المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

‌المضاربة المشتركة

في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة

إعداد

أ. د قطب مصطفى سانو

أستاذ الفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم الدراسة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:

لا تزال الساحة الاقتصادية الإسلامية المعاصرة ترنو إلى مزيد من الدراسات والأبحاث العلمية الجادة التي تسهم في ترشيد مسار الصحوة الإسلامية المباركة في مختلف المجالات بشكل عام، وفي مجال المال والأعمال بشكل خاص، وما يفتأ الواقع الاقتصادي الراهن يلح على الباحثين المعاصرين استفراغ طاقتهم وقدراتهم العملية والفكرية من أجل بلورة النظام الاقتصادي الإسلامي المتكامل والشامل المنبثق عن خصائص الإسلام ومقاصده السامية في المال والأعمال، سعيًا إلى تحقيق قيومية الدين الحنيف على الواقع الاقتصادي السائد، وتسديد سائر قضايا المال والأعمال بتعاليمه الخالدة.

وبفضل من الله، ثم بحسن متابعة الغير من أبناء الأمة والقائمين على شؤون المجامع الفقهية والمؤسسات والمراكز العلمية، جادت الساحة الاقتصادية الإسلامية ولا تزال تجود بالعديد من الدراسات والأبحاث والمؤلفات القيمة، كما أقيمت ولا تزال تقام الندوات والمؤتمرات واللقاءات العلمية، سعيًا إلى تحقيق أسلمة متكاملة للأنظمة الاقتصادية السائدة تصورًا وتطبيقًا وممارسة. أجل، ليس ثَمَّ ريب في أن النظام الاقتصادي الإسلامي كان ولا يزال النظام المالي الأوحد الذي يمكن له أن يحقق للبشرية الرفاهة الاقتصادية والسعادة والهناء والاستقرار والطمأنينة، بل لا خلاص للإنسانية من المآسي والويلات التي أوقعتها فيها الأنظمة الاقتصادية المختلفة من رأسمالية واشتراكية وسواهما إلا بعودة مباركة إلى النظام الإسلامي الرباني الشامل الذي يجعل من المال وسيلة لإسعاد الإنسان في كل مكان.

ص: 1200

وإسهامًا منا ـ ولو بنقير ـ في مجال أسلمة وسائل الاستثمار الحديثة، عنيت هذه الدراسة بتحقيق القول في مسألة المضاربة التي تعرف في العصر الراهن في أروقة الباحثين المعاصرين بالمضاربة المشتركة، ذلك لأن هذه المضاربة غدت اليوم إحدى الوسائل الاستثمارية الهامة التي يوظفها كثير من المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة، وتصبو مؤسسات مالية إسلامية أخرى إلى توظيفها، بيد أن ثمة توجسًا إزاء بعض قضاياها ومسائلها، مما يملي على الغَيَارى استفراغ الطاقة من أجل توجيه تلك المسائل والقضايا توجيهًا إسلاميًا مترابطًا ومتناسقًا، ومن أجل إزالة الغبش عن الحل الإسلامي الأمثل لمختلف المسائل والمشكلات الاقتصادية والمالية الراهنة.

وتأتي هذه الدراسة المتواضعة لتقدم ـ اليوم ـ قراءة نقدية لهذه المسألة وتحرير القول في عدد من مسائلها وقضاياها، فضلًا عن تقديم اقتراح مفاده ضرورة الاستغناء عن مصطلح المضاربة المشتركة واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة المطورة في نطاق الاستثمار الجماعي، ذلك أن مرد توجس الكثيرين من توظيف هذه الوسيلة الاستثمارية إلى ما يحمله هذا المصطلح من مضامين ومعاني غير محررة، فضلًا عن أن اختراعه انبنى على فرضية غير سديدة وهي دعوى عجز المضاربة التقليدية عن الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، والحال كل الحال أن المضاربة التقليدية وخاصة المضاربة المطلقة تنتظم مرونة وسعة تفيان بحاجات الاستثمار المالي الجماعي المعاصر في جميع أشكاله وأنواعه وقضاياه.

ولهذا، فإن هذه الدراسة حاولت أن تثبت ضرورة إحلال مصطلح المضاربة المطلقة محل مصطلح المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية المعاصرة، أملًا في تحقيق تواصل علمي مع تراثنا الفقهي الزاخر، وحفاظًا على مصطلحاته القادرة على استيعاب مستجدات العصر، وخروجًا في الوقت نفسه من الاختلافات التي ثارت ولا تزال تثار حول كثير من قضايا ومسائل المضاربة المشتركة نتيجة الغموض الذي يلتف حول هذا المصطلح.

وعلى العموم، لقد اشتملت الدراسة على أربعة مباحث، كان أولها توضيحًا لمفهوم مصطلح المضاربة المشتركة، وأما المبحث الثاني فقد خصصته لدراسة أثر تكييف العلاقة بين أشخاص المضاربة المشتركة، وتناول المبحث الثالث دراسة نقدية لعدد من المسائل المنسوجة حول فكرة المضاربة المشتركة، وأما المبحث الرابع فقد أودعته تحقيقًا لأهمية إحلال مصطلح المضاربة المطلقة محل مصطلح المضاربة المشتركة، واحتضنت الخاتمة أهم نتائج الدراسة، تلك هم أهم ما اشتملت عليه هذه الدراسة، وأملنا أن تحظى بتنقيح وتصحيح أهل العلم المشاركين في هذه الندوة المباركة، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت! .

ص: 1201

المبحث الأول

في مصطلح المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية

يظل تحديد معاني المصطلحات تحديدًا علميًا ومنهجيًا واضحًا أهم مدخل لبيان علمي رشيد لأحكام مختلف المسائل والقضايا التي تتعلق بهذه المصطلحات، وقديمًا قالوا: إن الحكم على شيء فرع عن تصوره، ذلك لأن الحكم تابع ونابع عن التصور الدقيق لحقيقة الشيء وجوهره، ويتوقف التصور الدقيق عن الشيء على تحديد محكم وضبط علمي منهجي لحقيقته وماهيته. ولهذا، فإننا نرى أن نستهل بحثنا بإلقاء الضوء على مفهوم المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة.

أولًا ـ في مفهوم مصطلح المضاربة بشكل عام في المدونات الفقهية.

بالرجوع إلى المدونات الفقهية القديمة (نجد أن ثمة تعريفات عديدة للمضاربة، فيراد بها عند معظم فقهاء الحنفية: (. . . عقد شركة في الربح بمال من جانب وعمل من جانب آخر. .)(1) .

وأما فقهاء المالكية، فتعني عندهم:(. . . أن يعطي الرجلُ الرجلَ المالَ على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال؛ أي جزء كان مما يتفقان عليه ثلثًا أو ربعًا أو نصفًا. . .)(2) .

ويذهب فقهاء الشافعية إلى تعريفها بقولهم: (

أن يدفع إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك

) (3) .

(1) انظر: ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، المعروف بحاشية ابن عابدين: 5/ 645، (القاهرة مطبعة مصطفى الحلبي، ب. ت) .

(2)

انظر: ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 236، (مصر، مطبعة مصطفى الحلبي وشركاه، طبعة خامسة، عام 1981 م) .

(3)

انظر الشربيني الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: 2/309 - 310، (مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، طبعة عام 1933م)

ص: 1202

وأما فقهاء الحنابلة، فإن المراد بها عندهم هو:(. . أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه. . .)(1) .

ويذهب فقهاء الإمامية إلى تعريفها بأنها تعني (. . . أن يدفع مالًا إلى غيره ليعمل فيه بحصة معينة من ربحه)(2) .

لئن انتهى الفقهاء الأقدمون إلى تعريف المضاربة بهذه التعريفات المتقاربة في مفرداتها ومضامينها بصورة عامة، فإن ثمة باحثين وكتابًا معاصرين، عنوا بتعريفها تعريفات نخالها أكثر توضحيًا وتفصيلات لحقيقة هذا المصطلح، ولكنها لا تخرج في جوهرها عن التعريفات التي ذكرها الفقهاء السابقون، ومن أولئك المعاصرين، الأستاذ المرحوم السيد باقر الصدر، الذي عرف المضاربة، فقال:(. . . المضاربة يختلف مفهومها في الفقه الإسلامي عن مصطلحها في الاقتصاد الحديث. . . فهي في الفقه الإسلامي: عقد خاص بين مالك رأس المال والمستثمر على إنشاء تجارة يكون رأسمالها من الأول، والعمل على الآخر، ويحددان حصة كل منهما من الربح بنسبة مئوية، فإن رَبِحَ المشروع، تقاسما الربح وفقًا للنسبة المتفق عليها، وإن ظل رأس المال كما هو لم يزد ولم ينقص لم يكن لصاحب المال إلا رأس ماله، وليس للعامل شيء. . وإن خسر المشروع وضاع جزء من رأس المال أو كله، تحمل صاحب المال الخسارة، ولا يجوز تحميل العامل المستثمر وجعله ضامنًا لرأس المال إلا بأن تتحول العملية إلى إقراض من صاحب رأس المال للعامل، وحينئذ لا يستحق صاحب رأس المال شيئًا من الربح.)(3) .

(1) انظر: انظر: ابن قدامة، المغني، ويليه الشرح الكبير: 5/ 134، (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة عام 1983 م)

(2)

انظر: العاملي، اللمعة الدمشقية: 4/ 211، (إيران، منشورات جامعة النجف) .

