الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأمين الصحي
إعداد
البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن: التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية.
أكتبه استجابة لطلب من الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي ملتزمًا فيه بعناصر الموضوع التي وضعتها شعبة التخطيط، والمنهج المرسوم لكتابة البحوث، ومستعينًا بالله السميع العليم.
عناصر الموضوع هي:
العنصر الأول ـ التعريف بالتأمين الصحي والبطاقات الصحية وحكمها.
العنصر الثاني ـ حكم الاتفاق بين المؤسسات، وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة المواطنين طيلة فترة معينة مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
العنصر الثالث ـ حكم ما لو كان العقد بين الشخص والمستشفى.
العنصر الرابع ـ حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين، والجهة المتعهدة بالمعالجة.
العنصر الخامس ـ حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.
العنصر الأول
التعريف بالتأمين الصحي ـ والبطاقات الصحية وحكمها
أولاً ـ التعريف بالتأمين الصحي:
يقسم فقهاء القانون التأمين إلى أنواع مختلفة باعتبارات مختلفة، فيقسمونه باعتبار الهدف أو الغرض منه إلى نوعين:
أـ التأمين الاجتماعي.
ب ـ التأمين الخاص.
والهدف من التأمين الاجتماعي تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، كتأمين العمال من بعض الأخطار التي يتعرضون لها فتعجزهم عن العمل، كالمرض والعجز، والشيخوخة، ويقوم هذا النوع من التأمين على فكرة الضمان الاجتماعي. (1) .
أما التأمين الخاص فالهدف منه مصلحة المستأمن الخاصة (2) .
وقد عرف المتخصصون في التأمين، التأمين الاجتماعي بتعريفات عديدة، من أفضلها ـ كما يقول الدكتور السيد عبد المطلب ـ التعريف الذي تلقته لجنة مصطلحات التأمين الاجتماعي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو:
(التأمين الاجتماعي وسيلة لتجميع المخاطر بواسطة تحويلها إلى هيئة، عادة ما تكون حكومية، تلتزم بمقتضى القانون بتقديم خدمات معينة للأشخاص المشتركين، أو نيابة عنهم في حالة وقوع خسارة معينة وبشروط معينة)(3) .
(1)(الضمان الاجتماعي: هو مجموعة الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تضعها الدولة لحماية الفرد في حاضره ومستقبله، وحماية أسرته من بعده، ويشمل المساعدات الاجتماعية، والتأمين الاجتماعي، والرعاية الاجتماعية: التأمينات الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي في الإسلام، ص 90؛ وانظر أيضًا: التأمين الصحي، ص 80)
(2)
(الوسيط، للدكتور السنهوري: 7 / 1156 و1375؛ والتأمين في القانون المصري والمقارن، للدكتور البدراوي، ص 39؛ والأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، للدكتور السيد عبد المطلب، ص 20)
(3)
(الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، ص 155)
نطاق التأمين الاجتماعي:
يختلف نطاق التأمين الاجتماعي من بلد لآخر، إلا أن هناك بعض الأنواع التي تعتبر العمود الفقري للتأمين الاجتماعي في أي بلد، هذه الأنواع هي:
1 ـ تأمين الشيخوخة ـ المعاشات.
2 ـ تأمين الوفاة المبكرة.
3 ـ تأمينات العجز.
4 ـ التأمينات من البطالة.
5 ـ التأمين الصحي.
6 ـ تأمين إصابات العمل (1) .
(1)(الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، ص 169، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 39؛ والتأمينات الاجتماعية والتكافل الاجتماعي في الإسلام، ص 4 و 27 و 272 و 322)
تعريف التأمين الصحي:
التأمين الصحي نوع من أنواع التأمين الاجتماعي كما رأينا، وعلى هذا فإن تعريف التأمين الاجتماعي ينطبق عليه بصفة عامة، ومع هذا فقد عرفه بعضهم (1) . بأنه:(نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن عليهم في الحالات التي يحددها نظام التأمين نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا، وبصفة دورية، ويساهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تساهم الدولة في ذلك)(2) .
وعرفه بعضهم (3) بأنه:
(ذلك النمط من أنماط التأمين الاجتماعي الذي يهتم مباشرة بالعوارض الاجتماعية ذات المنشأ الفسيولوجي، كالمرض المؤقت والعجز الصحي والشيخوخة، ويأخذ هذا الاهتمام مظهر الرعاية الطبية العينية من جهة، وتوفير البديل النقدي خلال فقدان الدخل من جهة أخرى)(4) .
(1)(الدكتور شوكت محمد الفيتوري، في كتاب التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 49)
(2)
(االدكتور شوكت محمد الفيتوري، في كتاب التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 49)
(3)
(الشريف عبود الشريف مستشار الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي بالسودان المصدر السابق، ص 84)
(4)
(المادة الأولى من قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 24)
ونزيد التعريف بـ التأمين الصحي توضيحًا ببيان مختصر عن الجهة التي تتولى إدارة التأمين الصحي، وتمويل التأمين الصحي، وإلزاميته، ومزاياه:
1 ـ الجهة التي تتولى إدارة التأمين الصحي:
التأمين الصحي ترعاه الحكومات فهو تأمين حكومي، وتتولى إدارته هيئة عامة تسمى عندنا في السودان، وفي بلاد أخرى (الهيئة العامة للتأمين الصحي)(1) ، وهذه الهيئة لها شخصية اعتبارية مستقلة وصفة تعاقدية مستديمة، وخاتم عام، ولها حق التقاضي باسمها (2) .
2 ـ تمويل التأمين الصحي:
يقوم تمويل التأمين الصحي على الأسلوب التقليدي في تمويل مشروعات التأمينات الاجتماعية (3) .
وقد حدد قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي السوداني موارد الهيئة المالية في المادة (17) على النحو التالي:
أـ ما تخصصه الدولة من اعتمادات.
ب ـ الاشتراكات التي يدفعها العاملون المشتركون والمخدمون.
جـ ـ الرسوم.
د ـ ربح استثمار أموالها.
هـ ـ الإعلانات والتبرعات والوصايا التي يقرر المجلس قبولها.
3 ـ إلزامية التأمين الصحي والفئات الملزمة به:
التأمين الصحي إلزامي لدى الهيئة على جميع العاملين في الدولة في المؤسسات العامة، والقطاع الخاص، والمختلط، وأرباب المعاشات (4) .
(1)(المادة الأولى من قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 24)
(2)
(المادة (5) من قانون الهيئة)
(3)
(التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 85)
(4)
(المادة (4) من قانون الهيئة للتأمين الصحي 1994م، السوداني، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 23 و72)
ثانيًا ـ البطاقات الصحية:
البطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة للمؤمن له، تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي، وتسمى في السودان البطاقة العلاجية (1) وهذه صورة منها:
(1)(المادة (30) من قانون الهيئة)
مزايا نظام التأمين الصحي:
تختلف المزايا التأمينية التي يقدمها نظام التأمين الصحي من قطر إلى قطر وتشمل عادة:
أـ على أقل تقدير خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
ب ـ وغالبًا ما تضاف خدمات الاختصاصيين، والجراحة، والعناية بالأمومة، وبعض العناية بالأسنان، ومدى واسعًا من الأدوية والأجهزة التعويضية والخدمات التأهيلية.
