الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان
إعداد
الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وبعد فهذا بحث وسيط بناء على طلب معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي حول: (التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان) .
ويتمثل هذا البحث في مقدمة تعريفية ب حقوق الإنسان في الإسلام مقارنة بهذا المفهوم في الفكر الوضعي، وفصلين: أولهما عن التشريع الجنائي الإسلامي. وفصل عن الفروق الأساسية بينه وبين التشريع الوضعي تظهر لمحات عن حقوق الإنسان لا توجد في أي تشريع. وخاتمة فيها خلاصة البحث.
تعريف حقوق الإنسان:
هذا عنوان مركب من كلمتين تركيبًا إضافيًّا هما: حقوق وإنسان، وهذا العنوان وإن كان معروفًا ومتعارفًا عليه إلا أن ذلك لا يعفي من تعريفه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فما هي الحقوق؟ وما هو الإنسان؟
الحقوق: جمع حق، وهو لغة: الثابت الذي لا يقبل النفي، والوجود المطلق الذي لا يقبل الفناء، لهذا كان الحق من أسماء الباري جل وعلا:{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] .
وأنزل كتابه بالحق: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] .
ووعده الحق: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] .
وقوله الحق: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام: 73] .
وهو سبحانه وتعالى يحق الحق: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي يجعله ظاهرًا، ويهدي إلى الحق:{يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] .
والحق هو أعلى قيمة في سلم القيم فبه قامت السماوات والأرض: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر:85] ، فبالحق ينتظم العدل والخير والجمال والشرف.
ويقول ابن عاشور رحمه الله تعالى في تعريف الحق – بتصرف -: والحق ماهيته هو ما يشتمل على نفع لجانب مختص به دون غيره أو هو أرجح له منه لغيره بسبب من أسباب التخصيص أو الترجيح، وقد يكون الحق معنى من المعاني متعلقا بذات مثل حق تربية الأب لابنه، وقد يكون ذاتا كما يقال: هذه الأرض حق لفلان.
والجانب الذي يملك الماهية دون غيره هو الذي يعلق اسمه بعد الحق باللام، فيقال: حق لفلان.
والمطالب بالحق يعدى إليه بعلى، واجتمعا في قوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] فهو للأول حق وعلى الثاني واجب، لأن الحق ما يجب للمرء على غيره، فهو حق من جهة المستحق، واجب من جهة المطلوب، فيكون الحق في مقابل الواجب فإذا كان المطلوب به شخصا يكون من باب فروض الأعيان، كحق الوالدين على أولادهم، وحق الدائن على المدين، وإذا لم يكن شخصا معينا احتمل أن يكون موجها إلى الكافة، وهذا ما يسمى بفرض الكفاية، وقد يتعين لأسباب معروفة في علم الأصول. (1)
أما الإنسان: فهو اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى والواحد والجمع، مشتق من الأنس على الصحيح، ويجمع على أناس، يطلق على البشر الذين يرجعون إلى آدم وحواء، هذا ما تقول الرسالات السماوية من أقدمها إلى آخرها الرسالة الخاتمة لمحمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
ويقول بعض الكتاب الوضعيين:
لقد اضطرب رجال القانون الوضعي في تعريف الحق، حيث إن كلمة الحق هي من الكلمات التي تدعى بكلمات التذكير (Des mots Devocation) وذلك على عكس ما يسمى بكلمات التحديد والتدقيق (des mots derecision) .
فأمثال كلمات التذكير عديدة منها مثلًا: الخطأ، الحقيقة، الصواب، العدل.. إلخ. وكلها لا تدل على شيء محدد ومعين، على خلاف كلمات التحديد وأمثالها: - البيع، التأمين، الهبة، وكلها تدل على وضع معين.
حيث تشير كلمة الحق في معناها العام إلى جملة من المعايير التي تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر، وإلى تأمين المصالح الإنسانية.
وقد اختلف فقهاء القانون عندما حاولوا وضع تعريف شامل للحق، فقال بعضهم: إن الحق مصلحة مادية أو أدبية يحميها القانون، وعرفه بعضهم الآخر بأنه سلطة إرادية تثبت للشخص وتخوله أن يجري عملًا معينًا، وتعرض كل رأي لانتقادات جمة، مما يجعل بعضهم يؤكد أن تعريف الحق تعريفًا شاملًا ينطبق على مفاهيمه في كل زمان ومكان غير ممكن، وأنه للوصول إلى الصواب في ذلك لا بد من تتبع مفاهيمه في الأنظمة الحقوقية السائدة في المجتمع، ومن هنا يختلف تعريف الحقوق في الفقه الإنجليزي عنه في الفقه الفرنسي أو الفقه الإسلامي وغيره.
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 282.
وهكذا يمكن القول بأن الحق يرتبط بالمجموعات البشرية، ويتطور بتطورها، ويظل دائمًا أمرًا اجتماعيًّا محددًا بجملة من المعايير والقوانين، وهو بذلك ليس مقولة إنسانية مجردة، إنما هو تعبير تاريخي، وضرورة تاريخية لتنظيم علاقات المجتمع، ولهذا كان لا بد من التمييز بين الحق الموضوعي والحق الطبيعي، فالأول تمليه السلطة السياسية العليا التي تعبر عن إرادة المجتمع، بينما يرتبط الثاني بالطبيعة الإنسانية المجردة، أي أنه أقرب إلى حقل الأخلاق التي تعبر عن إرادات فردية (البير جاكورا) . وإذا أردنا تعريف المركب في نظر الوضعيين، بعد المفرد، فلعل تعريف رجل القانون يوموزوركي النيجيري أوضح التعريفات، حيث يقول:"تم تعريف حقوق الإنسان بطرق مختلفة فهي بالنسبة للويس هنكلين: تلك الحريات والحصانات والمزايا التي - طبقًا للقيم المعاصرة المتفق عليها - يستطيع كل فرد أن يطالب بها (كحق) من المجتمع الذي يعيش فيه".
وقد عرفها أيضًا بأنها (مطالب) تساندها باستمرار الأخلاقيات والتي يجب أن يساندها القانون تجاه المجتمع، وخاصة تجاه الحكام الرسميين من جانب الأفراد أو الجماعات على أساس إنسانيتهم، وهي تطبق بغض النظر عن الجنس، أو اللون أو النوع أو أي خصائص أخرى، ولا يمكن الرجوع فيها أو إنكارها من جانب الحكومات أو الناس أو الأفراد.
نظرة إلى حقوق الإنسان في الإسلام:
ويمكن تعريف حقوق الإنسان بالنسبة للشريعة بأنها: تلك المزايا الشرعية الناشئة عن التكريم الذي وهبه الباري جلت قدرته للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] وألزم الجميع طبقًا للضوابط والشروط الشرعية باحترامها.
