الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأمين الصحي
إعداد
الدكتور محمد هيثم الخياط
نائب المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا حديث في التأمين الصحي، ولا بد في التمهيد لهذا الحديث، من أن نقوم قبل كل شيء بتعريف الصحة، وتعريف التأمين كل على حدة، ثم نعرف بـ التأمين الصحي، ونستعرض تاريخه، وأنواعه، ومراميه وأهدافه، توطئة للتوصل إلى الحكم الشرعي فيه.
الصحة
قبل نصف قرن من الزمان، صاغت منظمة الصحة العالمية في دستورها تعريفها للصحة على أنها:
(المعافاة الكاملة، بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، لا مجرد انتفاء المرض أو العجز) .
يذكرنا ذلك بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجه عن أبي بكر رضي الله عنه ((سلوا الله المعافاة، فإنه لم يؤت أحد ـ بعد اليقين ـ خيرًا من المعافاة)) .
وقد كان لهذا التعريف ـ تعريف منظمة الصحة العالمية ـ وقع كبير، فقد درج أطباء الغرب من قبل على تعريف الصحة بأنها (انتفاء المرض) كالذي يعرف الحياة بأنها انتفاء الموت!! وكان هؤلاء (الجهابذة) الغربيون ولا سيما في النصف الأول من هذا القرن، يغفلون ـ غفلة أو تغافلاً ـ ما قرره أطباؤنا. . أطباء الحضارة العربية الإسلامية قبل مئات السنين.
فالصحة ـ كما قال علي بن العباس قبل ألف عام ـ:
(حال للبدن تتم بها الأفعال التي في المجرى الطبيعي) .
أو هي ـ كما قال ابن النفيس قبل سبعمائة عام ـ:
(هيئة بدنية تكون الأفعال بها لذاتها سليمة. . والمرض هيئة مضادة لذلك) .
فالصحة عند أطبائنا جميعًا إذن هي الأساس والمنطلق، والمرض هو الهيئة المضادة للصحة، وإنما فقه أطباؤنا ذلك من قول ربهم عز وجل:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7] وقوله عز من قائل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]، وقوله سبحانه:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقوله تبارك وتعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] حتى لخص علي بن العباس تعريف الصحة بعبارة موجزة بليغة فقال: (والصحة هي اعتدال البدن) .
والمحافظة على وضع (السواء) أو (التعديل) أو (الاعتدال) هذا، والمحافظة على الإنسان (في أحسن تقويم) بدنيا ونفسيًا واجتماعيًا، مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية، (فإن الطب كالشرع ـ كما يقول الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام) وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، والذي وضع الشرع هو الذي وضع (الطب) فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم) .
(وقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل ـ كما يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات) على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل) .
ونحن واجدون إن شاء الله بعد قليل تأمل، أن ثلاثًا من هذه الضروريات الخمس، وهي النفس والنسل، والعقل، لا تكتمل المحافظة عليها إلا بحفظ الصحة.
ولم يكتف دستور منظمة الصحة العالمية بالنص على تعريف الصحة الشامل على النحو الذي تقدم ذكره، وإنما توسع في الحديث عن مقتضيات هذه الصحة ومستلزماتها:
ـ فتحدث عن (العدالة)(والمساواة) في تحقيق الصحة للناس (أجمعين) بلا استثناء ولا تفريق بينهم لأي سبب كان.
وقد كان هذا ما فعله المسلمون منذ صدر الإسلام، طاعة لأمر الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] و {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] .
ولا يخفى أن (العدل) في اللغة التي نزل بها القرآن يتضمن معنى (المساواة) أيضًا ـ أو ما يسمونه (العدالة) في لغة العصر ـ كما في قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي ما يساوي ذلك صيامًا. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك.
فقد ذكر البلاذري (فتوح البلدان) : (أن عمر رضي الله عنه مر عند مقدمه الجابية من أرض دمشق، على قوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت) ويعني ذلك أن للمرضى حق الرعاية على المجتمع الإسلامي، ممثلاً في الدولة الإسلامية.
وورد في (طبقات) ابن سعد: (أن عمر رضي الله عنه كان يفرض للمنفوس (الوليد) مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده. . وكان إذا أتي باللقيط فرض له مائة درهم، وفرض له رزقًا يأخذه وليه كل شهر بما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيرًا، ويجعل نفقتهم ورضاعهم من بيت المال) . ويعني ذلك أن للطفل ـ أي طفل ـ حق الرعاية على المجتمع الإسلامي ممثلاً في الدولة الإسلامية.
كما ورد في عقد الذمة بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين أهل الحيرة: (وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه:
1 ـ طرحت جزيته (أي أعفي من الضرائب) .
2 ـ وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة، ودار الإسلام (أي في الدولة الإسلامية) . ذكره الإمام أبو يوسف في كتاب (الخراج) . ويعني ذلك أن للضعيف والمعاق والمسن حق الرعاية على المجتمع الإسلامي ممثلاً في الدولة الإسلامية، بل لقد اعتبر الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن التقصير في ذلك ضرب من عدم الإنصاف فقال:(فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم) .
ويتضح من هذه الأمثلة أن الدولة الإسلامية تعتبر حق الصحة هذا حقًا (للإنسان) دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وأن رعاية الدولة الإسلامية (للإنسان) تبدأ منذ الولادة بتأمين الرضاع الصحي، وتستمر حتى الشيخوخة بتأمين ما يكفل العيش الصحي، وأنها بين هذه وتلك لا تغادر مريضًا ولا عاجزًا ولا مقعدًا ولا مصابًا إلا غمرته بالرعاية اللازمة.
ـ وتحدث دستور منظمة الصحة العالمية أيضًا عن ضمان (جودة) الخدمات الصحية و (إتقانها) وقد أمر ربنا عز وجل بالإحسان فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [الأعراف: 90] . والإحسان تعبير من أروع تعابير اللغة التي نزل بها القرآن؛ لأنها لفظة تتضمن معنى (الجودة) فالحسن هو الجيد، والجودة والإجادة، والإتقان صفات مطلوبة في كل شيء، كل شيء. . فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ـ في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس:((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) ويقول: ((إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)) .
على أن كلمة الإحسان تتضمن أيضًا تلك اللمسة الرقيقة الحانية التي افتقدناها أو كدنا في ممارسة الطب الحديث. . تتضمن ذلك الشعور النبيل الذي يجعل المرء يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة، ويتضمن الإحسان كذلك صحوة الضمير ومراقبة الله عز وجل في كل تصرف وسلوك، مصداقًا لتعليم النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) .
ـ وتحدث دستور المنظمة كذلك عما يطلق عليه كتاب اليوم اسم (كفاءة) الخدمات الصحية، والمراد بذلك تقديم أفضل خدمة ممكنة بأقل ما يمكن من النفقات، وبذلك لا تجعل السلطة الصحية يدها مغلولة ولا تبسطها كل البسط، وتتجنب أي هدر أو تبذير، وهذا لب ما أمر الله عز وجل يقول:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ـ عن إضاعة المال.
التأمين
لا يكاد يخلو أمر من أمور الإنسان من احتمالات الخسارة، فالماشي على رجليه يمكن أن تزل به القدم فتنكسر يده (يخسر صحته) ، والراكب في الحافلة يمكن أن يتعرض إلى حادثة قد تستدعي نقله إلى المستشفى (يخسر صحته) ، والنائم في بيته يمكن أن تصيبه قارعة أو تحل قريبًا من داره (يخسر بيته) والتاجر يمكن أن تغرق السفينة التي تنقل بضاعته (يخسر بضاعته) ، وتاجر المباني يمكن أن يتعرض بعض مبانيه للحريق (يخسر مبانيه) ، ولكن احتمال الخسارة في ذلك كله يبقى احتمالاً لا يصل إلى درجة اليقين، وإنما يظل ريبًا يتربصه الإنسان كالذي يتربص ريب المنون.
ولا علاقة لهذه الخسائر ـ في نظر المسلم ـ بالخير والشر، ولا بالصواب والخطأ، ولا برضى الله أو سخطه؛ لأن الله سبحانه وتعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] ولأنه عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 ـ 17] .
واحتمال التعرض للخسارة هذا هو الذي يطلقون عليه في اللغة الإنكليزية اسم (رِسْك ـ Risk) ويطلق عليه كثير من كتاب العربية في عصرنا اسم (الخطر) ، وما هو يخطر، ولكنه مجرد (احتمال التعرض للخطر) ، أما (الخطر) فهو الخسارة نفسها متى وقعت.
و (احتمالات التعرض للخطر) شيء متأصل فطري في مختلف أمور الحياة دقيقها وعظيمها؛ فعبور الشارع يحتمل التعرض للخطر، وقيادة السيارة تحتمل التعرض للخطر، والزواج. . وإنجاب الأولاد. . وكل عمل تجاري يحتمل التعرض للخطر، وهكذا. . فاحتمالات التعرض للخطر هذه جزء من قضاء الله وقدره، فطر الله عليها الكون والحياة بجوانبها المختلفة:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] .
والمتاجرة في أمور يتأصل فيها احتمال التعرض للخطر، بحيث لا يأسى المرء على ما فاته ولا يفرح بما أوتيه، عمل من أفضل الأعمال، فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتاجر للسيدة خديجدة قبل البعثة، وكان عدد من صحابته الكرام من أكابر التجار كسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وغيرهما رضي الله عنهم وقد أمر الله المسلمين بالعودة إلى البيع بعد صلاة الجمعة والانتشار في الأرض ابتغاء من فضل الله.