جـ ـ وقد يشمل ذلك التمريض المنزلي، وترحيل المرضى (1) .
وقد نص قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م السوداني على الخدمات الطبية التي تلتزم الهيئة بتقديمها للمؤمن لهم في المواد 24 ـ 29.
(1)(التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 86؛ وانظر أيضًا: ص 19 و67)
ثالثًا ـ حكم التأمين الصحي:
لا أعلم خلافًا بين الفقهاء المعاصرين في جواز الضمان الصحي بالمعنى الذي بينته، كما لا أعلم خلافًا في جواز الضمان الاجتماعي، والتأمينات الاجتماعية التي يستند ويقوم عليها التأمين الصحي، وقد صدرت قرارات ن بعض المجامع الإسلامية بجوازها، والدعوة إلى تعميمها، من ذلك:
1 ـ قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة في المحرم 1385هـ/ مايو 1965م الذي جاء فيه:
نظام المعاشات الحكومي، وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى، كل هذا من الأعمال الجائزة.
2 ـ قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثالث المنعقد بالقاهرة في 17 من رجب 1386هـ/ 27 من أكتوبر 1966م الذي جاء فيه:
أما التأمين التعاوني والاجتماعي، وما يندرج تحتهما من التأمين الصحي ضد العجز والبطالة والشيخوخة، وإصابات العمل، وما إليها، فقد قرر المؤتمر الثاني جوازه.
3 ـ توصية ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة بليبيا في ربيع الأول 1392هـ/ مايو 1972م التي جاء فيها:
4 ـ يجب تعميم الضمان الاجتماعي حتى تطمئن كل أسرة إلى مورد يكفل رزقها عند وفاة عائلها أو عجزه، أو غير ذلك من أسباب انقطاع الرزق لسد حاجة المحتاجين.
وجواز التأمين الصحي يستند إلى مصلحة الرعية المنوط بالراعي تحقيقها في تصرفاته، ولا نزاع في أن نظام التأمين الصحي ـ وسائر أنواع التأمينات الاجتماعية ـ فيه مصلحة للرعية، وبخاصة بالنسبة للدول الفقير التي لا تكفي مواردها لتقديم الخدمات الصحية ونحوها بالمجان.
العنصر الثاني
حكم الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات
للتعهد بمعالجة الموظفين طيلة فترة معينة
لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها
1 ـ هذا الاتفاق يدخل أساسًا في عقد الإجارة فيأخذ حكم الإجارة، ويجب أن تتوفر فيه شروط الإجارة، وشروط الإجارة بعضها في الصيغة، وبعضها في العاقدين، وبعضها في الأجرة، وبعضها في المحل.
ونفترض أن شروط الصيغة والعاقدين متحققة في هذا الاتفاق، وكذلك شروط الأجرة؛ لأنها وصفت بأنها مبلغ معين، ويبقى علينا أن ننظر في المحل.
2 ـ المحل في هذا الاتفاق مركب من ثلاثة أشياء:
الأول: وهو المقصود أصالة (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) .
وهذا يدخل في إجارة الأشخاص، والأجير فيه مشترك (1) . وهو المستشفى، وأطباؤه وعماله الذين يتولون علاج موظفي المؤسسة، فيجب أن يطبق على الاتفاق حكم إجارة الأجير المشارك.
الثاني: الأسرة والحجرات إذا كان المريض سيبقى في المستشفى، وهذه من إجارة منافع الأعيان فتأخذ حكمها.
الثالث: الدواء والعمليات ونحوها:
أما العمليات فتلحق بالأول، وأما الدواء ونحوه كالطعام، فلا يصلح محلاً للإجارة، لأن هذه أعيان، والإجارة لا ترد على الأعيان، وإنما ترد على منافعها، فيكون الالتزام بالدواء ونحوه نظير مبلغ معين بيعًا يأخذ حكم البيع.
(1)(قلت: إن الأجير مشترك؛ لأن المستشفى المتعهد بالمعالجة ليس خاصًا بالمؤسسة المتفقة معه، وإنما يتعهد بالعلاج لكل مؤسسة تطلب الاتفاق معه، وهذا شأن الأجير المشترك، كالطبيب الذي يعالج كل من يأتي إليه بأجر)
3 ـ (أ) الحكم بالنسبة للأول وهو (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) :
لا بد لمعرفة الحكم من تحديد المقصود (بموظفي المؤسسة) والمقصود (بمدة معينة) .
والذي يظهر لي أن المقصود (بمدة معينة) أن المؤسسة تتفق مع المستشفى على أن يعالج موظفيها نظير مبلغ معين تدفعه له كل شهر أو كل سنة، وليس المقصود أن يعالجهم مدة شهرين مثلاً بمبلغ كذا ثم يتركهم، كما قد يتبادر إلى الذهن من العبارة، على أني لا أرى مانعًا من الاتفاق ما دامت المدة معينة، والأجر الذي يقابلها معينًا.
وأما المقصود (بموظفي المؤسسة) فقد يكون جميع الموظفين في المؤسسة من غير الالتزام بعدد محدد، وقد يكون المقصود موظفي المؤسسة المحصورين عددًا.
وفي كلا الحالين يدخل هذا الاتفاق غرر ناشئ عن الجهل في المحل من حيث مقداره في الحالة الأولى، ومن حيث مقدار من سيحتاجون للمعالجة، ونوع المعالجة التي يحتاجون إليها في الحالتين.
3 ـ (ب) الحكم بالنسبة للثاني وهو الأسرة والحجرات:
قلت: إن الاتفاق في هذه الحالة من إجارة منافع الأعيان فيجب أن تتوافر فيه شروطها، ومن شروطها: أن تكون المنفعة معلومة عند التعاقد، وأن تذكر مدة الإجارة إذا كانت المنفعة قابلة للامتداد.
والمنفعة في هذه الحالة هي استعمال الأسرة والحجرات وهي منفعة ممتدة، فيجب فيها تحديد المدة، والمدة في هذا الاتفاق غير محددة، فقد يمكث المريض في المستشفى يومًا، وقد يمكث أسبوعًا، وقد يمكث شهرًا، وفي هذا غرر مفسد للعقد.
3 ـ (ج) الحكم بالنسبة للثالث وهو الدواء ونحوه: (1) .
بينت أن الاتفاق في هذه الحالة بيع يأخذ حكم البيع، ومن شروط صحة عقد البيع أن يكون المبيع معلومًا، والمبيع هنا وهو الدواء مجهول النوع، ومجهول المقدار، فيدخله الغرر من جهتين.
4 ـ يرى مما تقدم أن هذا الاتفاق يحيط به الغرر من كل جوانبه، والغرر الذي فيه كثير في عقد البيع الذي ورد فيه النهي خاصة، وفي عقد الإجارة الذي أجمع الفقهاء على إلحاقه بالبيع، وهو في المعقود عليه أصالة، ولا حاجة تدعو إلى هذا الاتفاق؛ لأن العلاج يمكن الوصول إليه بطرق أخرى مشروعة غير هذا الطريق الذي فيه غرر.
ولهذا فإني أرى منع هذه الصورة من الاتفاق. والله أعلم.
