الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استثمار موارد الأوقاف
(الأحباس)
إعداد الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
توطئة:
رغم الاختلاف بين الوقف والحبس، حيث يكون الأول محتويا على فك الملك أو التمليك للغير على نحو غير طلق لتعلق حق الآخرين به، يكون الثاني عبارة عن عدم التمليك للغير أصلا، بل له حق الانتفاع به لمدة معينة أو غير معينة.
إلا أن المراد من هذين اللفظين رغم اختلافهما شيء واحد جامع بينهما، ألا وهو الفائدة المرجوة من الوقف أو الحبس للآخرين الذي يكون من أعمال البر والإحسان.
وقبل البدء في تفصيل الموضوع نذكر فوائد الوقف العام.
فوائد الوقف العام:
إن الوقف هو إحدى السنن الدينية المؤكدة التي تعد في زمرة الأعمال الصالحة الباقية، كما يعد أبرز مظهر لتجسيد روح التعاون الاجتماعي من الناحية الأخلاقية، وهو عمل يكشف عن حالة التقوى والتحرر وعلو الهمة لدى الواقف، ويضفي صفة الحسن والخلود على عمله.
وقد جنت المجتمعات الكثير من الثمار الثقافية والصحية والمعاشية عن طريق تلك الأوقاف، إن كثيرا من العلماء والمفكرين قد بلغوا المكانة العلمية الرفيعة من خلال الاستفادة من المصادر الموقوفة، وإن الخدمات العظيمة التي قدموها من أجل رقي الحضارة والثقافة الإنسانية كانت من خلال ذلك الطريق.
ومن المؤكد: أن أحد العوامل المهمة لتقدم وازدهار الحضارة الإسلامية وانتظام أمر التدريس وطلب العلم ودعم العلماء هو إنشاء وإيجاد المراكز العلمية (كدور العلم ودور الخزانة وبيوت الحكمة) التي أنشئت عن طريق المؤسسات الوقفية التي أوقفها الأخيار لتلبية حاجات المحققين والدارسين المسلمين.
وفي الحقيقة: إن الوقف رصيد لا ينضب، قد استطاع في كافة الظروف من الحفاظ على مثل تلك المراكز العلمية وتسهيل أمر التعليم والتعلم من دون حاجة إلى دعم الحكومات.
وقد وردت الروايات المعتبرة المتعددة التي تحث الخيرين على الوقف والصدقة الجارية، فقد جاء في تعبير كثير من الروايات الصحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:(ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له)(1) .
أقسام الوقف:
إن الوقف ينقسم إلى خمسة أقسام، حيث إن الوقف مرة لا يكون له موقوف عليه يقصد عود المنفعة إليه، كوقف المساجد، ومرة يكون للوقف موقوف عليه يقصد عود المنفعة إليه.
وهذا القسم الثاني مرة يكون وقفا ذريا، ويسمى بالوقف المنقطع، ومرة يكون وقفا عاما، (ويسمى بالوقف التأبيدي، وهذا القسم الأخير وهو الوقف التأبيدي ينقسم إلى قسمين: إذ مرة تكون المنفعة ملكا لهم، ومرة يكون الانتفاع لهم فيتصرفون وينتفعون بالوقف فقط من دون ملك المنفعة، فهذه أربعة أقسام، فإذا أضفنا إليها الوقف على الوقف صارت الأقسام خمسة، وسوف نأتي عليها تباعا.
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ كتاب الوقوف والصدقات، باب 1؛ الأحاديث. . .
1 -
الوقف التحريري:
كوقف أرض المساجد وأرض المشاهد المشرفة (1) ، حيث ألحقها الفقهاء بالمساجد في الأحكام، وهذا الوقف يكون عبارة عن فك الملكية وتحرير الأرض منها بعد إن كانت مملوكة لشخص سابقا.
هذا النوع من الوقف: لا يجوز بيعه واستبداله أبدا، لأن حقيقة البيع هي المبادلة بين المالين (الشيئين) من ناحية الإضافة إلى المالك، فتستبدل كل من الإضافتين بتبدل المالين، وبما أن المساجد غير مضافة إلى أحد من البشر لا بإضافة حقيقية ولا بإضافة الملكية، فلا يجوز بيعها، لعدم صدق المبادلة، ولأن لا بيع إلا في ملك، وقد قلنا: إن هذا القسم من الوقف هو عبارة عن فك الملك والتحرر من الملكية للآخرين، ولذا لا يجوز بيع ما ليس داخلا تحت الملك، كالطير في الهواء والمباحات الأصلية قبل الحيازة.
إذن المساجد يكون وقفها من قبيل تحرير العبيد عند العتق، فهو فك ملك لا تمليك للمسلمين، وعلى هذا فإن المساجد وإن كانت لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] ، لكن بمعنى أنها معبد للمسلمين يعبدون فيها الله ولا يعبدون فيها غيره. ولأجل عدم الملكية لأحد ذكروا عدم الأجرة على الغاصب لو غصبها وسكنها مدة من الزمن.
2 -
الوقف الذري:
وهو أن يوقف شيئا لذريته لتكون منفعته لهم طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل، وهذا القسم من الوقف هو (تحبيس وتمليك) .
أما التحبيس: فهو معنى الوقف حيث فسر بتحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (الثمرة) ، وقد جعل الواقف الوقف الذري كذلك.
(1) ومثلها وقف القناطر والمقابر.
وأما التمليك: فإن السيرة العقلائية قائمة على ذلك، حيث لا يشك أحد في أنه إذا ثبت ما يوجب الضمان في الوقف الذري يكون الضمان لهم، ولو غصبه غاصب يجب رده، وعليه الأجرة، بينما لو لم يكن تمليكا لكان حكمها حكم المساجد من عدم الضمان وعدم الأجرة على الغاصب للذرية.
على أن معنى الوقف على الذرية هو ذلك، فإن الوقف عليهم لا لهم.
إذن يكون الواقف هنا قد ملك العين الموقوفة لهم ولكن مع تضييق السلطنة المطلقة بنفس الوقف، فلا يستطيعون أن يفعلوا بالعين ما شاءوا فيملكون المنفعة فقط ملكية مطلقة، وأما نفس العين فملكيتهم لها ليست مطلقة.
وهذا القسم من الوقف: يجوز بيعه عند طروء أحد مسوغاته (كما سيأتي) ، لأنه مملوك للذرية، فلا منافاة بين كونه وقفا وبين جواز بيعه في حالة معينة.
3 -
الوقف العام:
كالوقف على العلماء والسادات وطلاب العلم والزوار والفقراء وغيرها من الجهات العامة.