وقد يكون من المناسب الاستشهاد بكلام للقاضي عياض اليحصبي عن الشريعة حيث يقول: إن أحكام الشريعة أوامر ونواهي تقتضي حثًّا على قرب ومحاسن، وزجرًا عن مناكر وفواحش، وإباحة لما به صلاح هذا العالم، وعمارة هذه الدار ببني آدم، وأبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على هذه الكلمات، وسنشير إلى رموز في كلمات هذه القواعد.. (1) .
بذلك تدرك أن الباري جل وعلا هو أصل هذه الحقوق فهي منحة ربانية، وهي تشريف وتكليف للإنسان باعتباره مستخلفًا في الأرض، وسخر له الكون ليديره برشاد وسداد، وفي مقابل هذه النعمة فعليه حقوق العبادة للخالق جلت قدرته، وهنا ينشأ حقان: حق الله تعالى وحق العباد، وبعبارة أخرى ينشأ الواجب والمسؤولية، فعندما تقرر الحرية للإنسان واستقلال الاختيار، فهذه الحرية محكومة بحدود حرية الآخر (لا ضرر ولا ضرار) لتصبح الحرية أرضية لنمو المسؤولية ورعاية الفرد والمجتمع، مسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه نفسه وتجاه أبناء جنسه.
(1) المدارك، للقاضي عياض: 1 / 92 - 93.
وقد أصل العلماء ما سموه بـ مقاصد الشريعة، أي المعاني المستنبطة من مجمل النصوص الشرعية للتعريف على أهداف الشريعة ومراميها مجردة عن النصوص، حيث فصل أبو إسحاق الشاطبي تكاليف الشريعة قائلًا: إنها ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: تحسينيه.
أما الضرورية: فمعناها أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. (1)
إن هذه المقاصد تنطوي على صيانة سائر ال حقوق الإنسان ية الأساسية والاقتصادية، إلا أنها تزيد عليها بحقوق أخرى لا غنى عنها للإنسان في ترقيته وحمايته، وهما هدفا حقوق الإنسان، فالضرورية تترجم بحق الحياة، وحق التملك وحق تكوين الأسرة مع زيادة حق العقل وحق التدين وحق النسل.
وقد أوضح ذلك الشاطبي بقوله: فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشرعية شرعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل (2)
وقال الغزالي: أمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه شرط في وجوب التكليف بالعبادات (3) .
أما المقصد الحاجي: فهو يترجم حق الإنسان في التعليم والمسكن وغيرهما من الحقوق التي ترفع مشقة الحياة وتؤمن الحياة الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
أما المقصد التحسيني: فيرمي إلى منح الحياة الجمال والمتعة والتمتع بالطيبات طبقًا لقوله جلت قدرته: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .
(1) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات: 2/8 - 10.
(2)
أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات: 1/ 38.
(3)
أبو حامد الغزالي، المستصفى: 1 / 287.
إن هذه المقاصد هي تأصيل لنظرة متكاملة متوازنة ل حقوق الإنسان مقرونة بواجبات المجتمع والأفراد في توفيرها وحمايتها، باعتبار ذلك مسؤولية الجميع ديانة وقضاء (قانونًا) بمعنى أنها ليست وعظية، وإنما إلزامية، وهذه هي ميزة القانون.
وعلى المقصد الضروري أسس التشريع الجنائي الذي يترجم هذا المقصد إلى إجراءات عملية تضمن حرمة النفس والمال والدين.
تنظيم مسائل العقوبات والتفريق فيها بين الحق العام أو حق الله تعالى والحق الشخصي، ثم التفريق أيضًا بين الحدود أي العقوبات المقدرة شرعًا وبين العقوبات غير المقدرة أي المتروكة لحكمة القاضي باسم التعزير، ثم ضبط شروط جنايات القتل وجراحات العمد وتحديد مسائل الديات والتعويضات.
ولعل أهم دعامة في الشريعة ل حقوق الإنسان هي استقلال القضاء، فالقاضي لا يرجع إلا إلى الشريعة وضميره.
ويوضح هذا الاستقلال الرسالة المختصرة التي أرسلها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى واليه معاوية بن أبي سفيان حاكم سورية وفلسطين: "إنه لا سبيل لك على عبادة بن الصامت ". وكان عبادة قاضيًّا لفلسطين من قِبل الخليفة، وهنا يضع عمر حدًّا لتدخل الولاة في شأن القضاة.
وفي العصر العباسي، وفي أواخر القرن الثاني عزل الخليفة نفسه عن تعيين القضاء، حيث وكل الأمر إلى القضاة، وقد عين الرشيد القاضي أبا يوسف، وعهد إليه بتعيين القضاة في الأمصار، فأصبح للقضاء نوع من الاستقلال الإداري.
ويمكن اعتبار ديوان المظالم وسيلة متقدمة لحماية حقوق الإنسان، وبخاصة من جور السلطة، وقد أنشأه المهدي في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حيث كان يتلقى شكاوى الناس، حتى ضد كبار موظفي الدولة، وظل المهدي وخلفاؤه إلى فترة المهتدي 255هـ، يجلسون في يوم أو يومين من الأسبوع لسماع شكاوى الناس ضد أولي الأمر وغيرهم.
واستحدث قضاء عسكري في أيام المماليك بعد طرد الصليبين من الشام في نهاية القرن السابع، وكان منوطًا بهذا القضاء الفصل فيما يقع بين الجنود من خلافات، فكان في دمشق قاضيان للعسكر.
وفي هذه الفترة بالذات في القرن السابع الهجري كانت الدراسات المتعلقة بأصول الفقه قد نضجت نضجًا كبيرًا، كانت نتيجة كتب إمام الحرمين الجويني وتلاميذه وبخاصة أبا حامد الغزالي، حيث تم التركيز على مقاصد الشريعة المبنية على المصالح جلبًا، والمفاسد درءًا باعتبارها مسلكًا من مسالك تعليل الأحكام، وفي هذا التطور العقلاني لأصول الفقه برزت المصلحة أساسًا للتشريع تأصيلًا وتعليلًا، وألفت كتب تحت عنوان المصالح، وكان من أبرع المؤلفين العز بن عبد السلام الشافعي المولود في أواخر القرن السادس الهجري والمتوفى سنة 660 هـ، وكان كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) يمثل توجهًا جديدًا في الطرح الأصولي أو فلسفة التشريع، حيث اعتبر أن الشريعة ترجع إلى مصالح العباد، وأن "معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع ". (1)
وهكذا كان بحث المصالح وتشعباتها أساسًا لبحث الحقوق، وقد أفاض العز في تسع صفحات من كتابه في الحقوق وأنواعها، حيث بدأ الحديث عنها بقوله: فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض، واستشهد بوصيته عليه الصلاة والسلام المؤكدة في حجة الوداع، وقسم حقوق العباد (الإنسان) إلى ضربين: حقوقهم في حياتهم، وحقوقهم بعد مماتهم.