ولكن هنالك نوعًا آخر من المعاملات المالية (يفتعل) الإنسان فيه احتمالاً للخطر غير متأصل فيه أو غير مفطور عليه؛ فالخيل تجري وتستبق دون أن يجر ذلك بالفطرة خسارة مالية لامرئ لا يملكها ولا صلة له بها، ومباراة كرةالقدم تجري دون أن يؤد ذلك ـ بطبيعة الأشياء ـ إلى خسارة مالية لامرئ من غير اللاعين، فإذا تدخل امرؤ لا علاقة له بالامر فافتعل لنفسه احتمال التعرض للخطر (الخسارة) فذلك ظلم لا مسوغ له (والظلم: وضع الشيء في غير موضعه) ، وهو محاولة (لخلق) احتمال للخطر لم يخلقه الله في فطرة هذه الأمور:(ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ـ كما في الحديث القدسي ـ: (فهذه الأشكال التي يفتعل فيها احتمال الخطر أشكال غير جائزة ـ والله أعلم ـ في نظر الشرع، وهي تندرج تحت عنوانين كبيرين هما: المقامرة والمراهنة.
فالمراهنة (betting) أنك ـ وأنت لا تملك حصانًا ولا علاقة لك بالأمر أصلاً ـ تراهن على أن الحصان الفلاني سيسبق غيره، فإذا سبق ربحت وإذا لم يسبق خسرت المبلغ الذي راهنت به، وكل ما يهم المراهن أن يرضي غروره ويثبت أنه على صواب! فمن الناس من يراهن على فوز فريق في الملعب، أو نجاح حزب في الانتخابات، أو ما شابه ذلك، وهو برهانه لا يستطيع أن يغير من النتيجة شيئًا قط، (لأن أولئك الذي يمكنهم محاولة التغيير هم راكب الجواد أو لاعب الفريق أو الناشط الحزبي) ، ولكن كل ما يهمه أن يثبت أنه قادر على معرفة الغيب بشكل من الأشكال، فهو يحاول أن يضفي على نفسه ولو بشكل لا شعوري ـ صفة من صفات الله عز وجل اختص بها نفسه.
أم االمقامرة (gambLing) فتشبه المراهنة من حيث إنها (افتعال) أو (محاولة خلق) احتمال تعرض للخطر (للخسارة) فالمقامر يراهن على نتيجة لا دخل له في إحداثها كرمي القداح أو الاستقسام بالأزلام أو دورة الروليت، ولكن (الموقف النفسي) للمقامر يختلف عن الموقف النفسي للمراهن، فهو يقامر ليستمتع ويتسلى بغض النظر عن الربح والخسارة، وإنك لترى المقامر على مائدة القمار يخسر ويخسر ويخسر ولكنه يظل يقامر ما دام معه فضل مال يقامر به، فالمراهن يراهن ليثبت أنه ذكي يستطيع استشراف المغيبات، والمقامر يقامر ليستمتع بعملية قائمة على استشراف المغيبات، ولا أدل على ما قلناه من الميسر الذي حرمه الله عز وجل بنص القرآن، فبغض النظر عمن يربح قدحه أو يخسر في الميسر، فإن حصيلة الميسر كانت تذهب إلى الفقراء والمساكين، فالمقامر بالميسر لا يقامر ليربح؛ لأن الربح لن يعود عليه بغنى، وإنما يقامر ليلبي هوى نفسه فلا عجب بعد ذلك أن تتصادم نوازع الهوى هذه بين الناس فتثور بينهم العداوة والبغضاء، ولا عجب أن يلهي المقامرين استغراقهم فيما يستمتعون به من قمار عن ذكر الله وعن الصلاة! .
وبعد، فلا يكاد يخالف عاقل في ضرورة العمل على اتقاء كل خسارة ممكنة أو أي نقص ممكن في الأموال، والأنفس، والثمرات، والأبدان، أو في ضرورة العمل على الحيلولة دون تحقق وقوع الخطر المحتمل، أو التخفيف من شدته أو درجته إن وقع. فذلك ـ بعبارة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرار من قدر الله إلى قدر الله، وقد أخرج في تاريخه (عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ومن يتق الشر يؤقه)) وعلمنا ـ بأبي هو وأمي ـ كيف نتقي أمثال هذه الأخطار، فقال مثلاً ـ في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى ـ:((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل، فليمسك ـ أو قال: ليقبض ـ على نصالها بكفه، أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)) .
وقد حرم ربنا عز وجل (الفواحش ـ ما ظهر منها وما بطن ـ والإثم) ومن أظهر معاني الإثم: (الضرر) فقد جعل الله سبحانه الإثم نقيضًا للنفع في قوله جل وعلا عن الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ومن أجل ذلك أيضًا يكون من أظهر معاني (البر) : ما ينفع الناس، وقد أمر الله عباده أن يتعاونوا على البر والتقوى، ونهاهم عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان. فأمرهم بالتعاون على ما ينفع الناس، ويدخل في ذلك إزالة آثار النكبات، وأمرهم بالتقوى، ويدخل في معناها الشامل ـ والله أعلم ـ كل اتقاء للسيئات في الدنيا والآخرة. فقد روى الترمذي عن أبي خزامة أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقالوا ـ صلوات الله وسلامة عليه:((هي من قدر الله)) .
وقد فصل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجزاء عن هذه الأمة خيرًا، فصل كثيرًا في موضوع التعاون على البر الذي هو جلب المنافع للناس ودرء المفاسد والشرور عنهم، فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى:((المؤمن للمؤمن كالبنيان: يشد بعضه بعضا)) وشبك بين أصابعه. قال القرطبي: (فإن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا ويقويه) وهذا هو مثل المسلمين في الإنجيل: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ} [الفتح: 29] ، فكل ابن من أبناء المجتمع الإسلامي الكبير، وكل أسرة من أسره، وكل جماعة من جماعاته، كمثل الشطء أو الغصن الذي يتفرع عن جذع الشجرة، ولكنه لا يكون عبئًا عليه، وإنما يقوم بدوره في دعم المجتمع، ومعاونته:(يؤازره) ، ونتيجة لهذه (المؤازرات) المتعددة المتواصلة يستغلظ المجتمع ويستوي على سوقه ويعجب! .
ومن هنا كان التشبيه الآخر الذي أورده النبي صلى الله عليه وسلم لمجتمع المؤمنين ـ في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير ـ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . وواضح أن خلايا الجسد لا تعيش عيشة فرادية منعزلة وإلا ماتت جميعًا، بل هناك رابطة تجمع بينها وتجعلها تعيش عيشة الجسد الواحد. وانظر إلى هذه الإشارة اللطيفة في الحديث إلى القوى التي تربط بين أجزاء الجسد، والتعبير عنها بصيغة (التفاعل) فهو تواد وتراحم وتعاطف: يود كل كلا، ويرحم كل كلا، ويعطف كل على كل.
ومما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على جلب المنافع، قوله في الحديث الذي رواه الدراقطني في (الأفراد) والضياء المقدسي في (المختارة) عن جابر:((خير الناس أنفعهم للناس)) ومثله الحديث الحسن الذي رواه ابن أبي الدنيا في (قضاء الحوائج) وابن عساكر، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس)) وقوله ـ صلوات الله عليه ـ في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) وقوله عليه السلام في الحديث الحسن الذي رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن أبي ذر: ((عون الرجل أخاه صدقة)) .
ويتبنى هذا الركن على مفهوم أخوة المؤمن للمؤمن الذي ورد عليه النص في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ثم وضحه النبي صلى الله عليه وسلم التوضيح بقوله في الحديث المتفق عليه عن أنس: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) ، وزيادة (من الخير) لأبي عوانة والنسائي وأحمد في رواية لهم.
هذا ما كان من أمر المظهر الإيجابي لجلب المصالح والمنافع وهو أحد مظهري التعاون على البر، ولكن لهذا التعاون على البر مظهرًا آخر وهو درء المفاسد عن الأخ المؤمن، وحمايته من الشرور، وعونه في تخفيف مغبة هذه الشرور والنكبات إن وقعت.
فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: ((المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه)) وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: ((ولا يخذله)) ومن رأى أخاه يتعرض إلى خطر فلم يعمل على وقايته أو رآه يحل به الخطر فلم يعمل على التخفيف عنه، فقد خذله وأسلمه، ومثله الحديث الذي رواه أبو داود، والعراقي في (تخريج الإحياء) :((المؤمن أخو المؤمن من حيث لقيه: يكف عليه ضيعته ويحفظه من ورائه ويحوطه)) وأي حفظ وحياطة أعظم من وقايته من الوقوع في الشرور والنكبات؟ وأي كف للضيعة أعظم من كف الضيعة الناجمة عن حلول المصائب والنكبات؟
كذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن أبي هريرة: ((من نفس - وفي رواية: فرج - عن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفس - وفي رواية: فرج - الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) فتنفيس الكربات التي تصاحب وقوع المصائب، والتيسير على من أعسر بسبب خسارة حلت به في نفسه أو ماله أو بدنه، من أعظم القربات ولا شك! .
وقد تحدث سلطان العلماء العز بن عبد السلام عن حقوق بعض المكلفين على بعض، وذكر أن ضابط هذه الحقوق هو:(جلب كل مصلحة واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهي منقسمة إلى فرض عين وفرض كفاية، وسنة عين وسنة كفاية. . . والشريعة طافحة بذلك، ويدل على ذلك جميعًا قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح؛ وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] ، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] ، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها) .