وهذا الوقف العام ينقسم إلى قسمين:
أ - أن يكون الوقف على الجهة العامة كالعلماء والفقهاء والفقراء بنحو تكون المنفعة ملكا طلقا لهم، كوقف الحمامات والدكاكين والمعامل والمزارع، وأمثالها، فالمنافع تكون مملوكة للجهة العامة.
ويكفي في هذا القسم من الوقف الإعطاء لقسم من أفراد هذه العناوين، لأن الوقف للعنوان يتحقق بإعطاء واحد أو أكثر من أفراد العناوين، بينما يجب الاستقصاء في القسم الثاني من الوقف (الذري) بحيث لو مات أحدهم بعد حصول المنفعة فتنقل إلى وارثه.
كما أن الوقف في هذا القسم هو تمليك للعين إلى الموقوف عليهم، إلا أنه تمليك ليس بطلق، ولكن يملكون المنفعة ملكا طلقا لعين ما تقدم في القسم الثاني.
كما أن هذا القسم من الوقف يجوز بيعه إذا طرأت عليه إحدى مسوغات بيع.
واستبدال الوقف (كما سيأتي) لحصول الملكية التي تجوز البيع وتصححه عند طروء مسوغاته.
ب - أن يكون الوقف على الجهة العامة من دون أن يملك الموقوف عليهم المنفعة، بل لهم الحق في التصرف والانتفاع فقط، كالسكن، ومثاله: وقف المدارس والربط والخانات ونحوها على أهل العلم والمجاهدين والزوار، فهو تمليك للجهة العامة على وجه الانتفاع فقط.
وفي هذا القسم من الوقف يضمن المتعدي على الجهة العامة.
كما يجوز بيع هذا القسم من الوقف إذا طرأ عليه إحدى مجوزات بيع الوقف (كما سيأتي) .
4 -
الوقف على الوقف:
وهذا الوقف متعارف عند الناس، فقد جرت السيرة على وقف الدكاكين والحمامات والعقارات على المدارس والمساجد وأمثالهما.
ولقد ذكر المقريزي في تاريخه: أن ابن الخليفة الفاطمي المسمى (الحاكم) في مصر بنى مسجدا عرف بجامع الحاكم، وقد طلب من أساتذة ومدرسي جامع الأزهر أن يقيموا حلقات دراسية في مسجده الجديد، ولكنه لم يغفل في الوقت نفسه عن الأزهر حيث أوقف بعض الأوقاف عليه وعلى مؤسسات أخرى بعد إعماره (1) .
(1) كتاب الخطط: ج 2
وهذا القسم من الوقف يظهر منه أنه تمليك على المساجد والمدارس وإن كانت نفس المساجد غير مملوكة (كما تقدم) ، لأن الملكية إضافة بين المالك والمملوك وهي خفيفة المؤونة، فكما يمكن اعتبار الملكية للأحياء والأموات من ذوي الشعور، يمكن اعتبارها لغير ذوي الشعور من الجمادات.
وهكذا إذا ملكنا المسجد فراشا وأواني وآلات وبناء وأدوات تبريد وتدفئة، فإن كل هذه الأمور تكون ملكا للمسجد، وعليه يجوز بيعها إذا عرض لها ما يسوغ البيع (كما سيأتي) . كما أنه إذا أخذها أحد يكون ضامنا لها وغاصبا أيضا.
ولكن الفرق بين الدكاكين الموقوفة على المسجد وبين قناديل المسجد وأثاثه: هو أن المنافع الآتية من الدكاكين وأمثالها الموقوفة على المسجد تكون مملوكة ملكا طلقا للمسجد أو للمشهد أو للمدرسة، فيجوز للمتولي بيع تلك المنافع وتبديلها بشيء آخر من غير عروض مجوز لها من المجوزات التي تجوز بيع الوقف (كما سيأتي) ، كما يجوز بيع المشترى بالمنافع هذه أيضا وتبديله بشيء آخر، بخلاف الأصل وهو الدكان والحمام فإنه لا يجوز بيعه إلا عند عروض مجوِّز له (كما سيأتي) .
الكلام في مسوغات بيع الوقف واستبداله:
إن جواز بيع الوقف في حالات خاصة (كما سيأتي) إنما يتم في غير وقف أرض المسجد أو أرض المشهد، من الأوقاف التي تكون للذرية وللجهة على نحو التمليك.
أما نفس أرض المسجد أو أرض المشهد المشرف فهو عبارة عن فك الملك وتحرير الأرض من كل ملكية، فلا يجوز فيها البيع أصلا.
أما المنفعة الحاصلة من الوقف على الوقف، كما إذا وقف على المسجد أو المشهد، فإنها مملوكة ملكا طلقا للمسجد أو المشهد فيجوز بيعها بلا حاجة إلى طروء أحد مجوزات بيع الوقف.
حكم الإبدال والاستبدال:
إن حكم جواز بيع الوقف في حالات معينة يكون استثناء من القاعدة الأولية القائلة بعدم جواز بيع الوقف، كما ادعي عليه الإجماع ودلت عليه النصوص الشرعية، مثل معتبرة أبي علي بن راشد عن أبي الحسن عليه السلام الإمام الهادي عليه السلام حيث قال:(لا يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة في ملكك، ادفعها إلى من أوقفت عليه)(1) .
ومثل ما روي من حكاية وقف علي أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: (هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب وهو حي سوي، تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض)(2) .
فإن الظاهر من الوصف: لا تباع ولا توهب؛ كونها صفة لنوع صدقة الوقف لا لشخص هذه الصدقة، ويبعد كونها شرطا خارجا عن النوع مأخوذا في الشخص، لأنه لو كان كذلك لأخر الشرط عن ذكر من وقف عليهم.
بالإضافة إلى أن معنى الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة الظاهر منه أنه على نحو الدوام، وهو يقتضي الحكم بعدم جواز بيع الوقف لأن بيعه ينافي تحبيس الأصل الذي هو داخل في معنى الوقف.
وهذا الأصل (الذي هو عدم جواز بيع الوقف) لا يجوز الخروج عليه في الوقف التحريري، ولكن يجوز الخروج عليه في الوقف التمليكي المؤبد والمنقطع، وفيما وقف على الأماكن العامة من فرش أو أثاث في موارد ذكرها الفقهاء، ثم منها عندنا أربعة موارد وهي:
المورد الأول: أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، فإن أدلة المنع لا تأتي هنا سواء كانت إجماعا لبِّيا أو أدلة لفظية مثل: لا يجوز بيع الوقف، حيث إنها منصرفة عن هذا المورد وناظرة إلى حالة ما إذا انتفع بها الموقوف عليهم.
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب 6 من الوقف والصدقات، ج 1.
(2)
وسائل الشيعة: ج 4.
