق الوقوع، فهل يقضي المذهب بنفس الحكم، أم أنه يجيزه نظرا لأن المضاف إليه وهو الزمن لا يعترضه عدم الحصول، من حيث ذاته، وسنة الله في كونه في توالي الأزمان، دون نظر إلى الأفراد.

(1)(الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية: 4/ 404)

(2)

(الفروق للقرافي، الفرق 45: 1/ 229؛ وتهذيب الفروق: 1 /229)

ص: 891

أما إذا نظرنا إلى الأفراد، فقد يبقى الشخص إلى هذا الزمن وقد ينتهي أجله؛ ومن هنا يعترضه عدم الحصول من حيث هذا المعنى، ومن ثم فلا تصح الإضافة.

*ونص الشافعية على أن إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل لا يصح، فلو قال: إن جاء الشهر فقد بعتك؛ لا يصح البيع، لأن نقل الملك يستدعي الجزم، ولا جزم مع التعليق (1) . وقالوا: ما كان تمليكا محضا لا مدخل للتعليق فيه قطعا، كالبيع، لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) (2) . ولا يتحقق طيب النفس عنده بشرط (3) .

إلا أنهم استثنوا من هذه القاعدة ما إذا كان البيع ضمنيا فإنه يصح إضافته إلى زمن مستقبل، ومثلوا له بما إذا قال:(أعتق عبدك عني على مئة إذا جاء رأس الشهر)(4) .

ويفهم من هذا الاستثناء: أن البيع الضمني يصح إضافته إلى زمن مستقبل، ففي هذه الصيغة صدر إيجاب- من الراغب في شراء هذا العبد، مضافا إلى زمن مستقبل- هو أول الشهر الذي يلي الشهر الذي نطق فيه بهذه الصيغة- ومحتويا على توكيل من المشتري للبائع بإعتاق هذا العبد عنه في موعد محدد هو أول الشهر، وقد حدد المشتري ثمن المبيع، وهو (مائة)(دينار أو درهم مثلا) ، ومعلوم أن العتق يقبل التعليق، إذ إعتاق العبد مضاف أيضا إلى أول الشهر، حيث إن أول الشهر أضيف إليه عقدان، البيع والعتق، أولهما لا يصح إضافته بمفرده، وثانيهما يصح إضافته بمفرده، ولكن لما اقترنا في هذه الصيغة، أعني (أعتق عبدك عني على مئة إذا جاء رأس الشهر) صح إضافة البيع الضمني إلى زمن مستقبل أيضا، وإنما كان ضمنيا لأن العتق هو إزالة لملك المعتق عن المعتق، ولا تأتى هذه الإزالة إلا إذا كان مملوكا له، ومن ثم اقتضت هذه الصيغة بيع العبد له، حتى يتأتى إعتاقه عنه فكأنه قال:(بعني عبدك هذا- أول الشهر بكذا، وأعتقه عني في هذا الوقت) فقالوا: في هذه الصورة يصح تعليق البيع الضمني.

وأما الحنابلة فلهم رأيان، رأي يمنع الإضافة (وهو الراجح) ورأي يجيز.

(1)(بعض الفقهاء لا يفرقون عند ذكر الأمثلة بين الإضافة والتعليق، نظرا لأن كلا منهما تستخدم فيه أدوات التعليق كإن، وإذا، إذ التعليق ما دخل على أصل الفعل فيه بأداته كإن، وإذا، والمعلق عليه إن كان محقق الوقوع يسمى إضافة، وإن كان محتمل الوقوع يسمى تعليقا)

(2)

(هذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي حرة الرقاشي عن عمه: 3 /26؛ والحاكم في المستدرك: 1/ 93 عن ابن عباس رضي الله عنهما

(3)

(المنثور في القواعد: 1 /374، 377)

(4)

(الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 377)

ص: 892

الرأي الأول: لا يصح إضافة البيع إلى زمن مستقبل ولا تعليقه:

جاء في الشرح الكبير عند بيانه لأنواع الشروط الفاسدة: الثالث: أن يشترط شرطا يعلق البيع كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي فلان، فلا يصح البيع، لأنه علق البيع على شرط مستقبل، فلم يصح كما إذا قال: بعتك إذا جاء رأس الشهر (1) . فقد قاس المذهب حكم تعليق العقد على شرط على حكم إضافة العقد إلى زمن مستقبل، قائلا: إن تعليق البيع لا يصح كما لا تصح إضافته. وقال البهوتي: (لأنه عقد معاوضة وهو يقتضي نقل الملك حال العقد، والشرط يمنعه) .

فالمذهب على الرأي الراجح يرى عدم جواز تعليق العقود التي يترتب عليها التمليك في الحال على شرط مستقبل..، وذلك لأنها وضعت لإفادة الملك في الحال، فإذا صدرت الصيغة معلقة على شرط (سواء أكان محقق الوقوع - كإذا جاء رأس الشهر بعتك - أم كان محتمل الوقوع - كإن جئتني بكذا بعتك) كانت هناك منافاة بين ما تقتضيه صيغة العقد من نقل الملك في الحال من المتصرف إلى المتصرف إليه، وبين ما يترتب على تعليقها من تعليق هذا الحكم على حدوث أمر في المستقبل، محتمل الوقوع، أو محقق الوقوع، فبعد أن كان الحكم وهو نقل الملك ناجزا أصبح غير ناجز، بل أصبح مترددا بين الوجود والعدم، فيكون غررا، والغرر منهي عنه، فيكون التعليق مفسدا لهذه التصرفات (2) .

(1)(الشرح الكبير: 4 /16؛ وكشاف القناع: 2/ 41، ط. م. النصر الحديثة، والروض المربع: 2/ 172)

(2)

(وجاء في الشرح الكبير: 4/ 68، ط. دار الكتب العلمية- بيروت؛ أنه لو قال: (بعتك على أن أستامر فلانا، أو حد ذلك بوقت معلوم، فهو خيار صحيح، وله الفسخ قبل أن يستأمره، لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وإن لم يضبطه بمدة معلومة فهو خيار مجهول، فيه من الخلاف ما ذكرنا) . ويراجع العقود لابن تيمية، ص 227؛ شرح منتهى الإرادات: 2/ 164، المتوفى سنة 1051 هـ بالقاهرة)

ص: 893

الرأي الثاني: وهو مقتضى رواية ثانية عن الإمام أحمد رضي الله عنه تنص على صحة تعليق البيع على شرط مستقبل.

جاء في كتاب الفروع: (لو قال: بعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد، فلا يصحان، وعنه صحة عقده، وحكي عنه صحتهما)(1) .

وعلى هذه الرواية القائلة بصحة تعليق العقد على شرط مع كون المعلق عليه محتمل الوقوع، تكون إضافة العقد إلى زمن مستقبل صحيحة بطريق الأولى؛ لأنه مضاف إلى أمر محقق الوقوع وهو الزمن المحدد المستقبل.

وجاء في كتاب العقود لابن تيمية (2) . (وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه، ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك، بل ذكر مَنْ ذكر من المتأخرين: أن هذا لا يجوز كما ذكر ذلك أصحاب الشافعي، واحتجت الطائفتان على ذلك بأن هذا غرر

ثم أخذ يفند أدلة المانعين) .

