الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقف النقدي
مدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرة
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد - جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يحتل الوقف موقعه المتميز في التشريع الإسلامي للأعمال الخيرية التي حض الإسلام عليها، فهو يعد من أبرز أساليب إنفاق الأموال في وجوه الخير، ويكفي اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له كأفضل أسلوب لتلبية رغبة قوية لدى سيدنا عمر رضي الله عنه في التصرف الخيري في أحسن مال أصابه. ونظراً لهذه الأفضلية التي يتحلى بها الوقف، فقد ثبت أنه لم يبق من صاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد له قدرة على الوقف إلا ووقف (1) . كما أنه لم يخل عصر من عصور الإسلام ولا دولة من دولة إلا وكان فيه مئات الواقفين على مختلف وجوه البر والخير.
ونتيجة لذلك التقدير الإسلامي الكبير للوقف نظريًّا وعمليًّا فقد جاءت نتائجه وآثاره الخيرة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على نفس المستوى من المكانة والأهمية، بل لا نبالغ إن قلنا: إن مؤسسة الوقف في العالم الإسلامي الماضي لم ينافسها أو يضارعها مؤسسة أخرى من حيث الآثار الإيجابية المتعددة والمتنوعة على المجتمع الإسلامي عبر عصوره المختلفة، يستوي في ذلك عصور الازدهار وعصور الاضمحلال (2) .
(1) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1401هـ: 5/ 599؛ القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994م: 6 / 323.
(2)
يراجع في ذلك: د. شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، العدد (24) 1415هـ؛ حلقة إدارة وتثمير الممتلكات الوقفية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 1410هـ؛ أعمال ندوة إحياء دور الوقف في الدول الإسلامية، رابطة الجامعات الإسلامية، بور سعيد، 1998م؛ د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، المكتب الإسلامي، بيروت؛ أعمال ندوة الوقف، الجمعية الخيرية الإسلامية، القاهرة، فبراير 2000م.
واليوم، وفي ظل العديد من الملابسات القائمة، فإن الحاجة إلى الوقف تزداد إلحاحاً لما يتوقع منه من إسهام بارز وأساس في إشباع العديد من الحاجات الأساسية على مستوى الأفراد والمجتمعات.
وبرغم ما قام به الوقف في الماضي من إسهامات بارزة في حياة المجتمع الإسلامي وتطوره وارتقائه، وبرغم الحاجة الملحة حاليًّا لقيام الوقف بدوره المهم والضروري في نهضة ورقي مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، فإن واقع الوقف الآن ينبئ عن ضعف وتدهور واضمحلال وانزواء له ولدوره، بعبارة أخرى: إن الوقف في أيامنا هذه يعيش (أزمة قاسية) تكاد تذهب به، رغم مسيس الحاجة إليه من جهة، ورغم ما يمتلكه من إمكانات من جهة أخرى. وفي هذا ذروة المأساة التي يعايش منها عالمنا الإسلامي المعاصر الكثير والكثير.
ترى: ما هي جوانب الأهمية المتزايدة لدور الوقف في حياتنا المعاصرة؟ وما هي العوامل والأسباب وراء تدهور الوقف وضعفه الشديد، ومن ثم عدم قدرته على القيام بدوره المنوط به؟ وكيف يمكن معالجة هذه العوامل والتغلب عليها وبالتالي يسترد الوقف عافيته ويمارس بكفاءة وفاعلية دوره المهم؟
هذا ما تحاول الورقة الراهنة الإجابة عليه، على تنوع في طبيعة الإجابة على هذه التساؤلات، ما بين إجابة مجملة وسريعة، لا تتعدى الإشارة إلى رؤوس المسائل، وإجابة مبسوطة مفصلة، وإجابة وسيطة فيها الإيجاز مع قدر من التفصيل.
وينبغي التنبيه على أن الموضوع الرئيسي للورقة هو الوقف النقدي، وما التعرض لبقية المسائل إلا من باب التوطئة والتكملة، مع ملاحظة أن لهذا الموضوع الرئيسي حضوره البارز في ثنايا التساؤلات الثلاثة المذكورة والإجابة عليها.
وفي ضوء ذلك فإن مخطط الورقة يقوم على ما يلي:
القسم الأول: الوقف بين اضمحلاله واقعيًّا وشدة الحاجة إليه.
القسم الثاني: الوقف النقدي - فقهه واستثماره وإدارته وآثاره.
* * *
القسم الأول
الوقف بين الاضمحلال والحاجة الملحة إلى الازدهار
1 -
اضمحلال الوقف الحاضر:
ظاهرة اضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر لا تحتاج إلى دليل أو برهان، والمؤشرات عليها كثيرة: حجم الأموال الموقوفة ونسبتها إلى الثروة القومية، ومعدل نموها السنوي (إن كان هناك نمو إيجابي لها) ومقارنته بمعدل نمو الدخل القومي، ومقدار ما تدره من عوائد ودخول ونسبة ذلك إلى الدخل القومي
…
وغير ذلك من المؤشرات، وبالطبع فإن دراسة تطبيقية تحليلية لهذا الجانب تحتاج أعمالا بحثية مستقلة، ويكفينا هنا التذكير والتأكيد على ما هو باد للأنظار من تدهور واضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر بوجه عام، ولا يتعارض ذلك مع ما نشاهده من نمو وازدهار للوقف في دول إسلامية قليلة على رأسها دولة الكويت.
وعندما نقول: إن الوقف المعاصر متدهور ومضمحل؛ فإننا نعنى بذلك ما هنالك من فروق متسعة إن لم تكن شاسعة بين ما يمارسه الوقف حاليا من أدوار وما كان يمارسه سلفا في مجتمعاتنا الإسلامية، وشتان بين هذا وذاك، وما هنالك من فروق متسعة بين ما عليه الوقف الآن وما يمكن أن يكون عليه، وشتان بين الكائن وما يمكن أن يكون.
2 -
عوامل اضمحلال الوقف الحاضر:
لكل ظاهرة تفسير وعوامل ترتكز عليها، فما هي العوامل وراء هذه الظاهرة؟
إن الإجابة المفصلة عن ذلك تتطلب العديد من الأبحاث المستقلة الكبيرة، لكثرة هذه العوامل من جهة، ولتعقدها وتشعبها من جهة ثانية، ولتعدد طبائعها من جهة ثالثة.
وليس من مهمة هذه الورقة الدخول في لجة هذا الجانب ولا حتى السير في طريقه، وإنما فقط الإطلالة عليه من خلال الإشارة السريعة إلى بعض ملامحه الكبرى.
وبرغم كثرة وتنوع وتشعب هذه العوامل فإنه يمكن حصر أهمها في بنود رئيسية على النحو التالي:
1 -
الضبابية المعرفية للبعد الفقهي للوقف لدى أعين الكثير من الناس حتى من كان منهم من رجال الفقه والفكر، فلقد شاع لدى الكثير العديد من التصورات والمواقف المتعلقة بفقه الوقف، وهي في حقيقتها غير صحية فقهيا، وقد أسهم ذلك بقوة في انزواء الوقف دوره، أذكر من ذلك ما يلي مجردا من التأصيل والتحليل لأن ذلك يخرج الورقة عن مقصودها الأساسي:
أ- شاع أن الموقوف من الأموال إنما هو فقط الأموال الثابتة من أراض وعقارات، ولا مجال للأموال المنقولة، ومن باب أولى لا مجال للنقود في أن تكون محلا للوقف، والصحيح فقهيا غير ذلك، فجميع المذاهب الفقهية الإسلامية متفقة على أن الأموال الثابتة تصح محلا للوقف، والكثير من المذاهب ومن العلماء في بعض المذاهب يجيز وقف الأموال المنقولة، ويجيز - بالنص والتصريح - وقف النقود، بل ويجيز وقف المنافع كنوع من أنواع الأموال (1) ، وبالتالي فما يشيع لدينا اليوم حيال هذه المسألة غير صحيح فقهيا وشرعيا.