(1)(مشيت في الحكم على الرأي القائل بجواز اجتماع الإجارة والبيع في عقد واحد، وأن اجتماعهما ليس في صفقتين في صفقة المنهي عنه)
العنصر الثالث
حكم ما لو كان العقد بين الشخص وبين المستشفى
هذه الصورة تعني أن شخصًا تعاقد مع المستشفى على أن يدفع للمستشفى مبلغًا معينًا نظير تعهد المستشفى بعلاجه مدة معينة مع التزام المستشفى بالدواء والعمليات ونحوها.
الحكم في هذه الصورة كالحكم في الصورة السابقة، وهو المنع، لما فيها من الغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الدواء ونوعه، والجهل بالمدة التي يمكثها المريض في المستشفى، كما في الصورة السابقة، وفيها زيادة على ذلك غرر ناشئ عن الجهل بحصول العلاج، فقد يدفع الشخص المبلغ المتفق عليه، ولا يحتاج إلى علاج في المدة المحددة، وقد يموت ذلك الشخص في منزله، أو يموت بحادث في الطريق، ولا يكون المستشفى قد قدم له أي علاج، فبأي وجه يستحل المستشفى ما أخذه منه؟ وفي هذا كله ارتكاب للغرر من غير حاجة، فإن في إمكان هذا الشخص أن ينتظر إلى أن يحتاج إلى العلاج، ثم يذهب إلى المستشفى، ويتعاقد معه بالطريقة المشروعة. والله أعلم.
العنصر الرابع
حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية
في العلاقة بين المستفيدين، والجهة المتعهدة بالمعالجة
أولا: توسط شركة تأمين تجارية بين المستفيدين والمستشفى لا يجوز في أي صورة من الصور، وهذا الحكم مفروغ منه، فقد صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة في شهر شعبان 1398هـ بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، كما صدر قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة في شهر ربيع الثاني 1406هـ / ديسمبر 1985م ينص على:
(أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كثير مفسد للعقد، ولهذا فهو حرام شرعًا) .
وما أظن أننا بعد هذا في حاجة إلى الحديث عن شركات التأمين التجارية.
أما توسط شركة تأمين تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والمستشفى فلا مانع منه؛ لأن التعامل مع شركات التأمين التعاونية جائز عند جميع الفقهاء المعاصرين، ولكن يبقى السؤال عن الطريقة التي تتوسط بها شركة التأمين التعاونية، فإذا كان المقصود التوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى بنفس الطريقة المذكورة في العنصر الثاني والثالث، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن تلك الطريقة ممنوعة لذاتها، بصرف النظر عمن يتولاها.
والطريقة المشروعة للتوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الفرد والمستشفى هي ما تمارسه بعض شركات التأمين التعاوني الإسلامي تحت نظام التكافل الصحي، ومن هذه الشركات شركة شيكان للتأمين وإعادة التأمين السودانية.
وفيما يلي بيان مختصر لما تمارسه شركة شيكان:
تقدم شركة شيكان نوعين من التأمين الصحي هما:
نظام التكافل الجماعي الصحي، ونظام التكافل العائلي الصحي، وهذان النظامان هما بعض أنواع التكافل الذي تمارسه شركات التأمين في السودان، وكلمة (تكافل) اصطلح في السودان على إطلاقها على أحد قسمي التأمين، وهو التأمين على الأشخاص بجميع أنواعه، كما اصطلح على إطلاق كلمة (تأمين) على القسم الآخر من التأمين، وهو التأمين على الأشياء بجميع أنواعه.
والفرق بين التكافل الجماعي الصحي، والتكافل العائلي الصحي هو أن المشترك في التكافل الجماعي هو المؤسسة، والمستفيد هو المؤسسة والعاملون فيها ومن يعولونهم من أفراد عائلاتهم، أما المشترك في التكافل العائلي فهو الفرد ـ الزوج أو الزوجة ـ ومن يعوله من أفراد عائلته، والمستفيد هو المشترك ومن يعولهم.
ويهدف نظام التكافل الجماعي الصحي إلى تحقيق التكافل بين المشتركين في حالة مرض أحد العاملين الأعضاء مرضًا طبيعيًا، أو مرض أحد أفراد عائلات العاملين الأعضاء مرضًا طبيعيًا خلال فترة الاشتراك.
وفي الحالتين يتم تكافل مع المستفيد بدفع مزايا التكافل المتفق عليها في العقد وفقًا لما نص عليه في النظام.
وتدفع مزايا التكافل للمستفيد بإعطائه شيكًا في فترة لا تتجاوز شهرين من تاريخ تكملة المستندات والبيانات اللازمة، فالشركة لا تتعاقد مع المستشفى على معالجة المستفيدين مسبقًا، نظير مبلغ محدد، وإنما الذي يتعاقد مع المستشفى هو المستفيد نفسه بعد حدوث المرض.
ويقوم نظام التكافل بجميع أنواعه على نفس الأسس التي يقوم عليها نظام التأمين التعاوني الذي أجمع الفقهاء على جوازه.
هذا وينبغي التنبيه إلى أنه لا تعارض بين وجود نظام التكافل الصحي الذي تقوم به شركة شيكان، ونظام التأمين الصحي الحكومي الذي تقوم به الهيئة العامة للتأمين الصحي؛ لأن بينهما اختلافًا من عدة وجوه، منها:
1 ـ إن التأمين الصحي إلزامي كما رأينا، أما التكافل الصحي فهو اختياري.
2 ـ إن الاشتراك في التأمين الصحي خاص بالعاملين، وفي التكافل الصحي الباب مفتوح للعامل وغير العامل.
3 ـ إن القسط في التأمين الصحي نسبة محددة من مرتب المستفيد، وفي التكافل الصحي القسط متروك تحديده للمستفيد.
4 ـ إن القسط الذي يدفعه المستفيد في التأمين الصحي لا يرجع إليه منه شيء، أما القسط في التكافل الصحي فقد يرجع للمستفيد منه شيء إذا وجد فائض عند تقييم أصول صندوق التكافل، وذلك مرة كل ثلاث سنوات.
5 ـ إن التأمين الصحي تسهم فيه الدولة، والتكافل الصحي لا تسهم فيه الدولة بشيء.
فالتكافل الصحي مكمل للتأمين الصحي، وليس بديلاً عنه، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجارية.
العنصر الخامس
حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل
تحدث الفقهاء المتقدمون عن هذا الموضوع تحت عنوان: إجارة الأطباء (1)، وعنوان: الجعل للطبيب على إبراء العليل (2) وعنوان: مشارطة الطبيب على البرء (3) ويستحسن أن أنقل ما وقفت عليه من أقوالهم، ثم أعقب عليها برأيي:
أولاً ـ مذهب المالكية:
1 ـ جاء في المدونة:
(في إجارة الأطباء: (قلت) : أرأيت إن استأجرت كحالاً يكحل عيني من وجع بها كل شهر بدرهم (قال) : قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه، وإلا فلا شيء له، (قال) : وقال مالك: إلا أن يكونا شرطا شرطًا حلالاً فينفذ بينهما، (قال ابن القاسم) : وأنا أرى إن اشترط أن يكحله كل يوم أو كل شهر بدرهم فإن ذلك جائز، إذا لم ينقده، فإن برأ قبل ذلك كان للطبيب من الأجر بحسب ذلك)
(4)
.