(1)(الفروع وتصحيحه: 2/ 484)

(2)

(العقود، ص 227؛ ويراجع لنا: نظرية الشرط في باب التعليق، ص 49- 156)

ص: 894

الخلاصة:

يتبين لنا مما تقدم أن الفقهاء قد اختلفوا في صحة إضافة البيع إلى زمن مستقبل، فيرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) أنه لا يصح إضافة عقد البيع إلى زمان مستقبل، للأدلة التي أوجزناها فيما تقدم.

ويرى بعض الفقهاء صحة إضافة عقد البيع إلى زمان مستقبل، وذكرنا بعض الصور التي قد يفهم منها جوازه، ومن ذلك ما قد يفهم مما قاله الفقيه الحنفي أبو الليث، ومن الصورة التي استثناها الشافعية، وما روي عن الإمام أحمد من القول بصحة تعليق العقد على شرط، وقد أيد ابن تيمية هذه الرواية، وقال- بعد ذكره للرواية المانعة من صحة التعليق-: إنه لم يجد عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك (أي بخلاف الرواية القائلة بالصحة) . ومعلوم لنا أنه إذا كان العقد المعلق على شرط صحيحا، بناء على هذه الرواية، والتعليق إنما يكون على أمر محتمل الوقوع، فإنه إذا أضيف العقد إلى أمر محقق الوقوع، وهو الزمن المستقبل، فإنه يكون صحيحا من باب أولى (1) .

(1)(المصباح المنير)

ص: 895

الوعد وأثره

تعريف الوعد والمواعدة لغة واصطلاحا:

الوعد لغة: يستعمل في الخير والشر، فيقال: وعدته خيرا، ووعدته شرا، والعِدة- بكسر العين- الوعد، وقالوا: في الخير وَعَدْتُهُ وَعْدًا، وعِدَةً، وفي الشر: وعده وعيدا، فالمصدر هو الفارق بينهما، والمواعدة في اللغة: هي مفاعلة من وعد، ولا تكون إلا بين اثنين (1) .

والوعد اصطلاحا: هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل. وقال ابن عرفة: العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل.

والمواعدة في الاصطلاح هي: إن يعد كل واحد منهما صاحبه بالعقد، فهي مفاعلة لا تكون إلا بين اثنين، فإن وعد أحدهما دون الآخر فهذه العدة (2) .

حكم الوعد:

لا خلاف بين الفقهاء في أن الوعد إذا كان وعدا بأمر منهي عنه شرعا، فإنه يحرم الوفاء به، كمن وعد بزنا، أو بشرب خمر، أو بقتل نفس بغير حق. ..، وإن كان الوعد بأمر واجب عليه شرعا فإنه يجب الوفاء به شرعا، وذلك كمن وعد بأداء حق ثابت عليه، أو أداء فعل لازم عليه فعله شرعا.

أما إذا كان وعدا بأمر مباح، أو أمر مندوب شرعا، فقد اختلف الفقهاء في حكم الوفاء به، ولهم في ذلك أربعة آراء:

(1)(عمدة القاري للعيني: 1/ 256؛ وتحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب، ص 153)

(2)

(مواهب الجليل للحطاب: 3/ 413)

ص: 896

الرأي الأول: يرى أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، ويستحب الوفاء به ديانة، وهو رأي الحنفية (إلا إذا كان الوعد معلقا على شرط) ، ورأي الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وجمهور من الصحابة والتابعين، وقد استدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها: أن الوعد تفضل وإحسان، وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] أي أنه يجوز الرجوع فيه، ولأن الوعد في معنى الهبة قبل القبض، والهبة قبل القبض يجوز الرجوع فيها، ولأن الفقهاء متفقون على أن الموعود بشيء لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، كما في حالة التفليس (1) .

(1)(قال ابن كثير: ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الوفاء بالوعد مطلقا، وحملوا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم..، أو كما عبر عن ذلك ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الآية] ) . وهذا اختيار ابن جرير الطبري

ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال: يقول الرجل: قاتلت، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت، ولم يصبر، وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: قتلنا ضربنا طعنا وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك

تفسير ابن كثير: 6/ 643، 644)

ص: 897

الرأي الثاني: يجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة، وتقي الدين السبكي، وهو وجه في مذهب الحنابلة اختاره تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية. صححه ابن الشاط.

وقال ابن العربي: (الصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر)(1) . وقال: (وإذا وعد، وهو ينوي أن يفي فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير كسب منه، أو من جهة فعل اقتضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وعد الرجل، ينوي أن يفي به، فلم يف، فلا جناح عليه)) (2) .

الرأي الثالث: أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا، فإذا لم يكن على سبب فلا يكون ملزما. وهو قول لـ مالك، وأصبغ من علماء المالكية (3) .

(1)(أحكام القرآن: 4/ 243)

(2)

(عارضة الأحوذي لابن العربي: 10/ 100- 101، ثم قال: وهو حديث غريب ضعيف)

(3)

(يراجع آراء المالكية في الالتزامات، للحطاب، ص 61- 164)

ص: 898

الرأي الرابع: أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء، وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون (وهذا هو المشهور في المذهب المالكي) .

ويقرب من هذا قول ابن نجيم من الحنفية (1) . أنه إذا وعده أن يأتيه، أي وكان في نيته أن يفي بما وعد، فلم يأته لا يأثم، أما إذا كان في نيته ألا يفي فهو حرام، ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا على شرط كما في كفالة البزازية وفي بيع الوفاء، وفي الفتاوى البزازية: أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة، ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (84)(2) . على أن (المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة، فلو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يُلزِم الواعد بأداء الدين، أما لو قال له: بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناء على وعده) .

أما المواعدة: فقد سبق أن بينا (أن المواعدة لا تكون إلا بين اثنين، وذلك بأن يعد كل واحد منهما صاحبه بالعقد) وقد صرح بعض الفقهاء بجوازها، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الشافعي من قوله:(إذا تواعد الرجلان الصرف، فلا بأس، أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعا، ويصنعا بها ما شاءا)(3) . ويفهم من هذا أنهما إذا تواعدا على عقد فإنه يجوز التواعد، ثم بعد ذلك يجريان عقد البيع على الموعود بتبايعه، فالتواعد على العقد بيعا أو غيره ليس بيعا ولا نكاحا، يقول ابن حزم:(والتواعد في بيع الذهب بالذهب، أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة (أي: البر والشعير والملح والتمر) بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا) (4) .

(1)(الأشباه، لابن نجيم، ص 344؛ والفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية: 6/ 3)

(2)

(شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر: 1/ 77)

(3)

(الأم: 5/ 32)

(4)

(المحلى: 8 /513)

ص: 899

(وقد فرق المالكية في حكم المواعدة بين ما لا يصح وقوعه في الحال، وبين ما يصح وقوعه، أما الأولى (وهو ما لا يصح وقوعه في الحال) فقد منعوا المواعدة به، فمن أصول مالك منع المواعدة فيما لا يصح وقوعه في الحال سدا للذريعة، ومن ثم منع مالك المواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، وعلى البيع وقت نداء الجمعة، وعلى بيع ما ليس عندك (1) . أما المواعدة على الصرف ففيها ثلاثة أقوال، أحدهما: الجواز، والثاني: المنع، وهو المشهور، والثالث: الكراهة، وشهرت أيضا لجواز الصرف في الحال، وشبهت بعقد فيه تأخير (2) .

