المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

‌مسارب العدوان في الفكر الصهيوني

وأثرها في التعرض للمقدسات الإسلامية

إعداد

الشيخ محمد علي التسخيري

وعلي المؤمن

بسم الله الرحمن الرحيم

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] .

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] .

{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:64] .

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] .

صدق الله العظيم

الحمد لله الذي ختم دياناته برسالة الإسلام، فأظهره على الدين كله، وصلواته وملائكته على سيد الأنبياء محمد وعلى آله وصحبه الأخيار، ولعنة الله في كتابه على قتلة الأنبياء وقادة الفتنة الذين طبع على قلوبهم بكفرهم فلا يؤمنون، والرحمة لشهداء أمتنا الأبرار على امتداد التاريخ والجغرافيا من موقعة بدر وحتى انتفاضة الأقصى، ومن كوسوفو وحتى إندونيسيا.

يشرفنا أن نتحدث في هذا المجمع العلمي المهيب عن جرح الأمة النازف: فلسطين المحتلة بأهلها ومقدساتها وهويتها وأرضها، ونتوقف عند شكل ومضمون الخنجر الغائر في قلب الجسد الإسلامي: العصبية اليهودية والآيديولوجية الصهيونية، داعين المولى القدير أن يوفق فقهاء الأمة لنقل المسيرة الإسلامية باتجاه التحرك الفاعل والحقيقي لتفتيت المشروع الصهيوني الخطير.

ص: 64

الفكر الصهيوني وريثًا:

تشير الآيات القرآنية التي وردت في بني إسرائيل أو اليهود إلى نوعية الممارسات التي طبعت تاريخهم وساهمت في تكوينهم، وهي ممارسات لا تقف عند حدود قتل الأنبياء، بل تتعداها إلى الافتراء على الله - جل وعلا - وإلى كثير من أنواع الفساد في الأرض، والحقيقة أن هذا النزوع المتجذر في الشخصية اليهودية التاريخية أو مجتمع اليهود التقليدي نحو العدوان والإفساد لا علاقة له بالديانة اليهودية وتعاليمها الأصلية، فهناك فرق بين اليهود كعصبية تاريخية وبين اليهود كديانة سماوية، وفرق آخر بين اليهود كأفراد ومجتمعات إنسانية قائمة وبين العصبية اليهودية التاريخية، فاليهودي كإنسان لا يمكن أن يتحمل أوزار العصبية التاريخية خلال ثلاثة آلاف عام، إلا إذا أصبح جزءًا منها وامتدادًا لها، أي إن اليهودي له الحق في العيش في هذا العالم وممارسة ما يفرضه عليه انتماؤه الديني من عبادات وطقوس حتى في ظل الدولة الإسلامية، فذلك ما تقره الشريعة الإسلامية بكل وضوح، وما نريد أن نخلص إليه هنا هو أننا حين نتحدث عن اليهود فإننا نعني العصبية اليهودية التاريخية وليس الديانة اليهودية أو اليهودي كإنسان.

إن من أكبر الآثام التاريخية التي ارتكبها اليهود بحق ديانتهم هو التحريف الذي ألحقوه بها، وهو ما لا تخفيه مصادر الفكر اليهودي، فالتوراة - المختلف عليها والتي تشتمل على خمسة أسفار من العهد القديم - بعد أن فقدت عقيب وفاة موسى عليه السلام، عمد بعض الكهنة بعد قرون على وفاة الكليم عليه السلام إلى إملاء بعض التعاليم والأسفار ونسبوها إليه. كما أن أسفار الأنبياء والكتابات في العهد القديم منسوبة - هي الأخرى - إلى كهنة وأحبار عاشوا متأخرين بعدة قرون عن هؤلاء الأنبياء. ولا نريد الدخول في تفاصيل عملية الاختلاف والتحريف هذه، إذ إنها من القضايا التي أشبعت بحثًا، ويكفي أن (ول ديورانت) يؤكد أنه لم تبق من شريعة موسى عليه السلام سوى الوصايا العشر (1) . أي إن العهد القديم ضم بين دفتيه الصحيح والمحرف والموضوع، مع عدم إمكانية الفصل بينها بعد أن اختلطت ببعضها وانتهت إلى مضمون وشكل موحد.

(1) انظر في هذا المجال: د. أحمد شلبي، اليهودية؛ رحمة الله الهندي، إظهار الحق؛ عصام الدين حفني، محنة التوراة على أيدي اليهود، د. جعفر هادي حسن، فرقة القرائين اليهود.

ص: 65

كما وضع الأحبار التلمود بعد حوالي قرنين على ولادة عيسى عليه السلام، وجعلوه شريعة بني إسرائيل، وهو يحوي على تعاليم شفوية وشروحات وتفاسير كتبها الأحبار في أزمان مختلفة، وأصبح التلمود قرينًا للتوراة (1) .

واستمرت مصادر الفكر اليهودي بالتبلور بظهور عدد من المؤلفات، أهما ما كتبه الفيلسوف اللاهوتي اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثامن الهجري، ثم اكتملت بما عرف بـ (بروتوكولات حكماء صهيون)(2) الذي يعد النظام الأساسي المعاصر للعصبية اليهودية التاريخية، والتي أطلق عليها فيما بعد (الصهيونية) .

وما نريد أن نخلص إليه في هذه المقدمة هو أن اليهودية مرت بمخاضات متعددة في مسارها التاريخي، نتج عنها عدة أنواع من اليهودية هي:

أولًا: اليهودية السماوية: وهي دين بني إسرائيل، ولا سيما موسى عليه السلام، وكتابها هو التوراة الأصلية التي أوحى الله تعالى بها إلى موسى عليه السلام، وبعض أسفار الأنبياء الصحيحة وزبور داود عليه السلام، وأمثال سليمان عليه السلام، وغيرها من المدونات الأصلية، وهي ديانة يتعامل معها الإسلام كأية ديانة سماوية أخرى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] ، و {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود: 96] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163]، {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . وهذه اليهودية اندثرت بمرور الزمن بسبب ما تعرضت له من تحريف شامل.

(1) قصة الحضارة: 2 / 371؛ انظر أيضًا: موريس بوكاي؛ التوراة والإنجيل والقرآن والعلم.

(2)

للمزيد انظر: التلمود شريعة إسرائيل: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة د. يوسف نصر الله.