2 ـ وقال الباجي:
(وقد اختلف قول مالك في الجعل يجعل للخصم على إدراك ما يخاصم عنه فيه، وللطبيب على إبراء العليل، وقال في المدونة: لا يجوز، وقال سحنون: وقد روي أنه عنده جائز مثل أن يجعل له جُعلاً على بيع ثياب أو رقيق، فقد قال مالك في المدونة: لا يجوز ذلك إلا فيما قل دون ما كثر)(5) .
(1)(المدونة: 11 / 64)
(2)
(المنتقى شرح الموطأ: 5 /110)
(3)
(المغني، لابن قدامة: 5/ 541)
(4)
(المدونة: 11 / 64)
(5)
(المنتقى: 5 / 110 و111؛ وانظر: المدونة: 11 /99)
3 ـ وقال ابن شاس في كتاب الجعالة:
(فروع مترددة بين الجعل والإجارة: الأول: مشارطة الطبيب على برء العليل.
وذكر ثلاثة فروع أخرى ثم قال:
وكل هذه الفروع مختلف فيها، وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين المذكورين) (1) .
4 ـ وقال خليل في باب الجعالة:
(صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلاً علم يستحقه بالتمام ككراء السفن)(2) .
5 ـ قال الدردير:
(ككراء السفن) هذا تشبيه في أنه لا يستحق فيه الأجر إلا بتمام العمل، وهو إجارة لا جعالة كما يشعر به التعبير بكراء. . وسواء وقعت بلفظ إجارة أو جعالة. . ومثل السفينة مشارطة الطبيب على البرء،. . . و. . . و. . . فهذه الأشياء إجارة لازمة إلا أن لها شبهًا بالجعالة من حيث إنه لا يستحق الكراء إلا بتمام العمل. . . (3) .
6 ـ وقال الدسوقي:
((قوله: هذا تشبيه) أي تمثيل خلافًا لتت وبهرام. . (قوله: وسواء. . إلخ) .
يعني أن كراء السفن دائمًا إجارة على البلاغ فهو لازم سواء صرح عند العقد عليها بالإجارة أو الجعالة، إلا أنه صرح بالجعالة عند العقد كانت تلك الكلمة مجازًا؛ لأنه لما كان إجارة موصوفة بكونها على البلاغ أشبهت الجعل من حيث إنه لا يستحق فيه العوض إلا بالتمام، أهـ. عدوى (قوله: ومثل السفينة) أي في أنها إجارة على البلاغ لا جعالة مشارطة الطبيب وما بعده من الفروع، ولا يقال الإجارة على البلاغ مساوية للجعالة في أن الأجرة فيها لا تستحق إلا بعد تمام العمل، فلا وجه لجعل تلك الأمور من الإجارة، لا من الجعالة، لأنا نقول: إنه لا يلزم من استوائهما في هذا الوجه استواؤهما في غيره؛ لأن الإجارة على البلاغ لازمة بالعقد، بخلاف الجعالة) (4) .
(1)(عقد الجواهر الثمينة: 3 / 8 ـ 9، وانظر أيضًا: الذخيرة: 6 /22)
(2)
(مختصر خليل مع حاشية الدسوقي: 4 / 65)
(3)
(الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4 / 57)
(4)
(حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4 / 57)
7 ـ وقال الدردير في الشرح الصغير في باب الإجارة:
(ولما كان لهم مسائل من الإجارة تشبه الجعالة من حيث إنه لا يستحق فيها الأجير أجرته إلا بتمام العمل نبه عليها بقوله:
(والأصح) الذي هو قول ابن القاسم وروايته في المدونة عن مالك (أن كراء السفن) إنما يستحق (بالبلاغ) إلى المحل المشترط أي مع إمكان إخراج ما فيها، فإن غرقت في الأثناء أو بعد البلاغ قبل التمكن من إخراج ما فيها فلا أجرة لربها، وهي إجارة لازمة بالعقد لا جعالة. . وهذا فيما إذا لم يعقد على الجعالة، وهي غير لازمة. . (كمشارطة طبيب على البرء) فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له، إلا أن يتمم غيره، فله بحساب كرائه الأول، فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب ما عمل) (1) .
(1)(الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي: 4 /74 و75)
8 ـ وقال الصاوي:
((قوله: وهي إجارة لازمة بالعقد لا جعالة) أي ما لم يصرح عند العقد بالجعالة، وإلا كانت جعالة غير لازمة، ولها حكم يخصها كما يأتي. . (قوله: فله بحساب ما عمل) أي إن لم يحصل برء به ولا بغيره) (1) .
9 ـ وقال التسولي:
كل مسألة يصح الجعل فيها مع اعتبار شروطه من عدم ضرب الأجل ونحوه يصح فيها الإجارة مع اعتبار شروطها أيضًا من ضرب الأجل وغيره، ولا عكس، ألا ترى أن حفر الآبار يصح بجعالة كما قال (كالحفر للبئر) بشرط أن تكون في غير ملك الجاعل. . ويصح إجارة أيضًا كانت في أرض يملكها الجاعل أم لا. . وكذا بيع الثياب يصح إجارة وجعالة، وكذا مشاركة الطبيب (ورد الآبق) والشارد يصح فيهما الأمران أيضًا، وتتفرد الإجارة بخياطة الثوب وحفر البئر في ملك الجاعل ونحوهما مما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك، فإنه لا يصح جعالة، وإنما يصح إجارة، فالإجارة أعم من الجعل مطلقا، كما قال خليل في كل ما جاز فيه الإجارة بلا عكس. . إلخ، وهذا واضح على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، وأما على مقابلة، وهو مذهب ابن القاسم من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل فيتساوى الجعل والإجارة، ولا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء.
(تنبيهان: الأول) قال في المطيطية: وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لا يأخذ شيئًا إلا بإدراك الحق (2) لأنه لا يعرف لفراغها غاية، فإن عمل هذا فله أجر مثله. أهـ. وقال قبل ذلك: ويجوز في أحد قولي مالك أن يجاعل الطبيب على البرء، والخصم على إدراك الحق، وهو المعمول به عند الموثقين. أهـ. ونحوه في المجالس المكناسية.
وما تقدم في الطبيب محله إذا كان الدواء من عند العليل، وإلا لم يجز، لأنه غرر، إن برأ أخذ حقه، وإلا ذهب دواؤه باطلاً، قال ابن ناجي: وبه حكمت (3) .
(1)(حاشية الصاوي: 4 / 74 و75)
(2)
(انظر: المدونة: 11 / 104)
(3)
(البهجة شرح التحفة: 2 / 178، وانظر أيضًا: حلي المعاصم مع البهجة)
10 ـ يفهم مما جاء في المدونة أن مالكًا يرى أن الأصل في إجارة الطبيب على العلاج أن تنصرف إلى العلاج حتى يبرأ المريض، ولو لم ينص في عقد الإجارة على ذلك، وأنه إذا لم يحصل البرء فإن الطبيب لا يستحق أجرًا إلا أن يكون المريض والطبيب قد شرطا خلاف ذلك من الشروط الحلال فيعمل بما شرطاه. ومن الشروط الجائزة والحلال في رأي سحنون اشتراط المريض على الطبيب أن يقدم له علاجًا معينًا كل شهر بدرهم، بشرط ألا ينقده الدرهم عند العقد، ثم إذا برأ المريض في نصف الشهر مثلاً فإن الطبيب يستحق نصف درهم فقط، وإنما شرط سحنون عدم النقد لئلا يتردد الدرهم بين السلفية والثمنية؛ لأن التردد بينهما من أبواب الربا؛ لأنه سلف جر نفعًا احتمالاً (1) .