(3)

انظر: الصدر، البنك اللاربوي في الإسلام، ص25، (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، طبعة عام 1990 م) .

ص: 1203

وأما الدكتور سامي حسن حمود، فقد حاول هو الآخر صياغة تعريف موجز ومختصر لمصطلح المضاربة، فقال ما نصه:(. . . فالمضاربة أولًا ـ وقبل كل شيء ـ هي تعاقد ثنائي بين طرفين، يقدم فيه الطرف الأول (واحدًا أو أكثر) المال، ويقوم الطرف الثاني (واحدًا أو أكثر أيضًا) بالعمل فيه على نحو ما يتفق عليه في شروط العمل واقتسام الربح. . .) (1) . وبتعبير آخر:(المضاربة. اتفاق بين طرفين، يقوم أحدهما فيه بتقديم المال لكي يعمل فيه الآخر ـ بالتجارة غالبًا ـ على أن يكون الربح بينهما بحصة شائعة منه في الجملة. . .)(2) .

وقريبًا من هذا التعريف انتهى الدكتور حسن عبد الله الأمين إلى تعريف المضاربة قائلًا: (. . المضاربة (أو القراض) هي: اتفاق بين طرفين يبذل أحدهما فيه ماله ويبذل الآخر جهده ونشاطه في الاتجار والعمل بهذا المال، على أن يكون ربح ذلك بينهما على حسب ما يشترطان، من النصف، أو الثلث، أو الربع. . . إلخ. وإذا لم تربح الشركة لم يكن لصاحب المال غير رأس ماله، وضاع على المضارب كده وجهده، لأن الشركة بينهما في الربح. أما إذا خسرت الشركة، فإنها تكون على صاحب المال وحده، ولا يتحمل عامل المضاربة شيئًا منها مقابل ضياع جهده وعمله، إذ ليس من العدل أن يضيع عليه جهده وعمله ثم يطالب بمشاركة رب المال فيما ضاع من ماله ما دام ذلك لم يكن عن تقصير أو إهمال. . .) (3) .

(1) انظر: حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، ص 383، (عمان، مطبعة الشرق ومكتبتها، طبعة ثانية، عام 1982 م) .

(2)

انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، ص 356.

(3)

انظر: الأمين، المضاربة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، ص 19، (جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، طبعة ثانية، عام 1993 م) .

ص: 1204

وأخيرًا ذهب الدكتور الدبو إلى تعريفها بأنها تعني: (. . . أن يوكل شخص غيره للمتاجرة برأس مال من عنده، له قيمة مالية، على جزء شائع من ربحه معلوم للمتعاقدين. . .)(1) .

هذه هي بعض تعريفات المضاربة التي انتهى إليها بعض المعاصرين، وقبلهم الفقهاء القدامى، وبطبيعة الحال، ثمة تعاريف وتصورات عديدة قديمة ومعاصرة للمضاربة، بيد أن المقام لا يتسع لسردها، كما أنها لا تخرج في مجملها عن معاني هذه التعاريف التي أوردناها، مما يجعلنا نكتفي بما ذكرنا.

وعلى العموم، جلي فيما سبق أن تعاريف الباحثين والكتاب المعاصرين لا تختلف عن تعريفات الأقدمين، بل يمكن للمرء أن يجزم بأن تعاريفهم تمثل شروحًا وتوضيحًا لما أجمل من عبارات في تعاريف الأقدمين، وإن يكن ثمة فرق بين المعاصرين والأقدمين، فإنه يكمن في إدراج المعاصرين ألفاظًا جديدة كلفظة (اتفاق) ولفظة (توكيل)(2) وسواهما.

وفضلًا عن ذلك، فإن بعض المعاصرين حاولوا توضيح بعض الآثار التي تترتب على هذا العقد وذلك في حالة حصول ربح أو وقوع خسارة، كما عني بعضهم بتضمين تعريفهم بأنه في حالة وقوع خسارة لعملية المضاربة بغير تعد أو تقصير من العامل، فإن رب المال يتحمل خسارة رأس ماله، كما يتحمل العامل خسارة جهده وتعبه، وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الأمر ـ بأي حال من الأحوال ـ غائبًا عن إدراك السابقين، ولكنهم تجاوزوا الإشارة إليه في تعاريفهم لبداهته ووضوحه لديهم.

(1) انظر: الدبو، عقد المضاربة دراسة في الاقتصاد الإسلامي، ص 32 (عمان دار عمار، طبعة أولى، عام 1998 م) .

(2)

على أنَّ استهلال التعريف بلفظة (توكيل) محل نظر، ذلك لأن المضاربة وإن كان فيها معنى الوكالة، فإنها ليست وكالة، كما أنه لا يصح اعتبارها إجارة على الرغم من وجود معنى الإجارة فيها، فهي عقد خاص شرعي مستقل ذو كيان مستقل ينتظم جانبًا من الوكالة، وجانبًا آخر من الإجارة، وجانبًا ثالثًا غير مباشر من الإقراض، وغير ذلك، ولهذا، فلا يصح اعتبارها وكالة أو توكيلًا أو إجارة أو أقراضًا. فليتأمل! .

ص: 1205

وأيا ما كان الأمر، فإننا نخلص إلى تقرير القول بأن مفهوم المضاربة قديمًا وحديثًا لم يكن موضع اختلاف أو نزاع، وما يعثر عليه المرء من خلافات ووجهات نظر متعددة حول بعض قضايا ومسائل المضاربة، لا تخلو من أن تكون ناشئة من اجتهادات السابقين واللاحقين المتأثرة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانوا يعيشون فيها، فضلًا عن أن معظم مسائل المضاربة وقضاياها لم تخل هي الأخرى من التأثر بالواقع الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي وسنحاول أن نلم بطرف من ذلك عند حديثنا عن مسألة الضمان وكيفية توزيع الأرباح وسواها.

وبهذا نتبين من المراد بمصطلح المضاربة بشكل عام بغض النظر عن كونها مضاربة مطلقة أو مقيدة، وعامة أو خاصة. . . وإذ الأمر كذلك، فهلم بنا إلى تحديد المراد بما يسمى بالمضاربة المشتركة.

ص: 1206

ثانيًاـ في مفهوم مصطلح المضاربة المشتركة في كتابات الباحثين المعاصرين:

أولًا نود أن نقرر بأنه ليس من الوارد أن يعثر المرء على تعريف لمصطلح المضاربة المشتركة في المدونات الفقهية القديمة، بل إنه من الأمر المؤكد أن الفقهاء الأقدمين رحمهم الله لم يعنوا ـ حسب علمي المتواضع ـ بإيراد أي تعريف خاص لهذا المصطلح، بل إن لفظ (المشتركة) لا يجد له المرء وجودًا ولا حضورًا في تلك المدونات التي تحدثت عن حقيقة المضاربة وأقسامها، مما يعني تعذر الوقوف على أدنى تعريف فقهي منضبط لهذا المصطلح.

وبناء على هذا، فإننا نفزع إلى تقرير القول بأن إضافة لفظة (مشتركة) إلى مصطلح المضاربة أمر مستحدث، وكذلك الحال في إضافة بعض الباحثين لفظة (الجماعية)(1) . إلى مصطلح المضاربة، وقد أكد هذا الأمر الدكتور سامي حمود الذي نحسبه أول من اختراع هذا المصطلح في الدراسات الاقتصادية الإسلامية الحديثة، وهذا نص ما قاله مقررًا كون مصطلح المضاربة المشتركة مصطلحًا حديثًا ـ:(. . . فإذا كان المضارب الذي بحث أمره الفقه الإسلامي هو مضارب خاص، يعمل لمالك المال ويخضع لشروطه، فإن المسألة تحتاج في العصر الحاضر إلى إيجاد شكل آخر من المضاربة، حيث يكون المضارب مشتركًا يأخذ الأموال من الكافة ـ كالأجير المشترك ـ ويعمل فيها بشروط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب المشترك حتى يمكن تسيير دقة الاستثمار براحة وأمان، وهذا هو ما سنبحثه في الفصل التالي، في المضاربة المشتركة باعتبارها تنظيمًا جديدًا يلائم الاستثمار الجماعي المتعدد والمستمر في حركته ودوران المال فيه)(2) .

(1) ويعتبر الدكتور الأمين من أولئك الباحثين الذين رددوا هذه اللفظة في كتابه، وأكثر من استخدامها تعبيرًا عن المضاربة المشتركة، ولا وجود حقيقيًا لهذه اللفظة في المدونات الفقهية المتوافرة لدينا. . . الشأن في ذلك كالشأن في لفظة (المشتركة) .

(2)

انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص 387.

ص: 1207

على أنه من الحري بالتقرير بأن عدم ورود مصطلح المضاربة المشتركة في المدونات الفقهية القديمة، لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أن الفقهاء الأقدمين لم يكونوا يعرفون أو يعترفون بوجود هذا الشكل (الجديد) للمضاربة، ذلك لأن من المعروف لدى المطلعين على التراث الفقهي في المعاملات أن عقد المضاربة من العقود القلائل التي نالت حظًا وفيرًا من الدراسة والتحقيق الفقهيين الشاملين بصورة موسعة ومكررة، ومن الصعب جدًّا أن تكون ثمة جزئيات أو قضايا أساسية لم يعنوا بتناولها وفصل القول فيها وفق اجتهاداتهم وآرائهم، بل إن النظر الحصيف فيما يذكر من فوارق بين هذا الشكل الجديد والشكل القديم للمضاربة يهدي المرء إلى القول بأن المدونات الفقهية أوسعت تلك الفوارق جانب التفصيل والتحقيق أثناء حديثها المفصل عن تصرفات العامل (المضارب) في مال المضاربة وخلطه بين مال المضاربة وماله ومال غيره (1) ، كما أنها تناولت قضايا ومسائل هذا الشكل (الجديد) بحديث مؤسس ومؤصل عند الحديث عن حكم دفع المضارب مال المضاربة إلى آخر مضاربة. . . إلخ (2) غير أن الفقهاء القدامى لم يطلقوا على هذا الشكل (الجديد) مصطلح المضاربة المشتركة كما فعل المعاصرون.

