المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقوق الإنسان في الإسلام - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌حقوق الإنسان في الإسلام

ثانيًا:

‌حقوق الإنسان في الإسلام

حقوق الإنسان في الإسلام

إعداد

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.

نتناول في هذه الدراسة حقوق الإنسان في محورين:

أحدهما - حقوق الإنسان في الإسلام في زمن السلم، وذلك بعرض هذه الحقوق عرضا سريعا دون الدخول في تفاصيله، والإحالة إلى بعض المصادر، باعتبار هذه الحقوق صارت من الوضوح أو الاستقرار حيث تناولتها الدساتير وتناولتها الأقلام أيضا، وكذلك قام المجمع الفقهي في دورات سابقة بتخصيص مساحة لها بين موضوعات تلك الدورات.

الثاني - حقوق الإنسان في الإسلام في زمن الحرب، وهذا الشق مغفل من الدراسة خصوصا لدى الكُتَّاب الإسلاميين، بينما سعت الدول وبخاصة عقب الحربين العالميتين بعقد المؤتمرات الدولية في شأن هذه الحقوق والاتفاقات بين الدول، حتى بات الأمر مستقرا، بل وتسعى إلى تقديم مشروع إنشاء محكمة دولية لمحاكمة كل دولة أو فرد تهدر حقوق الإنسان إبان الحروب، وكانت باكورة ذلك إنشاء محكمة دولية في لاهاي لمحاكمة مجرمي اليوغسلاف الذين انتهكوا حقوق المسلمين إبان الحرب الأخيرة

وقد جعلنا دراستنا مقارنة بين الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية والنظم المعاصرة - وبخاصة في الشق الأخير -، ويظهر من الدراسة أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى تحقيق هذه الحريات وتطبيق المساواة بين البشر، ونصوصها في ذلك واضحة جلية، يظهر ذلك في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعمال الفقهاء، وسنذكر جملة منها تزيح ذلك الغموض الذي كاد يسيطر على عقول الكثيرين بأن الشريعة الإسلامية لم تعرف الحرية بمعناها المعاصر.

والله هو المسؤول بأن يبارك هذا الجهد ويعين عليه.

* * *

ص: 122

حقوق الإنسان في الإسلام

احتلت وبوضوح الحقوق والحريات في العصر الحديث مكانة عظيمة - وهى جديرة بها، فقد عنيت بها الدول فوضعتها في مكان الصدارة من دساتيرها، والدستور كما هو معلوم من أجل القوانين خطرا وأعظمها مكانة فهو الأب كما يقولون لتلك القوانين والتشريعات، وما تضمنه الدستور من أحكام فواجب اتباعه والأخذ به في كل فروع القانون وإلا قضي بعدم دستوريته وإلغائه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى أن أخذ المجتمع الدولي نفسه به، فبعد أن كان موضوع حقوق الإنسان يقع حتمي الاختصاص الوطني لكل دولة، صار ينظر إليه على أنه يهم المجتمع الدولي بأسره، وأخذ القانون الدولي العام اليوم يتناول بالتنظيم والحماية حقوق الإنسان عامة سواء في زمن السلم (القانون الدولي لـ حقوق الإنسان) ، أو في زمن الحرب والنزاعات المسلحة (القانون الدولي الإنساني)(1) .

أما العالم الإسلامي الذي كان ينبغي أن تكون له الأسبقية في هذا الميدان لا أن يكون تبعا في أغلب الأحايين للغرب يتلقف منه ذلك المنهج إما طواعية واختيارا أحيانا وإما اضطرارا تحت دعوى حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان أو اللحاق بالنظم الأكثر تقدما، سواء كان هذا أو ذاك فإن كثيرا من دوله قد سايرت الركب الغربي، وشرعت في وضع القوانين المختلفة ونصت في دساتيرها على طائفة من هذه الحقوق وظلت قلة منها تصارع في حق النساء من المشاركة في الحكم ودخول البرلمان وهى تترنح تحت وطأة المطالبة المستمرة داخليا ودوليا، وسوف تستجيب إن عاجلا أو آجلا، لأن مغالبة المنطق والعقل لن تجدي نفعا، وقد شاركت المرأة في العصور الزاهية الأولى في هذه الأمور، فهذا ابن حجر الهيتمي الفقيه والمحدث يذكر أن الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يجتمع بالرجال والنساء يستشيرهم فيمن يكون خليفة، حتى اجتمعوا على عثمان، فحينئذ بايعه ولم يخالفه أو يطعن عليه أحد من المهاجرين والأنصار فكان إجماعا. ونص عبارة ابن حجر: " أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أقام ثلاثة أيام ليلا ونهارا يطوف على المهاجرين والأنصار، ويخلو بكل واحد منهم رجالهم ونسائهم، ويستشيرهم فيمن يكون خليفة، حتى اجتمعوا على عثمان فحينئذ بايعه (2) .