وقسم الحقوق إلى مقاصد، ووسائل، وحقوق ناشئة عن سبب، وحقوق ليس لها سبب، وحقوق الخالق، وحقوق العبد (الإنسان) ، وحقوق متفاوتة في مراتبها وحقوق متساوية، وترتيب حقوق الله تعالى، وترتيب حقوق العباد (الإنسان) لترجح المصالح جلبًا، والمفاسد درءًا، وتساوي الحقوق، وتقديم حق الله تعالى على حقوق العباد، وتقديم حقوق العباد على حقوق الله تعالى، وخصص فقرة لحقوق الحيوان على الإنسان، ووضع قاعدة في بيان الحقوق الخاصة والمركبة.
* * *
(1) العز بن عبد السلام، قواعد الإحكام في مصالح الأنام: 1 / 6.
الفصل الأول
التشريع الجنائي الإسلامي
أولًا - لمحة تاريخية عن التشريع الجنائي:
منذ فجر التاريخ عاش الإنسان حياة اجتماعية نبعت عنها ضرورة تنظيم علاقاته بإرساء قواعد لها طبيعية الإلزام وواجب الاحترام للتحكم في غرائز العدوان ونوازع الفجور: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] ولم يخل مجتمع - مهما كانت درجة تخلفه أو تقدمه أو انحطاطه أو رقيه - من نوع ما من هذه القواعد التي قد تكون مرجعيتها تشريعًا سماويًّا يوحيه الباري جل وعلا على رسله وأنبيائه لإقامة العدل ونصب ميزان الاستقامة: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] .
وقد تكون مرجعيتها أعرافًا وتقاليد، وقد تكون نتيجة حكمة الحكماء ونظريات الفلاسفة كقوانين حمورابي والنظم والقوانين الرومانية التي تعتبر أساسًا للقوانين الأوروبية الحديثة.
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية التي تلقت الشريعة الخاتمة أن حباها بنظام شامل كامل عام في أصوله دقيق في فروعه وتفاصيله، فنظم الحياة الإنسانية أروع تنظيم، ورتبها على أحسن نسق، فكفلت الحقوق وحددت الواجبات فقامت العدالة على سوقها فمدت أطنابها وضرب الحق بجرانه.
ومن أهم هذه النظم التشريع الجنائي الذي كفل حياة آمنة، حماية ووقاية؛ حماية للمجتمع من شر الإجرام، ووقاية له من الجريمة، وإصلاحًا للمجرم نفسه، فكانت العقوبات في كل نوع من الجرائم متناسبة مع آثار الجريمة على المجتمع، ومتوازنة مع درجة الضرر اللاحق بالفرد والجماعة في تسلسل رائع وسلم متدرج ونظام لا يحيف ولا يطغى، جاءت الشريعة متسعة في آفاقها ومفاهيمها، واضحة في إعلانها، مستقرة في ثبوت نصوصها، مستمرة ومتطورة في مقاصدها.
أما الاتساع فيبينه قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وأما وضوح الإعلان فيجليه إعلانه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا..)) .
وقد ترجم علماء الأمة ذلك ترجمة أمينة ومعبرة في تعريفهم للجريمة، عندما تقارن ذلك بالتعريف الغربي لها، فالقانون يعرفها بأنها:"كل مخالفة يعاقب عليها القانون "، بينما يعرفها الفقهاء بأنها: كل فعل عدواني على نفس أو دين أو عقل أو عرض أو نسب أو مال" (1)
والجناية: "كل فعل محرم حل بمال أو نفس "(2) .
ويعرفها ابن قدامة الحنبلي بأنها: "كل فعل عدواني سواء كان في مال أو نفس".
فتعريف الفقهاء يحدد الغاية من التحريم التي هي حماية النفس والمال والعرض والعقل، ويؤصل نظرية الإجرام تأصيلًا لا يحيل على القانون، بل يحيل على طبيعة الفعل، محافظة على الضرورات الخمس التي بدون حمايتها لا يتسق نظام اجتماعي.
(1) ابن جزي، القوانين الفقهية.
(2)
ابن عابدين، رد المحتار.
ثانيًا - العقوبة في الشريعة الإسلامية:
لقد رتبت عقوبة الجرائم ترتيبا دقيقا في مجموعات متميزة بحسب خطورة الجرم، وطبيعة العقوبة، وعلاقة العقوبة بالجهة المتضررة فردا أو مجتمعا.
فقسموها إلى ثلاثة أنواع:
1 – القصاص. 2 – الحدود. 3 - التعزيرات.
1 -
القصاص: هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وغلب استعماله في قتل القاتل وجرح الجارح وقطع القاطع، ويكون عقوبة لكل جناية على بدن، أو نفس، أو عضو، فالقصاص حق من حقوق المجني عليه إن شاء عفا عنه أو استوفاه، وهذا ما سمي بالحق الشخصي، سوى ما يبقى فيه من حق السلطان في التعزير.
قال ابن القيم: لولا القصاص لفسد العالم، وأهلك الناس بعضهم بعضا، ابتداء واستيفاء، فكان القصاص دفعا لمفسدة الجرأة على الدماء بالجناية وبالاستيفاء.
2 -
الحد: كل عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى أو لآدمي لا يمكن التنازل عنه إلا في ظروف الضرورات وأزمنة الفتن، كما نص عليه القرطبي، والحدود ستة: الردة والزنا والسرقة وشرب المسكر والقذف والحرابة، والعقوبات في مجال الحدود أربعة أنواع: القتل والقطع والجلد والنفي.
3 -
التعزير: هو عقوبة غير مقدرة شرعًا، تجب حقًّا لله تعالى أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة غالبًا.
وهو حق من حقوق ولي الأمر، فهو مفوض له في تقدير مقداره على رأي الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والصحيح من مذهب أبي حنيفة، ويمكن أن يسقطه، فهو يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد وجودا أو عدما وتشديدا وتخفيفا.
فالحقوق متمايزة تارة تكون من حق الله تعالى، وقد يسمى بحق السلطان، كما أطلق عليه ابن رشد الحفيد (1) لا يمكن عفوه إذا كان حدًّا، وتارة تكون حقًّا لآدمي يجوز عفوه، وتارة تكون مترددة بين الحقين، فيختلف فيها، وقد يرتكب الحقان في قضية واحدة ذات وجهين، كالمحارب يأخذ مال الغير، وتلك القسمة ثلاثية أخرى ناشئة عن تعيين جهة الحق.
(1) بداية المجتهد: 2/ 404.
وقد درجت القوانين الوضعية على التمييز بين الجهتين جهة الحق العام وجهة الحق الشخصي، ورتبوا على ذلك الدعوى المدنية التي يقوم بها المتضرر مطالبًا بجبر ضرره، ودعوى الحق العام التي يرفعها المدعي العام لحماية المجتمع.