وقد كان من فضل الله على عباده، أنه بعد أن وضع للناس كل هذه المبادئ ترك لهم ـ في حدود ما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً ـ أن يجتهدوا بحسب ظروف الزمان والمكان، في إيجاد الوسيلة المثلى لتحقيق هذه المبادئ العظيمة، التي تتغيا اتقاء تحقق احتمالية الأخطار، أو التخفيف من مغبة وقوع هذه المخاطر إذا وقعت. أو بعبارة أخرى تتغيا أن يأمن الإنسان حلول نكبة في نفسه أو ماله أو بدنه ابتداء، وأن يأمن كون مغبة هذه النكبة ـ إن وقعت ـ مغبة كبيرة، وهذه المؤامنة من خوف الخطر، أو قل: هذا (التأمين) يكون بالتعاون على تفتيت هذه المغبة أو ذاك الخطر، والتعاون في تحمل ما جرته من خسران.
ومن قبل ضرب لنا معلم هذه الأمة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مثلاً مشرقًا في مسعى هذا القبيل، فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى:((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم)) فهذا درس عظيم في كيفية اقتسام المجموع بالسوية (أي بالتساوي) لمغبة ما يحل ببعضهم من نكبات أو أخطار. كذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له؛ فذكر من أصناف المال ماذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .
وليس يخفى أن للتأمين في وقتنا الحاضر أنماطًا متعددة، تلتقفي جميعًا في أن يأمن المرء من أن تكون المصيبة التي ستقع به قاضية عليه، أو أن تكون الخسارة التي ستحل به قاصمة لا قبل له بها، فيأمن التاجر مثلاً أن تؤدي خسارته إلى إفلاسه، ويأمن أفراد الاسرة من أن يؤدي موت عائلهم إلى أن يصبحوا عالة يتكففون الناس، ويأمن المرء أنه سيجد العلاج المناسب لمرضه بتكلفة لا تنقض ظهره، وهكذا.
وقد تفتقت أذهان الناس في القرون الأخيرة، عن عدد من الطرق يمكن بها تحقيق هذا التأمين، نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة: أبسط هذه الأشكال أن تتفق مجموعة صغيرة من الناس على التعاون في تلافي مغبة الأخطار المحتملة. فيدفع كل منهم قسطًا من المال كل شهر، لا يسترجعه إذا لم تحل به خسارة (أو خطر بوجه عام) أما إذا حل الخطر بأحدهم، فإنه يأخذ من هذه الجميعة) المالية لتغطية خسارته، ويتجلى في هذه المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة التعاون على البر بأجلى معانيه. وإذا كان في أعمالها قدر كبير من الغرر أو الجهالة، فإنها ليست الجهالة التي تفضي إلى منازعة وهي من الغرر المغتفر المعفو عنه إن شاء الله، ولكن فائدة هذا النوع من التأمين تبقى محدودة جدًّا؛ لأن مجموع ما يدفعه المتعاونون قد تلتمه خسارة واحد منهم ويبقى الآخرون بلا رصيد لطوارئ المستقبل.
2 ـ المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة: تماثل هذه المؤسسات سابقتها، وتختلف عنها بزيادة عدد المتعاونين زيادة كبيرة. ولذلك فائدتان: أولاهما: أن ما يتجمع من المال يكون أكبر؛ والثانية: أن ذلك يدخل المؤسسة التأمينة في صنف الأعداد الكبيرة، وللأعداد الكبيرة في حساب الاحتمالات شأن كبير؛ لأن احتمال التعرض للخطر هو ـ كما ذكرنا ـ احتمال ظني فيه من الشك قسط كبير.
أما في الأعداد الكبيرة فإن هذا الشك يتضاءل حتى يكاد ينعدم، وتصبح الخسارة شبه متيقنة، فيسهل احتسابها مقدمًا. ولتوضيح ذلك نقول: إذا كان احتمال التعرض للخسارة في عمل تجاري معين يبلغ عشرين بالمائة بالنسبة إلى شخص معين، فمعنى ذلك أنه يمكن أن يخسر (فيكون الاحتمال قد تحقق بنسبة مائة بالمائة) ، ويمكن أن لا يخسر في أبدًا (فيكون تحقق الاحتمال بنسبة صفر بالمائة) أما حينما يكون عدد المشاركين في العمل ألف شخص مثلاً، فإن احتمال التعرض التقديري للخسارة وهو العشرون بالمائة، سوف يتحقق حتمًا أو يكاد. فالخسارة التي تقع على المجموع يكون احتمال وقوعها (20 %) بالتأكيد أو شبه التأكيد ولو أن تحققها بالنسبة إلى كل شخص بعينه يبقى ظنيًا. وبذلك تتضاءل شبهة الغرر أو الجهالة أو تكاد تزول، وتكون ـ إن بقي منها شيء من الغرر المعفو عنه إن شاء الله. ذلك أن المؤسسة التأمينية التعاونية الكبيرة إذا استطاعت أن تقدر مقدمًا ما ستخسره في عام معين بما يشبه اليقين، فسيكون في وسعها ـ بشكل أقرب ما يكون إلى الدقة ـ أن تحدد الأقساط التي ينبغي أن يدفعها كل من المتعاونين لتلافي مغبة الخسارة متى وقعت، كما أن كلا من المتعاونين يدفع ما يدفع راضيًا وهو على مثل اليقين من أنه سيخسر مقدارًا من المال يعرفه تمام المعرفة منذ البداية.
على أن أمثال هذه المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة، لا تستطيع إدارة هذه المبالغ الكبيرة، ولا إجراء هذه الحسابات، ولا استلام الأقساط وتوزيع التعويضات، بمجرد التطوع والتسيير الذاتي من قبل أعضائها، وإنما لا بد لها من توظيف عدد من الموظفين، وهؤلاء الموظفون ـ كالعاملين عليها في مؤسسة الزكاة ـ يتقاضون من خزانة المؤسسة التأمينية الكبيرة ما يستحقونه من رواتب، كما تؤخذ من هذه الخزانة سائر التكاليف المشتركة.
3 ـ شركات التأمين: قد تكون (جميعة) أي ما تحصل من أموال في المؤسسة التأمينية التعاونية الكبيرة، قليلة نسبيًا لا يمكن أن تفي بما هو محتمل، فيأتي طرف آخر (قد يكون الدولة، أو شخصأ واحدًا، أو مجموعة من الأشخاص) فيساهم بمبلغ من عنده في هذه المؤسسة التعاونية الكبيرة، ربما يزيد كثيرًا على ما يدفعه المتعاونون جميعًا، قابلاً بقسطه من الخسارة إن حلت بالمؤسسة خسارة، وآملاً في قسط من الربح إن تحصل شيء من الربح بعد دفعه رواتب الموظفين وتكاليف تسيير المؤسسة، وتعويضات الذين تحقق احتمال الخسارة بالنسبة إليهم. وبذلك يكون هذا الطرف الآخر قد شكل مع الطرف الأول ـ الذي هو المتعاونون جميعًا ـ شركة لا تكاد تختلف كثيرًا عن سائر الشركات، فهي شركة يتضاءل فيها الغرر أو الجهالة أو يكاد ينعدم بفضل قانون الأعداد الكبيرة ـ كما أسلفنا في المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة ـ وهي شركة تنتفي فيها شبهة المقامرة أو المراهنة؛ لأنها تتناول خطرًا متأصلاً لا خطرًا مفتعلاً كما في القمار أو الرهان.
4 ـ مؤسسات التأمينات الاجتماعية والتقاعد (المعاشات) : وهذا نوع من أنواع المؤسسات التأمينية غايته تأمين الموظفين أو العمال أو من هم في حكمهم من احتمال يكاد يصل إلى درجة اليقين من حيث تعرضهم لخطر انقطاع رواتبهم بعد بلوغهم سنًا معينة، أو في حال إصابتهم بإصابة مقعدة عن العمل، أو ما شابه ذلك. ولكن الأقساط التأمينية في هذه المؤسسات يدفع جزءًا منها الموظفون أو العمال أو من هم في حكمهم، ويدفع جزءًا آخر الدولة أو أرباب العمل أو من هم في حكمهم. فالموظفون أو العمال هم المتعاونون هنا، والدولة أو أرباب العمل يؤلفون الطرف الآخر الذي يساهم في دعم (جميعة) هذه المؤسسة التأمينية، وتدفع من هذه (الجميعة) رواتب العاملين عليها وسائر التكاليف التي يقتضيها العمل، وإذا كانت الدولة لا تأخذ مباشرة أرباحًا من هذه المؤسسات، فإن جميع الحكومات حتى الغنية منها، تقترض في العادة من هذه الجميعة مبالغ قد تكون ضخمة لدعم ميزانياتها العادية، فهو إذن ربح غير مباشر تتقاضاه الدولة لقاء مساهمتها وبذلك تقترب هذه المؤسسات كثيرًا من شركات التأمين.
التأمين الصحي:
أشرنا في مطالع هذا البحث إلى تلك المكانة التي تحتلها الصحة في حياة البشر. . . هذه الصحة التي تعتبر اليوم حقًا من أهم حقوق الإنسان. وذكرنا كيف سبق الإسلام إلى ذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان. ولكن الأمر ليس مجرد اعتراف بمكانة الصحة، وإنما ينبغي وضع ذلك موضع التنفيذ العملي، وذلك بأن يكون في كل بلد نظام يكفل تمتع كل إنسان من سكانه بهذا الحق بلا استثناء.
وإذا كنا لا نكاد نجد في حكومات العالم في القرون الأخيرة، من نظم السبل لتوفير الرعاية الصحية على نطاق واسع، قبل المستشار الألماني بسمراك عام 1883م، فإن في وسعنا أن نجد كثيرًا من الوقائع في الدولة الإسلامية تدل على وجود نظم من هذا القبيل، وتتجلى فيها مسؤولية الدولة عن صحة رعاياها.