ويلحظ أن ما في المدونة لم يرد في عبارة: (اشتراط البرء) على الطبيب؛ فهل يجوز هذا الشرط عند مالك؟
الظاهر أنه يجوز ويلزم؛ لأنه إذا كانت إجارة الأطباء تكون على البرء من غير شرط فإنها تجوز مع الشرط من باب أولى، ويكون هذا الشرط صحيحًا؛ لأنه مؤكد لمقتضى العقد فيجب الوفاء به.
11 ـ ويفهم من كلام الباجي أن لمالك قولين في الجعل للطبيب على البرء:
قول بعدم الجواز في المدونة، وقول بالجواز، قاله سحنون في رواية عن مالك، مثل الجعل على بيع ثياب قليلة.
ولم أجد في المدونة في كتاب الجعل والإجارة مما قاله الباجي شيئًا سوى جواز الجعل في بيع الثياب القليلة (2) ، وما في المدونة هو ما نقلته عن مالك في إجارة الأطباء، وواضح أنه مختلف عما قاله الباجي؛ لأن ما نقله الباجي عن مالك هو في الجعل للطبيب، وما نقلته عنه من المدونة هو في إجارة الطبيب.
12 ـ ويفهم من كلام ابن شاس أن مشارطة الطبيب على البرء؛ في جوازها وعدمه خلاف بين فقهاء المالكية يرجع إلى ترددها بين الإجارة والجعالة، ولم يذكر تفصيلاً في الموضوع، ولم يزد القرافي في الذخيرة على ما قاله ابن شاس.
(1)(حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 4 / 81)
(2)
(المدونة: 11 / 99)
13 ـ ولم يذكر خليل في مختصره مشارطة الطبيب على البرء، ولكن شارحه الدردير قال: إن مشارطة الطبيب على البرء مثل كراء السفينة؛ كلاهما إجارة لازمة، لا جعالة، إلا أن لهما شبهًا بالجعالة من حيث إنه لا يستحق الكراء إلا بتمام العمل، وهذا متفق مع ما جاء في المدونة، ويضيف الدردير أن مشارطة الطبيب على البرء إجارة لا جعالة، سواء وقعت بلفظ إجارة أو جعالة، ويوافقه الدسوقي على هذا.
14 ـ ويتفق كلام الدردير في الشرح الصغير وكلام الصاوي في الحاشية مع ما في الشرح الكبير وجاشيته في أن مشارطة الطبيب على إجارة لازمة بالعقد لا جعالة، ولكنه يختلف معه فيما لو حصل العقد على الجعالة، فقد جاء في الشرح الصغير وحاشيته أنها تكون جعالة غير لازمة تطبق عليها أحكام الجعالة.
ويضيف الدردير في الشرح الصغير أمرين:
الأول: إن القول بأن مشارطة الطبيب على البرء إجارة لا يستحق فيها الأجر إلا بالبرء وهو الأصح، وهو قول ابن القاسم وروايته في المدونة عن مالك، ولم يذكر مقابل القول الأصح.
الثاني: أن عدم استحقاق الطبيب شيئًا إذا ترك العمل قبل البرء مشروط بما إذا لم يتم العمل غيره، فإن أتمه غيره فله بحساب كرائه الأول.
15 ـ ويفهم من كلام التسولي أن مشاركة الطبيب تصح إجارة وجعالة، سواء مشينا على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، أو مشينا على مقابله من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل.
ويظهر من كلام التسولي أنه يعتبر مشارطة الطبيب على البرء مما لا تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك؛ لأنه جعل مع رد الآبق والشارد.
ويفهم أيضًا من كلام التسولي أن لمالك قولين في مجاعلة الطبيب على البرء: قول بالجواز، وقول بعدمه.
ويشترط التسولي لجواز مشارطة الطبيب على البرء أن يكون الدواء من العليل.
ثانيًا ـ مذهب الشافعية:
1 ـ قال الرملي في باب الجعالة:
ويستنبط منه (حديث أبي سعيد) جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من دواء أو رقية.
2 ـ قال الشبراملسي:
(ثم ينبغي أن يقال: إن جعل الشفاء غاية لذلك، كتداويني إلى الشفاء، أو لترقيني إلى الشفاء، فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل، وإن فعل ولم يحصل الشفاء لم يستحق شيئًا، لعدم وجود المجاعل عليه، وهو المداوة والرقية إلى الشفاء، وإن لم يجعل الشفاء غاية لذلك؛ كتقرأ على علتي الفاتحة سبعًا مثلاً استحق بقراءتها سبعًا؛ لأنه لم يقيد بالشفاء. . .)(1) .
3 ـ واضح من كلام الشبراملسي أن مشاركة الطبيب على البرء جائزة، وهي جعالة لا يستحق فيها الطبيب الجعل إلا إذا حصل البرء.
ثالثًا ـ الحنابلة:
1 ـ قال ابن قدامة:
ويجوز أن يستأجر طبيبًا ليداويه، والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء، إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب؛ لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه، وجرى العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ههنا، فثبت الحكم فيه على وفق الأصل (2) .
وذكر ابن قدامة في الكحال كلامًا كثيرًا ننقل منه الآتي:
ويجوز أن يستأجر كحالاً ليكحل عينه؛ لأنه عمل جائز، ويمكن تسليمه، ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله، مرة في كل يوم أو مرتين، فأما إن قدرها بالبرء، فقال القاضي: لا يجوز؛ لأنه غير معلوم.
وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء؛ لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، والصحيح ـ إن شاء الله ـ أن هذا يجوز، ولكن يكون جعالة لا إجارة، فإن الإجارة لا بد فيها من مدة، أو عمل معلوم، فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول كرد اللقطة، والآبق، وحديث أبي سعيد في الرقية، وإنما كان جعالة فيجوزها هنا مثله، فأما إن شارطه على البرء فإنه جعالة فلا يستحق شيئًا حتى يوجد البرء سواء وجد قريبًا أو بعيدًا. (3) .
(1)(نهاية المحتاج: 5 / 463) وانظر أيضًا: المجموع (التكملة الثانية) : 15 / 83)
(2)
(المغني: 5 / 542)
(3)
(المغني: 5 / 541 و542)
2 ـ وقال محشي المقنع:
((فائدة) لو قال: من داوى لي هذا حتى برأ من جرحه أو من مرضه أو رمده فله كذا لم يصح مطلقًا على الصحيح في المذهب) (1) .