ب - شاع أن الوقف يكون على طريق التأبيد وليس التوقيت. وهذا غير صحيح فقهيا، والصحيح أن هذا هو موقف بعض المذاهب، بينما يذهب البعض الآخر إلى جواز كون الوقف مؤقتا. (2)
(1) الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة: 4 / 76؛ الرملي، نهاية المحتاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت: 5 / 360؛ النووي، روضة الطالبين، دار الكتب العلمية، بيروت: 4 / 378.
(2)
الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 87؛ ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة، دار الغرب الإسلام، بيروت، 1415 هـ: 3 / 37؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق: 5 / 623؛ الماوردي، الحاوي الكبير، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، 1414 هـ: 9 / 381؛ أحمد ين يحيى المرتضى، عيون الأزهار، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1975 م، ص 360.
ج- شاع أن الوقف يكون بالضرورة على سبيل اللزوم ولا مجال للجواز فيه، ومن ثم لا إمكانية لفكرة الرجوع فيه، ولا التعليق، ولا الاشتراط المتعلق بذلك، مع أن الفقه يحتوي على القول بكل ذلك. (1)
د - شاع أن الوقف عمل مفرد، يقوم به شخص واحد على موقوف عليه واحد. والصحيح فقها أن الوقف كما أنه عمل مفرد، فهو أيضا عمل مشترك، على مستوى الواقفين والموقوف عليهم، والكثير من أمهات الكتب الفقهية في المذاهب المختلفة تنص صراحة على ذلك. (2)
هـ - شاع أنه لا إبدال أو استبدال في الوقف لا من حيث الأموال الموقوفة ولا من حيث الجهات الموقوف عليها، مع أن الفقه على لسان الكثير من علمائه يجيز ذلك في ظل ضوابط وملابسات معينة، تحافظ على الوقف من جهة، ومقصوده من جهة ثانية، وتتوسع بعض المذاهب في جواز ذلك إلى حد كبير. (3)
و شاع أنه لا مجال لانتفاع الواقف بوقفه دنيويًّا بأي صورة من الصور، مع أن الفقه يجز ذلك (4) .
ز - وأخيراً وليس آخراً شاع أن شروط الواقف تقدر وتحترم مهما كانت طالما لم تكن في طياتها معصية. ولا أظن أن أحداً من القراء والمهتمين لم يسمع بهذه العبارة " شرط الواقف كنص الشارع "، والحق فقهيًّا أن شروط الواقف تحترم وتصان طالما كانت في تناغم واتساق مع القواعد الشرعية ومن جهة، ومع مقاصد ومرامي الوقف من جهة أخرى، وإلا تسلب عنها هذه القدسية والاحترام، وفي الفقه أمثلة عديدة لما يمكن، بل لما يجب الخروج عليه وإهداره من شروط لبعض الواقفين (5) .
(1) السرخسي، المبسوط، دار المعرفة، بيروت، 1989 م: 12 / 27 وما بعدها؛ ابن عابدين، رد المحتار، دار الفكر، بيروت، 1979 م: 4/ 338؛ الدسوقي، مرجع سابق: 4/ 89؛ القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994 م: 6 / 32؛ المهدي المرتضى، عيون الأزهار، مرجع سابق، ص 361.
(2)
السرخسي، المبسوط، مرجع سابق: 12 / 38؛ ابن قدامة، المغني: 5 / 633؛ سحنون، المدونة، دار صادر، بيروت: 6 / 99.
(3)
المهدي المرتضى، مرجع سابق، ص 360؛ المبسوط: 12 / 41؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 384.
(4)
عبد الرحمن بن قاسم، مجموع فتاوى ابن تيمية، الرياض، 1398هـ: 31 / 212 وما بعدها؛ ابن قدامة، مرجع سابق: 5 / 633؛ ابن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، العدد (147) ، 1421هـ؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 384 وما بعدها.
(5)
محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971م ن ص 136 وما بعدها؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4/ 387؛ الحطاب، مواهب الجليل: 5/ 36؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 31/43 وما بعدها.
هذه مجرد نماذج أو عينة لما هنالك من تصورات شائعة لدى العديد من المهتمين بالقضية تحسب على فقه الوقف، وفقه الوقف منها براء. ومعنى هذا أن هناك ضبابية معرفية حيال بعض الجوانب الفقهية للوقف، وقد كان لهذه الضبابية الفقهية أثر سلبي بارز على عملية الوقف، فحالت دون الكثير من الأموال وكونها محلًّا للوقف، مع أنها تمثل في حياتنا المعاصرة أموالاً ذات شأن إن لم تكن أهم الأموال، فليس هناك من لا يمتلك نقوداً وإن قلت، لكن الكثير والكثير لا يمتلك أراضي أو عقارات، وحالت دون إقدام العديد من الأفراد على الوقف لأنهم قد يكونون حاليًّا في حاجة إلى بعض الإيرادات، وقد يكونون مستقبلاً في حاجة إلى هذه الأموال، والقول باللزوم وعدم الجواز وبالتأبيد وعدم التوقيت وبعدم الانتفاع ولو كان جزئيًّا يحول دون إقدام هؤلاء الأفراد على الوقف، ومن الذي يملك اليوم أن يقيم بمفرده مشروعاً صحيًّا أو تعليميًّا أو سكنيًّا أو دينيًّا!! إنهم قلة بجوار الكثرة الكاثرة التي لا يمكنها ذلك بمفردها، ولكن يمكنها ذلك مشاركة، وشيوع فكرة فردية الوقف تحول دون ذلك.
والقول بعدم جواز الإبدال في الوقف مهما كانت الظروف والملابسات أدى إلى خراب الكثير من الأموال الموقوفة وضياعها، مما جعل الأنظار تعرض عن الوقف لأنها ترى مآله، ومن ثم عدم تحقق غرض الواقف منه.
والقول بالاحترام المطلق لشروط الواقف أيًّا كانت تسبب من جهة في إقدام الكثير من الحكومات على التدخل القاسي في تنظيم الأوقاف وتقنينها وحظر بعضها، كما تسبب من جهة أخرى في تدهور العديد من الأوقاف بذريعة أن هذا هو شرط وكلام الواقف.
إن توفير الطمأنينة الكافية للواقف حيال تنفيذ وتطبيق شروطه ومقولاته أمر على أعلى درجة من الأهمية لإقدام الناس على الوقف، وهذا أمر قد وعاه الفقه حق الوعي، لكنه مشروط بكونه كلاماً رشيداً عقلانيًّا محققاً بالفعل لمصلحة الواقف ومصلحة الموقوف عليه ومصلحة المجتمع، وبالتالي فالمسألة في حاجة إلى توعية جيدة للأفراد، وتدخل حميد من قبل الجماعة والدولة عند اللزوم. وعدم توفر الوعي الكافي لدى الجميع بجواز وقف المنافع - مع أن ذلك منصوص عليه صراحة في الفقه المالكي - حد كثيراً من فعالية الوقف واتساع نطاقه، مع أن المنافع أموال وهي باقية ببقاء العين، وأهميتها لا تقل عن أهمية العين المادية، بل إن وجودها في العين هو الذي يجعل للعين قيمة اقتصادية.