والأمثلة التي ذكرناها من قبل في هذا البحث ـ ولا سيما سنة الخليفة الراشد المهدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدل على أن بيت المال كان يتكفل بالرعاية الصحية لمن هم دون حد الفقر، وذلك من الصدقات أي الزكاة كما ورد في أحد هذه الأمثلة، ولا شك في أن مساعدة الفقراء من المرضى مصرف من مصارف الزكاة، ولكن ورد في هذه الأمثلة أيضًا ما يدل على أن الدولة الإسلامية كانت تنفق على الصحة الوقائية ـ وهي أهم بكثير من التطبيب العلاجي ـ من بيت المال، ودليل ذلك ما كان ينفق على الأطفال جميعًا ـ بمن فيهم اللقطاء ـ منذ ولادتهم لتوفير رضاعهم وحسن تغذيتهم.
ثم أصبح من المؤسسات الثابتة في الدولة الإسلامية تلك البيمارستانات التي بدأ إنشاؤها منذ عهد الدولة الأموية واستمرت على مدى العصور، وبقي منها في كثير من بلدان المسلمين اليوم، ما يشهد بالمستوى الراقي الذي كانت عليه هذه المستشفيات ـ ومن ذلك البيمارستان النوري والبيمارستان المنصوري الباقيان إلى يومنا هذا ـ وما يشهد كذلك بالإنفاق الذي كانت تنفقه الدولة على مؤسسات الرعاية الصحية هذه، وفي كتاب (تاريخ البيمارستانات في الإسلام) للدكتور أحمد عيسى بك رحمه الله، تفاصيل مدهشة وأمثلة عجيبة عن كيفية إدارة هذه المستشفيات وصيانتها وترتيب العمل فيها وصيدلياتها وكيفية إطعام المرضى، والإنفاق على رواتب الأطباء ومساعديهم، وتعيين الأساتذة للتدريس فيها، وتعمير مكتباتها، ووقف الأوقاف عليها وغير ذلك كثير.
وصفوة القول: إن بيت مال الدولة الإسلامية كان يتكفل بالإنفاق على مؤسسات الرعاية الصحية والخمات الصحية، وإن كان من أهل الخير من أفراد المجتمع من وقف بعض الأوقاف للمشاركة في التمويل إضافة إلى ما وقفته الدولة كذلك. أما التطبيب الفردي في خارج هذه المؤسسات، فالظاهر أن كل مريض كن يدفع إلى الطبيب أجره وإلى العطار أو الصيدلي ثمن دوائه، ومما يؤيد ذلك ما نجده في وصايا كبار الأطباء في كتبهم إلى تلامذتهم أو من يقرأ كتبهم بالبر بالفقراء والتسامح معهم أو ـ كما قال صلاح الدين بن يوسف الكحال الحموي قبل سبعة قرون ـ:(. . وإن أمكنك أن تؤثر الضعفاء من مالك فافعل) وذلك بعد أن ذكر ما يؤمل للطبيب في الآخرة من الأجر والمجازاة من رب العالمين؛ لأن النفع المتعدي لخلق الله عظيم، خصوصًا للفقراء العاجزين) .
فكيف يمكن تمويل الخدمات الصحية في عصرنا الحاضر؟
لا بد قبل كل شيء من أن نستذكر أهم المبادئ التي أوردناها والتي تحكم هذا التمويل.
وأول هذه المبادئ ما ذكرناه عن ضرورة لضمان العدالة والمساواة في توفير الرعاية الصحية، بمعنى أن الرعاية الصحية ينبغي أن تتاح على نفس المستوى لجميع سكان الدولة بلا استثناء، غنيهم وفقيرهم، مسنهم وشابهم، كَهلهم وطفلهم، ذكرهم وأنثاهم، قادرهم ومعاقهم، عاملهم وعاطلهم، حاضرهم وباديهم، مواطنهم ووافدهم.
وثاني هذه المبادئ ما ذكرناه عن ضرورة ضمان جودة هذه الخدمات الصحية وإتقانها، وذلك يتطلب وجود (نظام لضمان الجودة) ، مثله في تاريخنا نظام (الحسبة) الذي هو من عبقريات ما ابتكرته هذه الأمة وبدأ تطبيقه منذ عهد الخلافة الراشدة، إذ كان من أهم وظائف المحتسبين مراقبة الأطباء، وهو نظام لا بد من الاستفادة منه في هذا المجال إلى أبعد مدى في عصرنا الحاضر. . على أن من المهم قبل كل ذلك العمل على (إجادة) كل ما يلزم لتقديم الخدمة الطبية والرعاية الصحية المثلى للجميع، ويتطلب ذلك الإنفاق بسخاء على اقتناء وتشغيل وصيانة الأجهزة الطبية المتطورة التي تستخدم في التشخيص والمعالجة، والإنفاق بسخاء كذلك على البحث العلمي لابتكار الأفضل والأفضل دومًا من أمثال هذه الأجهزة ومن الأدوية التي تمس الحاجة إليها يومًا بعد يوم. ومعلوم أن كثيرًا من الدول تنفق في وقتنا الحاضر بلايين الدولارات للإنفاق على هذه المستحدثات والمبتكرات وعلى البحث العلمي كل عام.
وثالث هذه المبادئ ما ذكرناه عن كفاءة الخدمات الصحية وعنينا بذلك تقديم أفضل خدمة ممكنة بأقصر مدة ممكنة وبأقل ما يمكن من النفقات.
ورابع هذه المبادئ أن تهتم مؤسسات الرعاية الصحية بالوقاية مثل اهتمامها بالعلاج، بل وأكثر؛ لأن الوقاية توفر على المريض كثيرًا من عناء المرض وما يخلفه في البدن من عواقب، كما توفر على المؤسسات الصحية كثيرًا مما تنفقه بلا داع على هذه الأمراض التي يمكن توقيها، ويدخل في هذه الصحة الوقائية تطعيم الأطفال والكبار للوقاية من الأمراض التي يمكن توقيها بالتطعيم، وتشجيع الناس على اتباع أنماط الحياة المعززة للصحة (كالاعتدال في الطعام وممارسة الرياضة وما إلى ذلك) ، وتخذيل الناس عن اتباع أنماط الحياة المنافية للصحة (كالتدخين ومعاقرة المخدرات والمسكرات وارتكاب الفاحشة) .
فكيف يمكن تمويل الخدمات الصحية في ظلال هذه المبادئ جميعًا؟
الواقع أن مثل هذا التمويل يمكن أن يتم بعدة صور:
فإما أن يدفع المرضى أجور الخدمات الصحية مباشرة، وإما أن تتكفل الدولة بذلك فتقدم التمويل اللازم من خزانة الدولة (التي تجبي أموالها بطرق مختلفة؛ منها الضرائب المباشرة وغير المباشرة) ، وإما أن تتم تغطية تكاليف الخدمات الصحية من خلال مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وإما أن يتم ذلك بـ التأمين الصحي لدى شركات خصوصية.
والواقع إننا إذا استثنينا الصورة الأولى، أي الدفع المباشر من قبل المريض (للطبيب المعالج أو طبيب الأسنان أو الجراح أو الصيدلي أو اختصاصي المختبر والأشعة أو للمستشفى) فإن الصور الأخرى تمثل شكلاً من أشكال التأمين بمعناه الذي تحدثنا عنه، ألا وهو تجميع احتمالات التعرض للخطر (للمرض أو العجز) وتفتيتها باقتسامها والمشاطرة فيها، بمعنى أن المريض يدفع دائمًا أقل مما كان سيتحمل وحده أجور الخدمات الصحية مباشرة.
وتتجلى في هذه الأنماط جميعًا صورة من صور التعاون؛ لأن أولئك الذين يدفعون ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ ضرائب الدولة أو أقساط التأمينات الاجتماعية أو التأمين الصحي الخصوصي، ليسوا سواءً! فأولئك الذين أنعم الله عليهم بسعة في الرزق، أو انخفاض في احتمال التعرض للمرض (وهو الخطر هنا) أو كليهما، يعاونون أولئك الذين قدر عليهم رزقهم، أو ازداد احتمال تعرضهم للمرض أو كليهما، لا سيما إذا ذكرنا أن الفقر كثيرًا ما يترافق مع المرض.
ولنتحدث عن ذلك بشيء من تفصيل:
فالنظم التي تمولها الدولة مباشرة، تنفق الحكومة عليها من بيت مالها، الذي يعتبر من أهم سبل تمويله جباية الضرائب؛ ولكن الناس كما نعلم ليسوا سواء في ما يدفعون من ضرائب؛ فالأغنياء يدفعون أكثر مما يدفع الفقراء ـ هذا إذا دفع الفقراء ـ لأن ما يفرض من الضرائب يتناسب مع الدخل، ثم هنالك شرائح معفاة من الضرائب كما أن هناك ضرائب تصاعدية. على أن ثمة نوعًا خاصًا من الضرائب يستحق الذكر، ألا وهو تلك الضرائب التي تفرض على السلع المضرة بالصحة أو الأنشطة المضرة بالصحة، والأصل في أمثال هذا النوع الخاص من الضرائب أن توجه برمتها إلى تمويل القطاع الصحي.
أما النظم التي تمولها التأمينات الاجتماعية، فتمول من صندوق التأمينات الاجتماعية، الذي تتكون أمواله من مساهمات المشتركين فيه، على أساس مبالغ تقطتع من رواتب العاملين، ومبالغ مقابلة يدفعها أرباب العمل. والعادة أن تكون مؤسسة التأمينات الاجتماعية هيئة مستقلة ولو أنها تخضع للتشريعات التي تسنها السلطة التشريعية، كما تخضع للرقابة من قبل أجهزة الرقابة الحكومية، والمظهر التعاوني واضح هنا كذلك، فإن المرء يدفع بمقدار ما يتقاضى من مرتب، أي إن من هو أعلى دخلاً يدفع أكثر ممن هو أقل دخلاً، ولكن صندوق التأمينات يدفع لمن يحتاج الرعاية الصحية أو الخدمة الصحية بمقدار ما يحتاج بغض النظر عما دفع إلى الصندوق من قبل.