3 ـ يفهم من كلام ابن قدامة أن استئجار الطبيب للمداوة جائز، ولكن يشترط فيه ما يشترط في الإجارة، فلا بد من تقديره بالمدة، ولو قدره بالبرء لا يجوز في قول القاضي؛ لأنه غير معلوم، ويجوز في قول أبي موسى، فقد قال: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء؛ لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، ويرى ابن قدامة أن مشارطة الطبيب على البرء إن كانت إجارة لا يجوز، وإن كانت جعالة تجوز؛ لأن الإجارة لا بد فيها من مدة أو عمل معلوم، والجعالة تجوز على عمل مجهول، وحديث أبي سعيد في الرقية كان جعالة لا إجارة، ولا يجوز عند ابن قدامة اشتراط الدواء على الطبيب.
4 ـ ويفهم من كلام محشي المقنع أن مشارطة الطبيب على البرء غير جائزة على الصحيح في المذهب، ولو كانت بصيغة الجعالة.
رابعًا ـ الحنفية:
أخرت الكلام عن مذهب الحنفية؛ لأني لم أقف على نص خاص بالمشارطة فيما اطلعت عليه من كتبهم، بل لم أجد لهم كلامًا صريحًا في صحة عقد الجعالة، أو عدم صحته، وتذكر بعض كتب الفقه المقارن أن أبا حنيفة لا يجوز الجعالة (2) ، وتذكر بعضها أنه يجوزها (3) .
والذي ظهر لي مما طلعت عليه من أقوال الحنفية أن الجعالة بين الأفراد لا تجوز عندهم؛ لأنها إجارة مجهولة (4) .
(1)(حاشية على المقنع: 2 / 293)
(2)
(بداية المجتهد: 2 / 232)
(3)
(المغني: 5 / 656)
(4)
(انظر: حاشية ابن عابدين: 5 / 79، وانظر أيضًا: كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 496 ـ 499)
حاصل آراء الفقهاء في مشارطة الطبيب على البرء
مشارطة الطبيب على البرء قد تكون بصيغة الإجارة
وقد تكون بصيغة الجعالة
فإن كانت بصيغة الإجارة فهي جائزة عند مالك كما جاء في المدونة والبهجة، والشرح الكبير وحاشيته، فلا يستحق الطبيب الأجر إلا بحصول البرء، وقال في الشرح الصغير: إن هذا هو الأصح.
وجوزها ابن أبي موسى من فقهاء الحنابلة كما يفهم من عبارة ابن قدامة في المغني، ولم أر من جوزها غيرهما.
وإن كانت بصيغة الجعالة، فهي جائزة عند الشافعية، وعند الحنابلة على الصحيح عند ابن قدامة، وغير جائزة على الصحيح في المذهب عند محشي المقنع، واختلف فقهاء المالكية فيها؛ فقال الباجي: إن لمالك فيها قولين: قول بعدم الجواز، وهو ما في المدونة، وقول بالجواز، وقال الدردير في الشرح الكبير والدسوقي: إن مشارطة الطبيب على البرء إجارة دائمًا، ولو وقعت بلفظ الجعالة، وقال الدرير في الشرح الصغير: إنها إجارة، ما لم يعقد على الجعالة، ووافقه الصاوي على أنها إجارة ما لم يصرح عند العقد بالجعالة، وإلا كانت جعالة غير لازمة.
ولا تجوز مشارطة الطبيب بصيغة الجعالة عند الحنفية، كما لا تجوز عندهم بصيغة الإجارة، حسب ما ظهر لي من أقوالهم في الجعالة، وإن كنت لم أقف لهم على نص في هذا الموضوع كما ذكرت.
هذا، وممن صرح بعدم جواز الجعالة على مشارطة الطبيب على البرء، الظاهرية، قال ابن حزم: ولا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلاً؛ لأنه بيد الله تعالى لا بيد أحد. . والبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى. (1) .
وصرح بعدم الجواز أيضًا الزيدية، وعللوا المنع بأن البرء غير مقدور للطبيب (2) . واشترط أكثر من جوز مشارطة الطبيب على البرء أن يكون الدواء على العليل، فإن شرط على الطبيب فسد العقد.
(1)(المحلى: 8 / 228)
(2)
(البحر الزخار: 4 / 46)
رأيي في مشارطة الطبيب على البرء
لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء، سواء أكانت بصيغة الإجارة أم بصيغة الجعالة:
1 ـ لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء بصيغة الإجارة؛ لأن فيها غررًا في محل العقد، وفي الشرط المقترن بالعقد؛ لأن المعقود عليه هو العلاج حتى البرء، وفي هذا غرر ناشئ عن الجهل بمدة العلاج، فقد يبرأ العليل بعد علاج يوم، وقد يبرأ بعد علاج أسبوع، وقد يبرأ بعد علاج شهر، هذا إذا برأ.
وفي عقد الإجارة هذا غرر آخر ناشئ عن الشرط، فالعليل يؤجر الطبيب على علاجه بشرط أن يبرأ من علته بمبلغ محدد، وهذا شرط فاسد مفسد للعقد، وسبب فساد هذا الشرط هو أنه شرط في وجوده غرر، فالبرء قد يحصل، وقد لا يحصل.
يقول الكاساني: من شروط صحة البيع (1) الخلو من الشروط الفاسدة، ثم يقول: والشروط الفاسدة أنواع: منها شرط في وجوده غرر، وهو أن يكون المشروط محتملاً للوجود والعدم، ولا يمكن الوقوف عليه للحال (2) .
ولهذا فإني أرى عدم جواز إجارة الطبيب على العلاج مع اشتراط البرء لاستحقاقه الأجر.
2 ـ ولا يجوز مشارطة الطبيب على البرء بصيغة الجعالة، لأن الجعالة كما عرفها ابن رشد هي:(الإجارة على منفعة مظنون حصولها)(3) .
والجعالة جائزة عند جمهور الفقهاء، ويقول المجوزون للجعالة: إنها في القياس غرر، لما فيها من جهالة العمل، وجهالة الأجل؛ لأن العامل يستحق الجعل عند فراغه من العمل، وهو وقت مجهول، وإنما جازت استثناء للحاجة إليها (4) .
(1)(الإجارة مثل البيع في هذا الحكم)
(2)
(البدائع: 5 / 168)
(3)
(بداية المجتهد: 2 / 235)
(4)
(المقدمات الممهدات: 2 / 304؛ والمجموع: 9 / 339؛ والبحر الزخار: 4 / 62؛ وانظر أيضًا: كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 494 ـ 498)
والحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر في عقود المعاوضات هي الحاجة المتعينة، ومعنى تعينها أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض سوى ذلك العقد الذي فيه غرر، وهذا المعنى غير متحقق في الجعالة على البرء، فالعليل يمكنه أن يتعاقد مع الطبيب بعقد الإجارة بشروطها الشرعية على العلاج، وهذا هو ما عليه عرف الناس، فلا حاجة إلى الجعالة على البرء، ثم إن البرء ـ كما يقول المانعون لمشارطة الطبيب على البرء ـ غير مقدور للطبيب، ولا يقدر عليه إلا الله (1) .
لهذا فإني أرى منع الجعالة على البرء ولو كان الدواء من العليل.
أما إذا كان الدواء على الطبيب فإن المنع يتأكد؛ لأن المجوزين لمشارطة الطبيب على البرء يشترطون ألا يكون الدواء على الطبيب، للأدلة التي ذكروها.