ووضح الونشريسي الفرق في الحكم بين الصرف، وبين المواعدة على النكاح في العدة وبيع الطعام قبل قبضه بحيث منع فيهما، وبين المواعدة على الصرف حيث وردت فيه ثلاثة آراء (الجواز- المنع- الكراهة) أنه إنما منع فيهما لأن إبرام العقد محرم فيهما، فجعلت المواعدة حريما له، وليس إبرام العقد في الصرف بمحرم، فتجعل المواعدة حريما له (3) . ومعلوم لنا أن حريم الشيء يأخذ حكمه.

ونص المواق على أن المواعدة على الصرف تكره، فإن وقع ذلك، وتم الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ عند ابن القاسم، وقال أصبغ: يفسخ (4)

وفي مسألتنا هنا الموعود ببيعه قائم وموجود ومملوك له ومقبوض، والمبيع أيضا جائز العقد عليه، فليس محرما، ولا حريما لمحرم.

(1)(مواهب الجليل: 3 /413، وأحكام القرآن، لابن العربي: 1 /215)

(2)

(إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للونشريسي، ص 278؛ والخرشي وحاشية العدوي: 5/ 38)

(3)

(شرح المواق على مختصر خليل: 4 /309)

(4)

(نص في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي (رقم: 40- 41 (2 /5 و 3/ 5) مجلة المجمع، العدد الخامس: 2 /753، 965: على أن (المواعدة- وهي التي تصدر من الطرفين- تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده)

ص: 900

حكم المشاركة المتناقصة

بناء على ما تقدم إيضاحه في القسم الخاص بالقواعد التي تحكم التصرف بأسلوب المشاركة المتناقصة أرى ما يلي:

أولا: يجوز شرعا أن يشترك أكثر من واحد في عين معينة، شركة ملك، سواء أكان ذلك عن طريق العقد كشرائهما هذه العين معا، وكما لو كانت مملوكة لواحد، ثم باع جزءا منها لشخص ثان ليصبح شريكا له فيها، أم كان عن طريق انتقال ملكيتها إليهما بأي سبب آخر من أسباب الملك، كـ الهبة والوصية.. أم كانت هذه الشركة ناتجه عن طريق اختلاط المالين طواعية أو اضطرارا بحيث لا يمكن فصل ملك أحدهما عن ملك الآخر، فثبتت الملكية في هذا المخلوط لكل واحد منهما بنسبة ما لكل واحد منهما في هذا المال المخلوط من المقدار الذي يملكه قبل حدوث هذا الاختلاط.

ومن ثم تكون هذه العين مشتركة بينهما شركة ملك بنسبة ما لكل واحد منهما أو منهم من نصيب فيها، ويمكن تقسيم العين المشتركة بين الشركاء على أسهم، كل واحد منهم يملك من الأسهم بمقدار ما يملكه من مال في هذه الشركة.

(وحكم شركة الملك أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، لأن المطلق للتصرف في المال هو: الملك أو الولاية، وليس لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية، لا بالوكالة ولا بالقرابة، فلا يملك التصرف في نصيب صاحبه، وسواء أكانت الشركة في العين أم في الدين.

ثانيا: يجوز أن يتفق الراغبون في هذا النوع من الشركة فيما بينهم على أن يؤجر أحدهما للآخر نصيبه في هذه العين المشتركة بينهما، لتصبح منفعة العين جميعها تحت يده، بعضها باعتباره مالكا لجزء من العين، وبعضها باعتباره مستأجرا لنصيب شريكه فيها.

ص: 901

فإذا فرضنا أن واحدا من الشريكين يملك ثلاثة أرباع العين، ويملك الآخر ربع العين، وأراد مالك الربع أن يستأجر نصيب شريكه- وهو ثلاثة أرباع العين- عَقَدَ عَقْدَ إجارة لهذا النصيب محددا الأجرة، ومدة الإجارة، فمثلا يقول لشريكه: استأجرت منك ما تملكه في هذه العين (المحددة والمعلومة لهما) وهو ثلاثة أرباع العين (أو 75 سهما من المائة سهم المكونة منها العين) لمدة سنة تبدأ من أول محرم سنة 1422هـ وتنتهي بنهاية ذي الحجة من سنة 1422 هـ. فإن الإجارة تكون صحيحة، ويصبح منتفعا بجميع العين في خلال هذه المدة.

*كما يجوز له شرعا في نفس الوقت أن يعقد عقد إجارة عليها أيضا لمدة سنة أخرى تبدأ من نهاية سنة 1422 هـ وتنتهي بانتهاء سنة 1423 هـ، سواء أكان المستأجر هو ثلاثة أرباع العين المملوكة لشريكه، أم كان أقل من هذا المقدار، بأن كان النصف فقط، وسواء كان المستأجر قد اشترى ربع العين من شريكه (المؤجر) ، ليصبح مالكا لنصفها، أم اكتفى بهذا الجزء ووافق شريكه على ذلك، وهكذا

ومن ثم يجوز شرعا أن يعقد عقود إجارة متتالية في صفقة واحدة، فيقول: أجرتك ثلاثة أرباع هذه العين بكذا لمدة سنة هي سنة 1422هـ، وأجرتك نصفها بكذا لمدة كذا هي (سنة 1423 هـ) ، وأجرتك ربعها بكذا لمدة كذا سنة 1424 هـ، ويقبل الطرف الآخر كل عقد من هذه العقود، سواء أكان هذا التناقص في المقدار المؤجر سنة بعد سنة، ناشئا عن شراء المستأجر بعض نصيب المؤجر في كل عام بما يعادل ما يعقد عليه الإجارة، أم كان المؤجر مكتفيا بهذا الجزء الذي أجراه له، وتاركا لنفسه حق الانتفاع بالجزء الباقي من نصيبه.

وجواز اجتماع عقود الإجارة هذه مبني على أن عقد الإجارة يجوز إضافته إلى زمن مستقبل، كما سبق أن بينا في الفقرة الخاصة بذلك.

ص: 902

كما أنه تجوز إجارة العُقَب - كما صرح الشافعية والحنابلة- كما إذا أَجَّرَ دابةً رجلًا ليركبها بعض الطريق المحدد، بأجرة هي كذا، ويركبها المؤجر أو غيره ممن يؤجرها له بعض الطريق المحدد أيضا بأجرة هي كذا، على التناوب بينهما.

ففي هذه الصورة تتناوب عقود الإجارة على محل واحد، عقدا ينتهي، وعقدا يبدأ، وهكذا حسبما نص عليه في الصيغة التي صدر بها العقد وقت انعقاده، مستوفيا كل أركانه وشرائطه الشرعية.

*كما أنه يجوز اجتماع أكثر من عقد إجارة على كل واحد في اتفاق واحد على ضوء ما سبق أن أوضحناه.