ثم إن هذه النظم على نوعين: أما أحدهما فهو ما تمول فيه الرعاية الصحية من صندوق التأمينات الاجتماعية العام الذي يغطي بمظلته أيضًا سائر أنواع الأمن الاجتماعي كالتقاعد، والعجز، والبطالة. وأما الآخر فيكون فيه صندوق فرعي مخصص للإنفاق الصحي، وتكون الاقتطاعات فيه مخصصة للصحة منذ البداية.
على أن من التأمينات الاجتماعية نوعين اثنين يستحقان الذكر، بالإضافة إلى النوع المتقدم الذي يكاد ينحصر في موظفي الدولة أو موظفي الشركات بشكل عام. ذلك أننا إذا اقتصرنا على هؤلاء وحدهم في تغطية نفقاتهم الصحية، فمن ينفق على الخدمات الصحية للفلاحين أو الحرفيين أو صغار الكسبة الذين يعملون لحسابهم الخاص؟ إن هذه التفرقة إن حصلت تخل بمبدأ هام من المبادئ التي ذكرناها في حديثنا عن الصحة، ألا وهو مبدأ العدالة والمساواة في تلقي الرعاية الصحية، ومن أجل تلافي ذلك نشأ في كثير من البلدان ما يعرف بالتأمينات المجتمعية التي يتم تنظيمها على مستوى كل مجتمع محلي على حدة، بحيث يتكافل أفراده جميعًا ويتعاونون على مواجهة تكاليف المرض، بدفع أقساط تتناسب مع عدد أفراد كل أسرة، ويستفيد من الصندوق الذي يحصل هذه المساهمات أولئك الذين يحتاجون إلى الرعاية الصحية. وذلك أشبه ما يكون بالمؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة.
أما النوع الآخر، فهو أن تقيم كل مؤسسة كبيرة أو شركة كبيرة صندوقًا تأمينيًا مستقلاً لتوفير الأمن الصحي لموظفيها ومنتسبيها.
وأما التأمين الصحي الخصوصي (ويطلق عليه بعضهم اسم التأمين التجاري) فهو نوع من أنواع التأمين لدى شركات خاصة، مخصص لتغطية نفقات الرعاية الصحية، وفيه يدفع الأفراد أقساط التأمين بناء على حسابات أكتوارية (رياضيات التأمين) تحسب بموجبها الكلفة التقديرية للخدمات التي يحتمل تقديمها. يضاف إلى ذلك أن أولئك الذين يزداد احتمال تعرضهم للمرض كالمدخنين مثلاً أو المسنين، وكذا المصابون بمرض مزمن، يدفعون أكثر من أولئك الذين يقل احتمال تعرضهم كالشبان أو غير المدخنين.
ومهما يكن من أمر، فإن دفع المنتفع بمعونة المؤسسة التأمينية، لقاء تقديم الخدمة الصحية، يكون على إحدى الصور التالية:
1 ـ ألا يدفع شيئًا لقاء تقديم الخدمة الصحية إلا إلى مقدم الخدمة (الطبيب، المستشفى، الصيدلي. . إلخ) ، ولا إلى المؤسسة التأمينية، وبذلك يقتصر ما يدفعه ـ إن كان يدفع ـ على قسط التأمين.
2 ـ أن يدفع لقاء تقديم الخدمة الصحية مبلغًا صغيرًا مقطوعًا إلى مقدم الخدمة، وتدفع المؤسسة التأمينية الباقي.
3 ـ أن يدفع لقاء تقديم الخدمة الصحية نسبة مئوية معينة من التكاليف مهما بلغت وتدفع المؤسسة التأمينية الباقي.
وفي هذه الحالات جميعًا إما أن يكون ما تدفعه المؤسسة التأمينية في حدود سقف معين، أو بلا حدود.
كما أن طريقة الدفع تكون على إحدى الصور التالية:
1 ـ أن يدفع المنتفع بالخدمة الصحية تكاليفها إلى مقدم الخدمة ثم يسترد من المؤسسة التأمينية هذه التكاليف (بأكملها أو بعد اقتطاع النسبة المئوية إن كان ذلك ينطبق عليه) .
2 ـ ألا يدفع شيئًا إلى مقدم الخدمة (باستثناء المبلغ المقطوع إن كان ذلك ينطبق عليه) ويقوم مقدم الخدمة بإرسال فاتورة التكاليف إلى المؤسسة التأمينية لاستيفائها.
3 ـ ألا يدفع شيئًا إلى مقدم الخدمة، وتدفع المؤسسة التأمينية إلى مقدم الخدمة مرتبًا أو تعويضًا بشكل مبلغ مقطوع أو مبلغ يتناسب مع عدد المنتفعين من الخدمة في حدود سقف معين.
وبعد، فإن لكل من المؤسسات التأمينية التي أسلفنا الحديث عنها محاسن ومساوئ، في المبادئ الأربعة التي ذكرناها وهي: العدالة، والجودة، والكفاءة، والوقاية.
فالتأمين الذي تقدمه شركات التأمين الخاصة لا يضمن العدالة على الإطلاق؛ لأن هذه الشركات ترفض تأمين بعض شرائح المجتمع، أو تفعل ذلك لقاء أقساط باهظة، وهي بالطبع لا تؤمن أولئك العاجزين عن دفع أقساط التأمين، ولكن تأمين هذه الشركات يضمن الجودة والكفاءة، والوقاية، خير ضمان؛ لأن شركة التأمين الخاصة تدخل في تنافس مع الشركات الأخرى، ولذلك يكون من مصلحتها أن تقدم أجود خدمة ممكنة بأكفأ ما يمكن (أي أقل ما يمكن من الوقت والنفقات) وأن تعمل ما في وسعها لتوفير الوقاية المثلى، تقليلاً للتكاليف المترتبة على حدوث المرض.
والتأمين الذي تقدمه مؤسسات التأمينات الاجتماعية (بأشكالها المختلفة) يضمن العدالة جزئيًا (لأنه يحقق العدالة بين المنتسبين إليه دون غيرهم من أبناء الأمة) ، وهو يضمن الجودة، والكفاءة، والوقاية، ولو بدرجة أقل من التأمين الذي تقدمه الشركات الخاصة.
والتأمين الذي تقدمه المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة (التأمين المجتمعي وما إليه) يحقق العدالة بين المنتسبين إليه دون غيرهم، ولكنه لقلة موارده وبدائية إدراته لا يحقق الجودة المطلوبة قطعًا، ولا يحقق الكفاءة والوقاية إلا جزئيًا.
أما إن كانت الدولة هي المؤسسة التأمينية، واتخذت ما يلزم لتغطية جميع أبناء الأمة بالتأمين، فإنها تضمن العدالة الكاملة، كما أنها أقدر من سواها على ضمان الجودة والوقاية. ولكن البيروقراطية والروتين الحكوميين ينتقصان كثيرًا من الكفاءة.
على أننا يندر أن نرى بلدًا يشبه البلد الآخر في نمط التأمين الذي اختاره، بل يندر حتى أن تتشابه المصانع والشركات والمؤسسات في البلد الواحد في النمط الذي تختاره. وقلما نجد أن بلدًا يقتصر على نمط واحد من أنواع التأمين. بل الغالب أن يتواجد (أي يوجد معًا) أكثر من نمط واحد، فتكون هنالك مثلاً تأمينات تعاونية صغيرة لبعض الحرف وتأمينات تعاونية مجتمعية للفلاحين تعيش جنبًا إلى جنب مع نظام واسع للتأمينات الاجتماعية للعمال، وتتكفل الدولة بما بقي، والأمثلة على ذلك كثيرة حتى ليكاد كل بلد يتميز (بتوليفة) معينة خاصة به.
ويرى بعضهم أن من أفضل ما يلبي المبادئ الأربعة المذكورة (العدالة والجودة والكفاءة والوقاية) هي شركات التأمين الخاصة (التجارية) ؛ لأن التنافس بين هذه الشركات كفيل بتقديم أفضل الخدمات بأرخص التكاليف، وذلك شريطة أن يكون للدولة دور تنظيمي ورقابي واضح، وأن تتولى الدولة مسؤولية العاجزين عن دفع أقساط التأمين، ولعل من أفضل الطرق لضمان الدور التنظيمي والرقابي، أن تنشئ الدولة شركة تأمين خاصة تتنافس مع الشركات الأخرى القائمة، وبذلك تحول الدولة دون قيام اتحاد احتكاري Trust بين الشركات الخاصة يتحكم في التكاليف، كما أن الدولة بذلك تجبر الشركات الأخرى على تحسين ما تقدمه من خدمات بفعل المنافسة.
هذا ما كان من أمر الدور التنظيمي والرقابي، أما أولئك الذين لا يستطيعون دفع أقساط التأمين، كالعاطلين عن العمل، والمعاقين العاجزين عن العمل، والفقراء المتلقين للمعونات الاجتماعية (من صندوق الزكاة أو وزارة الشؤون الاجتماية أو الجمعيات الخيرية) ، والمساجين، والطلاب، فإن الدولة تدفع أقساط التأمين التي كان من المفترض أن يدفعوها، وذلك من صندوق الزكاة أو المعونة الاجتماعية، وتزودهم ببطاقات صحية يقدمونها إلى مؤسسة تقديم الخدمة الصحية ليتلقوا الرعاية الصحية اللازمة عند الحاجة إليها بلا مقابل.
كذلك قد يستدعي الأمر بالنسبة لأولئك القادرين على الدفع جزئيًا، كالفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة، أن تقوم الدولة بدفع ذلك الجزء من قسط التأمين الذي لا يستطيعون دفعه، وذلك وفق نظام خاص.