ص: 66

ثانيًا: اليهودية المحرفة: وهي النسخة المحرفة عن اليهودية السماوية التي طالتها أيدي الرهبان والكهنة وفلاسفة اليهود عبر التاريخ، امتزجت بالأساطير والخرافات والادعاءات الغريبة، وبرزت بالتدريج على شكل (عصبية يهودية) مزجت بين العصبية الدينية والعصبية القومية والأيديولوجية الأرضية الخاصة، وقد تحدث القرآن الكريم صراحة عن هذا الاتجاه الذي بلغ فيه اليهود مقدارًا غير محدود من الجرأة على الله تعالى حتى في زمن موسى عليه السلام، بل وفي وقت نزول آيات الله تعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:44 - 46] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] .

هذا فضلًا عن ضغط الحوادث التاريخية التي مر بها اليهود، والتي ساهمت في خلق هذه (العصبية) المركبة، ومن أبرزها صراعهم الدائم مع الرسالات وقتلهم الأنبياء، وممارسات أو ردود أفعال الشعوب المجاورة لهم أو المتعايشة معهم، والذي نتج عنها اضطهاد وإرهاب وتشتت اجتماعي وجغرافي، وتولد عن هذه العصبية مشاعر متفردة متناقضة لدى المجتمعات اليهودية أصبحت جزءًا من أيديولوجيتها وتكوينها النفسي، من أبرزها التمايز عن باقي شعوب العالم والتعالي عليها، باعتبار أن بني إسرائيل هم (أحباب الله) ، و (شعب الله المختار) ! الذي يتفرد بحمل الرسالة الإلهية التاريخية التي لابد أن يطبقها على كل الأرض دون استثناء، وإن أدى ذلك إلى تدمير كل شيء! وقد تحمل اليهود - كما يصورون بسبب هذه الرسالة كل أنواع الاضطهاد والاحتقار، فشحن ذلك فيهم ألوانًا معقدة من الحقد والكراهية للآخرين والتعطش للانتقام والانكماش والانعزال وغيرها من العقد والأزمات النفسية المتأصلة (1) يقول الله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] ،

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .

وهذه اليهودية هي التي ظلت أيديولوجية السائدة في المجتمعات اليهودية، ولم تنفع معها حتى تعاليم الأنبياء ونصائحهم وأساليبهم في التغيير، وهي اليهودية التقليدية.

(1) انظر الخطر اليهودي.. بروتوكلات حكماء صهيون، ترجمة: محمد خليفة التونسي؛ وعبد الله التل، خطر اليهودية على الإسلام والمسيحية.

ص: 67

ثالثًا: اليهودية الصهيونية: وهي وريث (العصبية اليهودية والتاريخية) أو (الأيديولوجية اليهودية المتوارثة) ، إلا أنها ليست وريثًا دينيًا بل وريثًا علمانيًّا استعماريًّا، وإن وجدت بعض النزاعات الدينية في داخلها، والتي تمثل (الصهيونية المتدينة) ، وهي نزعة أصولية تختلف عن اليهودية التقليدية.

ولا تدين كل المجتمعات اليهودية بالصهيونية، بل هناك حركات يهودية (علمانية ودينية) مناهضة للصهيونية، مثل جماعة (القدس) وطائفة (نيتوري كاراتا) .

والتيار الصهيوني من اليهودية، جمع أسباب الإفساد والاستكبار والعنصرية والشر والعدوان والقسوة من أطرافها، بصورة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل، بل ولم يألفها التاريخ اليهودي أيضًا.

ص: 68

مصادر أيديولوجيا العدوان في الفكر الصهيوني:

اعتمد الفكر الصهيوني الحديث في تشكيله وفي إسباغ الشرعية اليهودية على نفسه، على ثلاثة ألوان من المصادر، تعبر عن ثلاث مراحل زمنية:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة المصادر الدينية التاريخية التي حرفها وكتبها الكهنة اليهود على مدى تسعة قرون وبعدة لغات (قبل الميلاد وبعده) . وهي التراث الديني اليهودي الذي يشتمل على العهد القديم (بأقسامه الثلاثة وأسفاره التسع والثلاثين) والتلمود (بقسميه: المنشا والجمارا) وقد سوغت نصوص هذه المصادر ارتكاب كل ألوان العنف والعدوان ضد الشعوب غير اليهودية، فهذه النصوص تقسم البشرية إلى قسمين:(اليهود) أو العبرانيون، وهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحباؤه وأمته المقدسة، ولا تقبل العبادة إلا منهم، والقسم الثاني هم (الجوييم) أو الأمميون أو الأغيار، أي غير اليهود، وقد خلقوا من طينة شيطانية، والهدف من خلقتهم خدمة اليهود، ولم يمنحوا الصورة البشرية إلا بالتبعية لليهود ليسهل التعامل بين الطائفتين، وذلك تكريمًا لليهود (1) .

وقد أرّخت هذه المصادر للتاريخ اليهودي المتخم بالحروف والفتن والمصائب، ومن خلال نوعية الحروب التي قادها أنبياء بني إسرائيل وملوكهم - كما تصف هذه المصادر - أو الفتن والمصائب التي تعرضوا لها أو تسببوا فيها، سوغت الصهيونية لنفسها العدوان بكل الصور على (الجوييم) ، سواء العدوان الذي يستهدف الأخلاق والعفاف والجانب المعنوي والروحي، أو العدوان الذي يستهدف الابتزاز المالي والكسب اللامشروع للثروات، أو العدوان والعنف والإرهاب الذي يستهدف مقدسات الآخرين وأراضيهم وأرواحهم وأعراضهم، وذلك بدافع الاستكبار والكراهية والحقد والانتقام إضافة إلى دافع البحث عن الحقوق التاريخية الموهومة.

(1) للمزيد انظر: د. رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية.

ص: 69

ومن هذه النصوص نص ورد في سفر الخروج يخاطب فيه إله بني إسرائيل (حاشا لله تعالى) موسى عليه السلام: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، وإن فتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف"(1) . وهذا النص المحرف يسوغ للعبرانيين استرقاق الكنعانيين واستعبادهم وقتل جميع ذكروهم. وهناك نص آخر فيه أمر أكثر وحشية وهمجية: "انتقم نقمة بني إسرائيل من المدينيين، فقاتلوا مدين كما أمر الرب موسى، واقتلوا كل ذكر فيها، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم، ولم يرض موسى عن كل ما حصل، فقد ترك جنده الأطفال أحياء فسخط موسى وقال لهم: فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها "(2) . وفي سفر يوشع أنه قاد العبرانيين باتجاه أريحا "فقتلوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقرة "(3) . وقد لا نحتاج هنا إلى إثبات كذب ما ينسبه العهد القديم من روح شريرة إلى الأنبياء ولا سيما موسى عليه السلام الذي قال فيه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51] . والكليم عليه السلام نفسه طالما نهى قومه عن الكذب والافتراء عليه وعلى الله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] .