ثالثأ: اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في اتفاق واحد:

إن اجتماع هذين العقدين في اتفاق واحد يختلف الحكم فيه باختلاف ما إذا كانت صيغة عقد البيع منجزة، أو مضافة إلى زمن مستقبل، ونوضح حكم كل فيما يلي:

أ- صيغة البيع منجزة:

أجاز بعض الفقهاء اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة، كما سبق أن أوضحناه فيما تقدم.

ففي مسألتنا هذه إذا قال الشريك الذي يملك ثلاثة أرباع العين المشتركة بينهما لشريكه الذي يملك الربع فقط: بعتك ربع هذه العين بكذا، وأجرتك نصفها الباقي لمدة سنة 1422 هـ بكذا صح البيع وصحت الإجارة، إذ البيع منجز، والإجارة منجزة، وقد أصبحت المنفعة المملوكة للمستأجر نصفها له بالملك ونصفها له بالإجارة.

(ولو أنه سار في السنوات القادمة على هذا المنوال، بأن باع في نهاية عقد الإجارة جزءا مما يملكه من هذه العين بثمن معين، وأجره الباقي حتى انتهى الأمر إلى تحول الملكية من الشريك المؤجر إلى الشريك المستأجر، وأجره الباقي لما كان في هذا المنهج أي محظور شرعي ما دام كل عقد قد استوفى جميع أركانه وشرائطه الشرعية وقت انعقاده.

والملاحظ هنا أنه لم يقترن بهذا النوع من التعاقد وعد، لا من الراغب في البيع بالبيع، ولا من الراغب في الشراء بالشراء، ولا مواعدة بينهما بذلك، ولا كان عقد البيع مضافا إلى أجل، ولا معلقا على شرط، بل صدر العقد منجزا في الوقت الذي ارتضيا إبرامه فيه.

ص: 903

ب- صيغة العقد غير المنجزة:

ويندرج تحت صيغة العقد غير المنجزة صورتان: صورة إضافة العقد إلى زمن مستقبل، وهو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بالإضافة، وصورة تعليق العقد على أمر محتمل الوقوع، وهو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بالتعليق، ولما كان موضوع البحث هنا خاصا بالإضافة فإننا نقتصر على بيان حكم إضافة العقد إلى الزمن المستقبل، وقد سبق أن بينا في بحث الإجارة المنتهية بالتمليك حكم تعليق التمليكات على أمر في المستقبل) (1) .

(ففي الصورة التي نحن بصددها إذا أراد الشريكان أن يبرما عقدا واحدا يحتوي على أكثر من عقد بيع، ومن عقد إجارة، في أزمان متوالية على محل واحد - هو الملك المشترك بينهما- والذي يرغبان في أيلولته إلى أحدهما في نهاية المطاف فإن الحكم يختلف بين البيع والإجارة:

*أما الإجارة فقد سبق أن بينا أنها تقبل الإضافة إلى الزمان المستقبل، فلا مانع شرعا من عقد عقود إجارة متوالية على محل واحد، كلما انتهى عقد، بدأ العقد الذي يليه، أي أنه إذا انتهت مدة عقد الإجارة الأول بدأ عقد الإجارة الذي يليه، وهكذا بعقود متتالية المدة، مجتمعة في اتفاق واحد، ما دام كل عقد من عقود الإجارة قد استوفى أركانه وشرائطه الشرعية في هذا الوقت الذي عقدت فيه هذه العقود.

(أما البيع فإنه إما أن يصدر مضافا إلى زمن مستقبل، مثل: بعتك أول الشهر هذا بكذا، أو إذا جاء أول الشهر بعتك هذا بكذا، أو أن يصدر بشأنه وعد من البائع فقط بالبيع في الزمن المستقبل، أو وعد من المشتري فقط بالشراء في الزمن المستقبل، أو أن يعد كل واحد منهما الآخر بالتبايع في وقت مستقبل محدد هو كذا، كأن يعد الشريك (البائع) الشريك (المستأجر) ببيع جزء مما يملكه في هذه العين المشتركة بينهما في موعد محدد هو كذا، أو أن يعد الشريك المستأجر الشريك البائع بشراء جزء معين من هذه العين في وقت كذا (المحدد والمعلوم لهما) ، ثم تتوالى الوعود حتى تصبح العين ملكا للشريك المستأجر في نهاية المطاف ذاتا ومنفعة، ويظفر الشريك الآخر بثمن ما يملكه في هذه العين المشتركة بينهما. فتلك أربع صور نوضح حكمها فيما يلي:

(1)(يراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة الخامسة، العدد 5، سنة 1406 هـ، ص 2607-2657)

ص: 904

الصورة الأولى: أن يصدر عقد البيع مضافا إلى الزمن المستقبل، مجتمعا مع عقد الإجارة المضاف إلى الزمن المستقبل أيضا، أما الإجارة فقد بينا فيما سبق جواز إضافتها إلى زمن مستقبل، وأما البيع فقد اختلف الفقهاء في حكمه إذا أضيف إلى زمن مستقبل (1) .

الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء عدم صحة إضافة عقد البيع إلى الزمن المستقبل، لأنه من عقود التمليكات المحضة، وما كان تمليكا محضا، لا مدخل للتعليق فيه قطعا، لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل مال أمرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2) . ولا يتحقق طيب النفس عند الشرط، كما عبر الشافعية (3) . ولأن انتقال الأملاك يعتمد الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق، فإن شان المعلق عليه أن يعترضه عدم الحصول- كما قال المالكية مسوين بين التعليق والإضافة في الحكم (4) . أو لأن عقود التمليكات المحضة يمكن تنجيزها للحال، فلا حاجة إلى الإضافة -كما عبر الحنفية- بخلاف الإجارة وما شاكلها؛ لأن المنفعة في الإجارة لا يمكن تمليكها للحال؛ وذلك لأن المنفعة تتجدد شيئا فشيئا وساعة فساعة، على حسب وجود المنفعة وحدوثها، ولهذا قال الحنفية: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة- كما سبق إيضاحه- ومن ثم يفترق العقدان في هذا الحكم.

الرأي الثاني: وعماده ما روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايات عنه أنه أجاز تعليق عقد البيع على أمر مستقبل، وقد رجح ابن تيمية هذه الرواية- كما سبق أن ذكرنا- قائلا: إنه لم يجد عن أحمد ولا عن أصحابه نصا يخالف ذلك

(1)(راجع لنا: نظرية الشرط، ص 59- 156)

(2)

(أخرجه الدارقطني: 3/ 26 أي: حرة الرقَّاشي عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والمستدرك للحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: 1/ 93 بلفظ: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس)

(3)

(المنثور في القواعد، للزركشي: 1/ 377)

(4)

(الفروق، للقرافي: 1/ 229، الفرق 45)

ص: 905

الصورة الثانية: أن يصدر مع عقد الإجارة في صورتنا هذه وعد من البائع ببيع جزء من العين المشتركة بينهما للمستأجر الشريك، في نهاية مدة الإجارة المعقودة بينهما، كما لو قال: أجرتك ما أملكه في هذه العين المشتركة بيننا (وهو الثلاثة أرباع مثلا لمدة سنة هي سنة 1422 هـ، وأعدك ببيع ربعها في نهاية مدة الإجارة، ليصبح الشريك المستأجر حينئذ مالكا لنصف العين، ومستأجرا للنصف الآخر لمدة سنة أخرى هي سنة 1423 هـ، وهكذا في السنة التي تليها بأن يقول له: أعدك ببيع ربعها في نهاية سنة 1423 هـ؛ ليصبح الشريك المستأجر مستأجرا لربع العين فقط، ومالكا لثلاثة أرباعها، ثم يعده ببيع الربع الباقي له في السنة التي تليها وهي سنة 1424 هـ، وبذلك يصبح الشريك المستأجر مالكا لجميع العين ذاتا ومنفعه.