أما في حالة عدم الانتفاع بالوقف مع بقاء عينه، فإن الأمر يدور بين ثلاثة أمور:
أحدها: تعطيله حتى يتلف بنفسه، وهذا تضييع مناف لحق الله وحق الواقف وحق الموقوف عليهم.
ثانيها: يباع ويستفيد منه البطن الموجود فقط بتقسيم الثمن عليهم.
وثالثها: يباع ويبدل بما يبقى وينتفع به الموجود والذي سيوجد فيما بعد.
والأمر الثاني والثالث: متفقان على جواز البيع، ولكن الثالث هو الأوجه، لأن الوقف مؤبد أو مشترك بين الموجود والذي سيوجد فيما بعد حسب وقفية الواقف، فلا بد أن يكون بدله أيضا كذلك لأنه هو الموافق لقصد الواقف وإنشائه، فيكون متبعا، وهو المتعين.
وعلى هذا يشترك الموقوف عليهم (من وجد ومن سيوجد) في الثمن وهو مقتضى المعاوضة الحقيقية، إذ لا يعقل اختصاص العوض بمن لم يختص بالمعوض، فيكون حكم الثمن هو حكم الوقف في كونه ملكا للجميع وينتفع به الكل على الترتيب، فإن كان الثمن مما يمكن أن يبقى وينتفع منه الموجودون على نحو المبدل، وكانت مصلحة الكل (الموجود والذي سيوجد) في إبقائه أُبْقِيَ، وإلا أبدل مكانه ما هو أصلح لهم، كأن يباع بشيء أصلح لهم.
ثم يتفرع على هذه الحالة أمور:
1 -
لا حاجة إلى صيغه الوقف في البدل (الثمن) ، بل نفس البدلية تقتضي كونه كالمبدل، لأنه مملوك على حد الملك الأول.
2 -
إن للولي أو الناظر أن ينظر في المبدل ويتصرف فيه بحسب مصلحة الجميع ولو بالإبدال بعين أخرى أصلح لهم، بل قد يجب إذا كان تركه يعد تضييعا للحقوق، وذلك: لأن هذا البدل ليس كالأصل الذي أنشأه الواقف، حيث يكون حكمه المنع من البيع إلا لعذر، لأن الأصل المنشأ من قبل الواقف كان له حكم شرعي وقد زال الوقف فزال الحكم الذي يكون له. أما بدل الوقف فليس وقفا منشأ من قبل الواقف فلا تترتب عليه جميع أحكام الوقف الابتدائية المنشأ التي منها عدم جواز بيعه.
3 -
يظهر عدم وجوب شراء المماثل للوقف، بل قد لا يجوز إذا كان شراء غيره أصلح، لأن الثمن إذا صار ملكا للموقوف عليهم (الموجودين والمعدومين) فاللازم ملاحظة مصلحتهم، وذلك لأن الوقف الابتدائي، إذا كان موجودا بشخصه فلا يلاحظ فيه إلا مدلول كلام الواقف، وأما إذا بيع لجواز ذلك وانتقل الثمن إلى الموقوف عليهم فلا يلاحظ فيه إلا مصلحة الموقوف عليهم.
أقول: إن هذه الصورة الدالة على جواز بيع الوقف إذا حصلت وبيع الوقف؛ فسوف تكون أيدي الأمناء والأولياء على الوقف حرة في تبديل الوقف لما فيه تحقيق مصلحة الوقف والواقف بطرق جديدة تراعى فيها المتطلبات العصرية في ضوء المعطيات الشرعية، وبهذا نكون في حرية تامة من صيغة الواقف وإنشائه، ولا يأتي هنا الحديث المعروف:(الوقوف حسب ما يوقفها أهلها) ، بل نخرج عن هذا الضيق الشرعي إلى مراعاة مصلحة الوقف الجديد غير المنشأ من الواقف، ونراعي مصلحة الموقوف عليهم باتباع الطرق الجديدة العصرية في الاستفادة من هذه الأوقاف التي تبدلت من الوقف الابتدائي إلى وقف البدل (الثمن) .
المورد الثاني: إذا اشترط الواقف بيع الوقف عند حاجته أو حاجة الموقوف عليهم، أو إذا كان فيه مصلحة لما هو موجود من الموقوف عليهم أو لجميع الموقوف عليهم، أو عند مصلحة خاصة على حسب ما يشترط في ضمن الوقف. وهذا الشرط راجع إلى قطع الوقف وبيعه بالشرط وليس هو وقفا منقطعا.
ويدل على صحة هذا الوقف والشرط قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله عليه السلام:((المؤمنون عند شروطهم)) ، وقوله عليه السلام:((الوقوف حسب ما يوقفها أهلها)) ، حيث إن أهل الوقف قد وقفوا هذا الشيء كذلك.
وهذا الشرط ليس منافيا لمقتضى الوقف حتى يكون الشرط باطلا فيبطل الوقف تبعا له، لأن مفهوم الوقف ليس إلا تحبيس العين وتسبيل الثمرة (المنفعة) والواقف أنشأ هذا المفهوم، فلا يجوز تصرف بعض الموقوف عليهم على نحو الملك المطلق.
وأما الشرط: فهو ينافي إطلاق هذا المفهوم لا أنه ينافي المفهوم، ولذا يجتمع الوقف مع جواز البيع عند طروء مسوغاته، ولا منافاة بين كونه وقفا وبين جواز بيعه وتبديله بوقف آخر.
ولكن هل هذا الشرط (شرط بيع الوقف) مناف للسنة؟
والجواب: إن ما تقدم من عدم جواز البيع وعدم إدخال الغلة في الملك مقيد بما إذا اشترط الواقف بيع الوقف، فقد دلت صحيحة (1) عبد الرحمن بن الحجاج في كيفية وقف مال أمير المؤمنين علي عليه السلام في عين ينبع، وفيها:(. . . فإن أراد (يعني الإمام الحسن عليه السلام أن يبيع نصيبا من المال ليقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه، وإن شاء (الإمام الحسن عليه السلام جعلها سري الملك (والسري: هو الجيد من كل شيء) فيبيع كل الملك وإن كانت دار الحسن بن علي غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، فإن باع يجعل ثمنها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثا في سبيل الله، ويجعل ثلثا في بني هاشم وبني المطلب، وثلثا في آل أبي طالب وأن يضعه فيهم حيث يريد الله. . . إلخ) .
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (10) من أحكام الوقوف والصدقات، ج4
وظاهر هذه الصحيحة جواز اشتراط بيع الوقف لنفس الموجودين فضلا عن البيع لكل الموقوف عليهم الموجود والمعدوم الذي سيوجد فيما بعد، ويصرف ثمنه فيما ينتفعون به.
وظاهرها أيضا الوقف لا الوصية، لأن الموجود في الرواية:(إن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة، حيا أنا أو ميتا. . .) .