كما جاء في التلمود مجموعة فقرات تنص على أن: "أرواح اليهود تتميز عن باقي أرواح البشر بأنها جزء من الله والابن جزء من أبيه، وأن المسيحيين من نسل الشيطان، والإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان بقدر الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، والله لا يغفر ذنبًا ليهودي يرد للأممي (غير اليهودي) ماله المفقود (4) .

(1) انظر: د. إبراهيم العاني، الأديان والمذاهب، ص31.

(2)

العهد القديم، التوراة، سفر الخروج: 33 / 27.

(3)

المصدر السابق، سفر العدد (31) .

(4)

العهد القديم، أسفار الأنبياء، سفر يوشع: 8 / 27 - 28.

ص: 70

المرحلة الثانية: المؤلفات الوسيطة التي وضعها حكماء اليهود في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، ولا سيما مؤلفات موسى بن ميمون، إذ يؤكد ابن ميمون في كتابه (الاضطهاد) انفراد عنصر بني إسرائيل في قربه إلى الله وكونه معصومًا، وأن الله عاقب بعض الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم النبي إيليا، الذي نفاه الله إلى برية دمشق، والنبي أشعيا الذي قتله الله على يد الملك منسي، وكذلك النبي موسى والنبي هارون اللذان عاقبهما الله بأن فصلهما عن بني إسرائيل ومنعهما دخول فلسطين (1)، إذ جاء في سفر العدد:"فقال الرب لموسى وهارون: بما أنكما لم تؤمنا بي ولم تقدساني على عيون بني إسرائيل؛ لذلك لن تدخلا أنتما هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها إياها"(2) . وفي نصوص ابن ميمون تبرز العصبية اليهودية التاريخية بأبشع صورها، وعلى حساب الأنبياء والأوصياء. ولا يكتفي ابن ميمون بذلك، بل يقول بأن:"الفرق بين المسيحية والإسلام وبين اليهودية كالفرق بين إنسان حي وبين صورته المنحوتة في خشب أو فضة أو ذهب أو حجر". (3)

(1) للمزيد انظر: عبد الله التل، خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية.

(2)

انظر: سامي محمد عبد الحميد، القدس في اليهودية والمسيحية والإسلام، ص 61 - 62.

(3)

سفر العدد: 13/20.

ص: 71

المرحلة الثالثة: النصوص الحديثة، وهي التي دونها أو قالها مؤسسو اليهودية الصهيونية وحكماؤها وروادها وقادتها، وهي في مجموعها قولبة عصرية لمقولات تاريخية منتقاة وأدلجة علمانية لتعاليم دينية منتقاة، أيضًا، إذ أعادت الصهونية الروح لمقولات والتعاليم اليهودية التي تدعو للاستعلاء والاستكبار وممارسة الفساد والشر والقتل والتدمير، وفعلتها بصورة ممارسات وأساليب على الأرض، ولعل قراءة استعراضية لما نشر تحت عنوان (بروتوكولات حكماء صهيون) وبعض مقولات هرتزل وجابوتنكسي وبن غوريون وبيغن، تتيح الوقوف على هذه الحقيقة بكل وضوح. ففي البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون (1)، جاء بأن: "حكم العالم ينتزع بالحرب والإرهاب

الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو أخلاقي وما هو خير

يجب أن نعلم كيف نصادر الأموال بلا أدنى تردد إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة، وأن دولتنا لها الحق أن تستبدل بأهوال الحرب أحكام الإعدام، والإعدام ضرورة تولد الطاعة العمياء، فالعنف وحده هو العامل الرئيسي في قوة الدولة

يجب أن يكون شعارنا: كل وسائل العنف والخديعة. إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير. ولذلك يجب ألا نتردد لحظة واحدة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة" (2) . وجاء في البروتوكول السابع: "من أجل أن نظهر استعبادنا لجميع الحكومات الأممية في أوربا، سوف نبين قوتنا لواحدة منها متوسلين بجرائم العنف، وذلك هو ما يقال له حكم الإرهاب. وفي البروتوكول التاسع:"لقد خدعنا الجيل الناشئ من الأمميين، وجعلناه فاسدًا متعفنًا بما علمناه من الأذى من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها"(3) .

(1) نقلًا عن: سامي عبد الحميد، القدس، ص 63.

(2)

قرارات سرية اتخذها زعماء الحركة الصهيونية العالمية في مؤتمرهم الذي عقد في مدينة بال السويسرية عام 1897م، ونشرت ابتداءً باللغة الروسية عام 1902م، وترجمها للعربية محمد خليفة التونسي. ورغم الغلط الذي أحاط بالبروتوكولات وحقيقة انتسابها للحركة الصهيونية، إلا أن تراث العصبية اليهودية والواقع الذي رسمته حوادث القرن العشرين يثبت انتماء هذه البروتوكولات إلى الفكر الصهيوني

(3)

الخطر اليهودي

بروتوكولات حكماء صهيون، ص 108 - 109.

ص: 72

ويقول جابوتنسكي (أحد رواد الحركة الصهيونية)، وهو يؤدلج للعنف والقتل: "إن الاقتتال بالسيف ليس ابتكارًا ألمانيًا، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل

إن التوراة والسيف أنزل علينا من السماء" ويضيف: "إن العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين". ويقول أيضًا:"إن الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ"(1) . ووظف زعماء الكيان الصهيوني أفكار جابوتنسكي، من بن غوريون وحتى شارون، وكتبوها على الأرض بدماء ضحاياهم الأبرياء، حتى إن مناحيم بيغن ذكر بأن:"التنكر أو حتى تجاهل أفكار جابوتنسكي يعني الخيانة"(2)، ويقول أيضًا: "من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال

اليهودي المحارب أولًا وقبل كل شيء يجب أن نقوم بالهجوم" (3) وقد نفذت العصابات الصهيونية منذ العقد الأول للقرن العشرين هذه المهمة في فلسطين على أبشع وجه، ثم ورثها جيش الكيان الصهيوني والأحزاب الصيهونية على مختلف اتجاهاتها التي تبدأ بأقصى اليسار وتنتهي بأقصى اليمين، حتى اندفع بن غوريون وهو يرى نجاح مشروع الإرهاب الصهيوني ليقول: "إن أمام العرب في إسرائيل ثلاثة خيارات: اعتناق الدين اليهودي، الطرد خارج البلاد، الإبادة التامة" (4) .