*لمعرفة حكم هذه الصورة يلزمنا أن نشير إلى ما سبق أن أوضحناه من آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما، أو غير ملزم، إذا كان وعدا بمباح، أو بمندوب إليه، وبينا أن جمهور الفقهاء (1) . يرون أن الوعد غير ملزم قضاء، ويستحب الوفاء به، وأن بعض الفقهاء يرون أن الوعد ملزم؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (2) .

(1)(وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، ويستحب الوفاء به ديانة، لأنه تفضل وإحسان، قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، ولأن الوعد في معنى الهبة قبل القبض، حيث إنه يجوز الرجوع في الهبة قبل قبضها)

(2)

(رواه مسلم في صحيحه حديث رقم (27) من (المختصر))

ص: 906

*ويرى البعض أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، سواء دخل الموعود في السبب أم لم يدخل، وإلا فلا يكون ملزما.

* ويرى البعض أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، فيجب الوفاء به، كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب، فلا يلزم الواعد شيء.

* وقد سبق أن رجحت في بحث (الإيجار المنتهي بالتمليك) المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس (جمادى الأولى 1409 هـ- ديسمبر سنة 1988م) ، الرأي الثالث، وهو أن الوعد ملزم إذا كان معلقا على سبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، وهو ما أرى رجحانه أيضا اليوم (1) .

* فإذا أخذنا بهذا الرأي الأخير كانت هذه الصورة جائزة شرعا، وعلى الشريك الذي وعد بالبيع في الوقت الذي حدده لشريكه (المستأجر) أن يجري عقد البيع بينه وبين من وعده في الوقت الذي وعده بإجراء العقد فيه، ويراعى حينئذ استيفاء عقد البيع (الذي يبرمانه) جميع أركان البيع وشروط صحته وقت انعقاده، سواء من حيث الصيغة أو العاقدان أو المعقود عليه، وعدم اقترانه بما يفسد العقد

، وتترتب آثار العقد الشرعية عليه من وقت انعقاده، فإن أبى الوفاء بوعده أجبره القاضي على إبرام العقد الموعود به.

(1)(وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 40- 41 (2 /5 و 3/ 5) بأن الوعد- وهو الذي يصدر من الآمر بالشراء أو المأمور على وجه الانفراد- يكون ملزما للوعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر)

ص: 907

الصورة الثالثة: أن يعد الشريك المستأجر الشريك المؤجر بشراء ما حدداه من هذه العين في الوقت الذي عيناه لإجراء عقد البيع.

وبناء على ما تقدم إيضاحه في الصورة السابقة (الثانية) فإنه يكون الشريك المستأجر ملزما بشراء الجزء الذي وعد الشريك المؤجر بشرائه منه من هذه العين المشتركة بينهما في الزمن المستقبل الذي اتفقا عليه. ويجري فيه ما جرى في الصورة السابقة.

الصورة الرابعة: أن يتواعدا على البيع والشراء، بأن يعد الشريكُ المؤجر الشريكَ المستأجر ببيع جزء معين من العين له في وقت كذا..، وأن يعد الشريك المستأجر الشريك المؤجر بشراء هذا الجزء من هذه العين المشتركة بينهما في هذا الوقت الذي عينه الشريك المؤجر.

وبناء على ما تقدم فإنه يصبح كل منهما ملزما بالوفاء بوعده ما دام الوعد مرتبطا بسبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، سواء أكان الوعد صادرا من أحدهما للآخر- دونه- أم كان صادرا من كل منهما للآخر على محل واحد وهو العين المشتركة بينهما. وعليهما أيضا في هذه الحالة أن يبرما عقد البيع في الوقت الذي حدداه، ويراعى حينئذ ما نصصنا عليه في الصورة الثانية من ضرورة استيفائه جميع أركانه وشروط صحته وقت انعقاده.

*وفي كل الصور قد يتأتى إمكان أن تنصرف إرادة المتعاقدين عن المطالبة بموجب هذا الوعد.. فإذا ارتضيا ذلك فلا سلطان لأحد عليها، لأن الناس مسلطون على أموالهم، فإذا جاز لهم ذلك ابتداء جاز لهم انتهاء، ولهم الحق في التعاقد في الوقت الذي يشاءون، كما أن لهم الحق في ألا يتعاقدوا، طبقا لما يرونه محققا لمصالحهم.

ص: 908

*وإنما يظهر أثر إلزام الوعد فيما إذا طالب الموعود الواعد بالوفاء بما وعده به، فحينئذ يجب عليه الوفاء بالوعد (بيعا أو شراء) ، فإن امتنع عن تنفيذ وعده، رفع أمره إلى القضاء، وحينئذ يجبره القاضي على إجراء العقد، فإن من سلطات القاضي الفصل في المنازعات وقطع الخصومات إما صلحا عن تراض، ويراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب (1) .

وأرى أنه لا مانع شرعا من أن تتكرر الوعود الصادرة من أحد الشريكين للآخر،- أو لكل منهما- بيعا وشراء- تبعا لتكرر المحل المراد التصرف فيه، ووفقا للزمن الذي ارتضيا أن يعقدا العقد فيه بناء على هذا الوعد، تحقيقا لهدفهما في تحويل ملكية المعين المشتركة من أحد الشريكين إلى الشريك الآخر، لتصبح العين ملكا له ذاتا ومنفعة.

كما أود أن أنوه إلى أنه عند إتمام العقد مستوفيا أركانه وشرائطه الشرعية تنفيذا لهذا الوعد، فإنه تترتب عليه كل أحكام عقد البيع، ومن بينها انتقال الملكية وثبوت الخيارات الشرعية التي اتفق الفقهاء على أنه من أحكام العقد، وكذا ما اتفق المتعاقدان على العمل به فيما اختلف فيه الفقهاء. ولعل ثبوت هذه الخيارات إذا كان الثمن محددا في الوعد، يدرأ الخوف من نقص المبيع أو تعيبه أو تغيره أثناء الفترة السابقة على تنفيذ الوعد.

وإجراء العقد الموعود به في الوقت المتفق عليه، قلنا: إنه لا بد من أن يكون مستوفيا لأركانه وشرائط صحته. ونبرز هنا بعض الأمور:

(1)(الأحكام السلطانية، للماوردي، ص 138؛ ولأبي يعلى، ص 65؛ ويراجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، ص 92؛ وحاشية ابن عابدين:5/ 419؛ والقوانين الفقهية، لابن جزي، ص 194)

ص: 909

*أما بالنسبة لأركانه: فإنه يشترط في الصيغة أن تكون باتة في الدلالة على التعبير عن الرضا بالعقد، مثل: بعت واشتريت (بصيغة الماضي، أو الجملة الاسمية: أنا بعت أو بائع منك كذا، أو أنا مشتر منك كذا، أو أنا اشتريت

) . وأن يكون القبول موافقا للإيجاب.