(1) حقوق الإنسان في القوانين الوطنية والمواثيق الدولية، للدكتور محمد يوسف علوان - جامعة الكويت.

(2)

الصواعق المحرقة، ص 379، ط / و / دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ - 1983.

ص: 123

نقرر هذا وبين يدينا طائفة من الكتابات المعاصرة للكتاب الإسلاميين والمفكرين المستنيرين، وقد خصص المجمع الفقهي في دورات سابقة مكانا ملحوظا لموضوع حقوق الإنسان تناول عدد من كتابها ومفكريها جوانب من هذه الحقوق (1) إلا أن الذي هو جدير بالإشارة إليه كتاب (الإسلام وحقوق الإنسان - ضرورات لا حقوق)(2) للدكتور محمد عمارة من مطبوعات المجلس الوطني بدولة الكويت في سلسلة عالم المعرفة، لأنه تحسس بعمق خبايا هذه الضرورات، ولما كان الكتاب قد نفد وكان مطبوعا قبل سنة الغزو في مايو 1985 م فلم يعد له وجود في المكاتب، وقد استفتح بطرح هذا السؤال: أين يلتمس المسلم المعاصر ذلك السياج الفكري الذي يستطيع بإقامته حماية ال حقوق الإنسان ية؟ !.

ويقول: بعض الناس قد يستغرب (الحيرة) التي جعلت وتجعل المسلم لا يدري حتى الآن، المصدر الطبيعي الذي عليه أن يلتمس منه وفيه هذا السياج، لأن هذا البعض يرى أن التماس هذا السياج في الإسلام بديهة تصل أو هكذا يجب أن تصل عند الإنسان المسلم إلى حد الفطرة التي فطر الله عليها هذا الإنسان، فالحقوق الإنسانية ضرورات فطرية للإنسان من حيث هو إنسان، وإسلامنا دين الفطرة التي فطرنا الله عليها، فمن الطبيعي والبديهي أن يكون الكافل لتحقيق هذه الحقوق، ومن ثم أن يكون المصدر الطبيعي لمن يريد التماس هذا السياج.

ولكنه سرعان ما يستدرك على صدق تلك المقولة بأن ضبابًا يكتنف هذا الأمر من ضباب يبعث الحيرة لدى كثير من الإسلاميين وكثرة من المسلمين الذين يبحثون مخلصين عن المصدر الطبيعي لـ حقوق الإنسان المسلم في العصر الذي نعيشه والطور الحضاري الذي يستشرفه هذا الإنسان.

(1) على سبيل المثال: بحث للدكتور عبد العزيز عزت الخياط، وبحث مماثل لحجة الإسلام الشيخ علي التسخيري وآخرين.

(2)

نقترح على المجلس المكرم أن يطبع هذا الكتاب وكثير من كتبه المهمة في سلسلة المعرفة الذي طبعها قبل الغزو العراقي وبددها الغزو!!.

ص: 124

ويتناول بكشف الضباب الذي يعوق الرؤية الصادقة بسطور ساطعة البيان تمس أعماق القلب وتحرك أوتار الفؤاد، وتزيح تلك الحيرة التي تلف البصائر فتثبط المشاعر بعبارات قوية متلاحقة، ذلك أن نفرا من حكام البلاد الإسلامية الذين اغتصبوا السلطة والولاية في بلادهم ثم ذهبوا يضفون على سلطانهم (غلالة الإسلام) ليصبح هذا السلطان شرعيا، هذا النفر من الحكام الذين تمتلئ خطبهم وبياناتهم ومواد الدعاية لنظمهم في أجهزة الإعلام التي عليها يسيطرون بالكلام على الإسلام قد ذهبت، وتذهب ممارساتها شوطا بعيدا على درب العداء لـ حقوق الإنسان المسلم في البلاد التي يتحكمون فيها تحت ستار شريعة الإسلام..حتى لتبلغ المفارقة الهازلة إلى الحد الذي تراهم فيه يحرمون هذا الإنسان حقوقا لم يمنعها عنه أذكياء المستعمرين قبل أن ينتزع هذا الإنسان استقلال وطنه من هؤلاء المستعمرين.