(1) المصدر السابق، ص 156

(2)

الأيديولوجية الصهيونية: 1/ 266

(3)

من كتابه (التجربة والأمل)، انظر: يوميات الإرهابي مناحيم بيغن، ترجمة: معين أحمد محمود، ص6

(4)

عبد الوهاب المسيري، الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة: 1/265

ص: 73

علمانية الفكر الصهيوني:

برغم أن الفكر الصهيوني الحديث اعتمد في تشكيله وصياغاته وخطابه العنصري والعدواني على أساطير وخرافات منتقاة من التراث الديني اليهودي ومصادر العصبية اليهودية التاريخية - كما مر -، إلا أنه فكر علماني لا يمت بصلة مباشرة لأي من ألوان التدين أو الفكر الديني أو السلوك الديني. وبالتالي فالأيديولوجية الصهيونية هي استشعار سياسي علماني لأساطير دينية يهودية. وهو ما أقره ودعا إليه رواد الحركة الصهيونية، فمثلًا المؤسس هرتزل كان يقول:"إنني لا أخضع لأي وازع ديني"(1) ، "إن المسألة اليهودية لا تعني بالنسبة لي مسألة اجتماعية أو مسألة دينية

إنها مسألة قومية" (2) ، كما لا يخفي كون مشروعه الصهيوني هو مشروع استعماري (3) ، وهو أيضًا حركة سياسية كما يقول ناشرو تراثه: "منذ عام 1896م أصبح مصطلح الصيهونية مرادفًا للحركة السياسية التي أسسها ثيودر هرتزل" (4) .

كما أن زعماء الكيان الصهيوني أكدوا منذ قيام (إسرائيل) على أرض فلسطين علمانية دولتهم، وأنها دولة قومية تستند إلى معتقدات العصبية اليهودية التاريخية، وليست دولة دينية. وهو ما يعبر عنه مطلب تحويل فلسطين إلى "وطن قومي لليهود".

(1) انظر: علي جريشة، حاضر العالم الإسلامي، ص 102

(2)

انظر: روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ص 24 نقلًا عن هرتزل، اليوميات

(3)

المصدر السابق، ص 26، نقلًا عن هرتزل، دولة اليهود

(4)

المصدر السابق، ص 26، نقلًا عن هرتزل، اليوميات: 3/105

ص: 74

وعلى هذا الأساس فإن ادعاءات (الحقوق التاريخية) و (شعب الله المختار) و (إسرائيل الكبرى) و (حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) و (التميز العرقي) و (إحياء مملكة داود) و (إعادة بناء هيكل سليمان والتجمع حوله) ، تدخل كلها في حسابات الفكر القومي الصهيوني وليس الديانة اليهودية. بل إن زعماء الحركة الصهيونية - وكثير منهم ملحدون - سلخوا هذه الادعاءات أو المقولات من مضامينها الدينية ووضعوها في خانة المقولات القومية السياسية؛ لتسويغ علمانية الفكر الصهيوني وعلمانية كيان (إسرائيل) ، ولعل هذا هو من أهم أسباب الخلاف بين الأحزاب العلمانية الأساسية (كالليكود والعمل) من جهة، والأحزاب السياسية الدينية (مثل كاخ) والاتجاهات اليهودية غير الصهيونية من جهة أخرى.

ومما يؤكد هذه الحقيقة الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي تصدر بين فترة وأخرى في الكيان الصهيوني؛ فالذين صوتوا للأحزاب الدينية في الانتخابات البرلمانية عام 1949 كانت نسبتهم (12 %) فقط، وأصبحت (13 %) عام 1992، بينما ظلت تحصل الأحزاب العلمانية على ما يقارب من (85 %) كمعدل عام.

أما نسبة الـ (90 %) فهم غير متدينين (علمانيون أو ملحدون أو غير مبالين) ، ولكنهم جميعًا يعتقدون أن فلسطين هي منحة إليهم من إلههم (يهوه) الذي لا يؤمن به معظمهم (1) .

والنتيجة المهمة التي يفترض أن نخرج بها من هذه الحقيقة تكمن في أن الصراع الإسلامي - الصهيوني ليس صراعًا دينيًا، أي ليس صراعًا بين دينين (الإسلام واليهودية) ، بل هو صراع عقائدي، بين العقيدة الدينية الإسلامية والأيديولوجية الصهيونية العلمانية.

(1) المصدر السابق، ص 24، نقلًا عن موسوعة الصهيونية وإسرائيل، ص 1262.

ص: 75

فلسطين في الفكر الصهيوني:

أرض فلسطين تشكل المركز في الفكر الصهيوني، فهي (أرض الميعاد وهي نواة (إسرائيل الكبرى) وهي الحلم الذي يدغدغ المشاعر التاريخية للصهاينة بالعودة وبنهاية مرحلة الشتات. وهي في مجملها أوهام تأسست على أساطير تاريخية، وبكلمة أخرى فهي ليٌّ لعنق بعض النصوص اليهودية التاريخية، ومن هنا جاءت تسمية (الصهيونية) نسبة إلى جبل (صهيون) في فلسطين وهو جبل مقدس لديهم، وقد أطلق هذه التسمية اليهودي الألماني (ناتان بيرنياوم) في عام 1890م، ويقصد بها الحركة والأيديولوجية التي تعبر عن هدف الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين. وهذا هو الهدف القومي التاريخي يمثل - كما يزعمون - إرادة إلههم (يهوه) الذي اصطفى (فلسطين وطنًا لبيته وسكناه)، فقد جاء في سفر التكوين:" قال الرب لأبرام: اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فذهب أبرام كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان. وظهر الرب لأبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"(1) . وحينها حل العبرانيون في فلسطين كمهاجرين أو مغتربين كما يقول النص التوارتي: "وتغرب أبرام في أرض الفلسطينيين أيامًا كثيرة "(2) .

وقد حدد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا عام 1897م هدف (المنظمة الصهيونية العالمية) التي تأسست بقرار من المؤتمر بهذه العبارة: "إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام"(3) . وسوغت المنظمة - نظريًّا - لكل أساليب العدوان والعنف لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الهجرة الجماعية والغزو والاحتلال والاستيطان ومصادرة أراضي الغير وتشريدهم واستباحة المقدسات والأعراض والقتل والتعذيب. كما قررت المنظمة أن تكون فلسطين أرضًا يهودية خالصة (4) ، وأن تكون أراضي الدول المجاورة (لبنان، سوريا، الأردن) عمقًا أمينًا وامتدادًا حيويًّا لها؛ تمهيدًا لتحقيق هدف " إسرائيل الكبرى

من النيل إلى الفرات".