وقد عمل بهذه الصحيحة جملة من الأعظام كما أشار إلى ذلك الإمام الخوئي (1) قدس الله سره. وعلى ما تقدم لا يكون اشتراط بيع الوقف عند حالات معينة منافيا للسنة ما دامت السنة القائلة بعدم جواز بيع الوقف قد خصصت بهذه الصحيحة.
المورد الثالث: هناك مورد ثالث يجوز فيه بيع الوقف وهو: ما إذا كان الاختلاف بين أرباب الوقف مؤديا - علما أو ظنا - إلى تلف خصوص مال الوقف ونفوس الموقوف عليهم، وهذه الصورة هي المتيقنة عند جميع الفقهاء، لأنها أخص مما وردت فيه روايات تجوز بيع الوقف إذا حصل اختلاف من بقاء الوقف، أو حصل تلف النفوس أو الأموال، من دون تقييدها بتلف نفس مال الوقف ونفس الموقوف عليهم.
المورد الرابع: وهو ما إذا كان الوقف؛ على عنوان معين كالبستانية، وخرجت البستانية لغور الماء ويبس الأشجار حتى خرجت عن قابلية ذلك، فقد جوز هنا بعض الفقهاء (2) بيع الأرض وشراء بستان آخر، بل هو المتعين كما أفتى بذلك الإمام الخوئي قدس الله سره إذ قال في المسألة (1193) :(. . . نعم إذا فهم من القرائن أن الوقفية قائمة بعنوان البستان كما إذا وقفها للتنزه أو للاستظلال (وانقطع عنها الماء حتى يبس شجرها أو انقلع شجرها وبقيت عرصة) فإن أمكن بيعها وشراء بستان أخرى تعين ذلك. . .) (3) .
وعلى كل حال، هذه الموارد الأربعة التي تقدمت أو أي مورد آخر يجوز بيع الوقف إذ ثبت بالدليل، يجعل أيدي الناظرين أو المتولين أو الحاكم الشرعي حرة في التصدي لمصلحة الوقف الذي هو بدل عن الوقف الابتدائي، ومصلحة الموقوف عليهم حسب متطلبات العصر على ضوء الشرع الحنيف.
(1) راجع مصباح الفقاهة: 5/ 224.
(2)
راجع جواهر الكلام: 28/ 109.
(3)
منهاج الصالحين: ج 2 مسألة 1193.
حق الرجوع في الوقف:
يمكن للواقف أن يوقف بعض أملاكه ويشترط حق رجوعه في الوقف أو حقه في بيع الوقف، فهل يكون هذا جائزا؟
ذكرنا في المورد الثاني من موارد جواز بيع الوقف صحة ذلك، وذكرنا الأدلة عليه وعدم منافاته لمقتضى الوقف، لأن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل الثمرة، وقد أنشأه الواقف، فاشتراط بيعه وقطع الوقف لا بأس به سواء يكون ثمنه بدلا عن العين الموقوفة كما هو في صورة جواز بيع الوقف شرعا، أو يكون ملكا طلقا للموقوف عليهم أو للواقف عند الحاجة كما هو في صورة شرط ذلك في الوقف.
وهذا الأمر: مما يشجع على الإقبال على الوقف لبقاء علقة المالك بماله بحيث يزول عنه شبح الفقر أو الحاجة التي تراوده عند الكبر، فيمكنه أن يوقف أملاكه ويشترط بيعها عند حاجته إليها.
كما يمكن للواقف الذي يشترط في صحة وقفه إخراج نفسه عن الوقف كما ذكر ذلك الفقهاء، إذا أراد أن يتخلص من إشكال الوقف على نفسه وغيره: إن يملك العين لغيره ويشترط عليه أن يوقفها على النحو الذي يريد وقفها على نفسه وغيره، أو إدرار مؤونته ووفاء ديونه ونحو ذلك. وبهذا يزول ما يخيف الإنسان من احتياجه بعد الوقف ولا ناصر له ولا معين.
كما يجوز له أن يؤجر العين مدة خمسين سنة ويجعل لنفسه خيار الفسخ، ثم يوقف العين التي أجرها تلك المدة مسلوبة المنفعة لتلك المدة ثم يفسخ عقد الإجارة فترجع المنفعة إليه لا إلى الموقوف عليهم.
كما لا يبعد صحة وقف العين مع اشتراط بقاء منافعها على ملكه مدة معينة أو غير معينة (مثل مدة حياته) لأن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل المنفعة، وقد حصل، وأما الشرط أن تكون منافعها له مدة حياته فهو نافذ لعموم ((المؤمنون عند شروطهم)) ، ولعموم قوله:((الوقوف حسب ما يوقفها أهلها)) ، فقد حصل الوقف، ووجد الشرط، ويجب العمل به وبشرطه، ولا منافاة بينهما (1) .
(1) راجع منهاج الصالحين، للسيد الخوئي: 2/ 236 مسألة (1127) .
مبدأ التوقيت في الوقف:
وهو ما يسمى بالوقف المنقطع (أو الوقف الذري) ، كما إذا وقفت على من ينقرض (بناء على صحته كما هو المعروف) من الإخوة أو الأولاد وأولاد الأولاد فقط ولم يشترط رجوعه في سبيل الله عند انقراضهم، فهو يبتني على أحد مبنيين فقهيين:
الأول: هو البناء على بقاء الوقف على ملك الواقف وعدم انتقاله إلى الموقوف عليهم.
الثاني: هو البناء على انتقال الوقف إلى ملك الموقوف عليهم ثم يعود إلى ملك الوقف بعد انقراض الموقوف عليهم.
وعلى كلا التقديرين يكون إرثا إلى ورثة الواقف حين الموت لا حين الانقراض.
فعلى الصورة الأولى: فهل يجوز للواقف بيع هذا الوقف؟
اختلف في ذلك، فذهب جماعة إلى عدم جواز البيع، للزوم الغرر بجهالة وقت استحقاق التسليم التام على وجه ينتفع المشتري بما اشتراه.
ولكن المحكي عن جماعة: الجواز (صحة البيع) ، وذلك لأنهم جوزوا البيع في السكنى المؤقتة بعمر أحدهما (العمري) .
ولعل ذلك الجواز: إما لمنع الغرر أو للنص الصحيح الصريح في جواز ذلك، فقد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن الحسين بن نعيم قال: سألت أبا الحسن (الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام عن رجل جعل داره سكنى لرجل زمان حياته ولعقبه من بعده؟ قال عليه السلام: هي له ولعقبه من بعده كما شرط، قلت: فإن احتاج إلى بيعها أيبيعها؟ قال: نعم، قلت: فينقض البيع السكنى؟ قال عليه السلام: لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي يقول: قال أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أن الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى كما شرط (1) .