*وأما العاقدان فلا بد من أن تتوافر فيهما أهلية الأداء الكاملة، التي هى البلوغ والعقل.

*وأما المعقود عليه، المثمن والثمن، فلا بد أن يكون المبيع قائما وموجودا....، إذ بيع المعدوم باطل.

وأما الثمن فيجب أن يكون محددا في العقد.

وهنا يثور تساؤل: هل يصح أن يعده بالبيع بثمن محدد هو كذا، أو بالشراء بثمن محدد هو كذا، أو أن يتواعدا على التبايع بثمن محدد هو كذا، وأيضا هل يصح أن يعده بالبيع بالسعر السوقي للسلعة، أو يعده بالشراء به، أو يتواعدا على التبايع به؟

أما الصورة الثانية: وهي التواعد بالبيع والشراء أو الوعد بأي منهما بالسعر السوقي للسلعة وقت إجراء العقد، فإنه جائز شرعا لأنه أعدل طريق لمعرفة- ثمن السلعة وقت إجراء العقد، فعليهما أن يتعرفا على قيمة السلعة في السوق في الوقت الذي حدداه لإجراء العقد، ثم يبرمان العقد بهذا السعر.

ص: 910

أما إذا حددا السعر مقدما في هذا الوعد، أو حدد أحدهما السعر، سواء أكان بائعا أم مشتريا، فإن لنا أن نبحث في ذلك، هل يجوز شرعا تحديد ثمن السلعة مقدما في الوعد، وبخاصة أن بين الوعد بالبيع أو بالشراء أو بهما معا وقت طويل، قد يمتد إلى شهور أو سنوات، وفي خلاله يتأتى تغير السلعة، وتغير سعرها ارتفاعا وانخفاضا طبقا لقوانين العرض والطلب، ولما قد يعتور السلعة من رواج أو كساد.

*إن المتجه فقها هو تعيين الثمن وقت الشراء والبيع- أي وقت التعاقد- نظرا للاعتبارات التي ذكرناها آنفا.

تحديد الثمن مقدما للمبيع:

قد يقال: إن البائع حر في أن يبيع سلعته بثمن المثل، أو بأكثر منه، أو بأقل ما دام ذلك لا يؤثر في حقوق أحد كالورثة، لما قد يحتوي عليه من محاباة إذا لم يكن البيع بثمن المثل، وبخاصة إذا كان مريضا مرض الموت.

ويمكن أن يقال أيضا: إن المشتري حر أيضا في أن يشتري سلعة معينة بثمن المثل، أو بأكثر منه، أو بأقل، ما دام ذلك لا يؤثر في حقوق أحد كالورثة كما بينا آنفا.

ولكن توجد أمامنا بعض الصور التي قد يفهم منها حكم تحديد الثمن قبل إجراء العقد:

ص: 911

الصورة الأولى: بيع الوفاء، وهو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه، وسمي بيع الوفاء، لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط (1) .

وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فذهب جمهور الفقهاء المالكية والحنابلة، والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء فاسد، لأن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطا فاسدا يفسد البيع باشتراطه فيه، ولأن البيع بهذا الشرط لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم، وهو إعطاء المال إلى أجل، ومنفعة المبيع هي الربح، والربا باطل في جميع حالاته.

وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه، وهو انتفاع المشتري بالمبيع- دون بعضها- وهو البيع من آخر. وحجتهم في ذلك أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس، وتعاملوا به لحاجتهم إليه، فرارا من الربا، فيكون صحيحا لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفا للقواعد، لأن القواعد تترك بالتعامل، كما في الاستصناع، كما عبر الحنفية (2) .

الصورة الثانية: اختلف الفقهاء في حكم مسألة يتم فيها البيع في المستقبل بثمن محدد من الآن، وهي:

(إذا شرط البائع على المشتري أنه إذا أراد بيع الجارية المبيعة كان البائع أحق بها بالثمن الأول) ولهم في حكمها ثلاثة آراء:

(1) ويسميه المالكية (بيع الثنيا) ، والشافعية (بيع العهدة) ، والحنابلة (بيع الأمانة) ، ويسمى أيضا (بيع الطاعة) ، و (بيع الحائز) ، وبعض الحنفية سماه (بيع المعاملة) . راجع مجلة الأحكام العدلية، مادة 105، والحطاب: 4/ 373؛ وكشاف القناع: 3/ 149- 150؛ والفتاوى الهندية: 3/ 295؛وحاشية ابن عابدين: 4/ 246- 247، ط. بولاق؛ وبغية المسترشدين، ص 133)

(2)

(تبيين الحقائق، للزيلعي: 5 /184؛ والبحر الرائق: 6/ 8؛ والفتاوى الهندية: 3/ 208، 209؛ وابن عابدين: 4/ 246؛ والإقناع: 3/ 58)

ص: 912

الرأي الأول: فساد الشرط والعقد، عند الحنفية، وكذا المالكية إلا إذا أسقط المشترط شرطه، والشافعية، ورأي للحنابلة، والمشهور عند الإمامية، ورأي مرجوح عند الإباضية.

الرأي الثاني: صحة العقد وفساد الشرط، في رواية ضعيفة عن الإمام الشافعي، ورأي راجح عند الحنابلة، والإمامية والإباضية.

الرأي الثالث: صحة الشرط والعقد، في رواية ثالثة عن الإمام أحمد تجيز البيع والشرط.

وسبب الخلاف ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه حينما استفتاه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في شراء جارية من امرأته زينب، وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فقال له عمر:(لا تقربها، وفيها شرط لأحد) فقد فسروا قول عمر رضي الله عنه: (لا تقربها

) بتفسيرين:

أحدهما: لا تبتعها وفيها شرط لأحد، ومعنى ذلك لا تشترها بهذا الشرط، وهذا يقتضي منعه من هذا الابتياع لفساده.

والثاني: أنه يريد به (لا يقربها في الوطء مع بقاء هذا الشرط فيها، ويكون حكم العقد بهذا الشرط في الفساد والصحة مسكوتا عنه)(1) .

وبالتفسير الأول قال الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، والتفسير الثاني مروي عن الإمام أحمد، فإن ابن مسعود رضي الله عنه قد اشترى الجارية بهذا الشرط، وذهب إلى عمر رضي الله عنه يستفتيه فلم يقل له: إن البيع فاسد، أو إن الشرط فاسد، ولكن نهاه عن نكاحها وفيها شرط، وفي هذا موافقة ضمنية على صحة هذه الصفقة بهذه الكيفية، وأن الممنوع فيها هو نكاحها ما دام الشرط فيها، إلا أن هذه الرواية عن الإمام تعارضها روايتان أخريان، رواية بفساد العقد والشرط، ورواية بصحة العقد وفساد الشرط (2) .