والتقت المصالح الصهيونية - البريطانية في بدايات القرن العشرين عند نقطة إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما أعلنه آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917م. ثم تحقق هذا الوعد (البريطاني وليس الإلهي) بإعلان بن غوريون عن قيام (دولة إسرائيل)، والذي بدأه بكلمة:"أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي"محققًا بذلك الأسطورة التاريخية التي تبدأ بعودة العبرانيين لأرض الميعاد وتنتهي بإبادة الكنعانيين والفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. وأعادت الحركة الصهيونية حينها تأكيدها على أن القدس (أورشليم) هي عاصمة (إسرائيل) الأبدية، وهو خيار تاريخي لا تمتلك العصبية اليهودية باتجاهاتها العلمانية والدينية خيارًا آخر له.

(1) سفر التكوين: 12/1.

(2)

سفرالتكوين: 34/21.

(3)

آلان بواييه؛ أصول الصهيونية.

(4)

للمزيد انظر: أسعد عبد الرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية.

ص: 76

تهويد فلسطين:

تهويد فلسطين هو العنوان الرمزي للاستراتيجية العليا للحركة الصهيونية، والتي بدأت بتنفيذها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أي في أعاقب انعقاد المؤتمر الصيهوني الأول مباشرة. وهذا لا يعني عدم وجود خطوات سابقة بهذا الشأن، فقد قام بعض أصحاب رؤوس الأموال اليهود في بريطانيا وأمريكا بدعم مشاريع بناء الأحياء والمستوطنات والكنائس اليهودية في فلسطين ابتداءً في عام 1842م، بينها حوالي (27) مستوطنة في القدس وحدها. ونشط هذا التحرك بعد مؤتمر بال عام 1897م، تصاحبه صيحات رواد المنظمة الصهيونية، ولاسيما (هرتزل) و (نوردو) بتفريغ فلسطين من سكانها ونقلهم إلى البلدان المجاورة، وأخذ الاستيطان شكلًا منظمًا في أعقاب وعد بلفور عام 1917م برعاية حكومة بريطانيا وبعدم مباشر من سلطة الانتداب البريطاني الذي بدأ في فلسطين عام 1920م. وكان الغزو البشري اليهودي يتصاعد تصاعدًا مطردًا، حتى بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1925م حوالي (75000) نسمة، أي ما نسبته (10 %) فقط من عدد سكان فلسطين، وقفز العدد إلى (250000) عام 1929م، ثم ما يقرب من (350000) عشية تقسيم فلسطين عام 1947م بقرار منظمة الأمم المتحدة. وخلال حرب عام 1948م والعام الذي يليه ارتفع العدد إلى (600000) نسمة، وهو ما يعادل (31 %) من عدد السكان.

وتسبب قرار التقسيم وإعلان قيام دولة (إسرائيل) إلى تهويد القسم الذي أصبح جزءًا من الكيان الصهيوني، ومنه القدس الغربية (التي تشكل حوالي (84 %) من مساحة مدينة القدس) .

وبالتدريج أصبح الفلسطينيون أقلية في هذه المناطق، وهم الذين يطلق عليهم فلسطينيو 1948م أو عرب الداخل. وتمدد الكيان الصهيوني على القسم الذي أقرت الأمم المتحدة بقاءه عربيًّا، فاحتلت سلطاته قطاع غزة ومناطق الضفة الغربية خلال حرب 1967م، بل وتجاوزت حدود فلسطين لتحتل شبه جزيرة سيناء (المصرية) ومنطقة الجولان (السورية) ، ثم وحدت شطري القدس تحت سيطرتها، وطبقت في هذه المناطق أيضًا استراتيجية التهويد، مستخدمة كل أساليب العدوان والشر.

ص: 77

واستمر عدد الفلسطينيين بالتناقص من خلال التشريد والهجرة المعاكسة، وعدد اليهود بالتصاعد، حتى بلغت نسبة العرب في فلسطين حوالي (17 %) واليهود (83 %) عام 1989م، وهي النسبة التي كانت عكسية تمامًا عام 1947م. (1) .

وبرغم هذه الحقائق التي يقر بها الجميع، حتى أولئك الذين زرعوا الصهاينة في فلسطين ودعموهم بالمطلق، إلا أن زعماء الحركة الصهيونية يجنون على التاريخ والجغرافية بكل وقاحة وهم يرفعون شعار:" فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو ما ترجمته غولدا مائير في عام 1969م بقولها:"ليس هناك من شعب فلسطيني، وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردهم من ديارهم والاستيلاء على بلادهم، إنهم لا وجود لهم ". (2) .

وبالطبع فإن استراتيجية التهويد لا تقتصر على تهويد الأرض والسكان، بل تستهدف أيضًا التهويد الثقافي والتعليمي، وتهويد القوانين والتشريعات المدنية والقضائية، وتهويد الأماكن التراثية والمقدسات الإسلامية، ويبرز ذلك بشكل أكثر وضوحًا في مدينة القدس وغيرها من المدن المقدسة كالخليل.

(1) للمزيد انظر: بسام محمد العبادي، الهجرة اليهودية إلى فلسطين 1880- 1990م

(2)

من تصريحها لصحيفة سانداي تايمز

ص: 78

الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات:

جاء الغزاة الصهاينة إلى فلسطين وهم يحملون البنادق ويبيتون الشر لأرض المقدسات، ففي مطلع القرن العشرين الميلادي بدأ اليهود الصهاينة بتسليح أنفسهم وتنظيم صفوفهم، وانتهت هذه الإرهاصات إلى مبادرة الوكالة اليهودية في فلسطين إلى تأسيس منظمة عسكرية سرية في عام 1907م شعارها:"سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض بالطريقة نفسها". وحملت اسم (هاشومير) بعد عامين، ثم أعيد النظر في برامجها ونشاطها عام 1920م لتظهر في إطار منظمة عسكرية جديدة أكثر قوة وعنفًا في منظمة (هاغاناه) . وإلى جانبها تأسست عصابة مسلحة أخرى تحمل اسم (أرغون) ، ثم اندمجت المنظمتان عام 1948م ليتشكل منهما جيش الكيان الصهيوني.