2-
عدم وجود صيغ وأساليب عصرية لقيام عملية الوقف، من حيث الإدارة والاستثمار والصيانة وغير ذلك، أو على الأقل عدم وجود علم بها ودراية من قبل جماهير الناس. مع أن الواقع المعاصر بما فيه من أوضاع وملابسات في حاجة ماسة إلى صور وأساليب عصرية ملائمة له، حتى يقدم بفعالية على هذا العمل الخيري.
3-
وجود تشريعات وقوانين معوقة في كثير من الدول الإسلامية، تحول بين العديد من الأفراد والقيام بالوقف.
4-
فقدان الثقة في إدارة الوقف والقيام الصحيح على شؤونه بما يحافظ على الحقوق الوقفية.
إن خلاصة ما يمكن الخروج به من نتائج جوهرية من هذه الفقرة أن فقه الوقف يقوم على قدر كبير من المرونة التي تجعل الوقف ذا قابلية عالية للتطوير في ضوء العوامل المستجدة، وذا قدرة كبيرة على التكيف الإيجابي مع هذه العوامل، لاسيما إذا ما التفتنا إلى نقطة قوية لها أهميتها في هذا المجال؛ وهي الطبيعة الدينية للوقف، وهل هو عمل ديني تعبدي محض أم هو عمل ديني معقول المعنى ذو غرض ومقصد يرجع إلى منفعة الواقف ومنفعة الموقوف عليه؟ وبالتالي فقد يجمد ويثبت ويسكن مهما تغيرت الظروف، أو يتطور ويتعدل بتغير الظروف والأوضاع، وبعبارة أخرى: هل للمصلحة المعتبرة شرعاً مدخل في تشريع الوقف؟ فإن قلنا: نعم، وهذا هو الصحيح، طبقاً لما ذكره الفقهاء، ولما قام به من تحليل قيم وتأصيل دقيق الشيخ عبد الله بن بيه (1) ، فإن معنى ذلك اكتساب عملية الوقف المزيد من المرونة والقدرة على التكيف والمواءمة.
(1) مرجع سابق.
3-
اشتداد الحاجة المعاصرة إلى دور فعال للوقف:
في الفقرات السابقة أشرنا إلى ضعف واضمحلال الوقف اليوم، وإلى أنه قابل للتقوية والازدهار شريطة القيام ببعض المهام الفكرية والعملية، فهل هناك من حاجة تبرر القيام بهذه الجهود؟ والجواب: نعم، وبيان ذلك إجمالاً فيما يلي:
1-
تقلص الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل التوجهات المعاصرة القوية نحو الاعتماد الأساسي على القطاع الخاص في إدارة وتسيير الاقتصاد القومي، وفي قيام الأفراد من خلال المؤسسات الأهلية أو المدنية بالدور الاجتماعي كله أو جله. وهنا يمكن لمؤسسة الوقف أن تحتل مكاناً متميزاً في الإسهام البارز في تلبية العديد من المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات.
2-
وامتداداً للبند السابق فإن القدرات المالية للدولة في ظل التوجهات العصرية المشار إليها سلفاً أصبحت محدودة إلى حد كبير، وذلك للحيلولة بين الدولة وبين الكثير من الضرائب التي كانت تجيبها قبل ذلك. وبالتالي فإن إشباع الكثير من الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية بات يتطلب تمويلاً من خارج موازنة الدولة، ولا بديل لذلك إلا القطاع المدني أساساً، وكذلك القطاع الخاص (الاقتصادي) تطوعاً، والوقف يمثل صيغة وأسلوباً تمويليًّا يستطيع سد الكثير من الحاجات.
3-
في ظل الوضعية الراهنة فإن العديد من الدول قد لا تجد أمامها مخرجاً سوى اللجوء إلى الخارج طالبة ما تحتاجه من تمويل بمختلف صوره، وسوءات مثل هذه التمويل ظاهرة للعيان.
4-
يعيش العالم الإسلامي المعاصر تخلفاً خطيراً في التعليم والبحث العلمي، وما يرصد لذلك في موازنات الدول الإسلامية من الضآلة بمكان، الأمر الذي يعمق من التخلف العلمي في هذا العالم، مما يزيد من تخلفه الاقتصادي ويرمي بعقبات كئود أمام تقدمه وتنميته. واحتلال اقتصاد العلم والمعرفة وما يطلق عليه الاقتصاد الجديد للمكانة الأولى في مقومات تقدم الأمم المعاصرة أمر معروف مشهود، فكيف تمول هذه المرافق والمراكز في ظل شح الإيرادات العامة؟ أيترك ذلك للقطاع الخاص المعني كل العناية بتحقيق أقصى الأرباح، ومن ثم الانصراف إلى المشروعات التي تحقق له ذلك، وبديهي أنَّ مراكز ومرافق التعليم الجاد والبحث العلمي الحقيقي قد لا تروق لهم؟ أم يترك لجهات خارجية لا تخلو بواعثها ومقاصدها من شبهات؟ أم أن المدخل الحقيقي الإيجابي في ذلك هو استخدام الوقف، كما استخدم في الماضي وأثمر رقيًّا علميًّا إسلاميًّا محل اعتراف الجميع؟
5-
زيادة حدة الفقر واتساع الفجوة التوزيعية في العالم الإسلامي يوماً بعد يوم! حيث يضرب الفقر بأنيابه ما يناهز (60 %) من سكان العالم الإسلامي (1) . وشواهد الحال تشير بما يشبه اليقين والتأكيد إلى أنه في ظل ما يجري على الساحة العالمية والمحلية من عولمة وخصخصة وغير ذلك سوف يتزايد نطاق الفقر وتشتد حدته ويتسع التباين في التوزيع. وعلى العالم أن يواجه هذه المشكلة بما تستحقه من اهتمام وعناية لما لها من آثار بالغة الخطورة على أمنه واستقراره، بل على وجوده. ومن فضل الله على العالم الإسلامي أنه يمتلك أداة قوية لمواجهة هذه المشكلة وهي الوقف طالما أحسن التعامل معها.
6-
وما يزيد من حدة الفقر وسوء التوزيع عدم توفر فرص العلاج الجيد أمام الجماهير الفقيرة من الأفراد، فالمستشفيات والمراكز الطبية الحكومية آخذة في الانكماش من جهة، كما أن خدماتها الطبية متدنية من جهة أخرى، لقلة الإمكانات وسوء الإدارة، كما أن المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة (الاستثمارية) باهظة العبء والتكلفة، الأمر الذي يحول بين الفقير ودخولها والاستفادة منها، ومن ثم يشيع المرض ويتوطن بين الفقراء وما أكثرهم، فيضعف من قدراتهم الإنتاجية وبالتالي يزيدهم فقراً. ولا مناص في كسر هذه الحلقة المفرغة من اللجوء إلى القطاع المدني أو المؤسسات المدنية والجمعيات الخيرية للإسهام الجاد في علاج هذا الموقف، وقد قام الوقف بذلك في الماضي خير قيام، وهو جدير بالقيام بذلك في الحاضر.
7-
وبعد كل ذلك وقبله فإننا في حاجة ماسة إلى منهج يجمع بين البعد الاقتصادي والبعد الروحي ويحقق لنا رقيًّا اقتصاديًّا أخلاقيًّا وروحيًّا، والوقف يوفر لنا ذلك.
هذه بعض الاعتبارات والحيثيات التي تثبت وتبرهن على صحة مقولتنا باشتداد الحاجة حاليًّا إلى الوقف وإعادة الاعتبار له.