ومن الأمثلة على ذلك: في الولايات المتحدة الأمريكية نظامان أحدهما يقال له: الرعاية الطبيبة (Medicare) والثاني: المعونة الطبيبة (Medicaid) . في أولهما تتاح لأولئك الذين هم فوق الخامسة والستين من العمر، خدمات المستشفيات من تشخيص ومعالجة ورعاية تمريضية منزلية، وذلك لقاء ما كانوا يدفعون حينما كانوا يعملون وما كان يدفع أرباب عملهم من تأمينات طوال سنواتهم المثمرة، بالإضافة إلى مبلغ بسيط يدفعونه إلى هذا الصندوق المخصص للرعاية الطبية. أما برنامج المعونة الطبية فهو برنامج فيديرالي (أي على مستوى الحكومة المركزية) يتيح الخدمات الطبية لأولئك الذين هم دون مستوى معين من الدخل، ويقوم بتغطية النفقات المترتبة على ذلك.
النظرة الشرعية:
1 ـ أسلفنا أهمية الصحة والمحافظة عليها في نظر الشرع، وذكرنا باختصار كيف تولت الدولة الإسلامية منذ عهد الخلافة الراشدة قضية حفظ الصحة على الأصحاء وردها على المرضى، وما نعلم أحدًا يماري في مشروعية حرص الإنسان على المحافظة على صحته ما دام صحيحًا، والسعي بما يناسب من السبل لاستردادها إذا مرض، وتدخل في ذلك وسائل تشخيص المرض؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا بهو فهو واجب.
2 ـ ولا يخالف أحد كذلك ـ فيما نعلم ـ في أن يدفع المريض لمقدم الخدمة الصحية أجره الذي اتفقا عليه فعلاً أو حكمًا (في وجود تسعيرة معروفة لمختلف الإجراءات الطبية) ولا حرج ـ فيما يظهر ـ في اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، فذلك نوع من الجعالة أو المجاعلة، وهي عقد على عمل ذي نتيجة مظنونة (أي احتمالية) يقوم به الملتزم لمصلحة الجاعل لقاء عرض يقال له الجعل مشروط بحصول تلك النتيجة الاحتمالية؛ فإذا لم تحصل النتيجة لم يستحق شيئًا. ومن أمثلة الفقهاء لها مشارطة الطبيب على تطبيب المريض لقاء عوض بشرط البرء. وقد أجاز الجعالة مالك وأحمد إذا كان الجعل معلومًا، ومنعها أبو حنيفة، وللشافعي فيها قولان. وحجة المجيزين قوله تعالى في سورة يوسف:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
3 ـ ولا حرج ـ فيما يظهر ـ في أن تتعاقد مؤسسة معينة مع مستشفى معين أو مؤسسة علاجية معينة، على تطبيب موظفيها (المعلوم عددهم) ، طوال مدة معلومة، لقاء مبلغ معلوم، على أن يلتزم المستشفى بتقديم ما يستلزمه ذلك من أدوية وتشخيص وعمليات وما إلى ذلك. ذلك أن الجهالة في هذا الالتزام ليست من الجهالة الفاحشة التي تؤثر في العقد، إذ ليست كبيع المضامين أو الملاقيح، وضربة القانص أو الغائص، وبيع الثمار على الأشجار قبل بدو صلاحها، ولكنها أقرب ـ في تمثيل الفقهاء ـ إلى بيع الثمار على أشجارها بعد بدو صلاحها، وإلى بيع الثمار المتلاقحة على أصولها (باعتبار ما سيوجد منها ـ مع أنه معدوم ـ تبعًا للموجود) كما أنها أقرب إلى استئجار المرضع بطعامها وشرابها وكسوتها على الرغم من جهالة عدد الرضعات ومقدار الطعام والكسوة.
4 ـ وإذا تكفلت التأمينيات التعاونية الصغيرة بدفع أجور تطبيب المساهمين فيها، فلا حرج في ذلك ـ إن شاء الله ـ على الرغم من وجود جهالة واضحة من حيث ما سيستفيده كل عضو من أعضائها، إذ يرى عدد من كبار العلماء أن (التأمين التعاوني عقد من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية، تخصص لتعويض من يصيبه الضرر) . ولذلك يرون (أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون) .
5 ـ وإذا تكفلت التأمينيات التعاونية الكبيرة بذلك، فلاحرج من باب أولى؛ لأن الجهالة تنتفي تمامًا أو تكاد بسبب قانون الأعداد الكبيرة، ولا حرج ـ إن شاء الله ـ في دفع جزء مما يتجمع من مساهمات الأعضاء لدفع تكاليف إدارة هذه التأمينيات الكبيرة، وأجور العاملين عليها، وما إلى ذلك مما تقتضيه إدارة عمل كبير. ولا حرج كذلك ـ إن شاء الله ـ في تثمير أموال هذه المؤسسة التأمينية في طريق حلال، فذلك أدعى إلى مزيد من ضمان التطبيب ولو زاد عدد المحتاجين إليه، وربما إلى تخفيض ما ينبغي دفعه من أقساط.
6 ـ وإذا اشترك مع المنتفعين في هذه التأمينيات التعاونية (ولا سيما الكبيرة) طرف آخر، فهنا تختلف الآراء.
7 ـ فإذا كانت الدولة هي الطرف الآخر، فإن عددًا من كبار العلماء يرحبون بذلك بل يحبذونه. (لأن الفكر الاقتصادي الإسلامي يترك للأفراد مسؤولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية، ويأتي دور الدولة كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، وكدور موجه ورقيب، لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها) . . كما أن (صورة هذه الشركة المختلطة (مع الحكومة) لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل مشاركة منها معهم فقط، لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية) .
على أنه لم يرد في آراء كبار العلماء هؤلاء ـ فيما نعلم ـ أي تحفظ على أن تستفيد الدولة في مقابل ذلك، ولا سيما بالاقتراض حين الحاجة من أموال المؤسسة التأمينية، وهو أمر تكاد جميع الحكومات تفعله.
8 ـ أما إذا كان الطرف الآخر (في دعم المنتفعين بالتأمينات التعاونية) مجموعة من الأفراد يؤلفون ما يسمى (شركة التأمين) ، وينتفعون في مقابل دعمهم المالي هذا بما تربحه الشركة من تثمير أموالهم بطريق حلال، فإن عددًا من العلماء يحرمون ذلك، وذلك بحجة الجهالة (وقد ذكرنا أنها تنعدم أوتكاد باعتماد قانون الأعداد الكبيرة والحسابات الأكتوارية) وبحجة شبهة المقامرة أو المراهنة (وقد أوضحنا الفرق الكبير بينهما وبين عمليات التأمين) ، وبحجة اشتمال التأمين التجاري على ربا الفضل أو النساء أو كليهما (وهذا لا ينطبق البتة في حالة التأمين الصحي) ، وبحجة أن المؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن (مع أن شركة التأمين تدير أموال المؤسسة التأمينية وتثمر أموالها بما يضمن حسن تطبيب المستأمنين، وبما قد يسمح بإنقاص أقساط التأمين فينفع المستأمنين) .
ويرى عدد آخر من العلماء بالمقابل حل هذه الشركات ومشروعيتها، وذلك بحجة أن الأصل في الأشياء الإباحة (ما لم يقم دليل واضح على مناقضتها للكتاب والسنة) ، وأن الشرع لم يحصر الناس في الأنواع التي كانت معروفة قبلاً من العقود، أو بحجة أن هذه العقود الجديدة من المصالح المرسلة التي ثبتت منفعتها للناس وتجلى فيها تعاونهم على البر، أو بحجة أن التأمين أصبح في وقتنا الحاضر من الضرورات التي تبيح المحظورات، حتى أن ما حرم لذاته يباح للضرورة وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة.
ومن هؤلاء العلماء المجيزين من يقيس التأمين على ولاء الموالاة، عند من ذهب من الفقهاء إلى عدم نسخه (وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه) ؛ ومنهم من يقيس التأمين على الوعد الملزم عند من يلزم الواعد من الفقهاء (وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك واختاره أصبغ) ومنهم من يقيس عقد التأمين على عقد المضاربة؛ فالمال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط، والعمل ـ وجزء من المال ـ من جانب الشركة التي تستثمر الأموال، والربح للمشتركين (بتغطية نفقات علاجهم) وللشركة (بأرباح الأموال المستثمرة بعد طرح النفقات) ؛ ومنهم من يقيس التأمين على كفالة المجهول وما لا يجب، عند من يجيزها (وهم الحنفية والمالكية والحنابلة) ، أو يقيسه على ضمان خطر الطريق عند من يجيزه (فقهاء الحنفية) أو يقيسه على نظام العاقلة، أو على عقد الحراسة الذي غايته تحقيق الأمان للمستأجر على لشيء المحروس فإذا سرق لم يأخذ الحارس أجره (أي إن الأجر على الأمان لا على مجرد العمل) .
ولا يخفى في جميع أشكال القياس الذي ذكرته أن طريق القياس ـ وفق قواعد أصول الفقه ـ لا يجب فيه التطق أو الاتحاد الكامل المطلق في الصورة بين المقيس والمقيس عليه، ولو كان ذلك التطابق أو الاتحاد واجبًا لما كنا بحاجة إلى القياس أصلاً؛ لأن المقيس يكون عندئذ فردًا من أفراد المقيس عليه يدخل مباشرة تحت النص الشرعي الذي يقرر الحكم في المقيس عليه. . وإنما يكفي في القياس وجود التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه، وهي العلة.