لكن الشريعة المطهرة بتفصيلها لأنواع الجرائم وأصناف العقوبات أكدت على عنصر الثبات والاستقرار التشريعي ممثلًا ذلك في الحدود الشرعية التي تحمي الكليات حماية سرمدية تتلاءم والضرورة الأبدية للإنسان. كما أكدت على جانب المرونة والتطور والتكييف مع مختلف البيئات، مبرزة ذلك في التعزيرات، وهو أمر لا يقتصر على عدم تحديد سقف العقوبة ولا عتبتها الدنيا فحسب، ولكنه يتمثل في إشراك الجهات القائمة على أمور المجتمعات في إثبات العقوبة أو نفيها، توخيًّا للمصلحة، وليس تشهيًّا بالهوى.
ولعل بعض القانونيين المنصفين في الغرب لاحظوا عنصر الثبات والديمومة وعنصر المرونة والتطور في هذه الشريعة فأشادوا بها، كما فعل رجل القانون الإيطالي د. أنزيكوانز إباتو في كتابه (الإسلام وسياسة الحلفاء) في النصف الأول من القرن العشرين حيث يقول:"إن الشريعة الإسلامية دقيقة وثابتة من حيث صياغتها، لكنها مع ذلك تتلاءم مع الواقع، وإن تطورها لا يقلل من قيمتها وفعاليتها، لقد بقيت قرونًا طويلة محتفظة تمامًا بحيويتها ومرونتها".
إن النظام الجنائي المتوازن بين حق الفرد وبين حق المجتمع هو الذي يميز الشريعة عن الأنظمة الغربية التي تتباكى على الفرد المجرم، وتهدر حق الهيئة الاجتماعية التي هي آلاف الأفراد.
وإن هناك خلافًا آخر حول النظرة الخلقية التي تفرز القانون أو التي يفترض أن يكون القانون في خدمتها، كما أن نظرية النظام العام بالمعنى الحقوقي تختلف ما بين النظامين الإسلامي والغربي كما سنبين.
والشريعة المطهرة مع اهتمامها الشديد بسلامة المجتمع فإنها تقدم للفرد ضمانات أكيدة لا من حيث درء الحدود بالشبهات، وهي قاعدة تنسحب على الحدود وبخاصة في جرائم الأخلاق وحقوق الله المحضة، ولكنها قدمت ضمانات على مستوى الإجراءات القضائية ووسائل الإثبات، فمنعت القاضي من أن يحكم بعلمه الشخصي، واشترطت العدالة وزيادة العدد على اثنين في قضايا أخلاقية معينة، وأعذرت للمتهم في البيّنات ليجرح الشاهد عند الاقتضاء، وأوجبت الأيمان وغلظتها حيث يجب التغليظ، وألغت إقرار المكره، ولم تعتبر إلا إقرارًا في حالة طوع واختيار وحرية، واشترطت شروطا خاصة فيمن يتولى القضاء من علم وروع ونزاهة واستقامة إلى آخر ما هو معروف في كتب الأحكام والقضاء.
بعد عرض التقسيمين السالفين للعقوبة والجهة المطالبة باستيفائها فإن تقسيمًا ثالثًا ناشئًا عن طبيعة الجناية وهو لابن رشد الحفيد في (بداية المجتهد) .
حيث قسمها إلى خمسة أنواع: جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء، وجنايات على الفروج، وجنايات على الأموال، وجنايات على الأعراض، وجناية بالتعدي على استباحة ما حرم الشرع من المأكول والمشروب قائلًا: إن هذه هي الجنايات التي لها حدود شرعية ولا أراني بحاجة إلى تفصيل أحكام الجنايات ومستوجبات الحدود ومواقع التعزير، اكتفاء بالتأصيل عن التفريع، وبالتعريف بالحد عن التوصيف والعد، فذلك معروف في كتب الفقه ومدونات الأحكام.
فمن المعروف أن الجريمة تنشأ عن معصية الله تعالى ومخالفة أمره مجردًا عن حق الآدمي أو ملتبسًا باعتداء على آدمي، لأن كل اعتداء على الغير هو معصية لله لا العكس، فقد توجد معصية دون أن يكون فيها عدوان على الغير، كترك الفرائض وشرب المسكر، إلا أنها في حقيقة أمرها تحمي المجتمع بالمحافظة على الخلق القويم، والذي بدونه تسود ثقافة العنف وتنمو شجرة الحقد" (1) .
التشديد في العقوبة في بعض الجرائم وهي التي تسمى جرائم الحدود، ونحن في الشريعة نفرق بين جرائم الحدود وجرائم التعزير، فالأولى محدودة العقاب محدودة العدد من طرف الشارع، أما جرائم التعزير فلم يحدد الشارع لها عقابًا معينًا، بل ترك أمرها لاجتهاد القاضي يراعي الظروف المخففة أو العكس، ليعامل كل حالة على حدة من باب ما يسمى بتفريد العقوبة، كانتشال المال خلسة من صاحبه الذي لم يضعه في حرز، وكغصبه مما لا يعد سرقة في عرف فقهاء الشريعة.
ثم إن تشديد العقوبة قوبل بالتشدد في وسائل الإثبات حيث إن بعض الجرائم لا بد فيها من أربعة شهود، ولو أقر صاحبها وتراجع عن قراره أو هرب من المحكمة ترك، كجريمة الفاحشة، حتى يكاد البعض يجزم أن التجريم إنما هو للتهديد والتحذير، وهو أصل معروف حتى في القوانين الغربية، وكذلك فإن القاضي لا يحكم بعلمه في القضايا، فاقتناعه لا يكفي في القانون، بل لابد من وسائل إثبات قاطعة، إبعادًا للقاضي عن تهمة الحيف، فلو رأى شخصًا يسرق ما كان له أن يحكم عليه إلا باعتراف أو بشهادة مقنعة.
وفي الحقيقة فإن معايير التجريم مسألة نسبية كما يعترف به فقهاء قانون الغرب.
فبماذا يعتبر الفعل جرمًا؟
إن عامل الأخلاق والنظام العام والنكير الاجتماعي؛ كل أولئك الثلاثة يعتبر أساس التجريم.
(1) خطاب الأمن في الإسلام، ص 55 - 60.
يقول القانوني الفرنسي جاك برادلي في كتابه (القانون الجنائي - مدخل عام) وهو يعترف بصعوبة تعريف الجريمة تعريفًا اجتماعيًّا وخلقيًّا: "فتجريم الفعل ينتج عن قناعة المشرع بأن الفعل لا يغتفر لدى الرأي العام، فيجب أن تناط به عقوبة أقوى "ثم يقال: "إن حق المجتمع أن يعاقب من يعكر صفوه لم ينكره إلا قلة من المؤلفين، إن غالبية الفلاسفة يعترف بحق المجتمع في إيقاع العقوبة".