وحديث الرقية الذي استدل به مجوزو مشارطة الطبيب على البرء حديث صحيح، ولكن ليس فيه ما يدل على المدعى؛ لأن كل ما يدل عليه الحديث هو جواز أخذ الجعل على الرقية، وليس فيه ذكر للمشارطة على البرء. والله أعلم.
(1)(البحر الزخار: 4 / 46؛ والمحلى: 8 / 22)
الخاتمة
نتائج البحث
1 ـ التأمين الصحي نوع من أنواع التأمين الاجتماعي.
2 ـ التأمين الصحي هو نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن لهم في الحالات التي يحددها نظام التأمين نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا، وبصفة دورية، ويسهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تسهم الدولة في ذلك.
3 ـ التأمين الصحي تأمين حكومي ترعاه الحكومات، وتشرف عليه هيئة عامة، لها شخصية اعتبارية.
4 ـ التأمين الصحي إلزامي.
5 ـ البطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة العامة للتأمين الصحي إلى المؤمن له، تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي.
6 ـ أقل مزايا التأمين الصحي هي خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
7 ـ لا خلاف بين الفقهاء المعاصرين في جواز التأمين الصحي.
8 ـ الاتفاق بين المؤسسات، والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء، والعمليات، ونحوها غير جائز شرعًا؛ لأنه عقد إجارة، وعقد بيع، فيه غرر كثير مفسد للعقد.
9 ـ لا يجوز الاتفاق السابق أيضًا إذا كان بين شخص ومستشفى، لما فيه من الغرر الكثير.
10 ـ لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة في أي صورة من الصور.
11 ـ لا مانع من توسط شركة تأمين تعاونية بين المستفيدين والمستشفى بالطريقة المشروعة.
12 ـ الطريقة المشروعة لتوسط شركة التأمين التعاونية هي نظام التكافل الصحي الذي تمارسه بعض شركات التأمين الإسلامية في السودان.
13 ـ التكافل الصحي اختياري وهو مكمل للتأمين الصحي الإجباري، وليس بديلاً له، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجاري.
14 ـ اشتراط البرء لاستحقاق المقابل لا يجوز في رأيي، سواء كان بين المؤسسة والجهة المعالجة، أو بين المريض والجهة المعالجة، أو بين شركة التأمين التعاونية والجهة المعالجة، وسواء كان في عقد إجارة أو عقد جعالة.
والمنع هو رأي جمهور الفقهاء، إذا كان الاشتراط في عقد إجارة، ورأي جمهور الفقهاء، أيضًا إذا كان الاشتراط في عقد جعالة، وكان الدواء من الجهة المعالجة.
ومنع بعض الفقهاء اشتراط البرء لاستحقاق المقابل مطلقًا.
ملخص البحث
أولاً ـ التأمين الصحي، التعريف بـ التأمين الصحي والبطاقة الصحية وحكمها:
1 ـ ينقسم التأمين باعتبار الهدف منه إلى التأمين الاجتماعي، والتأمين الخاص، والهدف من التأمين الاجتماعي تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، أما التأمين الخاص فالهدف منه مصلحة المستأمن الخاصة.
ويدخل التأمين الصحي في نطاق التأمين الاجتماعي، وعرفه بعضهم بأنه:
نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن له في الحالات التي يحددها نظام التأمين، نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا وبصفة دورية، ويساهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تساهم الدولة في ذلك.
والتأمين الصحي ترعاه الحكومات، فهو تأمين حكومي، وتتولى إدارته هيئة عامة لها شخصية اعتبارية.
والتأمين الصحي إلزامي لدى الهيئة على جميع العاملين في الدولة.
والبطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة للمؤمن له تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي.
والمزايا التأمينية التي يقدمها نظام التأمين الصحي تختلف من دولة لأخرى، وتشمل على أقل تقدير خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
والتأمين الصحي بهذا المفهوم لا أعلم خلافًا في جوازه، وقد صدرت قرارات من بعض المجامع الإسلامية بجوازه، والدعوة إلى تعميمه.
وجواز التأمين الصحي يستند إلى مصلحة الرعية المنوط بالراعي تحقيقها في تصرفاته.
ثانيًا ـ حكم الاتفاق بين المؤسسات، وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين مع الالتزام بالدواء، والعمليات ونحوها.
هذا الاتفاق فيه عقدان، عقد إجارة، وعقد بيع، عقد إجارة بالنسبة للعلاج ونحوه، وعقد بيع بالنسبة للدواء ونحوه، فيجب أن تتوافر فيه شروط العقدين، ومن شروط صحة عقد البيع وعقد الإجارة الخلو من الغرر، وهذا الاتفاق يحيط به الغرر من كل جوانبه، ففيه غرر ناشئ عن الجهل في محل عقد الإجارة، ومحل العقد فيها هو (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) فيدخله الغرر من حيث جهالة الموظفين إذا لم يكونوا معدودين، ومن حيث جهالة من سيحتاج للعلاج منهم، سواء كانوا معدودين أو غير معدودين، ومن حيث نوع العلاج الذي يحتاجون إليه.
وفيه غرر في عقد البيع بالنسبة للدواء؛ لأنه مجهول النوع ومجهول المقدار.
والغرر الذي في هذا الاتفاق كثير في عقد البيع الذي ورد فيه النهي خاصة، وفي عقد الإجارة الذي أجمع الفقهاء على إلحاقه بالبيع، والغرر في المعقود عليه أصالة، ولا حاجة تدعو إلى هذا الاتفاق؛ لأن العلاج يمكن الوصول إليه بطرق أخرى مشروعة غير هذا الطريق الذي فيه غرر.
ولهذا فإني أرى منه منع هذه الصورة من الاتفاق.
ثالثًا ـ حكم ما لو كان العقد بين الشخص، وبين المستشفى:
الحكم في هذه الصورة كالحكم في الصورة السابقة، وهو المنع؛ لأن في هذا العقد غررًا ناشئًا عن الجهل بنوع الدواء ومقداره، والجهل بالمدة التي يمكثها المريض في المستشفى، كما في الصورة السابقة، وفيه زيادة على ذلك غرر ناشئ عن الجهل بحصول العلاج، فقد يدفع الشخص المبلغ المتفق عليه، ولا يحتاج إلى علاج في المدة المحددة، وقد يموت ذلك الشخص في منزله، أو يموت بحادث في الطريق، ولا يكون المستشفى قد قدم له أي علاج، فبأي وجه يستحل المستشفى ما أخذه منه؟!
رابعًا ـ حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج:
لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج في أي صورة من الصور؛ لأن التأمين الذي تمارسه شركات التأمين التجارية حرام بجميع أنواعه، وقد صدر بالتحريم قرار من المجمع الفقهي بمكة المكرمة، ومن مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
أما توسط شركة تأمين تعاونية إسلامية فلا مانع منه؛ لأن التعامل مع شركات التأمين التعاونية الإسلامية جائز عند جميع الفقهاء المعاصرين، لكن يأتي السؤال عن الطريقة التي تتوسط بها شركة التأمين التعاونية، فإذا كان المقصود التوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى بنفس الطريقة المذكورة في ثانيًا: وثالثًا، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن تلك الطريقة ممنوعة لذاتها بصرف النظر عمن يتولاها.