وفضلًا عن الأعمال الإرهابية التي مارستها هذه العصابات ومن ثم ما عرف بـ (جيش الدفاع الإسرائيلي) داخل فلسطين، فإن الحركة الصهيونية العالمية مارست إرهابا منظمًا آخر خارج فلسطين، لكنه استهدف هذه المرة اليهود أنفسهم، فقد التقت المصالح الصهيونية مع مصالح حكومات بعض الدول الكبرى عند نقطة إجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ومنذ ذلك التنسيق الصهيوني مع النازية في ألمانيا ومع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصليبية الاستكبارية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ لاستفزاز اليهود في أوروبا والمنطقة العربية والإسلامية، من خلال محاصرتهم سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، والقيام بأعمال عنف وإرهاب ضدهم؛ بهدف ترحيلهم عنوة إلى فلسطين، ولاسيما بعد أن رفض كثير من اليهود الموزعين على دول العالم المختلفة فكرة الهجرة إلى فلسطين، حتى اضطر هؤلاء للجوء إلى فلسطين هربًا من الاضطهاد المفتعل، وبهذا المخطط تمكنت الحركة الصهيونية العالمية من حشد اليهود في فلسطين.

وفي داخل فلسطين، تعرض الإنسان والمقدسات إلى أبشع أعمال العنف والإرهاب والعدوان على يد العصابات الصهيونية المسلحة القديمة والجديدة، والسلطات المدنية والعسكرية الصهيونية. ولاشك أن الكتب والبحوث والإحصاءات التي تحدثت عن الجرائم والمجازر التي قام بها الصهاينة في فلسطين تعد بالآلاف، وقد لا نأتي بجديد في هذا المجال، ولكن نختصر الطريق إلى الحقيقة من خلال عرض نماذج للاعتداءات التي قام بها الصهاينة على المقدسات الإسلامية في القدس والخليل، وتحديدًا على المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي على اعتبار أن اليهود يطلقون على المسجد الأقصى اصطلاح (شناعة الخراب) ، ويعنون بذلك معبد الأصنام والتماثيل، وهو مصطلح قديم أسقط على المسجد الأقصى، فيما يعتبرون الحرم الإبراهيمي حرمهم وكنيسهم الذي لا يحق للمسلمين دخوله.

ص: 79

أولًا: مخطط هدم المسجد الأقصى:

وهو مخطط قديم، وله علاقة ببعض أساطير الأيديولجيا الصهيونية، إذ تعتقد هذه الأساطير بأن هيكل النبي سليمان عليه السلام يقع تحت المسجد المقدس، وأن المسجد بني على أنقاض الهيكل. واليهود ينظرون إلى إعادة بناء الهيكل نظرة قومية وليست دينية، على اعتبار أن سليمان هو عندهم ملك قومي ابن ملك قومي وليس نبيًّا ابن نبي.

وبدأ الصهاينة بتنفيذ هذا المخطط بمصادرة العقارات المحيطة بالمسجد وهدمها أو تصديعها تحت مختلف الذرائع. ثم أخذ المخطط طابعًا جادًّا ومعلنًا بعد نكسة حزيران يونيو 1967م، ففي أواخر هذا العام بدأ الهدم والتنقيب في المساحة الملاصقة لحائط البراق (المبكى) ، وعلى امتداد الأسوار الغربية والجنوبية لحرم المسجد، وكان (حي المغاربة) هدفًا مباشرًا للهدم، وبلغ عمق الحفريات حوالي (14م) .

وفي عام 1969م استمرت عمليات الهدم من حيث انتهت، وبلغت (80م) على طول سور الحرم. وفي العام التالي أخذت الحفريات تمتد بطول (180م) أسفل المنطقة المارة بأسوار الحرم وأبوابه وعلى شكل أنفاق. وبحلول عام 1972م وصل التنقيب إلى أسفل ساحة المسجد، ورافقها الاستيلاء على مبنى المحكمة الشرعية الإسلامية الملاصقة للمسجد، وتحويل جزء منها إلى كنيس. وفي الأعوام التالية اخترقت الحفريات المساحة التي تقع أسفل السور الغربي وصولًا إلى السور الجنوبي باتجاه السور الشرقي، وتوقفت عند الأروقة السفلية وأروقة المسجد الجنوبية الشرقية، ورافقها إزالة مقبرة تاريخية للمسلمين تضم رفات بعض الصحابة. وفي عام 1977م بلغت عمليات التنقيب المساحة التي تقع تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، فضلًا عن تعميق ساحة البراق. ثم تبعتها حفريات جديدة تحت السور الغربي والبدء بشق نفق يبدأ في شرق المسجد الأقصى، وتقرر أن يصل إلى غربه، وكذلك حفريات أخرى تحت الجدران الجنوبية، بحثًا - هذه المرة - عن مدافن لملوك بني إسرائيل! وحاولت وزارة الأديان الصهيونية (المعنية بعمليات التنقيب والهدم) في عام 1981م أن توصل حفرياتها بنفق إسلامي قديم يقع تحت السور الغربي للحرم.

ص: 80

وتوقفت الحفريات بضع سنوات، حتى عام 1986م حين استؤنفت بصورة واسعة، أدت إلى إغلاق بعض المنشآت العربية العامة والخاصة، وطرد أعداد كبيرة من السكان العرب خارج القدس القديمة (التي تضم المسجد الأقصى) . واتخذ (أريل شارون) الذي كان وزيرًا حينها أحد البيوت المصادرة القريبة في المسجد الأقصى منزلًا شخصيًّا له، لتأكيد تهويد منطقة الحرم القدسي.

وفي التسعينيات أيضًا شهدت عمليات الحفر والتنقيب مرحلة أخرى، إذ توسعت مساحة الأنفاق تحت المسجد، وتم إيصال قسم منها إلى الجانب المقابل، فيما تم تفريغ كميات هائلة من التراب في مناطق الحفر، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار أجزاء من المسجد فيما لو استمرت عملية التفريغ على هذه الوتيرة.

ص: 81

ثانيًا: حرق المسجد الأقصى:

وهو العمل الإجرامي الكبير الذي قامت به العصابات الصهيونية في آب أغسطس من عام 1969م، وأدى إلى اشتعال النيران في أروقة المسجد. ومن أجل التغطية على جريمتها، فإن السلطة الصهيونية سجلت الجريمة ضد فاعل واحد هو صهيوني (من أصل أسترالي) الذي نفذ العملية.