(1) أورد الإمام ابن قدامة وغيره مسألة خلط العامل مال المضاربة بماله، وبين أحكام ذلك الخلط إن كان بإذن رب المال، وإذا لم يكن بإذنه فقال ما نصه:(فصل) وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله، فإن فعل ولم يتميز، ضمنه لأنه أمانة. فهي كالوديعة فإن قال له (يقصد إن قال رب المال للعامل) : اعمل برأيك، جاز له ذلك (أي الخلط) . . . المغني ـ مرجع سابق: 5/ 50 فالشاهد في هذا أن تلقِّي العامل الأموال من جهات متعددة ومن أفراد متعددين في فترة واحدة أو في فترات متلاحقة، ليس بأمر جديد ولا قضية حديثة كما يتوهم البعض، بل تعتبر من المسائل المرتبطة بالمضاربة قديمًا وحديثًا، ولذلك، فلا حاجة في حقيقة الأمر لتهويل هذا الأمر واعتباره شأنًا جديدًا في مسألة المضاربة.

(2)

تناول الإمام الكاساني هذا الموضوع عند حديثه عن أنواع التصرفات التي يجوز للمضارب فعلها في مال المضاربة إذا قال له رب المال: اعمل برأيك. . . وبين أن المضاربة والشركة والخلط وسواه، تعتبر من التصرفات التي يجوز له فعله. . وعليه، فإن تصرف المؤسسات المالية الإسلامية في مال المضاربة بعد تسلمها إياه لا يخلو أن يكون مضاربة أو شركة أو بيعًا وشراء، ولمزيد من التفصيل حول هذا، يراجع: بدائع الصنائع ـ مرجع سابق: 6/ 95. .

ص: 1208

وعلى العموم، لئن تعذر العثور على تعريف فقهي قديم لمصطلح المضاربة المشتركة، فإنه لمن الأمر الغريب جدًا أن يكون ثمة عزوف ـ مقصود وغير مقصود ـ لدى الباحثين المعاصرين عن صياغة تعريف علمي واضح لهذا المصطلح، الجديد، فعلى الرغم من ترديد أكثرهم لهذا المصطلح في كتاباتهم وأحاديثهم، بيد أن معظمهم ـ إن لم يكن كلهم ممن أطلعنا على كتاباتهم (1) ـ لم يعنوا بذكر أدنى تعريف علمي له بتاتًا، بل إن الدكتور سامي الذي يعتبر ـ بحق ـ المخترع الأول لهذا المصطلح لم يعن هو الآخر في كتابه بذكر أي تعريف منضبط واضح لهذا المصطلح، وبدلًا من ذلك لاذ بذكر بعض الفروق الأساسية بين المضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، وقد كان حريًا به وبغيره من المعاصرين أن يستهلوا أحاديثهم عن هذا المصطلح الجديد بذكر تعريف واضح ومحكم لحقيقته وماهيته.

ومهما يكن من شيء فإنه من الممكن استخلاص تصور عام عن حقيقة هذا المصطلح عند الدكتور سامي بوصفه المخترع الأول لهذا المصطلح في الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة، وذلك من خلال ما نقلناه عنه سابقًا، حيث إنه حدد الوظيفة الأساسية التي يقوم بها المضارب المشترك وهي أنه ـ بصفته شخصية اعتبارية ـ (. . . يأخذ الأموال من الكافة ـ كالأجير المشترك ـ ويعمل فيها بشروط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب المشترك حتى يمكن تسيير دقة الاستثمار براحة وأمان. .) ويعني هذا أن هذا المضارب يتلقى الأموال من الكافة (= عدد من الأشخاص = المودعين) ويعمل فيها وفق شروط يضعها هو ليس رب المال، ويغلب على تلك الشروط كونها شروطًا خاضعة للتنظيم الذي يمكن من خلاله تسيير دقة الاستثمار وتحقيق أرباح معتبرة للأموال التي يأخذها من الكافة. وتضم هذه المضاربة المشتركة (. . . ثلاث علاقات مترابطة تمثل مالكي المال والعاملين فيه والجهة الوسيطة بين الفريقين، كما تنفرد ـ كنظام جماعي ـ بعدد من المزايا التي يبدو من المتعذر تحققها في نطاق المضاربة الخاصة وما يداخلها من قيود)(2) .

وأما العلاقة التي توجد بين هؤلاء الفرقاء الثلاثة فتختلف بين كل فريق والفريق الآخر، تبعًا لاختلاف شكل التعاقد بين الطرفين، ويعتبر المضارب المشترك الشخصية الجديدة في هذا النظام، وله أهمية خاصة لصفته المزدوجة، حيث إنه يبدو مضاربًا بالنسبة للمستثمرين (وهم أصحاب الأموال) من ناحية، كما أنه يبدو كمالك المال بالنسبة للمضاربين من ناحية ثانية) . (3) .

وفضلًا عن هذا، فإن هذا المضارب المشترك يتميز (عن نظيره في المضاربة الخاصة في مسألتين هامتين، هما: الشروط، والضمان، مسألة الشروط: لا مناص من إعطائه حق تحديد الشروط التي تتلاءم مع طبيعة الاستثمار الجماعي المشترك. وهذا يعني أن المضارب المشترك يتمتع بالاستقلال التام فيما يتعلق بالشروط التي كان يمكن للمستثمر ـ بصفته مالك المال ـ أن يفرضها على المضارب الخاص. وبالنسبة لمسألة الضمان، فإنه يضمن لما يسلم إليه من أموال لغايات الاستثمار؛ من المسائل الهامة على الصعيد العملي، وذلك باعتبار أن هذه المسألة تشكل ـ في حقيقتها ـ عنصرًا هاما في إنجاح عمل المضارب المشترك ـ كوسيط مؤتمن في مجال الاستثمار المالي)(4) .

(1) انظر ما أورده الدكتور حسن عبد الله الأمين من حديث عن المضاربة الجماعية، ولكنه كغيره تجاوز تحديد المراد بهذا المصطلح، وكذلك فعل الدكتور الصاوي أثناء مناقشته ما ورد من آراء حول هذه المسألة. . . انظر: المضاربة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور الأمين، ومشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام، للدكتور الصاوي.

(2)

انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 393 ـ 394 باختصار.

(3)

انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق. ص393- 394 باختصار.

(4)

انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ـ مرجع سابق، ص 397ـ 400 بتصرف واختصار.

ص: 1209

انطلاقًا من هذه الفروق والمزايا للمضاربة المشتركة وفق تصور الدكتور سامي، يمكن القول بأن المضاربة المشتركة عبارة عن عقد ثلاثي يتم على مرحلتين بين ثلاثة فرقاء وهم: مالكو الأموال (= الجهة الأولى = رب المال) والعاملون فيها (= الجهة الثانية = المضارب) والجهة الوسيطة (الجهة الثالثة = المضارب المشترك) بينهما، وتتمثل المرحلة الأولى في تعاقد ثنائي بين الجهة الوسيطة ومالكي الأموال، وأما المرحلة الثانية، فتتحق بين الجهة الوسيطة والعاملين، وبموجب هذين العقدين يكون للجهة الوسيطة (= المضارب المشترك) ـ دون غيرها ـ الحق في تحديد الشروط التي تراها مناسبة لحفظ المال من الضياع ولاستثماره، كما أنه يجب عليها مقابل ذلك، ضمان أموال المضاربة مطلقًا، سواء أكان منها تعد وتقصير، أم لم يكن منها تعد أو تقصير، كما أن لها نصيبًا من الربح نظير ضمانها أموال المضاربة، وإنما سمي هذا الشكل الجديد للمضاربة بالمضاربة المشتركة عند القائلين بها؛ ذلك لأن المضارب يعتبر عاملًا مشتركًا لأكثر من رب مال في آن واحد، ولا يختص بعمله مؤجر واحد.

وأما الأحكام والمسائل الجديدة الخاصة بهذا المضارب المشترك في تصور الدكتور سامي، فإنها تكاد تنحصر في كونه ضامنًا للأموال التي تدفع إليه في كل الأحوال، وفي كونه صاحب الحق في وضع الشروط التي تتلاءم مع نظام الاستثمار الجماعي المعاصر، ويعني هذا أنه إذا كان يد المضارب في المضاربة يد أمان لا يد ضمان، كما تواتر ذلك عند أهل العلم بالفقه، فإن يد المضارب المشترك يد ضمان، وليست يد أمان، بل لئن كان الغالب في المضاربة في الأصل أن يتكفل رب المال بوضع الشروط التي يراها للعامل (= المضارب) فإن الأمر في المضاربة المشتركة مختلف تمامًا، ذلك لأن المضارب المشترك هو المسؤول الأول والأخير عن وضع الشروط المناسبة والملائمة لاستثمار أموال المضاربة، ولا يحق لرب المال أن يضع له أي شرط من شأنه الحيلولة دون ممارسة ما يرنو إليه من منهجية في استثمار الأموال التي يتلقاها من الكافة.