ففي هذه المسألة إذا قلنا برأي من قال بصحة العقد والشرط، فإن الثمن عندما يريد المشتري بيع المبيع في المستقبل يكون محددا من قبل، مع أن الزمن الذي قد تحدث فيه إرادة البيع قد يطول، وقد يقصر، وتبعا لذلك قد يتغير ثمن المعقود عليه زيادة أو نقصا.

(1)(راجع لنا: نظرية الشرط، ص 289- 292، 575- 582)

(2)

(نظرية الشرط للمؤلف، ص 576-578)

ص: 913

التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة

هذه الصورة يمكن أن نوضحها بالمثال التالي: (إذا قال الشريك لشريكه في العين: بعتك حصتي من هذه العين المشتركة بيننا بثمن هو مقدار العائد المستحق لك من إيراد هذه العين، فلو كان الشريك المشتري مالكا لثلث العين المشتركة بينهما، وكانت هذه العين مستثمرة، وتدر عائدا عليهما (يوزع بمقدار أنصبائهما فيها) فيكون المباع للشريك من نصيب شريكه مقدارا يوازي ويعادل ما استحقه من ربح ثلث العين المشتركة، فلو أن الربح ثلاثة آلاف دينار مثلا، كان المستحق له (1000) ألف دينار في نهاية العام، فيبيعه بناء على هذا التصور مقدارا من نصيبه في العين المشتركة يوازي هذا العائد، وهو الألف، قل أو كثر ما يوازيه، حتى لو استوعب كل نصيب شريكه، ونوضح حكم هذه الصورة فيما يلي:

1-

إذا نظرنا إلى هذه الصورة يمكن أن نتصورها في صورة بيع ناجز، كما في المثال المتقدم. ويمكن أن نتصورها في صورة وعد بالبيع، أو وعد بالشراء، أو مواعدة بينهما بالبيع، وبالشراء.

أما على أنها عقد بيع ناجز فإن عقد البيع يلزم لصحته شروط في الصيغة، وشروط في المبيع، وشروط في الثمن وأيضا في المتعاقدين.

ص: 914

*أما ما يشترط في المبيع من شروط: (وهو ما يهمنا هنا) فمنها كونه مالا متقوما مملوكا للبائع مقدور التسليم، معلوما لكل من العاقدين علما نافيا للجهالة، وذلك قطعا للمنازعة والشحناء، سواء أكان العلم بذلك بالرؤية، أم بمعرفة الأنموذج، كالكيلي والوزني، فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف (جنسه ونوعه وصفته) قطعا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية عند رؤيته (1) .

*وفي هذه الصورة التي معنا المبيع غير محدد المقدار (في أحد فروض تصور هذه المسالة) إذ إن الشريك يبيع لشريكه في العين حصة منها بمقدار العائد المستحق للمتملك (المشتري) ، فإن كان العائد كبيرا كانت الحصة كبيرة، وإن كان العائد صغيرا كانت الحصة كذلك، وإذا انعدم العائد لطارئ لا يكون هناك بيع

، ومن هنا يتبين لنا أن هذه الصورة لا تصح شرعا لجهالة المبيع.

وأيضا بالنسبة للثمن: فقد اتفق الفقهاء على وجوب تسمية الثمن في عقد البيع، والثمن لا بد أن يكون مالا متقوما، مملوكا للمشتري، مقدور التسليم، ومعلوم القدر والوصف للمتعاقدين حال التعاقد بما يعلم به المبيع، من رؤية مقارنة للعقد، أو متقدمة عليه بزمن لا يتغير فيه الثمن ظاهرا لجميعه، أو بعضه الدال على بقيته، أو بوصف كاف للثمن، بأن يبين نوعه ووصفه وقدره، فإذا لم يكن الثمن معلوم القدر والصفة، فإنه لا يصح العقد، لأن جهالته تفضي إلى النزاع المانع من التسليم والتسلم، فيخلو العقد عن الفائدة، وكل جهالة تفضي إلى النزاع تفسد العقد.

فقد نص الحنفية على أن مما لا يجوز البيع به البيع بقيمته، أو بما حل به، أو بما تريد، أو تحب أو برأس ماله، أو بما اشتراه، أو بمثل ما اشترى فلان، فإن علم المشتري بالقدر في المجلس، فرضيه، عاد جائزا. كما نصوا على أنه لو قال: بعت مالي بقيمته، وذكر القيمة مجملة يجعل الثمن مجهولا، فيكون البيع فاسدا، إذ القيمة تختلف باختلاف المقومين، وكذا لا يجوز البيع بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئا لا يتفاوت كالخبز واللحم، وأيضا فإن صفة الثمن إذا كانت مجهولة، فإنه لا يصح البيع، لأنها إذا كانت مجهولة تحقق المنازعة في وصفها، فالمشتري يريد دفع الأدون، والبائع كطلب الأرفع، فلا يحصل مقصود شرعية العقد وهو دفع الحاجة بلا منازعة (2) .

(1)(الاختيار: 9/ 178؛ وفتح القدير: 5 /455؛ مغني المحتاج: 2 /10- 11؛ الروض المربع ص 168 وكشاف القناع: 3 /173، 174)

(2)

(شرح فتح القدير: 5/ 467؛ والبحر الرائق: 5/ 296)

ص: 915

وقد نص فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة على ذلك أيضا (نص المالكية على أنه يشترط لصحة بيع المعقود عليه ثمنا أو مثمنا عدم جهل منهما أو من أحدهما بمثمون- كبيع بزنة حجر، أو صنجة مجهول- أو ثمن كأن يقول: بعتك بما يظهر من السعر بين الناس اليوم- ولو تفضيلا، فإن جهل الثمن أو المثمن ضر، ولو كان الجهل في التفصيل وعلمت جملته..، قال الدسوقي: (فلا بد من كون الثمن والمثمن معلومين للبائع والمشتري، وإلا فسد البيع، وجهل أحدهما كجهلهما على المذهب، سواء علم العالم منهما بجهل الجاهل أو لا، وقيل: يخير الجاهل منهما إذا لم يعلم العالم بجهله، فإن علم بجهله فسد البيع، كجهلهما معا)(حاشية الدسوقي: 3/ 15) . وقد نص الشافعية على أنه: لو باع بملئ ذات البيت حنطة، أو بزنة هذه الحصاة ذهبا، أو بما باع به فلان فرسه مثلا أي بمثل ذلك ولم يعلما أو أحدهما قبل العقد المقدار، أو بألف دراهم ودنانير، أو صحاح ومكسرة، لم يصح البيع للجهل بأصل المقدار في الثلاثة الأول، وبمقدار الذهب من الفضة، أو الصحاح والمكسرة في الرابعة، فإن علما قبل العقد مقدار البيت والحصاة وثمن الفرس، وقال فيه بمثل- كما مر- صح لانتفاء المحذور، وكذا إن قصده كما في المطلب، فإن لم يقل بمثل ولم يقصد صح أيضا، كما لو قال: أوصيت لفلان بنصيب ابني، فإنه يحمل على مثل نصيبه

ومحل امتناع البيع بما ذكر إذا كان في الذمة، فإن كان الثمن معينا، كأن قال: بعتك بملء هذا البيت من هذه الحنطة؛ صح كما صرح به في المجموع والشرح الكبير في السلم، وعلله الرافعي بإمكان الأخذ قبل تلف البيت (مغنى المحتاج: 2 / 16) .