ثالثًا - محاولات اقتحام المسجد الأقصى:

وقد تكررت هذه المحاولات ابتداءً من عام 1979م حين حاولت جماعة (أمناء جبل الهيكل) بزعامة الحاخام (غورشون سلمون) اقتحام المسجد الأقصى، وأعقبتها محاولات جماعة (هاتحيا) وجماعة (كاخ) بقيادة الإرهابي (مائير كاهانا) ، وهي المحاولات التي شجعت المؤتمر الديني اليهودي الذي عقده الحاخامات الصهاينة في القدس في نيسان أبريل 1980م لاتخاذ قرار بالسيطرة على المسجد الأقصى، تمهيدًا لتدميره وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاضه. وتسببت محاولات جماعة الحاخام كاهانا في تدنيس المسجد الأقصى إلى وقوع صدامات عنيفة في ساحته بين الفلسطينيين المدافعين عن حرماتهم ومقدساتهم والإرهابيين الصهاينة المهاجمين. وكانت محاولتا نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة في آب أغسطس وتشرين الأول أكتوبر من عام 1982م من قِبَل جماعة كاخ في أهم المحاولات التي جرت في عقد الثمانينيات. أما المحاولة الأبرز التي أعقبتهما فهي محاولة شارون (الوزير الصهيوني حينها) في أيلول سبتمبر 2000م بدخول المسجد الأقصى مع الكثير من أنصاره وحمايته وتغطية عسكرية مكونة من (3000) جندي صهيوني، وهي المحاولة التي أدت إلى استشهاد وجرح العشرات من الفلسطينيين، وكانت نتيجتها المباشرة اندلاع (انتفاضة الأقصى) المباركة. وفي السياق نفسه تدخل محاولات بعض الصهاينة المتدينين أداء طقوسهم اليهودية داخل المسجد الأقصى، وهو ما حدث لأول مرة وبشكل رسمي في آب - أغسطس 1989م، حين أدى بعض اليهود طقوسهم على أبواب المسجد الأقصى. وبعدها بعشر سنوات تقريبًا افتتح رئيس وزراء الكيان الصهيوني موقعًا جنوب المسجد الأقصى يؤدي فيه اليهود طقوسهم، الأمر الذي شجع بعض الزعماء الصهاينة للمطالبة بتقسيم المسجد الأقصى رسميًّا بين اليهود والمسلمين. وقد سبقها محاولات غير رسمية، حين طاف ثلاثة صهاينة داخل قبة الصخرة عام 1969م، ثم أداء زعيمين صهيونيين لطقوس دينية داخل المسجد الأقصى عام 1973م.

ص: 82

رابعًا: الاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى:

في تشرين الثاني - نوفمبر 1979م افتتحت الشرطة الصهيونية مسلسل الاعتداء على المصلين داخل المسجد الأقصى، بعد أن أطلقت الرصاص عليهم. وفي نيسان أبريل 1982م أطلق جندي صهيوني النار بشكل عشوائي على المصلين. وخلال انتفاضة الحجارة كانت الاعتداءات تتكرر باستمرار، ولاسيما خلال صلوات الجمعة. وفي آب أغسطس عام 1990م اقتحمت الشرطة الصهيونية الحرم القدسي خلال صلاة الفجر وقتلت (22) مصليًّا وجرحت ما يقرب من (200) آخرين، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى استمرت الاعتداءات على رواد المسجد الأقصى، ابتداءً من منعهم من دخول المسجد لأداء الصلاة وانتهاءً بملاحقتهم في ساحات المسجد وإطلاق الرصاص عليهم، وهو الأمر الذي لا يزال مستمرًّا حتى الآن.

خامسًا - الاعتداءات على الحرم الإبراهيمي:

يضم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل (في الضفة الغربية) رفات أنبياء الله: إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام . ويدعي الصهاينة أنهم أحق بالسيطرة على الحرم، ومن هنا بدؤوا مخططهم بالسيطرة على مدينة الخليل بعد حرب حزيران يونيو 1967م، إذ زرعوا في العام التالي عددًا من المستوطنات حول المدينة، أعقبه إقامة حي يهودي فيها (حي الدبويا) ، وانتهى الأمر إلى مصادرة السلطات الصهيونية - عنوة - (24) ألف دونم من مساحة المدينة (حوالي ثلث مساحة المدينة) . وخلال ذلك كان الصهاينة يدخلون الحرم الإبراهيمي لأداء طقوسهم الدينية، وتحول الأمر إلى قرار رسمي في عام 1972م، واستغلت جماعة (كاخ) القرار لاستباحة حرمة المقام الإبراهيمي واقتحامه أثناء أداء المسلمين الصلاة، الأمر الذي شجع السلطات الصهيونية للسماح لليهود بأداء طقوسهم أثناء أداء المسلمين الصلاة في الحرم الإبراهيمي. وبالتدريج تم تقليص ساعات حضور المسلمين في الحرم وإطلاقها لليهود، وتحويل الجزء الأكبر منها - ومنه المسجد الداخلي - إلى كنيس يهودي، ومشاركة اليهود للمسلمين في مصلاهم، تمهيدًا لتهويد الحرم نهائيًّا. وخلال ذلك مارس الصهاينة مختلف الأعمال الإرهابية ضد رواد الحرم الإبراهيمي، كالتهديد والمضايقة والملاحقة والاعتداء بالضرب والقتل. وكانت المذبحة التي تعرض لها المصلون في الحرم على يد المستوطنين الصهاينة في شباط / فبراير 1994م هو العمل الإرهابي الأبرز الذي شهدته مدينة الخليل، فقد قتل في هذه العملية (29) مصليًّا وجرح العشرات.

ص: 83

المسلمون بين الفعل ورد الفعل:

لسنا بحاجة هنا إلى تأكيد أهمية موقع فلسطين والقدس عقائديًّا وثقافيًّا وجغرافيًّا وسياسيًّا في الخارطة الإسلامية، فإجماع الأمة على أن فلسطين هي القلب في القضية الإسلامية يكفي مؤنة البحث في هذا المجال. ولكن هناك نقطة نرى ضرورة التذكير بها، وهي أن احتلال فلسطين يعني احتلال جزء من الوطن الإسلامي، وبالتالي فقدان الوطن الإسلامي استقلاله السياسي والجغرافي، وتعرض الأمة للاستهداف في عقيدتها وهويتها، واستباحة المقدسات التي اؤتمن عليها المسلمون، ولاسيما أن الذي يقوم بهذه المهام ليس عدوًّا تقليديًّا، بل هو مشروع كبير في حجمه وعميق في نظرته وأهدافه العقائدية والسياسية والتاريخية والجغرافية، فضلًا عن خطورته العظمى التي تتمثل في جرأته وطموحه وجديته، ولاسيما أنه ينفذ مخططه في إطار مفارقة يصعب تصورها فضلًا عن تصديقها، إذ أن أصحاب المشروع الذين لا يتجاوز عددهم (13) مليون نسمة (فيما لو افترضنا جدلًا أن التيار الصهيوني يستوعب جميع اليهود) ، يستهدفون وجود وعقيدة وكيان مليار و (300) مليون إنسان. فهل يمكن تصور هذه المفارقة.. حتى لو وضعنا لها آلاف المسوغات؟!