ص: 1210

وبناء على هذا، فإن واقع المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة اليوم هو أنها بصفتها مضاربة مشتركة تبرم عقدًا بينها وبين عدد من المودعين (= رب المال) ، فتتلقى بموجبه أموالًا من المودعين على أساس المضاربة، ثم تبرم عقدًا ثانيًا منفصلًا بينها وبين عدد من المستثمرين (يعتبرهم المعاصرون = العاملين الفعليين) فتدفع بموجبه الأموال التي تلقاها من المودعين لهؤلاء المستثمرين ليقوموا باستثمارها في مختلف الأنشطة التجارية المتاحة التي يرتجي منها تحصيل أرباح لها وللمودعين وللمستثمرين. وبطبيعة الحال، تضمن تلك المؤسسات المالية جميع الأموال التي تودع عندها في حالة تلفها أو خسارتها بتعد وتقصير أو بغيرهما، كما أنها تتولى بنفسها وضع الشروط والضوابط التي تتلاءم مع الاستثمار الجماعي الحديث.

وبهذا، نصل إلى نهاية توضيحنا عن حقيقة المضاربة المشتركة وقبلها المضاربة في الفقه الإسلامي، وفي ضوئه يمكننا الانتقال إلى تحرير القول في أطراف هذه المضاربة المشتركة وتكييف العلاقات بينها وأثر ذلك التكييف على مكانة كل طرف، فهلم بنا إلى المبحث التالي:

ص: 1211

المبحث الثاني

في أثر تكييف العلاقة بين أشخاص المضاربة المشتركة

إن ثمة باحثين معاصرين يذهبون إلى القول بأن العلاقة بين أشخاص المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثلاثية ويعتبر المرحوم الأستاذ الصدر من أوائل الكتاب المعاصرين الذين اهتدوا إلى هذا القول، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد: (. . . ولكي نقيم العلاقات في البنك اللاربوي على أساس المضاربة بالنسبة إلى الودائع الثابتة يجب أن نتصور الأعضاء المشتركين في هذه المضاربة ونوعية الشروط والالتزامات والحقوق لكل واحد منهم. إن الأعضاء المشتركين في المضاربة ثلاثة:

1-

المودع بوصفه صاحب المال، ونطلق عليه اسم (المضارب) .

2-

المستثمر بوصفة عاملًا ونطلق عليه اسم (العامل أو المضارب) .

3-

البنك بوصفه وسيطًا بين الطرفين، ووكيلًا عن صاحب المال في الاتفاق مع العامل) (1) .

بالنظر فيما ذكره المرحوم من تكييف للعلاقة بين أشخاص المضاربة، نجد أن تجاوز تسمية هذه المضاربة بالمضاربة المشتركة، كما أنه أثبت للبنك (= المضارب المشترك) دورين في هذه العملية، أولهما: الوساطة بين أرباب الأموال والعاملين فيها، وأما الدور الثاني فيتمثل في تصرفه في أموال المضاربة وكيلًا عن أصحابها، وفضلًا عن هذا فإن البنك يتبرع بضمان أموال المضاربة دون اشتراط من أربابها ومن العاملين فيها.

(1) انظر: البنك اللاربوي، مرجع سابق، ص 26 باختصار.

ص: 1212

وبناء على هذا التكييف للعلاقات في هذه المضاربة، فإن البنك بوصفه وسيطًا وعضوًا غير أساسي يستحق جعالة مكافأة له على وساطته وعمله، كما يستحق نسبة معينة من حصة العامل في الربح، وهذا نص ما قاله المرحوم موضحًا الأثر المترتب على هذا التكييف: (حقوق البنك: إن العضو الثاني يتمثل في البنك، وهو في الواقع ليس عضوا أساسيًا في عقد المضاربة، لأنه ليس هو صاحب المال ولا صاحب العمل أي المستثمر، وإنما يتركز دوره في الوساطة بين الطرفين، فبدلًا من أن يذهب رجال الأعمال إلى المودعين يفتشون عنهم واحدًا بعد آخر، ويحاولون الاتفاق معهم، يقوم البنك بتجميع أموال هؤلاء المودعين، ويتيح لرجال الأعمال أن يراجعوا ويتفقوا معه مباشرة على استثمار أي مبلغ تتوفر القرائن على إمكان استثماره بشكل ناجح، وهذه الوساطة التي يمارسها البنك تعتبر خدمة محترمة يقدمها البنك لرجال الأعمال، ومن حقه أن يطلب مكافأة عليها على أساس الجعالة. والجعالة التي يتقاضاها البنك كمكافأة على عمله ووساطته تتمثل في أمرين:

الأول: أجر ثابت على العمل يمكن أن يفرض مساويًا لمقدار التفاوت بين سعر الفائدة التي يعطيها البنك الربوي وسعر الفائدة التي يتقاضاها، مطروحًا منها زيادة حصة المودع من الربح على سعر فائدة الوديعة، الثاني:. . . أن يكون للبنك زائدًا على ذلك الأجر الثابت جعالة مرنة على العامل المستثمر، تتمثل في إعطاء البنك الحق في نسبة معينة من حصة العامل في الربح) (1) .

ويمكن أن يلاحظ المرء أن المرحوم تجاوز إعطاء اسم خاص لهذا النوع من المضاربة تقريرًا منه كونها ذات المضاربة التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا، وكل ما في الأمر أن ثمة جملة حسنة من التعديلات والتغيرات طرأت على العديد من المسائل المرتبطة بها، الأمر الذي يستلزم القيام باجتهادات متجددة لبيان موقف الشرع من تلك المسائل في ضوء الواقع الذي نعيش فيه سعيًا إلى تسديديها بتعاليم الشرع الحنيف.

(1) البنك اللاربوي، ص 41 ـ 43 بتصرف واختصار.

ص: 1213

وقد تتابع الدكتور سامي الأستاذ المرحوم في تكييف العلاقة بين أطراف هذه المضاربة، وخالفه في الأثر المترتب على التكييف، وهذا نص ما قاله بهذا السياق (تختلف المضاربة المشتركة في أشخاصها عن المضاربة الخاصة، وذلك باعتبار أن المضاربة الخاصة ـ وإن تعدد الأشخاص الداخلون فيها ـ لا تخرج عن نطاق العلاقة الثنائية بين من يملك ومن يعمل فيه. لا تخرج عن نطاق العلاقة الثنائية بين من يملك المال ومن يعمل فيه. أما المضاربة المشتركة فإنها تضم ثلاث علاقات مترابطة تمثل مالكي المال، والعاملين فيه، والجهة الوسيطة بين الفريقين. . . ويتمثل الفريق الأول. . بجماعة المستثمرين وهم الذين يقدمون المال بصورة انفرادية. . وأما الفريق الثاني، فإنه يتمثل بجماعة المضاربين وهم الذين يأخذون المال منفردين أيضًا. . وأما الفريق الثالث، فإنه يتمثل في الشخص أو الجهة التي تكون مهمتها التوسط بين الفريقين لتحقيق التوافق والانتظام في توارد الأموال، وإعطائها للراغبين من الفريق الثاني للعمل فيها بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد. . ولهذا الفريق أهميته التي تتمثل في صفته المزدوجة التي يبدو فيها مضاربا بالنسبة للمستثمرين وهم أصحاب الأموال من ناحية، كما أنه يبدو كمالك المال بالنسبة للمضاربين من ناحية ثانية.

لذلك، فإن تعامل هذا الوسيط مع أطراف الفريق الأول المتعددين، وغير المعينين بشكل محصور يبعده عن أن يكون مضاربة خاصًا، ويقربه أكثر من إمكان وصفه بالمضارب المشترك، ذلك أن هذا المضارب لا يلتزم بالعمل كمضارب لشخص معين أو أشخاص معينين، بل هو يعرض خدمته على كل من يرغب في استثمار ما لديه من مال. أما بالنسبة للمضاربين، فإن المضارب المشترك يبدو أمامهم كمالك للمال، حيث إنه يعطيهم هذا المال بالشروط المنفردة التي يتفق بها مع كل من يتعامل معه على حدة.) (1) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 393 ـ 394 باختصار.

ص: 1214

وانطلاقًا من هذا التحديد للعلاقة بين أطراف المضاربة المشتركة، فإن البنك (= المضارب المشترك) يعتبر وسيطًا، كما يعتبر في حكم الأجير المشترك الذي يضمن الأموال التي تودع عنده، وضمانه لأموال المضاربة ليس من باب التبرع الذي ذكره المرحوم الأستاذ الصدر، وإنما خلال النظر إليه (. . . على غرار ما نظر به بعض أهل الفقه للأجير المشترك، وذلك فيما قرره له من أحكام. . . وإذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء الذي استؤجر عليه وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض، هما من العوامل التي دعت المالكية لاعتباره ضمانًا، فإن المضارب المشترك لا يقل شبهًا في وضعه بالنسبة للمستثمرين عن الأجير المشترك، حيث ينفرد المضارب المشترك بإدارة المال وإعطائه مضاربًا كيف يشاء ولمن يشاء، فلو لم يكن ضامنًا لأدى به الحال ـ جريًا وراء الكسب السريع ـ إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين المقامرين دون تحفظ أو مراجعة للموازين، مما يؤدي إلى إضاعة المال، وفقدان الثقة العامة، وما قد يترتب على ذلك من إحجام الناس عن دفع أموالهم للاستثمار، وهو الأمر الذي يعود على المجتمع كله ـ نتيجة ذلك الإحجام ـ بالضرر والخسران. . .)(1) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، ص 399ـ 402 باختصار وتصرف.