ونص الحنابلة على أن يشترط أن يكون الثمن في البيع معلوما عند المتعاقدين؛ لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالآخر (أي كالمبيع) وقياسا على رأس مال السلم. فإنه باعه السلعة برقمها (أي بثمنها المكتوب عليها) وهما لا يعلمانه، أو أحدهما (لا يعلمه) لم يصح البيع للجهالة فيه، وكذلك إن باعه بألف درهم ذهبا وفضة، لأنه مجهول ولأنه بيع غرر، فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر

، وإن باعه بما ينقطع السعر به، أو بما باع به فلان عبده، وهما لا يعلمانه، أو أحدهما (لا يعلمه) لم يصح؛ لأنه مجهول

(الشرح الكبير: 4 / 33) .

وجاء في كشاف القناع: 3 / 174: (وإن باعه السلعة برقمها أو بما باع به فلان

أي بمثله، ولم يعلماه- أي الرقم أو ما باع به فلان، أو يعلمه أحدهما- لم يصح للجهالة

أو باعه بما ينقطع به السعر، أي بما يقف عليه من غير زيادة لم يصح للجهالة، وكذا لو قال: كما يبيع الناس، أي بما يقف عليه من غير زيادة، لم يصح للجهالة (. ويراجع: الروض المربع: 2 / 168) .

ص: 916

وفي الصورة التي معنا- وهي (التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصة المشتراة) - إذا أريد به أن العائد يكون ثمنا للحصة المشتراة فإن العائد تكتنفه جهالة؛ إذ قد يتحقق عائد وقد لا يتحقق؛ لظروف ليست في حسبانهما، وقد يتحقق عائد قليل، وقد يتحقق عائد كثير، ففي هذه الحالة لا يكون مقدار الثمن معلوما، وجهالة الثمن تفسد العقد.

وأيضا لا يصح أن نتصور أن يكون بيعا الآن بثمن هو ما ينتج من عائد أو ربح يستحق من العين المشتركة في السنوات القادمة للجهالة أيضا، فهذه الصورة التي معنا بهذا التصور لا تصح شرعا.

*أما إذا كان العائد ثابتا (وهو أحد فروض هذه الصورة) بأن كانت العين المشتركة بينهما مؤجرة بأجرة محددة، هي خمسة آلاف دينار- مثلا- لمدة خمس سنوات، في كل سنة ألف دينار مثلا، وقلنا بلزوم عقد الإجارة طوال هذه المدة (كما هو رأي جمهور الفقهاء) ، فإن كان المبيع غير محدد، فالجهالة في المبيع تبطل العقد، فلا يصح العقد ولو كان الثمن محددا.

أما إذا كان المبيع محددا، كأن كان الشريك يملك نصف العين مثلا، وقال له: بعتك نصيبي هذا بثمن هو ما يستحق لك من الأجرة مقابل النصف الذي تملكه من هذه العين المشتركة المؤجرة (له أو لغيره) ، وكانت هذه الأجرة- كما قلنا- معلومة لهما عند التعاقد؛ فهل يكون بيعا بثمن محدد (ومؤجل) هو هذه الخمسة الآلاف التي تستحق له من أجرة نصيبه في هذه العين طوال مدة الإجارة؟

ص: 917

*أرى أنه لما كانت الأجرة تستحق شيئا فشيئا حسب استيفاء المنفعة (كما سبق أن بينا) ، وأن استيفاء المنفعة طوال مدة عقد الإجارة غير متيقن؛ إذ إن عقد الإجارة مرتبط بالعين المؤجرة، فإذا بقيت بقي عقد الإجارة، وإذا هلكت انفسخ عقد الإجارة، كما أن عقد الإجارة قد ينفسخ بأسباب أخرى: منها وجود مانع يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة، كما إذا غصبت هذه العين، أو وجد خوف عام - كهجوم عدو على البلد ومحاصرة أهلها- بحيث لا يتأتى للمستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب ذلك، كما أجاز الحنفية- خلافا لجمهور الفقهاء- فسخها بموت أحد العاقدين أو كلاهما

، أو وجود عذر خاص يمنع من استمرار المستأجر في الإجارة إلا بضرر يلحقه، إذ الأصل عند الحنفية أنه كما تفسخ الإجارة بالعذر تبقى بالعذر، وضابط العذر عندهم هو ما يترتب على صاحبه ضرر لا يرضى به (1) .

فإذا كان استيفاء المنفعة من هذه العين غير متيقن طوال مدة الإجارة كما ذكرنا، فإن الأجرة المرتبطة باستيفاء هذه المنفعة تكون غير متيقنة، وإذا لم تكن متيقنة تكون محتملة، واحتمالها يورث جهالة، وإذا كانت مجهولة لا يصح أن تكون ثمنا، لأن من شرط الثمن أن يكون معلوما، وإلا فسد العقد.

*أما لو حددا الثمن في العقد، واتفقا على أنه مؤجل إلى أجل محدد، فإنه يجب الثمن في ذمة المشتري، وعلى المشتري أن يدفعه إلى البائع عند حلول الأجل، سواء أدفعه مما حصله من أجرة العين المشتركة، أم من غيرها.

(1)(البدائع للكاساني: 4/ 223؛والاختيار للموصلي: 1/ 233- 234؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 29؛ومغني المحتاج للشربيني: 2/ 355؛ وكشاف القناع للبهوتي: 4 / 17)

ص: 918

وبناء على هذا التصور يصح العقد، لأن العقد في هذه الحالة عقد بيع منجز بثمن مؤجل إلى أجل محدد. وذلك صحيح شرعا.

أما إذا أضيف العقد إلى زمن مستقبل، فقد سبق أن بينا حكم إضافة عقد البيع، وبينا أن جمهور الفقهاء لا يرون صحته.

وكذا سبق أن بينا حكم الوعد الصادر عن أحدهما بالبيع أو زمن أحدهما بالشراء، أو التواعد بالبيع والشراء.

(فإذا كانا قد تواعدا، أو وعد أحدهما الآخر بالبيع أو بالشراء، وقلنا بلزوم الوعد، فإنه يكون وعدا بمطلق بيع، على أن يحدد مقدار المبيع ومقدار الثمن للبيع في وقت إجراء عقد البيع، إذ لا بد من أن يكون كل من المثمن والثمن معلوما- على الوجه الذي أوضحناه فيما تقدم- عند إجراء التعاقد، سواء أعطاه الثمن من عائد الربح الذي استحقه من نصيبه في هذه العين المشتركة بينهما، أو قضاه إياه من غير هذا العائد، من أمواله الأخرى.

وبعد؛ فهذا ما وفقني الله تعالى إلى إبرازه من أحكام تتعلق بهذا الموضوع (المشاركة المتناقصة) في جملة من صورها، وأرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه الخير لديننا ودنيانا.. إنه نعم المولى ونعم النصير..

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم وسار على هديهم إلى يوم الدين.

التاريخ 18 من رمضان سنة 1422 هـ

الموافق 3 من ديسمبر سنة 2001 م الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

ص: 919