وفي القسم الثاني نطرح للبحث والنقاش صيغة من صيغ الوقف أو نوعاً من أنواعه نرى فيه إمكانيات كبيرة للقيام بدور فعال، وهو الوقف النقدي.
* * *
(1) البنك الإسلامي للتنمية، التقرير السنوي 99 / 2000 م، ص 51 وما بعدها.
القسم الثاني
الوقف النقدي
يمكن القول: إن الوقف النقدي يمتلك الكثير من المقومات التي تؤهله للقيام بدور بارز في تحقيق رسالة الوقف الخيرية الإنمائية على الوجه المرضي، ومن ثم فإن الاهتمام بهذا النوع من الوقف وبذل الجهد لبلورته وتطويره يعد مدخلاً أساسيًّا لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرة، وفيما يلي نعرض لأهم محاور هذا الموضوع:
1-
مفهوم الوقف النقدي: المقصود بذلك وقف النقود بكل مفرداتها وأنواعها، وهكذا فإن الوقف النقدي هو الوقف الذي يكون الموقوف فيه مالاً نقديًّا.
2-
الفقه والوقف النقدي: بالتتبع المتروي لمواقف فقهاء المذاهب الإسلامية من هذه المسألة وجدنا ما يلي:
1-
ليس هناك مذهب فقهي أجمع علماؤه على عدم جواز وقف النقود، بل في كل المذاهب وجدنا من يقول بجواز ذلك، مع تفاوت بين المذاهب في هذا، ويتقدم المذاهب كلها في القول بالجواز المذهب المالكي، فما من كتاب من كتبه المعتمدة والمشهورة إلا ونجد فيه النص على جواز وقف النقود (1) ، يليه في ذلك المذهب الحنفي، حيث ذهب العديد من أئمته ومشاهير علمائه إلى جواز ذلك، بل إن أحد علمائه المشهورين قد ألف رسالة في جواز وقف النقود (2) ، ونفس الموقف تقريبًا نجده في المذهب الحنبلي، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد رجح القول بجواز ذلك (3) . وربما كان المذهب الشافعي هو أقل المذاهب في القول بجواز وقف النقود (4) .
وفيما اطلعت عليه من الفقه الشيعي لم أجد نصًّا صريحاً يتعلق بوقف النقود والحكم الشرعي له، ولكن هناك نصًّا يفيد عند التحقق جواز ذلك، فيقول الإمام المرتضى:"ويشترط في الموقوف صحة الانتفاع به مع بقاء عينه"(5) . وسوف يتضح لنا من خلال هذه الدراسة أن هذا الشرط متحقق في الوقف النقدي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن وقف النقود كان أمراً شائعاً في المجتمع الإسلامي في العديد من دوله لدرجة أن العلماء كثيراً ما تناولوه لا من منطلق جوازه أو عدم جوازه، وإنما من منطلق زكاة النقود الموقوفة، وكأن قضية الجواز مفروغ منها.
(1) الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2)
الإمام أبو السعود، رسالة أبي السعود في جواز وقف النقود، تحقيق صغير أحمد، دار ابن حزم، بيروت، 1417 هـ.
(3)
مجموع الفتاوى: 31 / 234 وما بعدها.
(4)
الماوردي، الحاوي الكبير، مرجع سابق: 9 / 379.
(5)
عيون الأزهار، مرجع سابق، ص 359.
2-
لم أجد تعليلاً صريحاً للقول بعدم جواز وقف النقود، وكل ما استشففته من مواقفهم هو أن الذي حدث في عصر النبوة والخلافة الراشدة كان وقفاً للأصول الثابتة من أراض وعقارات ولم يحدث وقف للنقود. ثم إن سنة الوقف ومقتضاه هي حبس الأصل وتسبيل الثمرة، ولا يتأتى ذلك في وقف النقود، لأنه لا يستفاد بها فائدة صحيحة شرعاً إلا بإهلاك عينها. ويمكن الرد على ذلك بأنه بفرض اقتصار العمل في صدر الإسلام على وقف الأصول الثابتة فإن ذلك لا ينهض بمفرده ليكون دليلاً على منع ما عداه، والصحيح أن العمل لم يقتصر على ذلك وإن كان هو الغالب، وإلا فهناك وقف خالد رضي الله عنه لأدرعه وعتاده وهي أموال منقولة، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث المتفق عليه، والنقد نوع من الأموال المنقولة. ونحن نسلم بأن سنة الوقف ومقتضاه حبس الأصل وتسبيل الثمرة، لكنا لا نسلم بأن ذلك لا يتأتى في وقف النقود، إن النقود مثلية، ومثل الشيء كهو، ولا تتعين بالتعيين، وبدلها يقوم مقامها تماماً. ومع التسليم بأن الاستفادة الصحيحة شرعاً تتطلب تقليبها فإن ذلك لا يقتضي أبدًا إهلاك عينها وذهابها بالكلية فهي باقية بشكل دائم (1) .
وكأن القائلين بعدم جواز وقفها نظروا إلى شخص يقف بعض نقوده على شخص أو جهة ما فيقوم بدفع هذه النقود إلى هذا الشخص أو تلك الجهة وتنتهي القصة. والحق أن عملاً مثل ذلك لا يعد وقفاً وإنما هو مجرد صدقة عادية، فأين الأصل القائم وأين هي الثمرة المسبلة؟ ولكن ذلك ليس المقصود لدى من قال بوقف النقود، وإنما مقصودهم اعتبار النقد أصلاً قائماً يستغل أو ينتفع به مع بقائه، كما سيتضح في الفقرات التالية، وما الفرق عندئذ بين وقف النقود لاستثمارها وتوزيع عائدها على الموقوف عليه وبين وقف نخلة لتوجيه ثمرتها ومنافعها لجهة ما؟ والمعروف أن النخلة تهرم وتنتهي، ولذلك قالوا: لابد من شراء فسائل وغرسها حتى يظل النخل قائماً مستمراً (2)، والتساؤل هو: هل النخل القائم على مر الزمن هو عين النخل الموقوف؟ فلم يجوز هذا ويمنع ذلك؟ مع أن النقود أوغل في المثلية من الأشجار ذات الجنس الواحد، ثم إن وقف النقود لا يخرم بمبدأ التأبيد في الوقف، فهي باستثمارها وتنميتها تظل قائمة موجودة عبر الزمن ربما بدرجة أكبر من دوام الأراضي والعقارات، والعبرة بالإدارة وليس بنوعية المال الموقوف. وسوء الإدارة يزيل الجميع لا فرق بين مال ومال، وهكذا فنحن نرى ما سبق أن رآه فقهاء المسلمين الذين قالوا بجواز وقف النقود، وخاصة أن لهذا النوع من الوقف مزايا ومقومات قد لا يتوفر الكثير منها في الوقف العيني، كما سنرى في الفقرة التالية.
(1) وقد نص العديد من الفقهاء على هذه المعاني، ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 364؛ الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2)
هلال الرأي، أحكام الوقف، دار المعارف العثمانية، حيدرآباد، 1335 هـ، ص 20.