ص: 1215

وبناء على هذا، فإن المضارب المشترك يجب عليه أن يضمن مال المضاربة في حالة تلفه أو خسارته، سواء أوقعت تلك الخسارة نتيجة تقصير أم نتيجة تعد منه، شأنه في ذلك شأن الأجير المشترك الذي يضمن الأموال التي تودع عنده مطلقًا. وانطلاقًا من ضمانه لمال المضاربة، فإنه يستحق مقابل ذلك نسبة من الربح عند الدكتور سامي، وهذا نص ما قرره الدكتور بهذا الصدد: إن (القاعدة) لا يستحق الربح إلا إذا كان منه مال أو عمل أو ضمان، وبما أنه (= القاعدة) ليس له. . مال ولا عمل، فلا يتبقى إلا القول بالضمان كسبب لاستحقاق الربح. . . وإذا كان هذا السبب (= أي الضمان) من أسباب استحقاق الربح. . . في نطاق المضاربة الخاصة عندما لا يعمل المضارب بنفسه في المال المدفوع إليه مضاربة، فإن تقرير الضمان بالنسبة للمضارب المشترك الذي يعمل ـ بنفس الأسلوب ـ ولسائر الناس منفردًا بالمال الذي يسلمونه إليه، يبدو أكثر جدارة بالمراعاة. . .) (1) .

وتأسيسًا على هذا الأمر، فإن المضارب المشترك يستحق ـ عند الدكتور سامي ـ نسبة من الربح مقابل ضمانه أموال المضاربة خلافًا لما قرره الأستاذ المرحوم الصدر من قبل بأنه يستحق الأجر والربح معًا مقابل وساطته وعمله لا مقابل ضمانه الذي اعتبره تبرعًا لا يستحق أجرًا أو مكافأة عليه.

وقريبًا مما ذهب إليه الدكتور سامي وقبله المرحوم الصدر، يرى الدكتور رفيق المصري أن البنك يعتبر وسيطًا ووكيلًا والعلاقة الفعلية هي بين أرباب الأموال (= المودعين) الذين يتحركون من خلال البنك، وبين رجال الأعمال المستثمرين (= المضاربين)، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد:(. . هناك تكييف قانوني أفضل وأكثر ملاءمة بحيث لا نحتاج إلا لعقد شركة واحد يكون فيه رجال الأعمال المستفيدون عمالًا مضاربين، والمودعون أرباب مال يتحركون من خلال البنك كوسيط أو وكيل بأجر أو بعمولة. . .)(2) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، ص 405 باختصار وتصرف.

(2)

انظر: المصري، مصرف التنمية الإسلامي، ص 250 (بيروت، مؤسسة الرسالة، طبعة ثانية، عام 1981 م) .

ص: 1216

إن الأثر المترتب على هذا التكييف لا يختلف كثيرًا عما ذكره المرحوم الصدر، ذلك أن البنك بوصفه وسيطًا لا عاملًا أو شريكًا، يستحق أجرًا أو عمولة مقابل وساطته أو وكالته، وليس له شيء من الربح، وإنما الربح للمودعين ورجال الأعمال المستثمرين، وليس بخاف أن هذا التكييف يقوم على تصوير غير واقعي لحقيقة المضاربة التي تجريها المؤسسات المالية الإسلامية، ذلك لأن المودعين في حقيقة الأمر لا يتعاقدون مع رجال الأعمال، وإنما تعاقدهم مع البنك، وفضلًا عن هذا، فإن البنك لا يعرف ـ في معظم الأحيان ـ رجال الأعمال المستفيدين أثناء تعامله مع المودعين، بل إن المودعين لا يعرفون البنك إلا مضاربًا وعاملًا لا وسيطًا أو وكيلًا، فأنى يستقيم القول بأن البنك وسيط أو وكيل الحال أن ليس ثمة عقد وكالة أو وساطة بين البنك والمودعين، وفضلًا عن هذا، فإن هذا التكييف ينتظم غموضًا، حيث إنه لم يحدد مصدر الأجر أو العمولة التي يستحقها البنك مقابل وساطته، إذ إنه من الممكن أن يكون المودعون مصدر ذلك، ومن الممكن أيضًا أن يكون رجال الأعمال المستفيدون هم مصدر ذلك، ومن الممكن أيضًا أن تكون كلتا الجهتين مصدر ذلك، مما يعني أن البنك يستحق أجرًا وعمولة من المودعين ومن رجال الأعمال المستفيدين، وقد كان حريًا بهذا التكييف تحقيق القول في هذا الجانب الغامض في التكييف.

ص: 1217

وعلى العموم، لئن انتهى الدكتور المصري، وقبله الدكتور سامي والأستاذ المرحوم الصدر إلى اعتبار العلاقة بين أطراف المضاربة المشتركة ثلاثية إن صراحة أو ضمنًا، فإن ثمة زمرة من الباحثين المعاصرين خلصوا إلى اعتبار العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، ومن أولئك الباحثين الدكتور المرحوم محمد عبد الله العربي، الذي انتهى في بحثه القيم المعنون (التوجيه التشريعي الإسلامي) إلى القول بأن العلاقة ثنائية في كل الأحوال، وهي علاقات منفصلة غير مترابطة، وهذا نص ما قاله بها الصدد:(. . . يعتبر المودعون ـ في مجموعهم لا فرادى ـ (رب المال) والبنك هو (المضارب) مضاربة مطلقة، أي يكون له حق توكيل غيره في استثمار مال المودعين. . . ويعتبر البنك بالنسبة لأصحاب المشروعات الاستثمارية الذين أمدهم بماله هو رب المال، ويعتبر أصحاب المشروعات هم المضارب. . .) (1) . وأما نصيب المصرف في كلتا الحالتين، فهو الربح مقابل عمله، ويتحصل عليه بعد خصمه مصاريفه العمومية (. . . بما فيها من أجور موظفيه وعماله، وبما فيها احتياطات قد يفرضها القانون الوضعي على البنوك باعتبارها شركات مساهمة. . .)(2) .

(1) انظر: العربي، بحث بعنوان: التوجيه التشريعي الإسلامي (بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية) : 1/ 52 ـ 53 بتصرف واختصار.

(2)

انظر: العربي، بحث بعنوان: التوجيه التشريعي الإسلامي (بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية، ص 53 باختصار.

ص: 1218

من الملاحظ فيما ذكره المرحوم العربي في تكييفه الرائع أن هذا الشكل من المضاربة يجب أن يكون مطلقًا، فهي وحدها التي تتسع لهذا الأمر، ولا شك أن هذه الملحوظة تعتبر هامة وضرورية لا غنى عنها البتة عند الحديث عن المضاربة في نطاق المصارف والمؤسسات المالية والمختلفة، وسيأتي معنا مزيد بيان كون المضاربة الموسومة اليوم بالمضاربة المشتركة جزءًا لا يتجزأ من المضاربة المطلقة التي سبق لأئمة الفقه أن أوسعوها جانب التفصيل والتحقيق والشرح.

وعلى العموم، لئن انتهى المرحوم إلى هذا التكيف، فإن الدكتور حسن الأمين هو الآخر انتهج ذات المنهج في تكييف العلاقة بين أطراف هذا العقد، وأكد أن العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، غير أنه لم يهتد إلى اعتبار هذه المضاربة مضاربة مطلقة كما فعل المرحوم العربي، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد:(. . العلاقة هنا بين المدخرين أصحاب الأموال التي ترد إلى البنك، وبين البنك ـ عامل المضاربة ـ بهذه الأموال بنفسه مباشرة، أو بدفعها لمضارب ثان، هي علاقة ثنائية طرفاها البنك من جهة والمدخرون ـ أصحاب الأموال ـ من جهة أخرى، سواء أقام البنك بالعمل مضاربة بهذه الأموال، أم أعطاها إلى آخرين للعمل بها على نفس مبدأ المضاربة، على أن يكون نصيب المضارب الثاني من نصيب البنك الخاص، المتفق عليه كنسبة شائعة من الربح مع أصحاب الأموال، ولو استغرق ذلك جميع نصيب البنك، من غير أن يتأثر نصيب أصحاب الأموال المتعددين بشيء من ذلك، وفي هذه الحالة الثانية، تصبح العلاقة ثنائية أيضًا بين البنك والمضارب الثاني، من جهة أخرى، ولا يكون البنك وسيطًا بين أصحاب الأموال الاستثمارية والمضارب الثاني وإنما تنحصر علاقة المضارب الثاني مع البنك فقط باعتباره عاملًا له، ويظل البنك في هذه الحالة صاحب العلاقة بمفرده مع أصحاب الأموال الاستثمارية مسؤولًا عن هذه الأموال أمام أصحابها وضامنًا لها عند التقصير أو التعدي من المضارب الثاني، على أن يكون له الحق في أن يعود عليه بما ضمن)(1) . وبمقتضى هذا التقرير عند الدكتور الأمين، فإن البنك يستحق الربح مقابل عمله في كلتا الحالتين، وتتفاوت نسبة ربحه بتفاوت درجات عمله، فإذا كان العامل الوحيد، كانت نسبته أعلى، وإذا ضارب غيره، فإن نصيب المضارب الثاني من الربح يؤخذ من نصيبه، وهكذا دواليكم.