وهذه الصحيحة صريحة في أن الجهالة للمدة في السكنى لا تبطل البيع.
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (24) من الإجارة، ج 3
وبما أن الأمر في الوقف المنقطع (بناء على الصورة الأولى) هو كالسكنى مدة العمر، فتكون الصحيحة دليلا لجواز البيع للواقف المالك لتحقق الموضوع نفسه في الجواز.
وهناك صورة يجوز فيها البيع للواقف بلا إشكال، وهي صورة ما إذا نقل الموقوف عليهم حقهم إلى الواقف، ولم يكن غيرهم له حق في الوقف، ثم باع الواقف فإن البيع صحيح جزما لعدم الغرر قطعا، حيث يمكن للبائع تسليم العين المبيعة إلى المشتري بعد نقل الموقوف عليهم حقهم إلى الواقف.
أما الصورة الثانية: فبما أن الواقف غير مالك فعلا: (لأن الشيء ملك للموقوف عليهم ثم يعود بعد انقراضهم ملكا للواقف) ، إلا أنه قد يجوز البيع إذا جوزنا بيع ملك (الغير مع عدم اعتبار مجيز له في الحال، فإن الموقوف عليهم المالكين للوقف فعلا ليس لهم الإجازة لعدم تسلطهم على البيع (النقل) ، ولكن إذا انقرضوا رجع الشيء ملكا إلى الواقف فيجيز ما باعه الآن.
فإن قلنا: بعد اشتراط وجود مجيز حين العقد، بل يكفي وجود مجيز للعقد بعد ذلك، فهنا كذلك.
وهناك صورة ثالثة مختصة بالتحبيس: كما إذا حبَّس ملكه على سكنى جماعة لمدة خمسين سنة، فبما أن التحبيس لا يجعل الملكية للمحبس عليه بل هي باقية على ملك المحبس، فهنا لا إشكال في جواز بيع المحبس داره مسلوبة المنفعة مدة خمسين سنة.
والخلاصة:
إن مبدأ التوقيت في الوقف (الذري) يعتبر من الموارد المرنة التي توجب الإقبال على الوقف، لكون الشيء له علاقة بالواقف يتمكن من الانتفاع به ببعض الصور كما مر.
معالجة الطرق السلبية لتطبيق الوقف الذري أو المؤبد:
هناك طرق وأسباب تم التذرع بها لإهمال الوقف أو إلغائه:
منها: ما إذا خرب بعض الوقف بحيث لا ينتفع به، فبناء على جواز بيع ما لا ينتفع به مع بقاء عينه، يباع هذا القسم ويجعل بدله ما يكون وقفا على الجميع (الموجود والذي سيوجد) كما يجوز صرف الثمن في باقي الوقف الذري ببناء أو غيره بحيث يوجب زيادة منفعته، كما يجوز صرف الثمن على وقف آخر عليهم وهذا أمر واضح إذا رضي به (الموجود والمعدوم بواسطة الحاكم أو الناظر) . ولكن إذا خرج بعض الوقف عن حيز الانتفاع وبقي بعضه محتاجا إلى عمارة لا يمكن بدونها انتفاع البطون اللاحقة، فهل يصرف ثمن المخروبة أو منفعة الوقف إلى عمارة الباقي وإن لم يرض البطن الموجود؟ .
الجواب: هو أن الواقف إذا كان قد اشترط من أول الأمر إخراج مؤونة الوقف من منفعته قبل قسمة المنفعة على الموقوف عليهم، فهنا لا كلام في تقديم مؤونة الوقف والصرف على إصلاحه قبل القسمة على الموجودين.
وأما إذا لم يشترط الواقف ذلك فهناك قول بوجوب صرف منفعة الوقف وثمن المخروب في إصلاح الوقف مقدما على حق الموقوف عليهم، لأن المتفاهم العرفي من الوقف إبقائه، وأن وصول المنافع إلى الموقوف عليهم بعد لحاظ إبقائها.
وقد أفتى الإمام الخوئي - قدس سره - بهذه الفتوى حيث قال: (إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى التعمير أو الترميم لأجل بقائها وحصول النماء منها، فإن عين الواقف لها ما يصرف فيها عمل عليه، وإلا صرف من نمائها وجوبا مقدما على حق الموقوف عليهم، وإذا احتاج إلى التعمير بحيث لولاه لم يبق للبطون اللاحقة، فالظاهر وجوبه وإن أدى إلى حرمان البطن السابق)(1) .
(1) منهاج الصالحين: ج 2، مسألة (1180) .
وعلى هذا الفهم وعدم الاعتناء بالقول القائل بوجوب صرف المنفعة على الموجودين وعدم لحاظ حق الباقين، يتم الحفاظ على أكبر سبب لإهمال الوقف سواء كان ذريا أو مؤبدا.
كما يمكن تنوير الواقفين إلى هذا المشكلة وجعلهم يشترطون في الوقف أن تكون المنفعة للموقوف عليهم بعد إخراج مؤونة إصلاح الوقف وصيانته، للخروج عن مخالفة من قال بأن النماء يصرف على الموجودين إن لم يوافقوا على إصلاح الوقف في صورة عدم الاشتراط، فإنهم لا يقولون بذلك في صورة الاشتراط من الواقف.
وقف النقود لـ لإقراض أو المضاربة:
قال بعض الفقهاء بعدم صحة وقف الأموال النقدية كالدراهم والدنانير وغيرها، وذلك لعدم نفع لها إلا بالتصرف فيها وهو مناف للوقف المقتضي بقاء الأصل.
وهناك من قال بصحة وقف الأموال (كالدراهم والدنانير) حيث يفرض لها نفع مع بقائها كالتزيين بها ودفع الذل ونحوها، فيتناولها حينئذ إطلاق أدلة الوقف فينتفع بها بواسطة إعارتها مع بقاء عينها.
ولا تنافي بين هذين القولين، لأن القول الأول افترض أن نفعها يكون بالتصرف بها وهو مناف لبقائها، بينما افترض القول الثاني وجود نفع لها من دون أن يتصرف فيها، هو لا ينافي البقاء للعين.
هذا ولكن البحث المطروح هو شيء آخر غير ما تقدم؛ وهو جواز وقف الأموال لأجل القرض أو المضاربة، فتكون المالية هي الموقوفة مع تبدل تجسيدها من عين إلى عين أخرى، فهل يجوز مثل هذا الوقف، مع أن فتاوى الفقهاء صرحت بأن الوقف إنما يصح في الأعيان المملوكة التي ينتفع بها مع بقاء عينها؟
وبعبارة أخرى: إن مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة تجعلنا نفكر في بديل لوقف العين بحيث يمكننا أن نوقف المالية، ونجعل المتولي على وقف المالية قادرا على التبديل والبيع بما يراه صالحا في أي وقت أراد، وهذا ما يجعل الوقف مواكبا للمناشط العصرية التي تقوم بها السوق المالية، فيدخل المال الموقوف في المعاملات حسب ما يراه المتولي، أو يستفيد من مالية المال الموقوف المحتاجون لقضاء حاجاتهم من المال بشرط إرجاعها لتقرض ثانية.