ثم يقول وهو يتحدث عن الأخلاق: "إن العلاقة حميمة بين القاعدة الخلقية والقاعدة القانونية، إن تاريخ القانون الجنائي يبرز غالبًا أن السلوك الذي يصدم الأخلاق الفاضلة للفرد أو الجماعة هو الذي يعاقب، كالاعتداء على الدين أو الحياة أو الملكية".
ويقول رجل القانون الفرنسي تون كاريسون: "إن القانون والأخلاق يمكن أن يقارنا بدائرتين تتقاطعان، لهما في نفس الوقت فضاء مشترك ومساحات خاصة بكل منهما.
ويلاحظ المؤلف أن القانون لا يجرم الكذب، ولا فيما بين المرء وربه، وإنما يتفق مع الأخلاق الاجتماعية المتعلقة بواجبات الإنسان بأبناء جنسه فالإخلال بها يجرمه القانون الجنائي".
ويقول ديكوك في كتابه (القانون الجنائي) : "وفيما يخص النيل المباشر من النظام الاجتماعي كما هو معروف عندنا كالاعتداء على الدين والشأن العام، فإن رد الفعل مرتبط بكل مجتمع بشري قبلي أو دولة "(1) .
ويقول: "إن القانون الجنائي هو التعبير عن استنكار المجتمع للعمل الذي قام أو يقوم به والذي يبرز في إنزال العقوبة" وإن المادة (29) من ميثاق حقوق الإنسان تجعل تطبيقه مرتبطًا برعاية الأخلاق والنظام العام، ونحن عندما نطبق هذه العقوبات فإنما هو تطبيق لأخلاقنا واستجابة لرد فعل مجتمعاتنا التي تختلف عن المجتمعات الأخرى، فلماذا ينكرون علينا ما يجيزونه لأنفسهم؟
(1) ص 26 - 27.
وبقي أن نضيف كلمة عن عقوبة الإعدام والسجن المؤبد، ولعلنا هنا نستعير من د. إبراهيم المرزوقي في قوله:
"إن عقوبة الإعدام - وما تسببه من الرعب النفسي - وعقوبة الأشغال الشاقة والتي تتسبب في المعاناة الجسمانية - وما زالتا مطبقتين في كثير من الدول، وعليه يمكن القول بأن (قاعدة الحد الأدنى في معاملة المساجين) لم تحسن بعد أمر كل أنواع العقوبات المشددة، يمكن استنتاج أن معيار (الحد الأدنى) من العقوبة القانونية - من حيث التقليل من المعاناة النفسية والبدنية عن الشخص موضوع العقاب - ليس معيارًا واقعيًّا، لأنه لا يشكل رادعًا كافيًّا لتوفير الأمن والحماية اللازمة للمجتمع، والبرهان على ذلك هو تصاعد نوع وعدد الجرائم التي تشهد تلك الدول التي لا تطبق العقوبات البدنية على مجرميها، وحيث إن تلك الزيادة في الجرائم تعني ازدياد التهديد الموجه إلى أمن واستقرار المجتمع فإن على تلك الشعوب أن تختار بين العقوبات الرادعة للدفاع عن الصالح العام، أو التضحية بتلك المصالح وترك العنان للمجرمين لتدمير المجتمع كما يحلو لهم، وعليه فالتردد الذي تبديه بعض الدول - في عدم إلغائها للعقوبات البدنية - يمكن تبريره بحماية أمن شعوبها، ولا يمكن اتهام أي نظام قانوني بالقسوة، حينما ينحاز إلى تفضيل الصالح العام، ذلك لأن مدى الإنسانية والرحمة الذي يحققه القانون هنا بذلك التفضيل يكون أعظم كثيرًا من بعض الأضرار العقابية المستحقة التي يتكبدها المجرمون كنتيجة عادلة لما اقترفته أيديهم "(1) .
ويضيف المرزوقي في محل آخر من كتابه مقارنة بين النتائج المجتناة من تطبيق الشريعة الإسلامية وبين تلك الناشئة عن التراخي فيها قائلًا:
"ولذا فإننا نجد أن معدل الجريمة يرتفع بشكل مخيف في المجتمعات الحديثة، وبالتالي يزداد عدد الضحايا وتزداد انتهاكات الحقوق ويتفاقم الاعتداء عليها، مما يؤدي بالتالي إلى تقليص الحقوق وتضييق حدود الحريات التي يجب أن يتمتع بها الناس".
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن عدد حالات العقوبة المنفذة في الجرائم الكبرى (الحدود) في المملكة العربية السعودية مثلًا قليل لدرجة تعكس المعدل المنخفض لحدوث تلك الجرائم، خاصة إذا تمت المقارنة بمعدل ارتكاب مثل هذه الجرائم في بعض البلدان الإسلامية وغير الإسلامية الأخرى.
(1) المرزوقي، ص 438.
إن الارتفاع النسبي لمعدل الجريمة في البلدان التي تتراخى في تطبيق الشريعة الإسلامية إنما يدل على ضعف عامل الردع في العقوبات المفروضة، وعلى الإخفاق في تطبيق العقوبات بما يتناسب مع خطورة الجرائم التي تتم بالإدانة فيها، فمقابل كل جريمة ترتكب هناك حق - سواء فردي أو جماعي - ينتهك، وعندما يردع تطبيق القانون المجرمين فإن في ذلك حماية للحقوق والحريات، وهنا يظهر على الأقل نوع من التبرير لتلك العقوبات التي قد تبدو قاسية في ظاهرها، أما عندما يفشل القانون بنصه وروحه وتطبيقه في الردع فإنه يخفق أيضًا في حماية الحقوق الشخصية والجماعية ويفشل بالتالي في حماية الصالح العام، وعليه يثور التساؤل عن جدوى تلك القوانين والأنظمة وما حاجة الناس إلى ضجيجها؟ وهذا ينطبق على كثير من القوانين الحديثة وتعديلاتها التعجيزية المتتالية دونما فائدة تذكر.
إن ما يحققه التشريع الإسلامي في خلق مجتمعات آمنة مستقرة واثقة من حماية حقوقها يدحض الادعاءات المثارة حول قسوة نظام العقوبات الإسلامي، فإذا لم تعتبر مثل تلك الادعاءات مغرضة، فهي على الأقل لا أساس موضوعي لها (1) .
الغاية الكبرى والهدف الأسمى لأي تشريع جنائي هو تقليل الجريمة، والحد من الإجرام، للمحافظة على حقوق الإنسان في الحياة والأمن وحقه في المحافظة على ملكيته وحقه في صيانة نسله، وهو حق لم يراع بما فيه الكفاية في التشريع الجنائي الوضعي، وبقدر ما ينجح في المحافظة على هذه الحقوق يكون نجاحه وفشله.