ويذكر أن صنيع هؤلاء الحكام ألقى الضباب بنظر الكثيرين على الإسلام كمصدر طبيعي مؤهل لأن يلتمس المسلم المعاصر فيه السياج الفكري الكافل بإقامته تحرير الإنسان المسلم بتحقيق ما له من حقوق، ويشير بإيجاز إلى دور نفر من الكتاب الإسلاميين بإضفاء الشرعية على مسلك هذه النظم حتى لا يلقوا في روع قرائهم أن هذه الدولة الإسلامية بسبب من طابعها الشمولي هي أقرب إلى ما يمارسه أولئك الذين اغتصبوا سلطات الأمة، ثم أضفوا على هذا الاغتصاب غلالة شريعة الإسلام.

وقبل أن يستعرض طائفة من تلك الحقوق يذهب إلى تقرير مبدأ هام، وهو أن هذه الحقوق ضرورات واجبة وليست مجرد حقوق من حق الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية فردية كانت أو اجتماعية، ولا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها حياة تستحق معنى الحياة، ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرد حق للإنسان، بل هو واجب عليه يأثم إذا فرط فيه.

بل إن الإسلام ليبلغ في تقديس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل بدون تعرفتها للإنسان دين، فعليها يتوقف الإيمان ومن ثم التدين بالدين.

وهو لا يتناول من هذه الضرورات الواجبة غير القليل ولكنه يشبعها بحثا واستقصاء فمثلا ضرورة الحرية تأخذ حيزا لا بأس به، وكذلك ضرورة الشورى وضرورة العدل وضرورة العلم وضرورات الاشتغال بالشؤون العامة وضرورة المعارضة

ثم يختتم تلك الضرورات بشبهات علماء السوء.

ويتناول في القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان (وثائق) باعتبارها نماذج شاهدة على عدد من الحقائق التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها.

ص: 125

تطور حقوق الإنسان في العصر الحديث

وتشعبه إلى عدة أقسام

إن القانون الدولي العام اهتم بحماية حقوق الإنسان في زمن السلم وفي زمن الحرب، ولما كانت البحوث في معظمها لم تتناول حقوق الإنسان إلا في القسم الأول، فسأجمل الكلام عليها، وأتناول بشيء من التفصيل الكلام على القسم الثاني الذي يهتم بشؤون الإنسان وحقوقه في زمن الحرب بعد أن ابتكر الإنسان وهو الساعي إلى حماية الإنسان وحقوقه إلى أسلحة الدمار وأدوات الفتك التي تهدم المدن وتعصف بالأمن وتفتك بالإنسان، لا تفرق بين طفل رضيع وشيخ كبير وعجوز مسنة فضلا عن المحاربين الذين حفظت لهم الشرائع السماوية بل والوضعية كثيرا من الحماية وآداب الحرب التي أهدرها الإنسان نفسه وهو لا يدري أن ما صنعه من وسائل التدمير سترتد إليه ويكتوي بلظاها، فكم من مدن استوت بالأرض وشرد أهلها فهم هائمون على وجوههم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، محرومون من أبسط وسائل العيش التي تحفظ الرمق وتصون ماء الوجه.

أرى من المستحسن اختصار الوقت والجهد أن أجاري الدكتور إسماعيل بدوي في كتابه (دعائم الحكم في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية المعاصرة) تقسيمه للحقوق والحريات على النحو التالي:

1 -

الحقوق والحريات الشخصية.

2 -

الحقوق والحريات المعنوية.

3 -

الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية.

وهذا التقسيم خاص بالقسم الأول الذي اصطلحنا على تسميته ب حقوق الإنسان في زمن السلم والذي قلنا سنتناوله على سبيل الاختصار.

ص: 126

ويعني بالقسم الأول (الحقوق والحريات الشخصية) هي تلك الحقوق التي يمس الإنسان بكرامته وبوجوده كإنسان، مثل حق الانتقال داخل بلاده وخارجها دون تقييد لحركته ، وأن يأمن على نفسه وماله وعرضه من غير أن يقبض عليه بغير وجه حق، أو يعتدى عليه دون ارتكاب جرم، أو أن يمتهن في مشاعره.

ويرى فريق من الباحثين أن هذا الحق يقتصر فيه على الأمن، ويرى آخرون أن تشتمل على حق المسكن وحق التملك وحق التنقل وحق الأمن. ويضيف إليه آخرون حرية الإنسان في الاعتقاد وإبداء الرأي والتعليم. ويضيف فرض رابع إلى ذلك كله، الحقوق السياسية.

أما القسم الثاني وهو الحقوق المعنوية؛ فيراد بها حرية الرأي وما يتصل بها مثل حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات والاشتراك فيها وحرية التعليم والتعلم وحرية الفكر.