(1) انظر: المضاربة الشرعية، مرجع سابق، ص56 باختصار.

ص: 1219

على أنه من الجدير بالتقرير أن عامل المضاربة الذي يستحق النسبة المذكورة من الربح في هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة الجماعية هم جميع مساهمي المصرف الممثلين بمجلس الإدارة، فهولاء هم الذين يعتبرون عند الدكتور الأمين (. . عامل المضاربة، وأصحاب الودائع الاستثمارية هم أصحاب المال في عمليات المضاربة المشتركة التي تجريها المصارف الإسلامية، أما الإدارة التنفيذية، فتعتبر أداة عمل يستعملها ويستعين بها مجلس الإدارة ـ النائب عن المضارب المشترك ـ أصحاب الأسهم باعتبارهم بمجموعهم شخصية معنوية ذات ذمة في عمليات المضاربة المشتركة التي تمارسها المصارف بأموال المستمثرين. . .)(1) .

وبطبيعة الحال، لا يعدو هذا التحديد أن يكون مسألة نسبية خاضعة لتنظيم المصرف، إذ إنه من حقه أن يعتبر الإدارة التنفيذية مع مجلس الإدارة العامل، كما أنه من حقه أن يذهب إلى التقسيم الذي ذكره الدكتور. وعلى العموم، فإنه من الحري بالإشارة أن الدكتور الأمين تغاضي في بيان العلاقة بين أطراف هذه المضاربة عن الربط بينها وبين مسألة الضمان التي تعتبر إحدى أهم المسألتين اللتين تختلف بسببهما المضاربة المشتركة عن المضاربة الخاصة، وبدلًا من ذلك قرر الدكتور في موضع آخر من كتابه أن المضارب أنى كان مشتركًا أو خاصًا لا يضمن بأي حال من الأحوال، وانتقد سائر الأدلة التي استند إليها الدكتور سامي في تقرير مبدأ ضمان المضارب المشترك، وسيأتي معنا مزيد بيان حول هذه القضية إن شاء الله.

(1) انظر: المضاربة الشرعية: ص 56.

ص: 1220

وبهذا نصل إلى نهاية عرضنا لأطراف العلاقة في هذه المضاربة، وقد تبين لنا الأثر العملي الذي يترتب على نظرة الباحثين المعاصرين إلى طبيعة هذه العلاقة، وإن يكن لنا من وجهة نظر فيما انتهوا إليه من تحرير وتقرير، فإننا نميل إلى ترجيح القول بأن العلاقة بين أطراف هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثنائية في جميع الأحوال، ويعتبر المودعون أرباب مال، وأما البنك فيعتبر عاملًا (= مضاربًا) في الأموال التي تودع عنده وأما عمل أولئك الذين يقومون بما يسمى بالاسثتمار الفعلي للأموال (= المستثمرون) فإنه يعتبر جزءًا لا يتجزأ من عمل البنك المتمثل في الإشراف والتنظيم والتخطيط والتوجيه ويعني هذا أنه ليس ثمة منطق علمي سديد في وصف عمل البنك بالوساطة أو الوكالة أو سوى ذلك، ذلك لأن العمل في المنظور الاقتصادي الإسلامي الشامل لا ينحصر ـ بأي حال من الأحوال ـ في الجهد العضلي فقط، ولكنه ينتظم ذلك الجهد حينًا، كما ينتظم الجهد الذهني والتنظيمي والإشرافي والتخطيطي حينًا آخر، وبالتالي، فإن التخطيط والإشراف والتوجيه والتنظيم الذي يقوم به البنك أثناء تعامله مع أولئك المتعاملين معه يمثل كل ذلك جزءًا من عمل المضارب (= البنك) ، وليس جزءًا خارجًا عن العمل المشروع للمضارب في مال المضاربة وخاصة المضاربة المطلقة، وقد اهتدينا إلى هذا القول بناء على أسباب علمية موضوعية متعددة من أهمها:

أولًا: إن المضارب (= المؤسسة المالية) يتعاقد مع رب المال (متعددًا أو غير متعدد) عقدًا ثنائيًا بينهما، ولا يوجد أي طرف ثالث اثناء انعقاد عقد المضاربة بينهما، وبالتالي فإن العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، على أن علاقة المضاربة (= المؤسسة المالية الإسلامية) بعد ذلك مع الأطراف الأخرى يمكن لها أن تتعدد كما يمكن لها أن تكون ثنائية أيضًا، ويرجع تحديد طبيعة تلك العلاقة إلى تحديد نوعية العمل الذي يقوم به المضارب مع أولئك الأطراف. وعليه فالعلاقة ثنائية على مستوى عقد المضاربة الأصلي، وأما علاقات المضارب بغيره بعد انعقاد عقد المضاربة فإن تحديدها متروك لطبيعة العمل ونوعه، وقابل لأن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو سوى ذلك.

ص: 1221

ثانيًا: إن إدراج العلاقات التي يعقدها المضارب (= المؤسسة) بعد تعاقدها مع أرباب الأموال في عقد المضاربة الأول، من شأنه التجاوز بالعلاقات من أن تكون ثنائية إلى أن تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية. . . إلخ، أعني أنه إذا كنا نعتد بسائر العلاقات التي تعقد بعد انعقاد عقد المضاربة بين المؤسسة والمودعين، فإننا لن نستطيع أن نحصرها في ثلاث علاقات فقط، ذلك لأن للمضارب (= المؤسسة) أن يتعاقد مع من يسميهم الباحثون المعاصرون بالمستثمرين الفعليين، ومن الوارد أن يتعاقد أولئك المستثمرون الفعليون أيضًا مع غيرهم، ويمكن لأولئك الغير أن يتعاقدوا مع غيرهم، مما يعني عدم انتهاء سلسلة العلاقات بين المستثمرين، ولهذا فإن العلاقة لا ينبغي لها أن تحول من ثنائيتها إلى ثلاثية أو رباعية أو خماسية أو سواها، ولا ينبغي الربط بين عقد المضاربة والعقود التي تليها وهي منفصلة عنه أطرافًا وشروطًا.

ثالثًا: أنه لا بد من اعتبار العلاقة ثنائية، ذلك لأن المضاربة (= المؤسسة عندما تعاقد مع أرباب الأموال لم يكن المضارب ولا رب المال يعرف ذلك الطرف الثالث (= المستثمرين الفعليين) فكيف يصح اعتباره ـ والحال كذلك ـ طرفًا في عقد المضاربة. إن هؤلاء الذين يسمون بالمستثمرين الفعليين ليسوا أطرافًا مستقلة في عقد المضاربة، ولكنهم جزء من العامل المتمثل في المؤسسات المالية الإسلامية، وتعامل هذا العامل معهم يندرج ضمن التصرفات التي يجوز للمضارب فعله إذا كانت المضاربة مطلقة وعامة.

ص: 1222

رابعًا: أن الفقهاء الأقدمين تناولوا بشيء من الاستفاضة والتفصيل الأحكام التي تتعلق بتصرف المضارب (= المؤسسة) في مال المضاربة خلطًا (= شركة) بينها، واختلفوا في ذلك، إذ رأى الحنفية والمالكية والحنابلة والإمام الثوري جواز ذلك للمضارب إذا قال له رب المال أثناء انعقاد العقد: اعمل برأيك، وليس عليه ضمان في حالة هلاك الأموال، وأما الشافعية فإنهم يرون أنه لا يجوز للمضارب الخلط بين ماله ومال المضاربة، وأن عليه الضمان إذا فعل ذلك (1) .

ولا يخفى وجاهة ما ذهب إليه الجمهور وهو ترك الأمر لتقدير المضارب لما يؤدي إلى تحقيق الربح للمال المستثمر، على أن هذا النوع من التصرف (= الخلط بين أموال المضاربة) يندرج ضمن التصرفات التي يصح للمضارب الإقدام عليها إذا كانت المضاربة مطلقة وعامة، وعليه فإن هذه التصرفات لا تنفصل عن عمل المضارب في واقع الأمر، فإذا استعان بغيره في تحقيقها، كان ذلك تعاونًا بينه وبين ذلك المتعاون.

(1) لمزيد من التوضيح حول هذه المسألة، يراجع: المغني ـ مرجع سابق: 5/ 50 وما بعدها.

ص: 1223

خامسًا: أن اعتبار المصرف وسيطًا محل إشكال ونقد، ذلك لأن عقد المضاربة عندما عقدت، عقدت بينه وبين المودعين، ولم يكن ثمة مستثمرين معروفون حتى يتوسط المصرف بينهم وبين المودعين، فالمصرف يتلقى الأموال ثم يبحث عن المستثمرين، فأنى يستقيم اعتبار المضاربة عقدًا بين مستثمرين على ذمة الوجود ومودعين موجودين بالفعل؟ وعليه فإنه ينبغي اعتبار المصرف عاملًا لا غير، ومن حق هذا العامل، ما دامت المضاربة مطلقة، أن يستعين بغيره من العمال أو التجار للقيام بواجب الاستثمار لأموال المودعين، كما أن من حقه أن ينحصر دورة في التنظيم والإشراف على عمل أولئك الراغبين في استثمار أموال المودعين، وما يتفق عليه المصرف مع أولئك المتعاونين معهم مرابحة أو شركة أو مضاربة أو بيعًا وشراء أو غير ذلك، يلتزم به كل واحد منهم.