وبهذا يكون التشريع الإسلامي بثوابته المستقرة في الحدود ومرونته في التعزير يلبي المصالح الأساسية للإنسان ويحقق عمليًّا الغاية من حقوق الإنسان.
* * *
(1) المرزوقي، ص 459.
الفصل الثاني
الفروق الأساسية بين التشريع الجنائي الإسلامي
والتشريع الوضعي
قد يكون من المناسب أن نذكر هنا عدة فروق بين التشريع الجنائي الإسلامي والتشريع الوضعي، ومن خلال بعضها سنرى نصوصًا تتعلق ب حقوق الإنسان في الإسلام:
أولًا - الفرق الأول: مصدر حقوق الإنسان في الإسلام رباني:
فالباري جل وعلا هو مصدر الحقوق {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، ومرجعيتها الكرامة التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] .
أما المصدر ل حقوق الإنسان العالمية فهو إنساني، فقد ورد في المادة الأولى من الإعلان العالمي:"يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلًا وضميرًا".
ما أصل الكرامة الإنسانية؟.
من أعطى هذه الكرامة؟ ما مصدرها؟ ما هي مرجعيتها؟
ذلك ما تجنبه ميثاق حقوق الإنسان العالمي، بل إنه في المناقشات التي دارت في اللجنة التحضيرية لميثاق حقوق الإنسان رفضت الإشارة إلى الله تعالى وإلى كلمة (الخلق) وما تصرف منها، كما يقول شارل مالك - الحقوقي اللبناني والعضو في اللجنة التحضيرية لإعلان حقوق الإنسان - حيث كانت النتيجة هي اعتبار الإنسان نفسه مركزيًّا وكأنه هو الله، تعالى وتقدس، وذلك في مذكرات له. (1)
والمرجعية الفلسفية غامضة وفي الغالب إنسانية أو عدمية.
(1) وائل خير، دور شارل مالك في صياغة الإعلان، مجلة البحوث، 1998م، الجامعة الأمريكية بيروت.
الفرق بين المرجع والمصدر:
المصدر هو الجهة المقررة للمبدأ والمُشرِّعة له، والمرجع هو الخلفية التي على أساسها شرعت الحقوق فلسفية أو دينية.
ثانيًا: الاختلاف انطلاقًا من اختلاف المرجعية والمصدر في بعض المفاهيم:
مفهوم الترجيح بين الحق الجمعي أو حق الجماعة وبين حق الفرد، بينما تبدو النظرة الغربية أكثر ميلًا وترجيحًا لحق الفرد أو مصلحة الفرد تكون النظرة الإسلامية أكثر توازنًا، فهي تقوم على أساس أن الحرية تساوي المسؤولية، أي مسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه غيره:((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] .
وإن الفرد ينظر إلى مصالحه ومفاسده من خلال جهته الفردية ومن خلال علاقته بالمجتمع: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ، فلا يجوز أن يضر نفسه، ولا أن يتسبب في ضرر غيره.
وقد شبه عليه الصلاة والسلام تعسف الفرد في استعمال حقه في الحرية وحق الجماعة في الحد من هذه الحرية لمصلحة الجميع بأصحاب السفينة، وذلك في الحديث:((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) (1) .
إن هذا الحديث يدل على أهمية حق الجماعة وترجيحه على حرية الفرد لصالح الجماعة والفرد معًا، وأن الحدود الشرعية إنما جاءت لحماية الجماعة والمجتمع.
وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ومن القواعد:(دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص) ، (وارتكاب أخف الضررين) ، و (تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة) .
(1) أخرجه البخاري.
ثالثًا - مفهوم النظام العام:
وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام (بالمعروف) أو قاعدة العرف على اختلاف في المدلولين، وقد أشار إليه الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان كشرط من شروط التطبيق الميداني لمقتضيات الإعلان في المادة التاسعة والعشرين:"يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي ".
وقد فسر القانونيون النظام العام ومنهم السنهوري فقال: "أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، ولا نستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى، فهو أمر متغير يضيق ويتسع حسبما يعده الناس في حضارة معينة مصلحة عامة، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا يتماشى مع كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معيارًا مرنًا يكون معيار المصلحة العامة، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ".
إن تعريف السنهوري هو تعريف دقيق للنظام العام من كونه مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، باعتباره راجعًا إلى النظام الأعلى للمجتمع، ولهذا عبر عنه بعض القانونيين الغربيين بأنه مبدأ غامض، وأن هذا الغموض متعمد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلًا، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخاة.
ويرى السنهوري في كتابه (مصادر الحق) أن النظام العام يرادفه في الفقه الإسلامي (حق الله تعالى) في مقابل الحق الخاص، وهو حق لا يمكن إسقاطه ولا العفو عنه، وبنى على ذلك كثيرًا من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة.
ومن أمثلة ذلك في الشريعة أنه لا يمكن أن يتنازل عن نسبه لينسب إلى غير أبيه، وكل العقود التي يعترض فيها الشرع على إرادة المتعاقدين كالعقود الربوية والعقد على المحرمات كالخمر والخنزير (1) .
وسبق أن شرحنا أن النظام العام قد يرادف العرف، وهذا حيث يوجد فراغ تشريعي وهو أكثر (النظام العام) عند الغربيين، ولكنه قد يكون تطبيقًا لنص أو قاعدة، وحينئذ يكون قريبًا من حق الله تعالى الذي أشار إليه العلامة السنهوري.
وقد أشار القانوني الفرنسي هنري كابتان إلى أن (النظام العام) قد يكون ناشئًا عن مبادئ غير مكتوبة (العرف) ، ومبادئ مكتوبة، حيث يقول: إن النظام العام هو مجموعة المبادئ المكتوبة وغير المكتوبة التي تعتبر في النظام القضائي أساسية، ولهذا فإنها تلغي أثر الإرادة الفردية ومفعول القوانين الأجنبية.
أما الأستاذ كريستوف فيبيرا فيعرف النظام العام بما يلي: كل مجتمع يلزم أعضاءه باحترام مجموعة تضيق وتتسع من القواعد التي لها الأولوية المطلقة، والتي يطلق عليها عبارة (النظام العام) ، فكلمة النظام (Order) توعز بفكرة التوجيه والأمر والترتيب، وإضافة العمومي أو العام إليها تبرز أسبقية المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة (2) .
وعندما يشير إلى المبادئ غير المكتوبة فإنه يمنح للجهة التي تطبق القانون دورًا كبيرًا في تقدير نظرية النظام العام أو خلقها، وكذلك القاضي، مما يجعل النظام العام يدخل في فقه القضاء أو عمل المحاكم.
(1) 1/86.
(2)
من بحثه: النظام العام والمجلس الدستوري. بالفرنسية.