3-
من عوامل إضفاء أهمية متزايدة للوقف النقدي في عالمنا المعاصر:
بداية يجدر التنبيه إلى أن دعوتنا للاهتمام الكبير بالوقف النقدي، لما نتوخاه فيه من مقومات وإمكانات، لا تعني بأي حال التهوين والتقليل من شأن الوقف العيني، كمن ذهب إلى أنه لا يخدم عملية التنمية الاقتصادية القائمة الآن (1) . والصحيح أن الوقف الشرعي بمختلف أنواعه يخدم عملية التنمية، غاية الأمر أن طبيعة هذه الخدمة ونوعيتها ومقدارها تختلف من وقف لوقف، طبقاً للظروف والملابسات المحيطة بكل حالة، وكل ما نهدف إليه في هذه الفقرة هو التنويه بهذا النوع (المنسي) من الوقف والالتفات الجاد إليه، لا على أنه بديل للوقف العيني وإنما على أنه معضد، بل مشارك رئيس له، لاسيما وأنه يتسم بهذه السمات:
1-
أنه متاح للناس بدرجة أكبر من غيره، فجماهير الناس تمتلك ثروات أو دخولاً نقدية بغض النظر عن قلتها وكثرتها، بينما الكثير منهم لا يمتلك أراضي أو عقارات.
2-
أنه أكثر قابلية من غيره لقيام الوقف المشترك أو الوقف الجماعي، وهو اليوم أكثر ملاءمة من الوقف الفردي، كما أنه أكثر أهمية منه لعظم ما يوفره من موارد وأموال وقفية تمكن من إقامة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة.
3-
أن إمكاناته من حيث تنوع وتعدد طرق وأساليب ومجالات استثماره وتزايد عائده متسعة.
4-
أن أغراضه ومجالاته متنوعة ومتعددة لا يحد منها شيء، ولا تقف دونها عقبات.
5-
أنه أكثر تمشيًّا وملاءمة مع ما يشيع اليوم في عالم التمويل من مبدأ (ديمقراطية التمويل) .
6-
أن تأثيره التنموي قد يكون أقوى من غيره من حيث إسهاماته في الأنشطة الإنتاجية المختلفة في مرحلة استثماره، حيث من المتاح أمامه أنه يدخل ممولاً ومستثمراً في كل تلك الأنشطة.
هذه بعض الاعتبارات التي تجعل للاهتمام بالوقف النقدي وجاهته وأهميته.
(1) محمد بوجلال، نحو صياغة مؤسسية للدور التنموي للوقف، الوقف النامي، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، المجلد الخامس، العدد الأول، رجب 1418 هـ.
4-
إنشاء وتكوين الوقف النقدي:
الوقف النقدي قد يكون وقفاً فرديًّا، بمعنى أن يقوم فرد أو جهة ما بمفرده بعملية الوقف مستقلاً عن مشاركة الغير في المال الموقوف، وهذا لا يتأتى عادة إلا عند توفر المقدرة المالية العالية من جهة، وكون الموقوف عليه معينًا محدودًا أو جهة عامة صغيرة من جهة أخرى. وبالتالي فإن هذا النوع من الوقف النقدي، على أهميته، فرص اتساعه وانتشاره محدودة (1) . وقد يكون وقفاً جماعيًّا أو مشتركاً كأن تقوم جماعة محدودة أو غير محدودة بالاشتراك بصورة من الصور في تكوين ما يمكن أن نطلق عليه صندوقاً وقفيًّا. وقد تقوم مؤسسة ما بتكوين هذا الصندوق من خلال ما يتوافر لديها من وقوفات فردية، مثلما يحدث في بعض المصارف التي تتلقى وقوفات فردية من العديد من الأفراد، فتقوم بضم المتجانس منها غرضاً مع بعضه وتكوين صندوق له، تمهيداً لاستثماره واستغلاله بما يولد عائداً يوجه للجهة الموقوف عليها أو الجهات المتعددة الخيرية، إن لم يكن هناك نص صريح من الواقف بتحديد جهة ما.
وقد يتم تكوين هذا الصندوق أو هذا الوعاء من خلال صكوك وقفية محدودة القيمة تطرح بنظام ما على جمهور الناس لمن يرغب في شرائها، وقد يقوم بطرح هذه الصكوك جماعة من الواقفين أو جمعية خيرية أو مؤسسة مصرفية أو جهة حكومية، في إطار ضوابط محددة مشروعة ديناً ونظاماً.
(1) رغم وجوده، كما في وقف الدكتور شوقي الفنجري على طلبة العلم وعلى خدمة الدعوة والفقه الإسلامي، وكما في وقف صالح كامل على مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، وغيرهما.
5-
استثمار الوقف النقدي:
يقصد باستثمار الشيء توظيفه واستغلاله ليدر ثمرة أو عائداً، كاستغلال المساكن بتأجيرها، والأراضي بتأجيرها أو مزارعتها مثلاً، والمعروف أن النقود لا تدر عائداً بذاتها وبقائها جامدة ساكنة، وإنما لا بد من تحريكها وتقليبها وتحويلها إلى أشكال أخرى من الثروة ثم إعادتها مرة ثانية هي أو عائدها إلى نقود، وهكذا، فيمكن أن يشترى بها سلع ثم تباع بربح، ويمكن أن يشترى بها أصول تستغل في إدرار العائد كشراء أراضي أو مساكن أو مصانع أو أسهم.. إلخ، وقد سبق أن أشرنا إلى أن النقود كي يصح وقفها لابد من استغلالها استغلالاً يتم مع عدم زوالها وهلاكها، وهذا يتطلب في غالب الأحوال القيام باستثمارها ومن ثم تبقى وتوزع الثمرة أو العائد أو الدخل المترتب.
وقبل أن نعلق على صور وأساليب استثمار الوقف النقدي نحب أن نشير إلى صورة من الصور التي ذكرها الفقهاء حيال وقف النقود، فقالوا: يمكن أن توقف النقود بغرض الإقراض، وصوروا ذلك بقيام شخص بوقف مقدار من المال النقدي لإقراض المحتاجين، فيأخذ المحتاج القرض يسد به حاجته ويعيده بعد ذلك لـ ناظر الوقف (1)، وقد يقال هنا: أين هو الأصل المحبوس وأين هي الثمرة؟
والجواب: إن الأصل هو النقود الموقوفة، وهي قائمة وباقية ومحبوسة على هذا الغرض، أما الثمرة فهي تلك المنفعة التي تحققها هذه النقود لمن يقترضها، فمن البديهي أن هناك نفعاً ما للمقترض وإلا ما كان هناك وجه للاقتراض، ومعنى ذلك قيام صندوق وقفي للإقراض الحسن، وهو أمر مهم قد لا يقوم غيره مقامه (2) .
وقد يقال هنا: أين استثمار النقود؟ والجواب: أنه لا استثمار هنا، وهل كل وقف يولد ثمرة أو غلة منفصلة؟ لقد قال العلماء: إن هناك وقفاً مغلاً ووقفاً غير مغل (3) . ومثلوا للأول بالدار الموقوفة للأجرة، وللثاني بالدار الموقوفة للسكني. والأولى بالتساؤل هنا: قضية القروض التي قد لا تسدد، وقضية نفقة الناظر على الوقف، فالواضح أنه دون أن تعالج هاتين المسألتين علاجاً جيداً فإن أموال الوقف سرعان ما تزول، وموارد الصندوق سرعان ما تنضب وتجف، هذا مناقض لمقصود وسنة الوقف كما أنه مناقض لغرض الواقف من دوام وقفه ليدوم انتفاع الموقوف عليه ومن ثم يدوم الثواب، ومع أخذ التحوطات الكافية من ضمانات ورهون وكفالات، فقد ينظر في مشروعية دفع المقترض التكاليف الفعلية لاقتراضه في ضوء ضوابط محددة تحديداً شافيًّا. ونرى أن المخرج الأقوى في ذلك هو قيام الناظر على الوقف باستثمار نسبة معينة من أموال الوقف، يحسن أن تكون بعلم الواقف، يوجه عائدها أساساً لنفقات الناظر، ولتكوين مخصصات للديون المعدومة، وما قد يتبقى يرسمل أي يضاف إلى أموال الصندوق المرصودة للإقراض.