سادسًا: أن الوساطة في تصورنا لا تخلو من أن تكون عملًا أو غير عمل، فإن كانت عملًا، فإن قيام المضارب (= المؤسسة المالية) بها يمثل ذلك جزءًا من العمل المطلوب منه أداؤه لتنمية المال واستثماره، وبالتالي فإن اعتبار العلاقة ثلاثية لا يستقيم ما دامت الوساطة والتنظيم جزءًا من العمل الذي ينبغي أن يقوم به المضارب (= المؤسسة المالية) ، فالعقد ـ في حقيقته ـ انعقد بين عامل ـ يعاونه عدد من الأفراد ـ وبين أرباب أموال كثيرين فالعلاقة إذا ثنائية وليست ثلاثية.

سابعًا: أننا نعتقد أن الذي أوقع كثيرًا من الباحثين المعاصرين في حيرة من أمرهم عند تكييفهم للعلاقات بين أطراف هذا العقد، يعود إلى عدم اعتدادهم بالتنظيم والإشراف والتخطيط عنصرًا معتبرًا ومهمًا وضروريًا من عناصر العمل المطلوب اليوم في المضاربة وسواها من المعاملات الشرعية، والحال أن التنظيم والإشراف والتخطيط أجزاء من العمل المطلوب اليوم في الاستثمار، ولهذا فلو لم يحصر أولئك الباحثون المعاصرون مفهوم العمل في دائرة العمل العضلي، لما كانت ثمة صعوبة في اعتبار المصرف عاملًا (= مضاربًا) في سائر الأحوال ولهذا فإننا نرى أن الحاجة تمس اليوم إلى العودة المتأنية إلى اعتماد المفهوم الواسع لمصطلح العمل وعدم حصره في العضليات فقط، إنه ليس من مرية في أن هذه العودة ستخرجنا من هذه الحيرة التي دفعت بالكثيرين إلى مختلف التكييفات المذكورة.

ص: 1224

هذه بعض الأسباب العلمية والموضوعية التي انطلقنا منها في تقرير القول بأن طبيعة العلاقة بين أطراف هذا الشكل الجديد وغيره من أشكال المضاربة في المنظور الإسلامي ثنائية، وأن المصرف يعتبر في جميع الأحوال مضاربًا يستحق نصيبه من الربح مقابل عمله سواء أكان ذلك العمل عملًا عضليًا، أم عملًا فكريا وعلميًا وذهنيًا كالتنظيم والإشراف وسواهما.

وصفوة القول، فإن المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة التي تتلقى الأموال من أربابها، تعتبر (المضارب) في تلك الأموال، ويعتبر مودعو الأموال (رب المال) ونسبة الأرباح بينهم حسب ما اتفقوا عليه، وأما طبيعة العلاقة بين البنك (المضارب) وغيره من الجهات فإنها تختلف باختلاف طبيعة العمل الذي يمكن أن يكون شركة أو مرابحة أو بيعًا أو شراء أو سوى ذلك، وأما الشروط التي تضعها المؤسسات أو أرباب الأموال لبعضهم البعض في عقد المضاربة، فإننا نرى أنه ينبغي أن يتم النظر إليها في ضوء الاجتهادات السابقة لمعرفة مدى صلاحيتها للواقع الذي نعيش فيه.

على أن النظر إلى المسائل التي يجود بها الواقع الاقتصادي المعاصر في ضوء الاجتهادات لا يعني بأي حال من الأحوال عدم تجاوز تلك الاجتهادات إذا تبين عدم جدواها وكفاءتها لتوجيه تلك المسائل توجيهًا علميًا متكاملًا ذلك لأن الاجتهادات التي ورثناها عن أئمة الفقه إزاء معظم المسائل والقضايا المرتبطة بالمضاربة وغيرها من المعاملات لم تخل ـ كما قررنا ـ من التأثر بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي السائد، مما يعني أن أي تغير يطرأ على أي جانب من جوانب ذلك الواقع، يؤذن بتغير ما انبنى عليه من اجتهاد، ويمكن لذلك التغير أن يأخذ أشكالًا وأنماطًا متعددة ومتنوعة.

ص: 1225

ومهما يكن من شيء فإن اعتماد التكييف الذي انتهينا اليه من شأنه تضييق دائرة الاختلاف حول ما يستحقه المصرف مقابل مشاركته في عملية المضاربة بوصفه أحد طرفي العقد عند انعقاده، ذلك لأن تكييفنا يؤكد كونه مضاربًا فصاحب حق في نسبة شائعة من الربح يتم الاتفاق عليها عند العقد، وأما مختلف المسائل التي نسجت حول المضاربة المصرفية، وأبرزت تلك المضاربة كأنها تختلف جملة وتفصيلًا عن المضاربات التي كان يمارسها الناس في سالف الزمان فإنه لا بد من النظر إلى تلك المسائل ـ كما أسلفنا ـ بصورة منفصلة عن ماهية المضاربة وجوهرها.

وإذ الأمر كذلك، فإننا نصل بهذا التقرير إلى نهاية تحقيقنا حول أثر تكييف العلاقة بين أطراف المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، ولنتقل بعد هذا إلى تحقيق القول في عدد من المسائل الهامة التي نسجت حول هذه المضاربة واعتبرت ـ على حين غرة ـ أسبابًا لإيجاد هذا الشكل من المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة في هذا العصر! .

ص: 1226

المبحث الثالث

في مسائل هامة منسوجة

حول المضاربة المشتركة وموقف الشرع منها

لقد أوضحنا من قبل أن الباحثين المعاصرين الذين اخترعوا مصطلح المضاربة المشتركة، بذلوا ما وسعهم من جهد في تثبيت أركان هذا المصطلح بتقريرهم القول بأن ثمة مسائل مهمة تمثل الفوارق المميزة للمضارب المشترك عن نظيره في المضاربة الخاصة، وتعتبر تلك المسائل الأسباب الرئيسة للدعوة إلى إيجاد هذا الشكل (الجديد) من المضاربة في العصر الراهن، وتتلخص تلك المسائل ـ في نظر القائلين به ـ في مسألتين هامتين، وهما: مسألة الشروط ومسألة الضمان، وانطلاقًا مما يشوب هذا المنطلق من غموض علمي يرد على اتخاذ تينكما المسألتين وسواهما أسسًا لإثبات فكرة المضاربة المشتركة، لذلك نرى أن نعرض كل واحدة منهما بصورة منهجية لنرى مدى انفراد المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة بهما دون غيرها.

ص: 1227

أولًا ـ مسألة الشروط ومدى تأثيرها على حقيقة المضاربة:

يذهب مهندسو فكرة المضاربة المشتركة إلى القول بأن رب المال يستطيع في المضاربة الخاصة (= المضاربة المقيدة) أن يشترط ما شاء من شروط على من يضارب له في ماله وذلك عن طريق الاشتراط العام، أو عن طريق الاشتراط المحدد بالعمل في بلد معين، أو صنف معين من الأقمشة أو الطعام، وعلى الرغم من صحة هذه الاشتراطات وجوازها في ميدان المضاربة الخاصة إلا إن اشتراط أمثالها في المضاربة المشتركة غير وارد بتاتًا، ذلك لأن (. . . ما يتطلبه العمل المشترك من ضوابط تنظيمية يجعل من المتعذر فيه، تقييد المضارب بمثل هذه القيود عن طريق الاشتراط الخاص الذي قد يتراءى لهذا المستثمر، أو ذاك أن يشترطه في مجال استثمار المال الذي يقدمه. . . ولذلك فلا مناص بالنسبة للمضارب المشترك من إعطائه حق تحديد الشروط التي تتلاءم مع طبيعة الاستثمار الجماعي المشترك، وهذا يعني أن المضارب المشترك يتمتع بالاستقلال التام فيما يتعلق بالشروط التي كان يمكن للمستثمر ـ بصفته مالك المال ـ أن يفرضها على المضارب الخاص. أما بالنسبة للمضارب المشترك في علاقته مع المضاربين له، فإنه يبقى متمتعًا بحق الاشتراط الذي يراه مناسبًا لحفظ المال من الضياع في إطار ما يحدده الفقه الإسلامي بهذا الخصوص، وذلك باعتبار المضارب المشترك ـ بالنسبة للمضاربين ـ هو مالك المال ـ أصالة أو وكالة)(1) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق ص 398 ـ 399 باختصار.

ص: 1228

إن مغزى هذا التقرير هو أن المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة لا تقبل تقييد المضارب فيها، ولا تطيق ـ بأي حال من الأحوال ـ وضع أي قيد أو شرط على تصرفاته في مال المضاربة، بل يجب أن يكون مستقلًا في تصرفاته، وأن يعطي الحق كل الحق في وضع الشروط والضوابط التي يجب على أرباب الأموال الالتزام بها والوقوف عندها، خلافًا للمضاربة الخاصة التي تصلح لتقييد تصرفات المضارب.

على أن هذا الاستقلال يكاد أن يختص به المضارب المشترك دون غيره، بل يكاد أن يكون محصورًا في علاقته مع المودعين فقط. وأما بالنسبة لعلاقته هو مع المستثمرين، فإن له الحق في وضع ما شاء من الشروط والضوابط، كما أن له تقييد تصرفات أولئك المستثمرين في الأموال التي يدفعها إليهم نيابة عن أصحاب الأموال المودعين.