وقد اكتفى بعضهم بتعريف النظام فقط فقال عنه: إنه مجموعة القواعد التي يجب على المواطن أن يحترمها.
إن مجموع الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة، فلو كانت كذلك لأدت إلى فوضى في كل نوع.
ومن هنا تبرز فكرة (النظام العام)، إن وظيفة النظام تنحصر في ثلاثة أمور:
كأداة تحديد الحريات هذه هي وظيفتها، وكمعيار لأهلية السلطات للتدخل، وكوسيلة لرقابة المجلس الدستوري.
والأمثلة على ذلك من قرارات المجلس الدستوري الفرنسي عديدة، ومنها قرارات المجلس الدستوري في 25/1/1985م بصلاحية البرلمان في إعلان حالة الطوارئ في (جزر نوفل كالدوني) ، وهي حالة ليست منصوصة في الدستور، ومع أنها تحد من الحريات الفردية، وبرر المجلس ذلك بالمحافظة على النظام العام.
وهناك مثال آخر: فعندما منعت الحكومة البريطانية عرض فيلم يقدح في شخص المسيح عليه الصلاة والسلام رفعت بعض الجهات المهتمة ب حقوق الإنسان دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية باعتبار الحظر الذي فرضته الحكومة البريطانية منافيًّا لحق الإنسان في التعبير ونشر رأيه
…
إلخ.
وبعد نظر المحكمة في الدعوى أيدت موقف الحكومة البريطانية باعتبار الفيلم المذكور مخالفًا (للنظام العام) في قرارها بتاريخ 25 نوفمبر 1996م، وهي نفسها المحكمة التي أيدت أخيرًا قرار السلطات التركية الذي يحظر حزب الرفاه الإسلامي، وذكرت في حيثياتها أنه يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك ما لا يتفق ومنظومة القيم الأوروبية، وبمعنى آخر النظام العام - الغربي -.
والمحكمة في كلتا الحالتين تحترم منظومة القيم الغربية التي تعتبر المسيح عليه السلام مقدسًا، وبالتالي فإن التضييق على حرية التعبير مشروع إذا كان يمس بتلك القدسية، انطلاقًا من مبدأ النظام العام، بينما تعتبر شريعة الإسلام غير مقدسة طبقًا لنفس القيم الغربية، فيجب تضييق نطاق حرية التعبير على من يطالبه بها.
ذلك هو منطق النظام العام الغربي، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجة التعصب والاستعلاء، بل نعتبر أن موقفهم ينسجم مع نظرتهم الخاصة، وإنما الذي ينبغي أن يستوقف القارئ هو أن النظام العام هو نتيجة لموقف حضاري محدد، وإذا كانوا قد مارسوا حقهم في التعامل مع مبدأ نظامهم العام فلا أقل من أن يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأ النظام العام، فلكل أمة نظامها العام ومنظومتها القيمية، وهكذا فإن مادة (27) من الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان عندما تنص على تقييد الحريات المنصوص عليها في الإعلان عندما تتعارض مع (النظام العام) وهو يختلف من بيئة إلى بيئة وثقافة إلى ثقافة، فقد يعتبر ذلك اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.
أما في الإسلام فإن المعروف هو أمر يلاقي الاستحسان العام ما يسمى في لغة العصر بـ الرضا الجماعي، ويقابله المنكر الذي يستقبل بالنكير العام، ولا شك أن خروج الإنسان عاريًا قد لا يلاقي من النكير الجماعي في مجتمع ما يلاقيه في مجتمع آخر، وهذا العرف الجماعي الناشئ عن الدين أو التقاليد باعتراف القانونيين الغربيين أساس من أسس القوانين في الغرب، إذ أن الفلسفة التجريدية لا تكفي لتؤثر في كثير من النظم الاجتماعية والقوانين الزجرية.
رابعًا: قاعدة التوبة التي تسقط بعض الحدود:
كحد الحرابة قبل إلقاء القبض على المحارب ترغيبًا له في الصلاح وصيانة لدمه وماله، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] .
وهو عفو تشريعي بالنص يمكن أن يطالب به المجرم قضائيًّا (1) .
والتوبة تسقط عند بعض العلماء حد السرقة (عند الشافعية) وعند بعض كل الحدود.
إلا أن التوبة لا تسقط حقوق الناس.
إن أثر التوبة في التشريع الجنائي الإسلامي لا مثيل له في أي تشريع، فهو سبيل مهدها الشارع لإصلاح المجتمع وإعادة المنحرف إلى الصواب، حيث يستطيع من خلالها أن يستعيد حقوقه المدنية.
التوبة تسقط التعزيرات، قال القرافي: من الفروق بين الحد والتعزير: أن التعزير يسقط بالتوبة ما علمت في ذلك خلافًا، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) .
وبالنسبة لسقوط الحدود بالتوبة فقد اختلف فيه العلماء بعد اتفاقهم على سقوط حد الحرابة بالتوبة قبل القدرة على المحارب، لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} .
فمذهب الجمهور أنها لا تسقطه، وذهب عطاء وجماعة وقال به بعض الشافعية تسقط السرقة، لقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 38 - 39] .
وعزاه للشافعي وحملوا عليه سائر الحدود قياسًا (3) .
ولورود أحاديث عدة في هذا الباب.
(1) القرطبي: 6.
(2)
الفروق: 4 / 181.
(3)
القرطبي: 7 / 174.
أما القياس فيلخصه القرافي بقوله: "مفسدة الكفر أعظم المفاسد، والحرابة أعظم مفسدة من الزنا، وهاتان المفسدتان العظيمتان تسقطان بالتوبة، والمؤثر في سقوط الأعلى أولى أن يؤثر في سقوط الأدنى، وهو سؤال قوي يقوي قول من يقول بسقوط الحدود بالتوبة قياسًا على هذا المجمع عليه بطريق الأولى " وقد أجاب عليه بأجوبة (1) .
قال القرطبي: فأما الشرَّاب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم وإن رفعوا وقالوا: تبنا - أي الآن - لم يتركوا (2) .
أما الأحاديث فهي عديدة، منها ما يظهر منه العموم في الجرائم الأخلاقية التي ليس فيها حق شخصي، يرغب الإسلام الشهود في الستر على المتهم، ولا يشجع على الرفع إلى القاضي، حيث جاء في حديث هزال الذي رواه مالك في الموطأ، وكان هزال قد جاء يذكر عن رجل أنه زنى فقال عليه الصلاة والسلام:((يا هزال لو سترته بردائك كان خيرًا لك)) .
ولهذا قال الكمال بن الهمام: إن الشهادة بالحد مكروهة كراهة تنزيه، لأن الستر مندوب، إلا في حال المتهتك المعلن بالفاحشة (3) .
(1) 4 / 182.
(2)
6 / 158.
(3)
حاشية الشلبي على الزيلعي: 3 / 164؛ والبهنسي، السياسة الجنائية، ص 371.