وأما القسم الثالث وهو الخاص بالحقوق والحريات الاقتصادية، فتشتمل على حرية التملك أو حق الملكية الفردية وحرية العمل وحرية التجارة وحرية الصناعة، وهذه الحقوق جميعها محل تسليم من الشرائع كافة، وقد نصت عليها جميع دساتير العالم، وأخذت طريقها إلى المنظمات الدولية فأصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في ديسمبر 1984 م في دورتها الثالثة المنعقدة في باريس وثيقة الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان، والإسلام كان أسبق في إرساء قواعد الحقوق والحريات، بل إنه قد منح الإنسان منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا حقوقا لم ينلها في القرن الحادي والعشرين، ونصوصه من الكتاب والسنة واضحة، ولا أريد في هذا القسم أن أستعراض تلك النصوص بل أحيل إلى كتاب دعائم الحكم الصادر الذي قارن بين الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية في صفحاته التي تزيد على خمسمائة صفحة من القطع الكبير، هذا فضلا عن الدراسات التي قام بها كتاب مسلمون وبخاصة المجمع الفقهي في دورة سابقة أشرنا إليها.

*********************

ص: 127

حقوق الإنسان في زمن الحرب

في النظم المعاصرة والاتفاقات الدولية

عايشت منطقتنا العربية والإسلامية عددا من الحروب في العصر الحديث عانى من ويلاتها من لا شأن له في الحروب:

أولها: حرب تحرير فلسطين، وهي حرب مستمرة منذ أكثر من نصف قرن يقدم لها شعب فلسطين نفسه كل ما يملك من قوة دفاعا عن نفسه وداره، ويستعمل أعداؤه اليهود ومن ورائهم قوى الغرب والشرق الذين يمدونهم بكل وسائل الدمار والفتك بدون هوادة ولا انقطاع.

وثاني هذه الحروب: الحرب العراقية الإيرانية، وقد عانى مواطنو البلدين مآسي هذه الحرب.

وثالثها: ما أطلق عليها الحرب العراقية الكويتية، وهي حرب أشعلها الإخوة الأشقاء بالأمس، واستغلها أرباب المصالح أسوأ استغلال، ولا يعلم متى ستكون نهايتها، وبالطبع يدفع ثمنها الأبرياء من الناس.

ورابعها: الحرب الأمريكية الأفغانية، وهي حرب تريد أمريكا إلباسها ثوب الشرعية باعتبارها حربا على الإرهاب، وتريد أن تجرّ إليها أمم الأرض، وهي حرب غير متكافئة سخرت لها أمريكا كل ما أعدته من وسائل الدمار وأفتكها على مدى عقود، ويدفع الشعب الأفغاني أرواحه وأرواح أطفاله ونسائه وشيوخه وهو من لا حول له ولا قوة ولا يد له فيها، كما قيل:

وجرم جرَّه سفهاء قوم

فحل بغير جانيه العقاب

كذلك ما عرف بحرب البلقان أو الشعوب المطالبة بالاستقلال عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.

ص: 128

وهذه الحروب هي أبرز حروب هذا العصر، هذا عدا ما يمكن إطلاق اسم الحروب الصغيرة، عليه هنا وهناك؛ مثل كشمير وجنوب الفلبين وغيرهما من الشعوب المطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال وهي من الحقوق المشروعة.

هذا على نطاق العالم العربي والإسلامي، أما على نطاق العالم ككل فقد مر بتجربتين مريرتين عانى منها الإنسان ما يستعصى على الوصف ويوفق كل تصور ويعجز القلم عن إعطاء صورة كاملة عن ويلاتهما ومآسيهما وهم الحربان العالميتان الأولى من سنة 1914 - حتى 1918م، والحرب العالمية الثانية التي دمرت العالم من سنة 1939 - حتى سنة 1945 م، وإذا قارنا بين الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحربين العالميتين والحرب الأفغانية لوجدنا الفكرة تدور حول هدف فرض السيطرة على الدول الأخرى عن طريق التذرع بارتكاب هذه الأخيرة بعض المخالفات الواهية.

لذلك بدأ المجتمع الدولي يبحث عن وضع الضوابط التي تحد من حق الدولة في اللجوء إلى الحرب، فكانت هذه المحاولات:

أولًا - مؤتمر لاهاي لعامي 1899 - 1907م حيث صدر في هذين المؤتمرين بعض الاتفاقات التي تنظم وسائل التسوية السلمية للمنازعات، وتحديد سلوك الأطراف المتحاربة، وتعيين حقوق وواجبات الأطراف المحايدة (1) .