(1) الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2)
د. راشد العليوي، الصيغ الحديثة لاستثمار الوقف وأثرها في دعم الاقتصاد، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية، مكة المكرمة، شوال 1420هـ.
(3)
سحنون، المدونة، مرجع سابق: 6 / 100.
وقد نص الفقهاء على جواز بيع بعض مال الوقف للإنفاق منه على الجزء الباقي، كما نص الفقهاء على جواز استغلال الجزء للإنفاق منه على الجزء الثاني (1) . وما ذلك إلا لأنه السبيل الوحيد لبقاء الوقف منتفعاً به، ولعل هنا مجال للنظر الفقهي حول القيام باستثمار وتنمية أموال الصندوق الوقفي للإقراض، قياساً على جواز استثمار فائض الغلة واستثمار دار السكنى لتوفير ما تصان به، وقد يكون القصد من وقف النقود إنفاق عائدها على الجهة الموقوف عليها، وهذا يتطلب بالضرورة استثمارها أولاً ثم إنفاق العائد، أو بالأحرى جزء منه على الموقوف عليه، وقد نص الفقهاء القدامى على ذلك أيضاً (2) .
وهنا نجدنا أمام العديد من صيغ وأساليب الاستثمار التي يمكن استخدامها، طالما أن الواقف لم يحدد صراحة صيغة أو أسلوبا معينا يلتزم به، شريطة أن يكون الأجدى اقتصاديا والأنفع لمقصود وغرض الوقف وهو انتفاع الموقوف عليهم، وطالما أن ذلك متفق والأحكام الشرعية، وإلا أعرض الناظر عن ذلك، واتخذ من الصيغ والأساليب ما يتواءم وهذه المتطلبات.
وأمام الإدارة الوقفية في ذلك العديد والعديد من هذه الصيغ والأدوات، والتي قد تطورت اليوم من خلال تطبيق المصارف الإسلامية، مثل الاستثمارات المباشرة، والتأجير، والمضاربة، والمشاركة، والسلم، وبيع المرابحة، والاستصناع، وشراء الأوراق المالية، وتكوين المحافظ والصناديق الاستثمارية والمشاركة فيها، فالأموال الوقفية شأنها شأن أية أموال يراد استثمارها، وأمامها العديد من الأبواب، شريطة الالتزام الشرعي، حتى لو نص الواقف على غير ذلك، وشريطة الدراسة الجادة لجدوى العمل الاستثماري بما يوفر له أكبر قدر من الحماية من جهة، وأكبر عائد ممكن من جهة أخرى، فمال الوقف كمال اليتيم ومال بيت المال، يبذل في استثمارها من الجهد والعناية أكبر مما يبذل في غيرها، ومن المفضل ألا يغفل كل الإغفال عن المصلحة العامة جرياً وراء المصلحة الاقتصادية الخاصة بالوقف، فالوقف في الأول والأخير عمل خيري، فينبغي أن يكون ذلك المعنى حاضراً في كل خطوات ومراحل العملية الوقفية، على ألا يحمل ذلك غبناً لحقوق الموقوف عليهم، والتي هي المقصود النهائي من عملية الوقف (3) .
والصورة قد تتضح ملامحها بالمثال التالي: هناك وقف نقدي على مركز طبي أو مدرسة أو جامعة.. إلخ، وأمامنا مشروعان لاستثمار هذه النقود، وبالتالي توجيه عائدها إلى تلك الجهات: المشروع الأول للإسكان الشعبي والمشروع الثاني للإسكان المتوسط أو العالي، الأول يدر عائداً اقتصاديًّا أقل مما يدره الثاني، بينما يفيد الأول فئات فقيرة تشتد حاجتها للسكن، فإلى أين توجه الإدارة الوقفية أموال الوقف؟ الإجابة ليست سهلة، لأن التوجه للمشروع الأول يحقق نفعاً اجتماعيًّا لا يحققه التوجه للمشروع الثاني، لكنه في الوقت نفسه يضيع على الموقوف عليهم عوائد يوفرها لهم المشروع الثاني.
وقد يكون من الميسر للتوجه الصحيح المتميز الدقيق بين الموقوف والموقوف عليه، وبين عملية استثمار الوقف وعملية توزيع عوائد الاستثمار، كذلك الوعي الصحيح بأن مراعاة الموقوف عليهم، وخاصة إذا كانوا فئات محتاجة أو جهات عامة هي في حد ذاتها مصلحة اجتماعية، وقد يساعد ذلك أيضاً قيام الدولة بوضع أولويات للمشروعات التي تقام، وأيضاً قيام صندوق الوقف بتنويع مجالات الاستثمار بما يوفر التوليفة المثلى التي تحقق ما يمكن تحقيقه من منافع ومصالح عامة وخاصة معا.
(1) وقد قالوا: إن العبد المحبس على خدمة شخص نفقته على المحبس عليه (الذخيرة: 6 / 341) وهنا النقود محبوسة لخدمة المدينين فكل ما يلزم لبقائها تكون عليهم. انظر الكمال بن الهمام؛ فتح القدير: 5 / 434؛ ابن تيمية، الفتاوى: 31/212؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي: 4 / 90.
(2)
الماوردي، الحاوي الكبير، مرجع سابق، 9 / 379؛ ابن تيمية، الفتاوى: 31 / 234 وما بعدها؛ الكمال بن الهمام؛ مرجع سابق: 5 / 432.
(3)
سليمان الطفيل، الوقف كمصدر اقتصادي لتنمية المجتمعات الإسلامية، ندوة (مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية) مكة المكرمة، شوال 1420 هـ.
6-
الجانب الإداري والتنظيمي في الوقف النقدي:
إن إدارة وتنظيم الوقف النقدي الفردي قد لا تثير متاعب تذكر، فيمكن أن يقوم بها الواقف نفسه، ويمكن أن يعهد بذلك إلى جهة استثمارية خبيرة باتفاق واضح معها، على أن يقوم بمتابعتها بنفسه أو من خلال جهة أخرى يفوضها في ذلك. أما الوقف النقدي الجماعي، ونظراً لما يتطلبه من صكوك وصناديق وجهة مالية جيدة تقوم على استثمارها إما بنفسها أو من خلال جهات أخرى، فإنه يتطلب توفير إطار إداري كفء، ولعل من أهم ما يثار هنا كيفية قيام الواقفين بالمتابعة الجادة بما يضمن لهم حسن استثمار أموالهم وحسن توزيع عوائدها، وقد يقومون بأنفسهم من خلال جمعية مثلاً بتكوين الصندوق الوقفي، ويتولى بعض منهم إدارة هذا الصندوق والتعامل مع الجهات الاستثمارية المختلفة، ويشكل باقي الواقفين ما يمكن أن يمثل جمعية عمومية، وقد يلجؤون في ذلك إلى جهة مالية وسيطة تمارس بالنيابة عنهم إدارة هذا الصندوق وتوظيف موارده على طريق الوكالة بأجر أو المضاربة أو الإجارة..إلخ.
ومن المهم في تلك الحالة وجود تنظيم يكفل نوعاً من الرقابة والمتابعة للواقفين، وذلك بالمشاركة في إدارة الصندوق، أو على الأقل في الجمعية العمومية لهذه الجهة الوسيطة، وعلى أية حال فإن الفكر الإداري لا يعجز عن تقديم آلية جيدة لتحقيق هذا المطلب، وخاصة في ظل الانتشار الواسع اليوم للمؤسسات والأساليب المالية المطروحة عمليًّا. ومن المهم أن يكون للدولة من خلال تشريعاتها وقوانينها دور واضح في ذلك.