ومن هنا فإن جميع الحلول التي تأتي عبر التفاوض أو التعايش مع هذا العدو وصولًا إلى السلام والأمن في فلسطين والمنطقة، هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، ولعلها لا تدرك أن فيها عمقًا بالغًا؛ لكي تغوص فيه وتجد من خلال ذلك الحل المناسب، فهذا العدو بقبوله التفاوض أو الصمت - أحيانًا - حيال بعض ردود الفعل الإعلامية والسياسية (المحلية أو العربية والإسلامية) فإنه يسخر من خصومه؛ لأنه لن يرضى بما استولى عليه من أراض ومقدسات، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن لكي يقال: إنه سيلتزم بعدم القيام بأي عمل عدواني، في حال الدخول معه في اتفاقيات ومعاهدات، كلا بالطبع؛ فالصهيونية لن تتنازل عن هدف (إسرائيل الكبرى)

هذه الإمبراطورية التي يراد لها الانطلاق من العدوان على الأمة الإسلامية جغرافيًّا وأمنيًّا وسياسيًّا باتجاه تدميرها عقائديًّا وثقافيًّا.

والحقيقة إن المسلمين ظلوا طوال قرن كامل من المشكلة الفلسطينية يتعاملون معها بردود الفعل، باستثناء بعض المواقف الفعل المنفردة، وهذا يدل على أن المسلمين لم يدركوا عمق المشكلة في الواقع، بل في حدود التنظير والأعمال الإعلامية والبحثية.

ص: 84

ونطرح هنا بعض المقترحات التي ربما تتحول آليًّا من التنظير إلى الفعل فيما لو أصر فقهاء الأمة عليها، ومارسوا - من خلال مواقعهم العلمية والاجتماعية - ضغطًا إقناعيًّا وعقلانيًّا على المجتمعات السياسية والمدنية الإسلامية، من أجل نفذ ما يترتب عليه، وتأخذ هذه المقترحات شكل الأحكام والفتاوى الشرعية التي ندعو الله تعالى أن يتوفق المجمع الموقر لإصدارها بالإجماع في دورته هذه:

أولًا: إصدار فتوى بحرمة أي شكل من أشكال التعامل مع الكيان الصهيوني من قبل المسلمين (أفرادًا وجماعات وحكومات)، وبمقاطعة هذا الكيان المحتل والمؤسسات الصهيونية في كل العالم مقاطعة شاملة: دينية وسياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية.

ثانيًا: إصدار فتوى بوجوب دعم الشعب الفلسطيني بكل مستلزمات البقاء والصمود والجهاد، وبأن الجهاد هو الخيار الوحيد لتحرير الإنسان والهوية والمقدسات والأرض في فلسطين، وجواز صرف الحقوق الشرعية في هذا السبيل، ونود في هذا المجال عرض الرؤية الفقهية للإمام الخامنئي، إذ يقول:"إذا جاء الكفار واحتلوا بلد إسلاميًّا وضربوا الحصار حوله فلا يشك أحد من فقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا بالوجوب العيني للجهاد بهذا الصدد. وفي غير هذه الحالة فالجهاد الابتدائي هو واجب كفائي. إن الجهاد الدفاعي أظهر مصاديق الدفاع بهذا الشأن وهو واجب عيني ". ويضيف بأن انطباق الحكم الشرعي على القضية الفلسطينية واضح (1) .

ثالثًا: إصدار فتوى بقدسية أرض فلسطين بكاملها، وحرمة التنازل عن أي شبر منها إلى الصهاينة أو غيرهم، وبأن فلسطين والقدس وكل المعالم الإسلامية فيهما هي حق شرعي للمسلمين جميعًا وليست مساحات قابلة للمساومة، أي أن التنازل عن أي شبر من فلسطين حق يمتلكه الفلسطينيون وحدهم.

رابعًا: إصدار فتوى بحرمة شراء السلع الأمريكية والتعامل بها؛ بسبب احتضان الولايات المتحدة الأمريكية للمشروع الصهيوني احتضانًا كاملًا ودعمها له دعمًا مطلقًا. ويلحق بالفتوى تحذير بإصدار فتاوى مشابهة ضد كل الدول والمنظمات والمؤسسات التي تدعم الكيان الصهيوني ومشروعه.

(1) من حديثه في ندوة دعم الانتفاضة الفلسطينية المنعقدة بطهران في تشرين الأول (أكتوبر) 1991 م.

ص: 85

ونود أيضًا أن يؤسس المجمع الموقر لآلية متكاملة تستوعب جميع عملاء الإسلام؛ بهدف تجميع الأدوار الفردية في دور جماعي موحد، الأمر الذي يكرس موقعهم المركزي في دعم قضية أمتنا في فلسطين، وصولًا إلى الإمساك من جديد بإسلامية القضية وأبعادها الشرعية، وهو الخيار الوحيد للقضية؛ من أجل أن نتحرر من أسر الأيديولوجيات والأفكار التي تحاصرها منذ عشرات السنين، ولا شك أن الصهاينة لا يمكنهم إخفاء ذعرهم من تمسك القضية بهذا الخيار، لأن في نهايتهم، وقد عبر عن ذلك بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني بقوله:"نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلًا وبدأ يتململ من جديد "(1) .

وقد أثبت الواقع - وليس بن غوريون - من خلال مئات الحوادث أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده حسم الموقف في فلسطين ، وأمام غضب الله تعالى واعتصام المسلمين بحبله، لن ينفع الصهاينة أن يقاتلوا في قرى محصنة أو من وراء جدر:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 111 - 112] . صدق الله العلي العظيم. والحمد لله رب العالمين.

* * *

(1) نقلًا عن: عبد الوهاب المسيري، الايديولوجية الصهيونية: 1 / 119.

ص: 86