وكان هذا ثمرة هذين المؤتمرين ولم يصل إلى وضع قواعد تحد من حق الدول في اللجوء إلى الحرب، إلا أنها فرقت بين نوعين من المنازعات.

الأولى - المنازعات والخلافات الخطيرة

والثانية - الخصومات التي لا تمس شرف الدولة ولا مصالحها الجوهرية.

فأجازت حق اللجوء إلى الحرب في الحالة الأولى دون الثانية التي يمكن حل تلك الخلافات بالطرق السلمية.

(1) ص18 - 21.

ص: 129

ثانيًا - في مرحلة لاحقة عقب الحربين العالميتين، وعلى ضوء الآثار المدمرة لهما، ظهر بوضوح أن السماح بقيام حروب كجزاء أيضًا، وما يمكن أن يسببه هذا الجزاء من فوضى في العلاقات الدولية - فيما لو استمرت كل دولة تتمتع بحق اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل مشاكلها مع الدول الأخرى، أو للرد على انتهاكات أحكام القانون الدولي، دون أن تكون هناك أيَّة قيود تحد من إرادتها، فتوصل المجتمع الدولي إلى نبذ الحرب وتحريم اللجوء إليها في العلاقات الدولية، سواء كان كجزاء أو كوسيلة لتسوية المنازعات الدولية، واعتبر حرب الاعتداء جريمة دولية من خلال ثلاث إنجازات هامة هي: عهد عصبة الأمم، وميثاق بريان كيلوج، وميثاق الأمم المتحدة.

الأول: في عهد عصبة الأمم، توصلت الجمعية العمومية لعصبة الأمم أن تضع بروتوكول جنيف 1924م، وهذا البروتوكول خاص بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وقد حرم حرب الاعتداء واعتبرها جريمة دولية، ووصف الدولة التي تلجأ إلى ذلك بـ (الدولة المعتدية) ، وبمقتضى المادة الثانية من هذا البروتوكول ألزمت الدول بعدم اللجوء إلى الحرب ما لم يكن ذلك دفاعًا عن النفس أو تنفيذًا لإجراءات الأمن الجماعي، كما ألزم هذا البروتوكول بأن تفرض على الدول المتعدية عقوبات اقتصادية وعسكرية حسبما يقررها مجلس العصبة.

إلا أنه نظرًا لمعارضة بريطانيا الشديدة وتصدرها لمجموعة الدول الرافضة لهذا البروتوكول لم يلق نجاحًا وبالتالي لم يظهر إلى الوجود.

ص: 130

الثاني: أما بالنسبة لميثاق بريان كيلوج الذي تم التوقيع عليه في 27 أغسطس 1928م فإنه قد حرم الحرب كقاعدة عامة تحريمًا باتًّا باعتبارها أداة للسياسة القومية، إلا أن تكون وسيلة للدفاع عن النفس ولرد العدوان لحين تدخل العصبة.

الثالث: في عهد الأمم المتحدة وبمقتضى ميثاقها فقد حرم على الدول اللجوء إلى القوة بصفة مطلقة أو التهديد بها ضد سلامة الأراضي أو للاستقلال السياسي أو على وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، واستثنى الميثاق من ذلك بعض الحالات التي يجوز فيها استخدام القوة على الأخص في هالتين الحالتين.

الأولى: حالة الدفاع عن النفس وفقًا لنص المادة الحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة.

الثانية: حالة ما إذا تدخلت الأمم المتحدة بوصفها سلطة

استنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق (1) .

ومن هذا العهد أصبحت الحرب جريمة دولية في ظل التنظيم الدولي المعاصر، فلا يجوز لدولة الالتجاء إلى الحرب إلا عندما تكون الدولة مضطرة لدفع اعتداء عليها.

وبناء على ذلك فقد قررت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة في إبريل 1949 م أن يكون قانون الحرب من بين الموضوعات التي تنظر لتطوير وتقنين القانون الدولي.

(1) الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، للدكتور عبد الواحد الفار، ص 21، 22.

ص: 131

وخلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية توصل المجتمع الدولي إلى تحقيق إنجازين مهمين:

الإنجاز الأول: اتفاقات دولية في شأن الحرب والسلام، ومن بين الاتفاقات اتفاق سبتمبر 1949 م في خصوص.

أ - تحسين مركز المرضى والجرحى في ميدان القتال البري.

ب - تحسين مركز المرضى والجرحى في ميدان القتال البحري.

ج - معاملة أسرى الحرب.

د - حماية المدنيين في وقت الحرب.