7-
مجالات صناديق الوقف النقدي:
سبق أن أشرنا إلى أن العالم الإسلامي المعاصر يواجه مشكلات حادة في توفير متطلبات الحياة الكريمة لفئات عديدة من سكانه من علاج لتعليم لإسكان لعمل لغير ذلك. وقلنا: إن توفير تلك المرافق يحتاج أموالاً طائلة، ليس بمقدور الدولة اليوم تأمينها، وليس ذلك من الاهتمامات الأساسية للقطاع الخاص المستغرق في المجال الاقتصادي، وإذن لا يبقى إلا العمل التطوعي الذي يقوم على أكتاف القطاع المدني، وقد يسهم فيه القطاع الاقتصادي.
والأمر في حاجة إلى تحفيز الأفراد والمؤسسات للقيام بتمويل هذه المرافق الضرورية اقتصاديا واجتماعيا، وليس هناك أقوى من الحافز الديني للقيام بهذا البذل المالي دون مقابل مادي مباشر، وقد وفر الإسلام هذا الحافز كأحسن ما يكون التوفير من خلال تشريعاته للصدقات والنفقات الخيرية وللوقف. والمطلوب إثارة هذا الحافز أولاً، وتقديم توعية جيدة عامة وشاملة تخاطب الجميع الخطاب الملائم لكل مخاطب توضح كل جوانب وأبعاد العملية الوقيفة، بدءاً من أهميتها الدينية، ثم أهميتها الاقتصادية والاجتماعية، ثم تبياناً شافيًّا لصيغها وأساليبها ومجالاتها الحيوية التي تخدم المصلحة العامة، ومن ثم تحقق الثواب الجزيل لمن يسهم في ذلك ثانياً، وتقديم الدولة من التشريعات والقوانين والتنظيمات ما يطمئن الأفراد على صحة وسلامة أوقافهم وانصرافها لتأدية أغراضها في ظل حماية كاملة من العبث والعدوان ثالثاً، ومن المهم قيام المؤسسات الأهلية وبعض المؤسسات المالية وكذلك بعض الجهات الحكومية بإنشاء وتكوين صناديق وقفية تخدم المجتمع وتعمل على حل مشكلاته، مثل مشكلة العلاج، ومشكلة التعليم والبحث العلمي، ومشكلة الإسكان، ومشكلة البطالة.. إلخ (1) . وتدعو الأفراد والمؤسسات إلى الوقف فيها. وبذلك تترشد أغراض الواقفين، وتتجه بالفعل ناحية الوجوه الخيرية الحقيقية، بدلاً من التوجه ناحية أغراض ومقاصد رديئة تافهة لا أثر لها في الدين والدنيا، وقد حكم ابن تيمية رحمه الله على وقف مثل هذا بالبطلان (الفتاوى) ، وهو حكم صحيح شرعاً واقتصاداً.
* * *
(1) الأمانة العامة للأوقاف، الكويت (الصناديق الوقفية - النظام العام ولائحته التنفيذية) مطابع الخط، 1417هـ.
خاتمة
هذه الورقة تناولت كموضوع أساسي الوقف النقدي، وتناولت - كتوطئة وتمهيد له - بعض المسائل ذات العلاقة الوثيقة، ومقصودها النهائي تفعيل دور الوقف في حياتنا الحاضرة، فتعرضت لواقع مؤسسة الوقف؛ واصفة ومفسرة، ثم تناولت مدى اشتداد الحاجة المعاصرة إلى دور فعال للوقف، وكان هذا كله في القسم الأول من الورقة. وفي القسم الثاني منها كان تناول (الوقف النقدي) فقامت بتعريفه، ثم بتوضيح للموقف الفقهي منه، ثم بتبيان ما لهذا النوع من الوقف من مزايا وإمكانات تجعل له أهمية متزايدة في عالمنا المعاصر، ثم بالإشارة إلى كيفية إنشائه وتكوينه، ثم نعرض بعض الصور والأساليب الاستثمارية له، وأخيراً بالإشارة إلى ما يتطلبه من نواح إدارية وتنظيمية.
وخلصت من ذلك كله إلى نتائج يمكن الإشارة إلى كلياتها فيما يلي:
أولاً: منذ فترة ليست بالقصيرة والوقف في العالم الإسلامي بوجه عام يمر بمرحلة تدهور واضمحلال، أو بعبارة أخرى يمر بأزمة، وإن كان في أيامنا الحاضرة يشهد جهوداً طيبة لنموه وازدهاره.
ثانياً: من العوامل الأساسية وراء ظاهرة ضعف الوقف الراهن ما هنالك من ضبابية فقهية حول العديد من أحكامه وقضاياه، تبلورت في شيوع مفاهيم وتصورات ليست من فقه الوقف، واتخذ الفقه الإسلامي منهج المرونة الكبيرة حيال الوقف، ومن العبارات الهامة التي قلما تظهر في أبوب الفقه الأخرى:" ما جرى التعامل به فوقفه جائز ". ومن ثم فنحن في حاجة ماسة اليوم إلى إبراز فقه الوقف وإخراجه في شكل جديد.
ثالثاً: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في العالم الإسلامي المعاصر تحتم علينا الالتفاف الجاد إلى الوقف والعمل على تطويره وتوظيف كل منتجات العلم والتكنولوجيا للارتقاء به حتى يؤدي رسالته المهمة في مواجهة هذا الواقع القاسي.
رابعاً: من جوانب تطوير الوقف الواعدة الاهتمام القوي بالوقف النقدي لما له من مزايا وما يمتلكه من قدرات وإمكانات، وقد اتضح أنه محل جواز في مختلف المذاهب، حتى ولو من بعض فقهائها، كما اتضح أنه كان معمولاً به ومتعارفاً عليه في العديد من الدول الإسلامية في مختلف العصور، وهو وقف ملائم تماماً لعصرنا الحاضر.
ولكنه يحتاج إلى توضيح شاف لأبعاده ومتطلباته الإدارية والمالية، ومما يسهل من تحقيق ذلك ما هنالك من صيغ وأساليب مالية إسلامية يجري العمل بها من خلال المؤسسات المالية الإسلامية يمكن استخدامها في عمليات الوقف النقدي.
وفي ضوء ذلك فإننا نقترح أن يصدر المجمع الموقر قراره بجواز الوقف النقدي بشكليه الفردي والجماعي، وأن ينظر بعين من اليسر والمرونة في تطبيق الصيغ والأساليب المالية الإسلامية عليه عملاً بقول الإمام القرافي رحمه الله عن الوقف:"هو من أحسن القرب، وينبغي أن تخفف شروطه "(1) . وأن يوصي الحكومات بضرورة إعادة النظر في قوانينها وأنظمتها بما يحفز الأفراد على الإقبال عليه.
* * *
(1) الذخيرة: 6 / 322.
ملحق
نصوص فقهية توضح مدى ضبابية
ما يشيع لدى الكثير منا حيال فقه الوقف
1-
في جواز وقف المنقول والنقود والمنافع:
قال السرخسي: "في وقف المنقول مقصوداً خلاف بين أبي يوسف ومحمد، والجواب الصحيح فيه أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز"(1) .
وقال ابن شاس: " وأما وقف المنقول كالحيوان والعروض فمذهب الكتاب صحته"(2) .
وقال الدسوقي: " المعتمد عندنا صحة وقف كل منقول "(3) .
وقال الرملي: "ويصح وقف عقار بالإجماع ومنقول للخبر الصحيح فيه"(4) .