والطريقة المشروعة للتوسط بين المؤسسة والمستشفى هي ما تمارسه بعض شركات التأمين التعاوني الإسلامية تحت نظام التكافل الصحي، وهذا النظام معمول به عندنا في السودان، مع نظام التأمين الحكومي، ولا تعارض بينهما؛ لأن بينهما فروقًا كثيرة منها: أن التأمين الصحي الحكومي من التأمين الاجتماعي، وهو إجباري، والتكافل الصحي من التأمين الخاص، وهو اختياري فالتكافل الصحي مكمل للتأمين الصحي، وليس بديلاً له، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجارية.
ويقوم نظام التكافل الصحي على نفس الأسس التي يقوم عليها نظام التأمين التعاوني، والشركة لا تتعاقد مع المستشفى على معالجة المشتركين مسبقًا نظير مبلغ محدد، وإنما الذي يتعاقد مع المستشفى هو المشترك نفسه عندما يذهب للعلاج، ثم يطالب الشركة بمزايا التكافل الصحي المتفق عليها في العقد بينه وبين الشركة.
خامسًا ـ حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل:
تكلم فقهاء المذاهب الفقهية عن هذه المسألة، واختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا. جاء في المدونة:(قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه، وإلا فلا شيء له) ومؤدى هذا أن الإمام مالكًا يجوز اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في إجارة الطبيب.
ووافق الإمام مالكًا ابنُ موسى من فقهاء الحنابلة.
وخالفهما جمهور الفقهاء، فمنعوا إجارة الطبيب على العلاج مع اشتراط البرء لاستحقاق الأجر.
وجوز اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في عقد الجعالة الشافعية، والحنابلة على الصحيح عند ابن قدامة، ومالك في أحد قوليه، كما حكاه الباجي في المنتقى، والتسولي في البهجة، واقتصر على هذا القول الدردير في الشرح الصغير، ووافقه عليه الصاوي.
واشترط ابن قدامة والتسولي أن يكون الدواء من العليل، فإن شرط على الطبيب فسد عقد الجعالة.
ومنع مشارطة الطبيب على البرء في عقد الجعالة الزيدية، والظاهرية، والحنفية كما ظهر لي من أقوالهم، ومالك في أحد قوليه، والحنابلة على الصحيح في المذهب عند محشي المقنع.
وأرجح منع مشارطة الطبيب على البرء مطلقًا سواء أكانت في عقد إجارة أو عقد جعالة، وسواء شرط الدواء على الطبيب أم كان على العليل؛ لأنها إن كانت في عقد إجارة يكون فيها غرر في محل عقد، وهو العلاج حتى البرء، وهذا الغرر ناشئ عن الجهل بمدة العلاج، فقد يبرأ العليل بعد علاج يوم، وقد يبرأ بعد علاج أسبوع، وقد يبرأ بعد علاج شهر، هذا إذا برأ.
وفي عقد الإجارة هذا غرر آخر ناشئ عن الشرط، لأن اشتراط البرء على الطبيب شرط في وجوده غرر؛ لأن البرء قد يحصل وقد لا يحصل، والشرط الذي في وجوده غرر من الشروط الفاسدة المفسدة للعقد.
هذا بالنسبة لعقد الإجارة، أما اشتراط البرء لاستحقاق الجعل في عقد الجعالة فلا يجوز أيضًا؛ لأن الجعالة في القياس غرر، لما فيها من جهالة العمل، وجهالة الأجل، وإنما جازت استثناء للحاجة إليها في رد البعير الشارد ونحوه.
ولا حاجة تدعو إلى مجاعلة الطبيب على البرء، ثم إن البرء ـ كما يقول المانعون ـ غير مقدور للطبيب، ولا يقدر عليه إلا الله.
والله أعلم.
القرار المقترح
1 – التأمين الصحي الذي ترعاه الحكومات وتديره هيئة عامة لمصلحة المؤمن لهم جائز شرعا، وينبغي تعميمه.
2 – الاتفاق بين المؤسسات، والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء، والعمليات، ونحوها، غير جائز شرعا؛ لأنه عقد إجارة، وعقد بيع، فيه غرر كثير مفسد للعقد.
3 – لا يجوز الاتفاق السابق أيضا، إذا كان بين شخص ومستشفى لما فيه من الغرر الكثير.
4 – لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة في أي صورة من الصور.
5 – يجوز توسط شركة تأمين تعاونية بين المستفيدين والمستشفى بالطريقة المشروعة.
6 – الطريقة المشروعة لتوسط شركة التأمين التعاونية هي نظام التكافل الصحي الذي تمارسه بعض شركات التأمين الإسلامية في السودان.
7 – اشتراط البرء لاستحقاق المقابل لا يجوز مطلقا، أي سواء أكان بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى، أو بين شركة التأمين التعاونية والمستشفى، وسواء أكان في عقد إجارة أو في عقد جعالة.
والله أعلم.
13 من صفر 1417
29/6/1996
الصديق محمد الأمين الضرير
المصادر
كتب الفقه
المذهب الحنفي:
1 ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر مسعود الكاساني المتوفى 587هـ، مطبعة الجمالية مصر 1910م.
2 ـ رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين بن عمر عابدين الشهير بابن عابدين المتوفى 1252هـ، طبعة بولاق.
المذهب المالكي:
3 ـ المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم بن أنس الأصبحي المتوفى 179هـ ـ مطبعة السعادة 1323هـ.
4 ـ المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي، المتوفى 494هـ، مطبعة السعادة.
5 ـ عقد الجواهر الثمينة، جلال الدين عبد الله بن نجم شاس، المتوفى 616هـ، مطبعة دار الغرب الإسلامي.
6 ـ الذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، المتوفى 684هـ، مطبعة دار الغرب الإسلامي.
7 ـ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير، المتوفى 1201هـ، مطبعة الأزهرية.
8 ـ الشرح الصغير مع حاشية الصاوي، الدردير، مطبعة دار المعارف.
9 ـ البهجة في شرح التحفة، أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي، المطبعة البهية.
10 ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرطبي، المتوفى 595هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
المذهب الشافعي:
11 ـ التكملة الثانية، المجموع شرح المهذب، مطبعة دار الفكر.
12 ـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس بن حمزة بن شهاب الدين الرملي، المتوفى 1004هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
المذهب الحنبلي:
13 ـ المغني، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المتوفى 620هـ، طبعة عالم الكتب ـ بيروت.
14 ـ حاشية على المقنع، مطبعة مكتبة الرياض الحديثة.
المذاهب الأخرى:
15 ـ البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور الحسني، المتوفى 840هـ، مطبعة القاهرة.
16 ـ المحلى، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المتوفى 456هـ، مطبعة الإمام.
مؤلفات أخرى:
17 ـ الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، الطبعة الثانية 1416هـ.
كتب القانون:
1 ـ الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
2 ـ التأمين في القانون المصري والمقارن، للدكتور عبد المنعم البدراوي، مطبعة نهضة مصر.
3 ـ الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، للدكتور السيد عبد المطلب عبده، الطبعة الأولى.
4 ـ التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، المركز العربي للتأمينات الاجتماعية.
5 ـ التأمينات الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي في الإسلام، المركز العربي للتأمينات الاجتماعية ـ الخرطوم.
6 ـ قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م ـ السودان.