وتنص الاتفاقية في هذا الشأن الأخير وهي تتكون من (159) مادة وثلاثة ملاحق، وتستهدف في مجموعها تحقيق احترام كرامة الإنسان وقيمته، وذلك عن طريق حماية حقوقه وحرياته التي تمثل حقيقة وجوده من أي اعتداء، وهي تحظر على الأخص الأعمال التالية:

1 -

الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ومنع التعذيب والتشويه والمعاملة القاسية.

2 -

أخذ الرهائن والنفي.

3 -

الاعتداء على الكرامة الشخصية والتمييز على أساس الاختلافات في العنصر واللون أو الجنسية أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة.

ويتضمن الباب الثاني من الاتفاقية أحكام الحماية العامة للسكان المدنيين من عواقب الحرب وفي هذا الشأن أشارت الاتفاقية إلى أن جميع الأحكام واجبة التطبيق على مجموع سكان الدولة المشتركة في النزاع دون أي تمييز، وأضيف بموجب البروتوكول الإضافي الموقع عليه في جنيف عام 1977 م حسبما جاء النص عليها في المادتين (11) و (58) وهي أفعال تمثل جرائم دولية في حالة ما إذا ارتكبت بطريق العمد وترتب عليها الوفاة أو أذى جسيم بالجسد أو الصحة، وهي:

1 -

جعل السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين هدفًا للهجوم.

2 -

شن هجوم عشوائي يصيب السكان المدنيين أو المناطق المدنية.

3 -

شن هجوم على المنشآت الهندسية أو المنشآت التي تحوي قوى خطرة.

4 -

جعل المواقع المجردة من وسائل الدفاع أو المناطق المنزوعة السلاح هدفًا للهجوم.

5 -

اتخاذ أشخاص هدفًا للهجوم عن معرفة بأنهم عاجزون عن القتال.

ص: 132

والخلاصة أن جرائم الحرب التي جاء النص عليها صراحة في اتفاقات جنيف الإنسانية والبروتوكولين الإضافيين اثنتان وعشرون جريمة.

أما الإنجاز الثاني: فهو بيان مفصل لما يعتبر جرائم حرب وسن تشريعات داخلية للعقاب عليها، ومسؤولية الدولة عن كل فعل أو امتناع ضد تعهداتها الدولية وإنشاء محكمة قضائية دولية دائمة تفصل في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي اليوغسلاف.

ويسعى المجتمع الدولي الآن إلى إنشاء محكمة دولية جنائية دائمة تتولى مقاضاة مرتكبي الجرائم الدولية - وهي جرائم العدوان وجرائم الحرب - الجرائم ضد الإنسانية - والجرائم ذات الصفة الدولية.

وكان من باكورة هذه الوجهة، ما أخذت به منظمة الأمم المتحدة مع أزمة يوغسلافيا، وذلك عندما أثبت المقرر الخاص للجنة الأمم المتحدة ل حقوق الإنسان والمكلف بمهمة التحقيق في الانتهاكات التي حدثت بين الفئات المتنازعة في المناطق اليوغسلافية، أن هناك أهمية لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان الشاملة والسافرة التي حدثت بين الفئات المتنازعة بيوغسلافيا السابقة، بالمخالفة لأحكام القانون الدولي الإنساني، وحتى تكون هذه المحاكمة وسيلة لردع كل من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم الإنسانية.

وقد استند مجلس الأمن إلى هذا التقرير، وأصدر قراره رقم (780) بتشكيل لجنة خبراء محايدة للتحقيق في انتهاكات اتفاقيات جنيف الإنسانية وأية انتهاكات أخرى للقانون الدولي الإنساني في مناطق يوغسلافيا السابقة.

ص: 133

ثم اتخذ مجلس الأمن قراره (808) بإنشاء محكمة دولية جنائية تختص بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المقترفة في مناطق يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991م.

وقد نص النظام الأساسي لهذه المحكمة على أن تخضع لاختصاصها الجرائم التالية:

أ - جرائم الحرب؛ مثل انتهاكات اتفاقيات جنيف 1949 م والبروتوكولين الإضافيين المؤرخين في 10 يونيو 1977م.

وأية جريمة حرب أخرى محددة في القانون العرفي الدولي أو المعاهدات الدولية.

ب - جرائم الإبادة الجماعية.

ج - الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية المتمثلة في الانتهاك المنتظم والمتكرر لـ حقوق الإنسان.

د - أعمال التعذيب (1) .

* * *

(1) الجرائم الدولية السابقة وسلطة العقاب عليها، ص 604، 613،مرجع سابق.