9 ـ ولا حرج ـ إن شاء الله ـ في قيام مؤسسات التأمينات الاجتماعية بالتكفل بنفقات التطبيب للمشاركين فيها، ويمكن أن يعتبر ما يدفعه أرباب العمل أو الدولة من باب التبرع منهما للتعاون على البر، ولو أن مصلحة كل منهما في دفع ما يخصهما من أقساط التأمينات واضحة للإبقاء على القوة العاملة في ذروة إنتاجيتها والتحرز من أي تعطيل للعمل أو إضعافه، فضلاً عما ذكرناه من قيام الدولة أو المؤسسة المالكة بالاقتراض في كثير من الأحيان من أموال التأمينات، وذلك شكل آخر من أشكال انتفاع الدولة أو المؤسسة المالكة لقاء ما يدفعان.
خاتمة
حياة الإنسان ملأى باحتمالات التعرض للأخطار، وذلك جزء مما فطر الله عليه الكون والحياة. على أن المرض يتفرد من بين هذه الأخطار جميعًا، بأنه يصيب الناس كافة، لا يستثنى أحدًا. ولا ينجو من صولته أحد، فنزوله بالناس جميعًا محقق، وإن جهلنا موعد ذلك وشدته ومغبته بالنسبة لكل واحد على حدة.
وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التداوي وأمر به، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أسامة بن شريك:((تداووا)) وفي رواية الترمذي: ((نعم يا عباد الله تداووا)) ؛ وفتح باب الأمل على مصراعيه أمام المرضى في إمكان الشفاء من كل مرض، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري:((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) ؛ وحث الأطباء على التفتيش عن الدواء والقيام بالبحث العلمي الذي يوصلهم إليه، بقوله ـ صلوات الله عليه ـ في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد عن جابر:((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)) ، وفي رواية لأحمد:((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وجهله من جهله)) .
وقد أمر سيدنا رسول الله المسلمين بأمر جامع فقال فيما رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة: ((احرص على ما ينفعك)) ، وقال فيما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله:((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) .
وقد كان فقه الراشدين والتابعين لهم بإحسان فقهًا واعيًا، تجلى بحرصهم على مداواة الناس، وإقامة المؤسسات العلاجية (من بيمارستانات وغيرها) لهم، والإنفاق على ذلك من بيت مال المسلمين، ووقف الأوقاف والأحباس على ذلك.
وقد تطور الطب تطورًا كبيرًا في عصرنا الحاضر، وأصبحت أجهزة التشخيص الضخمة الباهظة التكاليف والنفقات من أهم وسائله، وبلغت الأموال التي تنفق على البحث العلمي، وابتكار الأدوية واختراع الأجهزة مبالغ خيالية يكاد يعبر عنها بأرقام فلكية لضخامتها، وصارت الرعاية الصحية تتنوء بالدولة، في الوقت الذي أصبح المرض أعمق أثرًا في حياة الأمة، لما يحدثه المرض نفسه وما يخلفه من عجز أو إعاقة، من تعطيل لمجرى الحياة الاقتصادية وخفض للإنتاجية وعرقلة للتنمية، ولما للتلكؤ في معالجة بعض الأمراض من أثر في انتشار بعض الأوبئة، ولما للتقصير في الوقاية من الأمراض التي يمكن توقيها من عبء مرضي كبير تتحمله الأمة قاطبة.
من أجل ذلك تفتقت أذهان الناس في مختلف البلدان عن وسائل يستطيعون بها التعاون على درء عادية المرض وعلاج مصيبته، وهو نوع من التعاون على البر الذي أمر الله عز وجل به، وبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمثلة عملية كثيرة.
والغالب في صور التعاون جميعًا، أن الدولة تبقى هي المسؤولة الرئيسية عن الوقاية من الأمراض ومكافحتها، وعن تشخيص الأمراض ومعالجتها، وأن مؤسسات متعددة تقوم إلى جانبها بدعم ومساندة ما تضطلع به الدولة في هذا المجال من مسؤوليات جسام.
وهذه المؤسسات جميعًا مؤسسات تأمينية؛ لأن غايتها مؤامنة الإنسان من خوف وقوع المرض به دون أن يكون لديه من المال ما يكفيه لدرء عاديته ورد أذاه وإزالة آثاره. وسبيل هذه المؤسسات إلى تحقيق هذه المؤامنة أو التأمين، يقوم على مبدأ تفتيت مغبة المرض، وذلك بتوزيعها على عدد كبير من الناس، يدفع كل منهم مبلغًا من المال، يبيحه للآخرين جميعًا إذا احتاجوه، ويستبيح أن يأخذ من الصندوق الذي يضم (جميعة) ما يدفعون إذا احتاج.
على أن هذه المؤسسات التأمينية مؤسسات تعاونية محضة، لا يدفع لتغذية صندوقها إلا الذين سيستفيدون من التأمين على شكل تشخيص أو علاج أو وقاية، ومنها ما يشارك في الدفع طرف آخر لا يستفيد عادة من التأمين على شكل تشخيص أو علاج أو وقاية، وإنما يستفيد عوض ذلك فائدة أخرى، تتمثل إما في تحاشي تعطيل العمل بسبب المرض وما يجره ذلك من نقص في الإنتاجية (ومثال ذلك ما يدفعه أرباب العمل من أقساط عن عمال الشركة أو الحكومة عن موظفيها) وإما في تقاضي شيء من الربح من حصيلة ما يثمر من أموال المؤسسة التأمينية (ومثاله ما يدفعه أعضاء شركة التأمين) .
والظاهر ـ والله أعلم ـ أن هذه الأشكال جميعًا هي من أشكال التعاون المحمود المندوب إليه، وأنها تتساوى جميعًا أو تكاد من حيث انتفاء الجهالة والغرر، والبعد عن شبهة المراهنة أو المقامرة، وأن الفائدة المادية التي يستفيدها من يساهم في ضخ الأموال إلى صندوق المؤسسة التأمينية من غير المستفيدين من التطبيب، لا تؤثر في مشروعية العمل. . إذ لا بأس أن يؤجر الإنسان ويحمد، بل حتى في العبادة المحضة يأتي الحجاج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] .
فلا حرج ـ إن شاء الله ـ في انتهاج أي من هذه الصور في التأمين من المرض، وإنما تفضل الصورة التي تحقق أكبر النفع للمستأمنين، وتضمن العدالة والجودة والكفاءة والوقاية في الخدمات الصحية على أحسن وجه، وذلك أمر يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ويكون متروكًا إلى ولي الأمر يختار ما فيه مصلحة الناس. . والله سبحانه وتعالى أعلم.
ملخص البحث
عرضنا ـ فيما تقدم من الصفحات ـ أهمية الصحة في نظر الشرع وفي نظر العلم الحديث، وتحدثنا عن شروط أربعة تؤكد عليها منظمة الصحة العالمية (التي تمثل الضمير الصحي للعالم) من أجل ضمانة الصحة للجميع على أفضل وجه، ألا وهي العدالة والجودة والكفاءة والوقاية. وضربنا بعض الأمثلة على اضطلاع الدولة الإسلامية بالمسؤولية عن صحة رعاياها.
ثم ذكرنا أنه لا يكاد يخلو أمر من أمور الإنسان من احتمالات التعرض إلى الخسارة أو الخطر، وقلنا: إن احتمالات التعرض للخطر هذه شيء متأصل فطري في مختلف أمور الحياة دقيقها وجليلها. وبينا أن المتاجرة في أمور يتأصل فيها احتمال التعرض للخطر أو الخسارة عمل مشروع، كما أوضحنا بالمقابل أن ثمة نوعًا آخر من المعاملات المالية يفتعل الإنسان فيه احتمالاً للخطر غير متأصل فيه أو مفطور عليه، وأن هذا الضرب من المعاملات (وهو يضم المراهنة والمقامرة) ظلم باطل.
ثم تطرقنا إلى أهمية العمل على اتقاء كل خطر أو كل خسارة ممكنة أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات، فرارًا من قدر الله إلى قدر الله، وإلى ضرورة العمل على التخفيف من مغبة وقوع الخطر المحتمل (والمرض أحد هذه الأخطار) إذا وقع. وفصلنا بعض التفصيل في الصور التي يقدمها الإسلام للتعاون على البر، وجلب المنافع والتعاون على تخفيف آثار النكبات ودرء المفاسد.
ثم تعرضنا إلى السبل التي تفتقت عنها أذهان الناس في القرون الأخيرة للمؤامنة من خوف تحقق احتمال الخطر، فذكرنا المؤسسات التأمينية التعاوينة الصغيرة التي يتفق فيها عدد قليل من الناس على أن يدفع كل منهم مبلغًا من المال، بحيث يتجمع في صندوق التأمينية مبلغ يدفع منه إلى من يحتاج إلى المعونة بسبب نزول الخطر به، طيبة به قلوب المساهمين جميعًا، ولا يأخذ منه الذين لا ينزل بهم هذا الخطر شيئًا. وذكرنا أن فائدة هذا النوع محدودة وأن خيرًا منها أن تقوم على غراره مؤسسات تأمينية تعاونية كبيرة؛ لأن زيادة العدد تغني الصندوق من جهة، وتدخل المؤسسة من جهة أخرى في عداد قانون الأعداد الكبيرة الذي ينزل بالشك إلى أدنى منازله بما يقرب من اليقين، وذكرنا كذلك أن إدارة أموال هذه المؤسسات الكبيرة يستدعي توظيف عدد من العاملين عليها وإنفاق بعض النفقات أو التكاليف المشتركة، وأن الأموال اللازمة لذلك تؤخذ من صندوق التأمينية بلا حرج.