وهذا الأمر جيد إن قام عليه دليل يصحح هذا الوقف، فهل من دليل على ذلك؟
أقول: قد يقال: إننا نتمسك بإطلاق روايات الصدقة الجارية (1) الواردة في روايات صحيحة متعددة، بمعنى أن الجريان ليس مصداقه الوحيد هو انحباس العين وتوقيفها عن البيع (حيث كان هو المصداق الرائج في زمن صدور النص) ، بل هناك مصداق آخر للصدقة الجارية وهو مالية الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة متعاقبة، وحينئذ يكون قوام الجريان بالتحبيس، ولكن المحبوس قد يكون عينا وقد يكون مالية.
وهذا البيان لوقف المالية لا يعارضه ما ورد من تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (الثمرة) ، حيث إن وقف المالية أيضا تحبيس لها، وقرضها أو المضاربة بها مع كون النفع للمحتاجين هو نوع تسبيل للمنفعة التي ترجى من المالية.
2 -
أن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) صرحت بجواز شرط الواقف حق البيع والتبديل للموقوف عليه، وحينئذ يرجع واقع هذا الشرط إلى التصدق بالمالية القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة.
ويرد على الدليل الأول: أننا نحتمل أن الصدقة الجارية الواردة في الروايات منحصر مصداقها في مرتكز المتشرعة في الوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولا يبدل، وهذا الارتكاز يكون صالحا للقرينة الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى وقف العين.
ويرد على الدليل الثاني: إن في الصحيحة جواز بيع الوقف لوفاء الدين، وجواز بيع الوقف وتقسيم الثمن على آل بني المطلب وآل أبي طالب والهاشميين، وهذا معناه إبطال الوقف لا أن الوقف يكون للمالية التي تبقى ثابتة ويكون النفع منها بالقرض والمضاربة، فهي أجنبية عن محل كلامنا.
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (1) من أبواب الوقف والصدقات، ح 1، 2، 3، 4، 5، 10
(2)
وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (10) من الوقف، ح4.
يبقى أننا نتمكن أن نصل إلى نتيجة وقف المال لأجل القرض أو المضاربة مع صرف الربح في جماعة الفقراء من المسلمين بالوصية التي تنفذ بعد الموت في خصوص الثلث إن لم يرض الورثة بالزائد عليه، فيوصي الإنسان بصرف مقدار معين من أمواله في إقراض المحتاجين أو المضاربة به على أن يكون الربح للمحتاجين من أهل بلده مثلا، فبهذه العملية نصل إلى نتيجة وقف المال على القرض أو المضاربة به على أن يكون الربح لجماعة معينة، أما نفس الوقف بالنقود المالية فلم يتم عليه أي دليل (1) .
النظم الكفيلة بضبط الأوقاف:
لا بد لنا من نظم تكفل ضبط الأوقاف وحفظها من الضياع والاستيلاء والاندثار، فقد قرر الشرع الحنيف حتمية وجود متول للوقف، يتعين أما من قبل الواقف أو من قبل الحاكم الشرعي، ولا بد في تعيين المتولي أو الناظر من قبل الحاكم الشرعي من إحراز عدالته وأمانته على الوقف ومعرفته بما يصلح الوقف. وقد نجد في بعض الأحيان وجود إشراف شرعي بصورة ما على متولي الوقف، فيعزل أن لوحظ عليه خيانة أو عدم معرفة بحفظ الوقف وإصلاحه، وينصب شخص آخر مكانه.
وقد يتقدم الحاكم الشرعي لنصب متول على الأوقاف التي ليس لها متول يقوم برعايتها وإصلاحها وصرف وارداتها التي يعتبر الإفراط أو التفريط فيها لا يخلو من عقوبة شرعية دنيوية.
(1) نعم روى مهران بن محمد قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام أوصى أن يناح عليه سبعة مواسم، فأوقف لكل موسم مالا ينفق. (وسائل الشيعة، باب (1) من الوقف والصدقات، ح 9) . وظاهر هذه الرواية صحة الوقف بالمال حتى وإن لم يحبس، ووقف للصرف. إلا أن هذه الرواية بالإضافة إلى ضعف سندها لم يعمل بها علماء الإمامية. وهناك رأي بصحة وقف غير الأعيان مما يزول كوقف الطعام والنبات لجماعة من أهل السنة، ألا أنه خال عن أي دليل يستند إلى السنة النبوية. راجع بحث (أثر المصلحة في الوقف) للشيخ عبد الله بن بيه، ص 13 وما بعدها
وكانت بعض الحكومات تعين محاسبين وجباة للإشراف على الأموال الموقوفة، كما وجدت في بعض المقاطع التاريخية مراكز باسم (ديوان الأوقاف أو صدر الصدور) كما أن في بعض الحكومات صدر أمر رسمي بتعيين وزير للأوقاف (1) .
ورغم هذه النظم الكفيلة بضبط الأوقاف نجد بعض الحكام يقدمون على غصب الأراضي والعمارات الموقوفة فيخلقون المبررات لمصادرتها وضمها إلى أملاكهم الخاصة، كما حصل في إيران زمان العهد البهلوي في محافظتي كيلان ومازندران. وتوسعت حدود الاعتداء على الأوقاف من قبل المتنفذين، ولكن بعد إقصاء رضا شاه عن الحكم ونفيه خارج البلاد عام (1320 هـ - 1941 م) ، وتنصيب ولده محمد رضا خليفة له - والذي تميزت حكومته بالضعف في بدء أمرها - أعيدت بعض تلك الأراضي إلى حالة وقفيتها السابقة في إطار تنفيذ قانون إعادة الأراضي إلى أصحابها.
وهكذا الأمر في البلدان الإسلامية التي ترأسها حكومات غير دينية وغير ملتزمة، فقد تطاولوا على الأوقاف وغصبوا وأفسدوا وكانت نتيجة أمرهم الخسران والهوان، وهذه نتيجة من لم يعمل أو يخالف أحكام شرع الله تعالى، هوان وخسران في الدنيا والآخرة، وهذه صحائف أعمالهم نقرؤها الآن مملوءة بالفساد والخزي ومخالفة الشريعة، ولا زالوا في هوان وذل وخسران ما داموا غير ملتزمين بالقرآن العظيم وسنة رسوله الكريم.