ص: 134

حماية حقوق الإنسان في الإسلام زمن الحرب

الإسلام عقيدة وعبادة وحكم، أي إنه دين ودولة معًا وإنه ظهر في أوائل القرن السابع الميلادي وانتشر انتشارًا سريعًا، والأصل الأول والمصدر العام فيه هو القرآن الكريم، ولم يتعرض القرآن لتفصيل الجزئيات، بل نص على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشؤون العامة للدولة وعلاقتها بغيرها من الأمم، ويتفق جمهور علماء المسلمين على أن الدولة الإسلامية تعتمد في تكوينها على الوحدة الدينية التي أساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وجميع من تشملهم هذه الوحدة يكونون أمة واحدة وإن اختلفوا في اللغة أو الجنس أو الحكومات أو سائر المميزات القومية، وهذه الأمة تخضع لإمام واحد وتعيش في سلام ومساواة، ومصدرها الدين، وتسمى هذه الأمة بدار الإسلام (1) . أما الأمم الأخرى التي لا تدين بدين الإسلام فمن كانت تربطهم بالمسلمين معاهدة أو صلح فيطلق عليها دار العهد ودار الصلح، أما التي لا تربطها معهم معاهدات من أي نوع فيطلق عليهم دار الحرب.

وقد اختلف العلماء في أساس العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرى جمهورهم أن أساس العلاقة يقوم على السلم، ذلك أن الإسلام يجنح للسلم وليس للحرب والحرب وفقًا لهذا الرأي لا تكون مشروعة إلا في حالتين:

الأولى: حالة الدفاع عن النفس وعن الدعوة الإسلامية

الحالة الثانية: حالة الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه.

(1) يقول الماوردي: فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعًا، فأما في بلدان شتى وأمصار متباعدة فقد ذهبت طائفة شاذة إلى جواز ذلك، وذهب الجمهور إلى أن إقامة إمامين في عصر واحد لا يجوز شرعًا. (كتاب أدب الدنيا والدين) ص 138، ط الرابعة، 1973 م، الحلبي.

ص: 135

أما في الحالة الأولى:

فقد ظل المسلمون في مكة عدة أعوام مضطهدين في عقيدتهم ويسامون سوء العذاب، حتى أكرهوا على الهجرة فخرجوا من ديارهم وأوطانهم، ثم أقاموا في المدينة صابرين على الظلم الذي لحقهم، وكلما همت نفوسهم بالرد على الظلم أو تطلعت للانتقام من الظالمين كان رسول بالله صلى الله عليه وسلم يردهم إلى الصبر قائلًا:((لم أؤمر بقتال)) ، وظلوا كذلك حتى نزلت آيات القتال ترخص لهم في الدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم ضد العدوان القائم عليهم، وجاء الترخيص بذلك في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:38-41] .

فهذه الآيات صرحت للمسلمين بالقتال لمواجهة الظلم الواقع عليهم، ورد العدوان الذي حاق بهم وأكرههم على الهجرة والخروج من الديار والأوطان بغير حق، وقد بينت الآية الكريمة أن هذا التصريح موافق لما تقضي به سنة التدافع بين الناس حفظًا للتوازن ودرءًا للطغيان وتمكينًا لأرباب العقائد والعبادات من أداء عبادتهم والبقاء على عقيدة التوحيد والتنزيه، وهكذا نجد أنه في الوقت الذي تصرح فيه الآية للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم وعقيدتهم فإنها تقرر في الوقت نفسه مبدأين متلازمين:

أولًا - مبدأ حرية الأديان كافة.

ثانيًا - مبدأ الدافع الشرعي عنها.

وأنه لولا هذا المبدأ المزدوج لفسدت الأرض وهدمت أماكن العبادة على اختلافها وتباينها، وذلك بتحكم الأقوياء والطغاة في الأديان يعبثون بها ولا رادع، ويكرهون عليها ولا مدافع، والآية لا تنظر في ذلك إلى المسلمين خاصة بل تقول في جلاء ووضوح:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40] على هذا الوجه من العموم.

وقد جاء التأكيد على حالة الدفاع الشرعي في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 190-194] .

ص: 136

والواضح من هذه الآيات أنها تقرر مبدأ حظر الحرب والقتال إلا في حالة وحيدة هي حالة الدفاع ضد العدوان، وهذا ثابت من قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] . وحتى في هذه الآية وهي حالة الدفاع فإن القتال لا يجوز أن يتعدى حق الدفاع إلا إلى الحد الكافي لحسم العدوان، دون التمادي في القتال لمجرد التعصب أو إشباعًا لشهوة الانتقام، وهذا واضح من قوله تعالى:{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] .