وقال الماوردي: "يجوز وقف العقار والدور والأرض والرقيق والماشية والسلاح، وكل عين تبقى بقاءً متصلاً ويمكن الانتفاع بها"(5) .
وقال ابن عابدين: "أفتى مولانا صاحب البحر بجواز وقفها.. ثم قال: قلت: إن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها لكن بدلها قائم مقامها لعدم تعينها، فكأنها باقية، ولا شك في كونها من المنقول، فحيث جرى فيها مقابل دخلت فيما أجازه محمد
…
وعن الأنصاري وكان من أصحاب زفر فيمن وقف الدراهم أو ما يكال أو ما يوزن أيجوز ذلك؟ قال: نعم، قيل: وكيف؟ قال: يدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها (أي بربحها) في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال أو يوزن يباع ويدفع ثمنه للمضاربة" (6) .
وقال ابن تيمية: "قال أبو البركات: ظاهر هذا جواز وقف الأثمان (النقود) لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح، كما قد حكيناه عن مالك والأنصاري. قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، وقال الأنصاري: يجوز وقف الدنانير، لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف. ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عن الثمن ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائماً مقامه لمصلحة الوقف"(7) .
وقال الدردير: "وزكيت عين (نقد) وقفت للسلف، وينزل بدله منزلة بقاء عينه"(8) .
وقال الدردير: "وإن كان الملك بأجرة كدار استأجرها مدة معلومة فله وقف منفعتها في تلك المدة، وينقضي الوقف بانقضائها، لأنه لا يشترط فيه التأبيد"(9) .
(1) المبسوط: 12/ 45.
(2)
عقد الجواهر: 3 / 31.
(3)
حاشية الدسوقي: 4 / 77.
(4)
نهاية المحتاج: 5 / 358.
(5)
الحاوي الكبير: 9 / 316.
(6)
حاشية ابن عابدين: 4 / 363 - 364.
(7)
مجموع الفتاوى: 31 / 234.
(8)
الشرح الكبير: 6 / 77.
(9)
الشرح الكبير: 4 / 76.
2-
في جواز الوقف المؤقت والمعلق:
قال الدسوقي: "ولا يشترط في صحة الوقف التأييد"(1) .
قال أبو العباس ابن سريج: "يجوز الوقف المؤقت، لأنه لما جاز له أن يتقرب بكل ماله وببعضه جاز له أن يتقرب به في كل الزمان وفي بعضه "(2) .
وقال ابن شاس: "لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفت؛ صح"(3) .
وقال الماوردي: "أجاز مالك أن يقف على أنه إن احتاج إليه باعه أو رجع فيه أو أخذ غلته. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) ولما روي عن علي رضي الله عنه في وقفه"(4) .
وقال القرافي: "لا يشترط التنجيز، بل يجوز: إن جاء رأس الشهر وقفت"(5) .
3-
انتفاع الواقف بوقفه:
قال أبو يوسف: "يجوز أن يجعل الغلة لنفسه مادام حيًّا "(6) .
وقال ابن عابدين: "وجاز جعل الغلة كلها أو بعضها لنفسه"(7) .
وقال ابن قدامة: "إن الواقف إذا اشترط في الوقف أن ينفق على نفسه صح الوقف والشرط. نص عليه أحمد "(8) .
وقال البهوتي: "وإن وقف شيئاً على غيره، واستثنى غلته كلها أو بعضها له مدة معينة، أو استثنى الانتفاع لنفسه أو لأهله مدة حياته أو مدة معينة، وصح الوقف والشرط "(9) .
4-
جواز الوقف الجماعي (المشترك) :
قال السرخسي: "وإذا كانت الأرض بين رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على بعض الوجوه التي وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزاً "(10) .
وقال ابن قدامة: "وإن وقف داره على جهتين مختلفتين؛ مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين نصفين أو أثلاثاً أو كيفما كان جاز"(11) .
5-
شروط الواقف ومدى إمكانية العدول عنها:
قال ابن تيمية: "اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف، لا في وجوب العمل بها.. وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين.. وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق فإن شرط فعلاً محرماً ظهر أنه باطل وإن شرط مباحاً لا قربة فيه كان أيضاً باطلاً، لأنه شرط لا منفعة فيه له ولا للموقوف عليه.. "(12) . ثم أخذ في ضرب العديد من الأمثلة التي توجب رفض شروط الواقف.
* * *
(1) حاشية الدسوقي: 6 /87.
(2)
الحاوي الكبير: 9/ 381.
(3)
عقد الجواهر: 3 / 40.
(4)
الحاوي: 9 / 396.
(5)
الذخيرة: 6 / 326.
(6)
المبسوط: 12 / 41.
(7)
حاشية ابن عابدين: 4 / 384.
(8)
المغني: 5 / 604.
(9)
شرح منتهى الإرادات: 2 / 494.
(10)
المبسوط: 12 / 38.
(11)
المغني: 45 / 644.
(12)
مجموع الفتاوى: 31 / 47 - 49.
مراجع البحث مرتبة حسب ورودها
1-
ابن قدامة، المغني - الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1401هـ.
2-
القرافي، الذخيرة - بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1994م.
3-
د. شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة - الرياض، العدد (24) 1415 هـ.
4-
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية - جدة، حلقة إدارة وتثمير الممتلكات الوقفية، 1410هـ.
5-
رابطة الجامعات الإسلامية، ندوة إحياء دور الوقف في الدول الإسلامية - بورسعيد، 1998م.
6-
د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا - بيروت، المكتب الإسلامي.
7-
الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، ندوة الوقف، 2000م.
8-
الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.
9-
الرملي، نهاية المحتاج - بيروت، دار إحياء التراث العربي.
10-
النووي، روضة الطالبين - بيروت، دار الكتب العلمية.
11-
ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة - بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1415هـ.
12-
الماوردي، الحاوي الكبير - مكة المكرمة، المكتبة التجارية، 1414هـ.
13-
أحمد المرتضى، عيون الأزهار - بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1975م.
14-
السرخسي، المبسوط - بيروت، دار المعرفة، 1989م.
15-
ابن عابدين: رد المحتار (الحاشية) - بيروت، دار الفكر، 1979م.
16-
الإمام مالك، المدونة برواية سحنون - بيروت، دار صادر.
17-
ابن تيمية، مجموع الفتاوى - الرياض، 1398هـ.
18-
د. عبد الله بن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة - الرياض، العدد (147) 1421 هـ.
19-
الشيخ محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف - القاهرة، دار الفكر العربي، 1971م.
20 -
الحطاب، مواهب الجليل، شركة النجاح - طرابلس.
21-
البنك الإسلامي للتنمية، التقرير السنوي 99 / 2000م.
22-
هلال الرأي، أحكام الوقف - الهند، حيدرآباد، دار المعارف العثمانية، 1335هـ.
23-
د. محمد بوجلال، نحو صياغة مؤسسية للدور التنموي للوقف، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب - جدة، المجلد الخامس، العدد الأول، رجب 1418هـ.
24-
د. راشد العليوي، الصيغ الحديثة لاستثمار الوقف، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية - مكة المكرمة، 1420هـ.
25-
الكمال بن الهمام، شرح فتح القدير - بيروت، دار إحياء التراث العربي.
26-
سليمان الطفيل، الوقف كمصدر اقتصادي لتنمية المجتمعات الإسلامية، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية - مكة المكرمة، 1420هـ.
27-
وزارة الأوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، الصناديق الوقفية - الكويت.
28-
البهوتي، شرح منتهى الإرادات - الرياض.
* * *