(1) في عهد الحكومة الزندية (كريم خان) نلاحظ صدور الوثيقة التي تحتوي على هذا الأمر، وهي موجودة حاليا لدى منظمة الأوقاف في إيران
ولكن وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بزعامة المرجع الديني العظيم الإمام الخميني رحمه الله، كانت هناك مساع جادة وحثيثة لصيانة الأوقاف وحفظها وانتزاعها من الأيادي الخبيثة التي سيطرت عليها ظلما وزورا، وأوقفوا معينها العظيم في إسناد العلم والمجتمع ورقيه في طريق العيش الكريم.
1 -
فبعد شهرين من انتصار الثورة اتخذت الثورة أول خطواتها لاستعادة حقوق الأوقاف إلى نصابها في تاريخ الرابع من ارديبهشت 1358 هـ. ش (4/ 2/ 1358 هـ. ش)، صوب مجلس الثورة على قانون الوقف الذي جاء في مادته الأولى:(منعا لضياع حقوق الأوقاف في البلاد، ومن أجل تنظيم سندات وعقود الإيجار وتحديد بدل الإيجار العادل والمعقول للأملاك الوقفية المستأجرة والمتصرفة، تلغي اعتبارا من هذا التاريخ كافة السندات والعقود العادية والرسمية المبرمة بين منظمة الأوقاف وبين المستأجرين للأوقاف العامة كالأراضي الزراعية والبساتين والأراضي والمنشآت البلدية والقروية، وينذر هؤلاء المستأجرون من أشخاص وجهات ممن تحت تصرفهم أملاك موقوفة بأية صورة من الصور في الوقت الحاضر أن يراجعوا - وخلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ تصويب هذا القانون - دوائر الأوقاف في المناطق التي تقع فيها تلك الأملاك المستأجرة والمتصرفة، لمعرفة وضعها الحالي وتسديد بدلات الإيجار السابقة، وتنظيم سندات الإيجار الجديدة طبقا لأسعار اليوم) .
كما نصت هذه المادة من القانون على أنه في حالة عدم المراجعة وانقضاء المدة المقررة ستقوم منظمة الأوقاف بمنع المتصرفين من التصرف غير القانوني في تلك الأملاك، وتنزع عنها أيدي المستأجرين والمتصرفين السابقين.
وهذا القانون خلق نشاطا كبيرا؛ حيث شوهد أن كثيرا من الأوقاف التي وضعت تحت تصرف بعض الأشخاص بإيجارات زهيدة نتيجة تساهل أو توصيات الحكومة قد أعيدت إلى الأوقاف وستستوفى حقوقها.
2 -
ومن أجل فسح المجال أمام أبناء الشعب لممارسة إشرافهم على إدارة شؤون الأوقاف في البلاد صوب مجلس الثورة - في نفس هذا القانون - أيضا على تشكيل لجنة تسمى (مجلس الأمناء والمشرفين على الأوقاف) ، وقد كانت هذه المجالس تمارس - ولعدة سنوات - مسؤوليتها في إدارة الأوقاف وكيفية انتخاب لجان الأمناء والقيِّمين على الأوقاف في البلاد.
3 -
ثم المادة (49) من الدستور:
فقد كلفت الحكومة - طبقا لهذه المادة - باستعادة الثروات الناتجة من عمليات الربا والاغتصاب والرشوة والاختلاس والسرقة والقمار واستغلال الوظائف و. . . وإعادتها إلى أصحابها.
وقد صوب مجلس الشورى الإسلامي عام 1363 هـ. ش، 1984 م، على كيفية تنفيذ المادة (49) من الدستور ضمن قانون اشتمل على (15) مادة وخمسة فقرات وأبلغها للحكومة لتنفيذها.
وطبقا للفقرة الثالثة من هذا القانون كلفت السلطة القضائية بتعيين فروع من محاكمها القانونية في مراكز المحافظات والمدن التي تراها ضرورية للتحقيق، والإثباتات الشرعية في الدعاوى المشمولة بالمادة (49) من الدستور، لكي تتمكن - وفي إطار هذا القانون - من استعادة الحقوق الحقيقية للأوقاف.
ومنذ تصويب هذا القانون فقد نظرت المحاكم المختصة في الكثير من حالات استغلال الأوقاف واستعادة حقوقها، وما زالت هذه المحاكم تمارس نشاطها لحد الآن.
4 -
تنفيذا لفتوى الإمام الخميني التي أصدرها جوابا على سؤال وجه إليه من قبل منظمة الأوقاف عن الأوقاف التي خرجت عن حالتها الوقفية والتي يقول فيها: (يجب أن تبقى الأراضي الموقوفة على حالتها الوقفية ويعمل بها طبقا للوقف) ، صوب مجلس الشورى الإسلامي عام 1363 هـ. ش على قانون يشتمل على مادة واحدة وخمس فقرات، وقد نصت مادته الواحدة على ما يلي:(اعتبارا من هذا التاريخ تعاد جميع الأوقاف التي بيعت أو استملكت بصورة ما من دون مجوز شرعي إلى وقفيتها، وتلغى كافة سندات الملكية الصادرة بشأنها) .
ولتحديد مسؤوليات المتصرفين في الأوقاف المذكورة نص هذا القانون على ما يلي:
(الفقرة الأولى: بعد إلغاء سندات الملكية، ففي الحالات التي تكون فيها الموقوفة صالحة للإيجار وطلب المتصرف إيجارها، يبرم عقد الإيجار معه مع أخذ مصلحة الوقف والحقوق المكتسبة للمتصرف بنظر الاعتبار) .
وجاء في الفقرة الرابعة من هذه المادة أيضا:
(في الحالات التي تغير فيها استخدام الموقوفة عن رأي الواقف يجب العمل طبقا لرأي الواقف) .
ومن أجل الإسراع في استعادة الأوقاف المتصرفة بحث مجلس الشورى الإسلامي في عام 1371 هـ. ش قانون إلغاء بيع الأوقاف مجددا، وأدخل عليه بعض التعديلات لكي يمتلك ضمانة تنفيذية أقوى من السابق، فقد جاء في الفقرة الرابعة لهذا التعديل القانوني:
(في حالة عدم مراجعة المتصرفين في مثل هذه الأوقاف في مدة أقصاها (30) يوما من تاريخ إبلاغ منظمة الأوقاف لهم، من أجل تحديد مصير الموقوفة المتصرف بها؛ يحق لمنظمة الأوقاف أن تقوم بتأجير الموقوفة المذكورة إلى أشخاص آخرين، وفي حالة وجود اختلاف بين المتصرفين ومنظمة الأوقاف حول الحقوق الاكتسابية فعلى السلطات القضائية أن تبحث مثل هذه الدعاوى وتبت فيها بصورة استثنائية سريعة) .