أما بالنسبة للحالة الثانية وهي حالة الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع، عن نفسه، فقد جاء النص على هذه الحالة في قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] .

فالمستفاد من هذه الآية أن محاربة الظلم والفساد في الأرض إنما هو سبب يجيز للمسلمين القتال للقضاء على الظلم، سواء كان هذا الظلم موجهًا إلى شعب مسلم أو دولة أخرى مظلومة، حتى وإن كانت غير إسلامية، ذلك أن مقاومة الظلم والفساد في الأرض أمر تحتم الأخوة الإنسانية والتضامن المفروض بين البشر، فكل اعتداء على أحدهم يعتبر موجهًّا إلى الإنسانية جميعًا ويستدل على هذا التضامن الإنساني من الآية الكريمة:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] .

ويصبح قتال المسلمين لنصرة الضعيف واجبًا أقوى إذا كان عهد أو ميثاق للمساعدة المتبادلة، ذلك أنه يقترن بواجب آخر هو واجب الوفاء بالعهد، وواجب الوفاء بالعهد في الإسلام مقدم على واجب التناصر بسبب الدين، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72] .

ص: 137

هذا الذي قرره الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا هو نفسه الذي قامت على أساسه عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين، ويكفي للدلالة على ذلك أن نقرأ المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تقول: مقاصد الأمم المتحدة هي:

1 -

حفظ السلام والأمن الدولي، وتحقيقًا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم (1) .

وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمود شلتوت: وعلى هذه الأسس بنى الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض وفيما بينهم وبين غيرهم من الأمم المختلفة، وبذلك كان السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وهو بهذا الأصل لا يطلب من غير المسلمين إلا أن يكفوا شرهم عن دعوته وأهله، وألا يثيروا عليه الفتن والمشاكل، ويأبى الإباء كله أن يتخذ الإكراه طريقًا للدعوة إليه ونشر تعاليمه:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] .

وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة دون إضرار بأحد ولا انتقاص لحق أحد.

والإسلام لا يخرج عن هذا الوضع الطبيعي إلا إذا امتدت إليه يد العدوان ووضعت أمامه العراقيل وأخذت في فتنة الناس عنه بالإيذاء والتنكيل، وهنا فقط يؤذن لأهله أن يردوا العدوان بالعدوان إقرارًا للسلم وإقامة للقسط، وهو بذلك يحرم عليهم حرب الاعتداء والعسف واستنزاف الموارد والتضييق على عباد الله (2) .

وقد استنبط الأئمة من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] .

أن قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قاله ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد (3) .

وقال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان)) .

وأما النظر فإن (فاعَلَ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة.

وقال القرطبي: والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم كالرهبان والزمنى والإجراء فلا يقتلون. وقد بسط القرطبي القول في هؤلاء وبين مذهب المالكية في ذلك ناقلًا كل ذلك عن ابن العربي في أحكامه (4) .

(1) العلاقات الدولية، للدكتور علي صادق أبو هيف، ص 616 وما بعدها، الطبعة الحادية عشرة.

(2)

الإسلام عقيدة وشريعة، ص 453؛ وتفسير القرآن الكريم، ص 243 - 245؛ ورسالته في مشروعية القتال في الإسلام.

(3)

تفسير القرطبي: 348/2.

(4)

أحكام القرآن: 104/1.

ص: 138

وقد أوصى الخليفة أبو بكر الصديق – رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان وكان عقد له أبو بكر سنة 13 هـ مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إليها وشيعه أبو بكر راجلًا وفيما قال له: "وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخرِّبن عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلًا ولا تحرقنه، ولا تغلل ولا تجبن (1) .

وفي الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان)) .

قال الإمام البغوي في شرحه لهذا الحديث: والعمل على هذا عند أهل العلم أنه لا يقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل (2) .

ونقل ابن حجر في الفتح عن مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم (3) .

أين هذا مما يجري الآن في فلسطين وأفغانستان، وما تتناقله وكالات الأنباء المرئية والمسموعة من مشاهد مؤلمة من هدم المدن والدور على أصحابها وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال، من قوم يزعمون أنهم حماة حقوق الإنسان؟ ! فالله سبحانه وتعالى هو المسؤول أن يرد عن إخوتنا هذا العدوان إنه سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الكويت: 22 شعبان 1422هـ

الموافق 7 من نوفمبر 2001م

الدكتور عبد الله محمد عبد الله.

(1) شرح السنة: 48/11.

(2)

شرح السنة: 47/11 - الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان في الحرب، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب.

(3)

فتح الباري:488/6.

ص: 139