ثم تطرقنا إلى الصورة التي يتم فيها إغناء المؤسسات التأمينية التي سبق وصفها، بأن يساهم طرف آخر ليست له مصلحة مباشرة في تعويضه إذا وقع الخطر، ولكن له مصلحة في الحصول على بعض المرابح، إما لأنه يخسر بصورة غير مباشرة إذا حل الخطر بالمتعاونين (ومثال ذلك الدولة أو أرباب العمل الذين يدفعون مبالغ لإغناء الصندوق الذي يؤمن المتعاونين من خطر المرض أو البطالة أو التقاعد. . في صناديق التأمينات الاجتماعية أو التقاعد) وإما لأنه يأمل في الربح من خلال تثمير ما في صندوق المؤسسة التأمينية من مالٍ في ضرب من ضروب التجارة الحلال (ويتجلى ذلك في شركات التأمين) .
ثم حاولنا تطبيق ذلك على التأمين الصحي، وفصلنا في الصورة التي يتم بها تمويل هذه المؤسسات التأمينية، والصور التي يتم بها الدفع إلى مقدمي الخدمة الصحية، وذكرنا أن الدولة تبقى هي المضطلع الرئيسي بمسؤولية تقديم الرعاية الصحية والخدمات الصحية، ولوأنها تستعين ـ على خلافٍ في الصورة بين بلد وبلد ـ بالمؤسسات التأمينية الصحية الأخرى، من تعاونية صغيرة أو تعاونية كبيرة أو شركات تأمين خصوصي تعرف أحيانًا بشركات التأمين التجاري أو مؤسسات التأمينات الاجتماعية.
وحاولنا في فصل النظرة الشرعية أن نتلمس الحكم الشرعي في عدد من الصور؛ منها حكم دفع المستفيد من الخدمة الصحية إلى مقدم هذه الخدمة، وحكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، وحكم الاتفاق مع المؤسسات المقدمة للخدمة على معالجة المستفيدين المعلوم عددهم، خلال مدة معلومة ولقاء مبلغ معلوم، على أن تلتزم المؤسسة المقدمة للخدمة بتقديم ما يستلزمه ذلك من أدوية وتشخيص وعمليات وما إلى ذلك. وحكم توسط شركة التأمين التجارية، أو التعاونية في العلاقة بين المستفيدين وبين المؤسسة المقدمة للخدمة. ثم لخصنا مختلف آراء العلماء في شركات التأمين التجاري من مانعين ومجيزين.
واستظهرنا في خاتمة البحث خصوصية المرض من بين سائر الأخطار، وأن أشكال المؤامنة (أو التأمين) من خوف المرض التي عرضناها هي جميعًا ـ والله أعلم ـ من أشكال التعاون المحمود المندوب إليه، وأنها تتساوى جميعًا أو تكاد من حيث انتفاء الجهالة والغرر، والبعد عن شبهة المراهنة والمقامرة، ورأينا ـ والله أعلم ـ أن الفائدة المادية التي يستفيدها من يساهم في ضخ الأموال إلى صندوق المؤسسة التأمينية من غير المستفيدين من التطبيب لا تؤثر في مشروعية العمل.
مشروع القرار
بعد الديباجة:
1 ـ لا يخالف أحد في مشروعية حرص الإنسان على حفظ صحته، واتخاذ جميع أسباب الوقاية من المرض، ولا في مشروعية السعي بما يناسب من السبل لاسترداد صحته إذا مرض. فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، فاعتبر الوقاية (من قدر الله) وقال:((ومن يتوق الشر يوقه)) ، كما قال:((تداووا)) ونص على أن ((لكل داء دواء)) وتدخل في هذه المشروعية وسائل تشخيص المرض (كتحاليل المختبرات والتصوير الطبي بالأشعة المختلفة) ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 ـ لا يخالف أحد في جواز أن يدفع المريض إلى مقدم الخدمة الطبية له، أجره الذي تم الاتفاق عليه فعلاً، أو حكمًا (بموجب تسعيرة معروفة) . والمقصود بمقدم الخدمة الطبيبة: الطبيب أو الممرضة أو طبيب الأسنان أو الصيدلي، أو القائم بالتشخيص المخبري أو الشعاعي، أو المستشفى أو أي شخص آخر يقدم نوعًا من أنواع الرعاية الصحية.
3 ـ يجوز اشتراط برء المريض لاستحقاق مقدم الخدمة أجره، فذلك نوع من الجعالة التي أجازها الإمام مالك والإمام أحمد إذا كان الجعل معلومًا، والحجة في ذلك قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
4 ـ يجوز أن تتعاقد مؤسسة معينة مع طبيب معين أو مستشفى معين أو مؤسسة علاجية معينة، على تطبيب موظفيها المعلوم عددهم، طوال مدة معلومة، ولقاء مبلغ معلوم، على أن يلتزم المستشفى بتقديم ما يستلزم ذلك من أدوية وفحوص تشخيصية وعمليات وما إلى ذلك، لأن جهالة هذه المستلزمات لا تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد، وقد بنى الحنفية على ذلك صحة الوكالة العامة كما بنو صحة الكفالة بما سيثبت من الحقوق، وقد جوز الفقهاء استئجار الظئر المرضع بطعامها وشرابها وكسوتها للحاجة، على الرغم من الغرر والجهالة في الجانبين، من حيث عدد الرضعات ومقدار اللبن، ومن حيث مقدار الطعام والكسوة ونوعهما.
5 ـ ولا ترد شبهة الغرر والجهالة أيضًا على العقود المذكورة في الفقرات التالية؛ لأنها إن وجدت فهي ليست من نوع الجهالة المفسدة للعقد، ولأن الحاجة تدعو إليها، كما قال ابن قدامة في (المغني) بعد أن نقل نصوص الكتاب والسنة المؤيدة لعقد الجعالة:(. . . . ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك (أي إلى عقد الجهالة) . . فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل. .) .
وكما قال الإمام ابن تيمية في (القواعد النورانية) حول تجويز اغتفار الغرر في جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره: (. . . وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال، وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به. . وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررًا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه: فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال. . .) .
ثم أضاف رحمه الله تعالى: (. . وإذا كان مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها) .
6 ـ يجوز ـ بل يستحب ـ أن تتعاون جماعة من الناس على تفتيت مغبة المرض والتشارك في دفع تكاليف تقديم الخدمة الطبية، وذلك عن طريق تأسيسهم لمؤسسة تأمينية يسهمون فيها بمبالغ نقدية تسمى أقساط التأمين، بحيث يتجمع في صندوق هذه المؤسسة التأمينية مبلغ من المال، تدفع منه تكاليف التطبيب إلى من يحتاج إلى ذلك من المساهمين بسبب نزول المرض به، طيبة به قلوب المساهمين جميعًا، ولا يأخذ منه الذين لا يمرضون شيئًا.
7 ـ ولا حرج في تثمير أموال هذا الصندوق بطريق حلال، فذلك أدعى إلى حسن الاستفادة منه، وربما أدى إلى إنقاص ما ينبغي دفعه من أقساط التأمين.
8 ـ إذا زاد عدد أعضاء الجماعة المتعاونة فذلك أفضل، لما يؤدي إليه ذلك من إغناء الصندوق، ولدخول احتمال حدوث المرض في باب الأعداد الكبيرة مما يخفف من الجهالة إلى حد الانتفاء. ولا حرج في تعيين عدد من العاملين عليها لإدارة هذه المؤسسة التأمينية وتثمير أموالها والتعامل مع الأعضاء ومع المؤسسات العلاجية وما أشبه ذلك، وتدفع رواتبهم من الصندوق.
9 ـ يجوز إغناء المؤسسات التأمينية التي سبق وصفها، وذلك بأن يساهم فيها طرف آخر ليست له مصلحة مباشرة في تعويضه إذا وقع المرض، ولكن له مصلحة في الحصول على بعض المرابح، إما لأنه يخسر بصورة غير مباشرة إذا مرض المتعاونون (ومثال ذلك الدولة أو أرباب العمل الذين يدفعون أقساطًا تأمينية مقابلة، لإغناء الصندوق الذي يؤمن المتعاونين من خطر المرض.
وذلك في صناديق التأمينات الاجتماعية أو التقاعد) ، وإما لأنه يأمل في الربح من خلال تثمير ما في صندوق المؤسسة التأمينية من مال شارك فيه، في ضرب من ضروب التجارة الحلال (ويتجلى ذلك فيما يدعى شركات التأمين الخاصة) .
10 ـ ينبغي أن يكون للدولة دور في جميع أشكال المؤسسات التأمينية الصحية الآنفة الذكر، بما فيها شركات التأمين الخاصة، وهو دور مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، ودور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها، ويمكن أن تنشئ الدولة شركة تأمين خاصة، تضمن ـ بتنافسها مع الشركات القائمة ـ تقديم أفضل الخدمات الصحية بأقل ما يمكن من التكاليف.
كما تقوم الدولة بإلزام شركات التأمين الخاصة، بتخصيص جزء من دخلها للقيام بالبحوث العلمية وتطوير الأجهزة والمعدات والأدوية.
11 ـ تقوم الدولة بدفع أقساط التأمين التي كان يفترض أن يدفعها أولئك الذين لا يستطيعون ذلك، كالعاطلين عن العمل، والمعاقين العاجزين عن العمل، والفقراء المتلقين للمعومات الاجتماعية (من صندوق الزكاة أو وزارة الشؤون الاجتماعية أو الجمعيات الخيرية) وكذا المساجين والطلاب. . . وذلك من صندوق الزكاة أو المعونة الاجتماعية، وتزودهم ببطاقات صحية يقدمونها إلى مؤسسة تقديم الخدمة ليتلقوا الرعاية الصحية اللازمة عند الحاجة إليها بلا مقابل.
كما تقوم الدولة ـ بالنسبة لأولئك القادرين على الدفع جزئيًا، كالفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة ـ بدفع ذلك الجزء من قسط التأمين الذي لا يستطيعون دفعه، وذلك وفق نظام خاص.