- وتنفيذا لهذه القوانين الشرعية قامت منظمة الأوقاف ومتولو الأوقاف بإبرام عقود الإيجار مع سبعمائة ألف شخص من متصرفي الأراضي الموقوفة التي خرجت عن وقفتيها في النظام السابق على الثورة الإسلامية في إيران، وتم إحياء الكثير من الأوقاف التي كانت تستخدم خلافا لنية الواقفين.
ويمكن القول: بأن هذه الخطوات التي اتخذها مجلس الثورة ومجلس الشورى الإسلامي بعثت روحا جديدة في أوقاف البلاد التي كانت مشرفة على الاضمحلال التام، وبعثت الأمل في قلوب الأخيار، وشجعت المؤمنين في إيران الإسلامية على القيام بأعمال البر في إطار الوقف، وبعبارة أخرى إن تلك الخطوات أحيت الوقف الإسلامي من جديد.
المزايا القانونية التي تهدف إلى مساعدة الأوقاف وتشجيع الأوقاف على الوقف:
هناك بعض القوانين التي تقوم بها الدولة لإعانة إدارة الأوقاف على إدارة شؤونها، وتساعد الخيرين على ممارسة هذه السنة الحسنة، فمن تلك القوانين:
1 -
ما طبق في سنة 1371 هـ. ش في الجمهورية الإسلامية في إيران حيث أعفيت الأوقاف العامة من الضرائب السنوية، طبقا للفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الضرائب، حيث نصت الفقرة المذكورة فقالت:(تعفى من الضرائب السنوية الأوقاف العامة التي تنفق عائداتها طبقا للموازين الشرعية في أمور من قبيل: الإعلام الإسلامي، الدراسات الثقافية والعلمية والدينية والفنية والتحقيقية، والاكتشافات، والتربية والتعليم، والصحة، وتشييد وأعمار المساجد وأماكن الصلاة ومدارس العلوم الإسلامية، ومجالس العزاء والإطعام، وإعمار الآثار التاريخية وشؤون الإعمار والنفقات، أو القروض الدراسية للطلاب والجامعيين، وإعانة المستضعفين والمتضررين من الكوارث كالسيول والزلازل والحروب والحرائق والكوارث الطارئة الأخرى. . .) .
وطبقا للفقرة الرابعة من نفس المادة أعفيت من الضرائب المؤسسات ذات النفع العام المسجلة في الدوائر المعنية والتي تنفق عائداتها طبقا لنظامها الداخلي في الموارد المذكورة في الفقرة الثالثة التي سبق ذكرها آنفا، شريطة أن يكون للدولة إشراف على عائداتها ونفقاتها.
2 -
وطبقا للفقرة الواردة في ذيل المادة التاسعة من قانون أنظمة وصلاحيات منظمة الأوقاف والشؤون الخيرية لعام 1363 هـ. ش أعفيت الأوقاف العامة والعتبات المقدسة والأماكن الدينية الإسلامية ومدارس العلوم الإسلامية والمؤسسات الخيرية من دفع نفقات التحكيم في المحاكم القضائية، ونفقات السجل في الدوائر الرسمية، ونفقات تفكيك الأملاك الموقوفة، ونفقات تنفيذ الأحكام.
3 -
وطبقا للفقرة الثالثة من المادة (26) من قانون إعادة البناء والإعمار البلدي أعفيت الأوقاف العامة من دفع ضرائب البناء للبلديات.
مميزات قانون الأوقاف في الجمهورية الإسلامية في إيران:
1 -
إن إدارة الأوقاف منصب شرعي؛ فقد صرح القانون بضرورة أن يكون المشرف على الأوقاف مجازا من قبل الولي الفقيه (قائد الثورة) في التصدي للأمور المتوقفة على إذن الولي الفقيه.
2 -
لكل موقوفة شخصية اعتبارية به، والمتولي أو منظمة الأوقاف هو الممثل لتلك الشخصية، والمتولي أو المنظمة تقوم بالدفاع عن منافع الوقف، وهذا الدفاع القانوني له دور كبير في استيفاء حقوق الأوقاف أثناء طرح الدعوى في المحاكم.
3 -
تقوم منظمة الأوقاف بالإشراف على كافة أعمال وتصرفات المتولين والقيِّمين الذين تحوم حولهم شبهات التفريط في أصل الأوقاف ومنافعها، وفي حالة عدم قيامهم بمسؤولياتهم الشرعية تطالب المنظمة - وعن طريق السلطات القضائية - عزلهم أو منعهم من التدخل في شؤون الموقوفة. وبعد إثبات جرم المتولي وبتِّ المحكمة في ذلك تدار شؤون الأوقاف المذكورة طبقا لسندات الوقف حتى يتعين متول أو قيم جديد.
وهذا القانون حظي بتأييد مرشد الثورة السيد الخامنئي حفظه الله.
4 -
إلزام قانون الأوقاف بتأجير الأملاك الموقوفة بأعلى الأسعار عن طريق الإعلان والمزاد. وفي بعض الحالات الاستثنائية يجوز للمشرف على المنظمة فقط التخلي عن عملية المزاد في تأجير الأملاك.
5 -
ذكرت الفقرة الرابعة من المادة السابعة من قانون الأوقاف: (أن جميع المشرفين على الأوقاف من متولين وقيمين وأمناء ومدراء وأمناء المؤسسات المذكورة في هذا القانون هم بحكم الأمين عليها، وفي حالة تعديهم وتفريطهم أو المخالفات (القانونية) الأخرى يلزمون بأداء الحقوق والأموال وتسديد الخسائر الناتجة من تصرفاتهم، وإذا ما كانت تلك التصرفات مشمولة بقانون العقوبات فإنهم يطاردون من قبل السلطات القضائية ويحكم عليهم بالعقوبات المقررة.
6 -
تقرر أن يدخر (20 %) من مجموع عوائد كل موقوفة لعمليات إصلاحها وصيانتها لكي تصرف في ذلك عند اللزوم، أو تستثمر في أوقاف أخرى مؤهلة لذلك.
7 -
قامت منظمة الأوقاف في إيران عام 1365 هـ. ش = 1985 م بإنشاء (مؤسسة صندوق إعمار أوقاف البلاد) تتلخص أهداف هذه المؤسسة بما يلي:
1 -
إصلاح وإحياء وترميم وإعادة بناء الأوقاف والأماكن الدينية.
2 -
عرض الاستشارة الفنية والمالية، وتقديم الخدمات للأوقاف في مجالات الزراعة والصناعة والمعادن وغير ذلك.
3 -
القيام بالعمليات التجارية الداخلية والخارجية.