خامسًا: إعفاء غير المسلم من عقوبة جرائم الأخلاق التي ليس فيها حق شخصي على خلاف:
قال ابن عابدين في الحاشية عازيًا لشرح السير: وذكر أيضًا أن المستأمن في دارنا إذا ارتكب ما يوجب عقوبة لا يقام عليه إلا ما فيه حق العبد من قصاص وحد قذف (1) .
وذلك فيما يبدو احترامًا لعقيدته الدينية التي يستحل فيها ذلك الفعل، ووفاء بعهد الأمان، وهذه درجة من التسامح لا توجد في أي تشريع وضعي أن يمنح الأجنبي حقوقًا أفضل من حقوق المواطن.
وللعلماء أقوال في هذه المسألة وتفاصيل تراجع في كتب الفقه.
وبالتالي فإن الضجة المثارة حول قسوة الإسلام في جرائم الأخلاق لو اعتبرت المعالجة الإسلامية في شموليتها المتمثلة في عدم الرفع إلى المحاكم أصلًا، والأمر بالستر، وبتأثير التوبة، وفي صعوبة الإثبات؛ لتحولت من استغراب إلى إعجاب ومن اشمئزاز إلى اعتزاز.
ولأدركنا أن العقوبة الشديدة هي في الحقيقة تهديدية لردع المجرم وحماية المجتمع.
تلك إشارات سريعة تظهر إلى أي مدى يتفوق التشريع الإسلامي على التشريعات البشرية في الرأفة بالإنسان، وإصلاح المجرم عن طريق التوبة، ومحاربة الانحلال من حيث المبدأ بوضع عقوبة تهديدية لا تطبق إلا في حالة نادرة وعلنية حيث تصبح الجريمة عدوانًا على المجتمع.
* * *
(1) 3 / 249.
خاتمة وخلاصة
في هذا البحث عرفنا حقوق الإنسان باعتبارها مزايا شرعية ناشئة عن تكريم الله تعالى للإنسان ألزم عباده باحترامها.
وبينا أن من مقاصد الباري جل وعلا في خلقه حماية هذه الحقوق وبخاصة في الكليات الخمس (الدين والنفس والنسب والمال والعقل) ، إذ بدون حماية هذه الكليات لا يمكن أن يقوم انتظام بشري.
فلولا الدين ما عبد الخالق الكريم، ولعاش الإنسان في ظلمة وعماء الحيرة والضياع، ولولا المحافظة على الأنفس لساد الهرج والمرج، وسفكت الدماء وتحولت البشرية إلى حيوانات كاسرة يقتل بعضها بعضًا، ولولا المحافظة على الأنساب ما عرف ابن أباه ولعاشت الإنسانية حياة بهيمية بدون أرحام توصل أو تعاطف يؤثر أو رعاية للصغار أو عناية بالكبار، تلك حكمة تحريم الفواحش باهرة ظاهرة لا يعمى عنها إلا الهوى الجامح.
ولولا حفظ الأموال التي بها قوام الأديان وصلاح الأبدان لما استقر لمخلوق قرار ولتهارش الناس على فريسة الدنيا كالكلاب الجياع.
ولولا حفظ العقول لضيعت الأمانة وضاعت وأهدر الإنسان أشرف منحة ربانية شرفه بها الله تعالى.
تلك هي حقوق الإنسان الحقيقية متمثلة في هذه الكليات التي أحاطها الباري جل وعلا بسياج من العقوبات الرادعة عن الإجرام، إصلاحًا للمجرم وحماية للمجتمع ورحمة بالبشرية جمعاء:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .
وهذه الحقوق التي جاء بها الإسلام يشهد لها العقل البريء من الهوى، وتزكيها الفطرة التي يقول عنها العلامة الإمام محمد الطاهر بن عاشور:"فشهادة الفطرة هي الأصل في تخصيص الحق بمستحقه، وإليها يرجع حق الله على عباده أن يعبدوه ويشكروه، لأنه الذي فطرهم وأوجد أصولهم، وحقه في حفظ الناس شرائعه وحفظ شعائر الإسلام والدفاع عن حوزته، وإليها يرجع حق الشخص في تصرفه في أجزاء ذاته، لأنه مختص بها بالضرورة، وحق الأم في ولدها، لأنه جزء منها وتكون فيها. وبعده حق الله في إقامة ما تعهد الله به من إيصال المنافع لأهلها، وهو الذي سمي بالحق العام الذي ليس لأحد إسقاطه مما فيه مصلحة تعم جمعًا من المسلمين لا يحصر بحيث لا يدري من تطيب نفسه بالتنازل عنه، كحفظ الطرقات والقناطر وحفظ مصالح الصبيان والمجانين والأموات "(1) .
(1) ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 285.
وفي الفصل الأول: قدمنا موجزًا عن الخطوط الأساسية والمبادئ الحاكمة التي تميز التشريع الجنائي الإسلامي ممثلة في أنواع الجرائم والجنايات وأنواع التدابير والعقوبات في سلم له ثلاث درجات هي: الحدود والقصاص والتعزيرات.
وفي الفصل الثاني: أوضحنا جملة من الفروق الجوهرية متمثلة في المصدر الرباني للتشريع الإسلامي والإنساني للتشريع الوضعي.
وترجيح الإسلام حق الجماعة مقابل حق الفرد الذي يرجحه التشريع الوضعي.
واختلاف نظرية (النظام العام) وهي نظرية تشكل تارة أساس القانون وتارة أساس اجتهاد المحاكم، تعتمد على الأخلاق والعوائد والمصالح، ومن الطبيعي أن تختلف من حضارة إلى أخرى.
كما أشرنا إلى ملامح من حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي تنسجم مع فطرة الإنسان وتراعي ظروفه، متمثلة في مبدأ التوبة الذي يسقط بعض جرائم الأخلاق، ومبدأ الستر على المبتلى، وعدم الرفع إلى القضاء.
ثم أخيرًا إعفاء غير المسلمين من عقوبة بعض جرائم الأخلاق التي لا حق لآدمي فيها، مما يمثل ذروة التسامح وقمة الرحمة والرأفة.
وفي الخاتمة أوجزنا بعض النقاط السالفة.
وأخيرًا: فإن هذا الموضوع ينبغي أن يعمق ويشرح ويوضح في وقت ضعفت فيه عزائم الأمة وخارت قواها وظنت بتاريخها وحضارتها الظنون، وشغرت برجلها وبلغ السيل الزبى والتقت حلقتا البطان عليهم ونادوا بالصيلم الصلعاء.
مما يوجب على الفقهاء والحكماء إحياء الأمل في النفوس، وتقديم حقائق هذا الدين بعد أن شوهت وجهه الدعايات الكاذبة في ليلة الفتنة الدامس.
والله ولي التوفيق.
* * *