وبناء على هذا، فإن ثمة فرقًا بين الحالتين، فالمضارب المشترك في الحالة الأولى يعتبر مستقلًا وصاحب الحق في صياغة ما يروق له من شروط وضوابط، ولا يجوز للمودعين الاعتراض على شروطه الهادفة إلى حفظ المال من الضياع، وتثميره وتنميته. وأما المضارب المشترك في الحالة الثانية، فإنه يملك سائر الشروط التي يملكها أرباب الأموال، ويجوز له اشتراطها على المضاربين معه صيانة لأموال المودعين وتحقيقًا للربح المرجو من عقد المضاربة، وأما المضاربين فليس لهم كما أسلفنا ـ الاعتراض على سائر شروط المضارب المشترك.

ص: 1229

هذه هي حقيقة المسألة التي اعتبرها الدكتور سامي خاصة بالمضارب المشترك دون سواه، وجلي فيها أنها ليست مسألة جديدة كما يذكر، بل لا تعدو أن تكون تثبيتًا وتقريرًا لكون هذه المضاربة المسماة بالمضاربة المشتركة مضاربة مطلقة لا غير، فحقيقة المضاربة المطلقة ـ عند الفقهاء ـ هي عدم تقييد رب المال تصرفات المضارب في مال المضاربة، وإعطاؤه الاستقلال التام في اختيار مجال الاستثمار ومكانه وزمانه وصفة من يتعامل معه، كما هو الحال هنا في هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، وسيأتي معنا مزيد من البيان والتفصيل حول هذا الأمر في نهاية هذه الدراسة.

وأما بالنسبة لعلاقة المضارب المشترك بالمتعاملين معه مضاربة أو مشاركة أو مرابحة، فإنها لا تخرج عن دائرة العلاقة بين مختلف الأطراف في المعاملات المالية المشار إليها سابقًا، نعني أنه إذا اختار المضارب المسمى بالمضارب المشترك اعتبار أولئك المتعاملين معه مضاربين فإن له الحق في صياغة الشروط التي يراها مناسبة لتحقيق استثمار فعال لأموال المضاربة التي يتلقاها من الكافة فلو افترضنا أنه لجأ إلى اعتبار أولئك المتعاملين معه مضاربين، وغدا هو رب المال ـ تجاوزًا، فإنه له ذات الحق في وضع الشروط التي يراها مناسبة لتحقيق الهدف المنشود من المضاربة وهو الاسترباح والاستثمار، وأما لو اختار المرابحة مجالًا لاستثمار أموال المضاربة، فإن له أيضًا الحق في صياغة ما يشاء من شروط وضوابط من شأنها صيانة المال من الضياع وتحقيق أكبر قدر معتبر من الربح له وللمتعاملين معه ولأرباب الأموال.

ص: 1230

فصفوة القول، إن وضع الشروط والضوابط لا ينبغي أن ينظر إليه بوصفه شأنًا جديدًا في عالم المضاربة أو المعاملات الأخرى، وليست العبرة في وضع الشروط ـ وذلك حق لجميع أطراف المعاملات في الإسلام ـ ولكن العبرة كل العبرة في نوعية وطبيعة الشروط التي توضع، فإذا تعارضت تلك الشروط مع المبادئ الإسلامية المعتبرة، عندئذ ترد وتصادر، ولا يلتفت إليها، بغض النظر عن واضعها

وعليه، فإننا نرى أنه لا حاجة عن تهويل شأن مسألة الشروط واتخاذها ذريعة لتقرير فكرة المضاربة المشتركة، وخاصة أنه ليس ثمة فقيه قديم أو معاصر يعترض على إعطاء المضارب المشترك أو رب المال الحق في وضع الشروط والضوابط التي يراها مناسبة وضرورية لاستثمار الأموال من جهة، أو وضع الشروط والضوابط التي يعتبرها جديرة لتحقيق صيانة وحفظ لمال المضاربة من جهة أخرى.

مما يعني أنه ما كان لهذه المسألة لأن تجعل من المضاربة المشتركة شأنًا غير عادي، وخاصة أن الفقهاء من قديم الزمان أصلوا القول في هذا الشأن، وأعطوا الاستقلال كل الاستقلال لأطراف العقود المختلفة، بما فيها عقد المضاربة المطلقة وغيرها ـ في وضع ما يروق لهم من شروط وضوابط وقواعد للتعامل مع بعضهم البعض، ويعني هذا أنه لا منطق في اتخاذ مسألة الشروط حدًّا فاصلًا بين هذا الشكل (الجديد) للمضاربة والمضاربة الخاصة أو العادية، ورحم الله ابن رشد ـ وغيره من الفقهاء ـ عندما قرر هذا الأمر، فقال:(. . . الباب الثاني في مسائل الشروط. وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما أدى إلى غرر أو مجهلة زائدة، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما لنفسه من الربح شيئًا زائدًا غير ما انعقد عليه القراض أن ذلك لا يجوز لأنه يصير ذلك الذي انعقد عليه القراض مجهولًا. . .)(1) .

وإذ الأمر كذلك، أليس من الحري بنا الفصل بين مسألة الشروط وحقيقة المضاربة المشتركة وغير المشتركة، بل أليس حقيقًا علينا أن نستغنى عن هذا المصطلح المقترح ما دام في مصطلح المضاربة المطلقة الغنية كل الغنى في تحقيق كل ما يصبو إليه مهندسو فكرة المضاربة المشتركة؟

(1) انظر: بداية المجتهد، مرجع سابق: 2/ 238 باختصار.

ص: 1231

ثانيًا ـ مسألة لزوم عقد المضاربة وأثر الاسترداد على اقتسام الربح:

ثمة مسألة مرتبطة بمسألة الشروط، وهي مسألة لزوم عقد المضاربة وعدم لزومه قبل وبعد شروع العامل في العمل في مال المضاربة بحيث يجوز للأطراف المشاركة فسخه في أي وقت شاؤوا دون موافقة الطرف الآخر، ومسألة أثر سحب أرباب الأموال أموالهم أو جزءًا منها قبل نهاية العقد المبرم بينهم وبين المضارب (= المؤسسة المالية الإسلامية) في أي وقت أرادوا ذلك، وأثر ذلك السحب على اقتسام الربح.

يرى الباحثون أن هاتين المسألتين الفرعيتين عن مسألة الشروط من المسائل التي تبرر اعتماد فكرة المضاربة المشتركة بديلًا عن المضاربة الخاصة للاستثمار الجماعي في هذا العصر، وهذا نص ما قاله الدكتور سامي:(والأهم من ذلك كله، أن له (يقصد رب المال) أن يفسخ العقد ويكلف المضارب بتنضيض رأس المال (أي تحويله إلى نقود) عند من لم يعتبر المضاربة أنها عقد لازم، فكيف يمكن لنا أن نتصور قيام نظام استثمار جماعي يمكن أن يشترط فيه رب المال هذه الشروط والتي هي شروط من حقه أن يشترطها في نطاق التعاقد الخاص بالنسبة لعقد المضاربة) (1) .

إنه ليس بخاف على كل من له معايشة واطلاعٌ على المدونات الفقهية المتوافرة أن مسألة لزوم عقد المضاربة قبل وبعد الشروع فيه مسألة اجتهادية، سبق لأهل العلم بالفقه أن اختلفوا فيها، وخاصة بعد شروع العامل في العمل، وفي هذا يقول ابن رشد:(. . أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض، واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وهو عقد يورث. . . وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهما الفسخ إذا شاؤوا وليس هو عقدًا يورث، فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر ورآه من العقود الموروثة، والفرقة الثانية، شبهت الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل. . .)(2) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص385 باختصار.

(2)

انظر: بداية المجتهد، مرجع سابق: 2/ 240 باختصار.

ص: 1232

وبناء على هذا، فإن هذه المسألة تعتبر من صميم المسائل الاجتهادية في المضاربة، ولا تسمو كغيرها من مسائل الاجتهاد على المراجعة والنقد، إذ إنه لم يرد في شأنها نص من الكتاب أو السنة مما جعلت الآراء تتعدد فيها. على أن اختيار رأي من الآراء الواردة فيها يحتاج إلى الاجتهاد انتقائي ترجيحي يتخذ من مختلف العوامل والقرائن المستجدة أسسًا لتبنى الرأي الذي يخاطب الواقع المعيش ويلبي متطلباته. وعليه، فليس هنالك مبرر لاعتبار هذه المسألة عقبة كؤودًا في طريق المضاربة في هذا العصر سواء أكانت المضاربة خاصة أم مشتركة.

وأما بالنسبة لمسألة الاسترداد وأثره على اقتسام الربح، فقد اعتبره المحدثون إحدى العقبات في توظيف المضاربة العادية للاستثمار الجماعي في هذا العصر، وفي هذا يقول الدكتور سامي (. . . أما فيما يتعلق بقسمة الربح، فإن المسألة تظهر بكل وضوح عدم ملائمة المضاربة الخاصة لحكم حالات الاستثمار الجماعي، وذلك لأن اقتسام الأرباح في هذه المضاربة مبني على أساس التصفية الكاملة للعملية، والغاية من ذلك هي أن يعود رأس المال نقودًا كما كان، حتى يتمكن رب المال من استرداد رأس ماله أولًا، ثم تجري قسمة الربح المتبقي بعد ذلك الاسترداد، لأن الأصل في الربح أنه وقاية لرأس المال، فلا ربح إلا بعد سلامة رأس المال لصاحبه. ومعلوم أن الاستثمار الجماعي المشترك يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع الأرباح في فترات دورية من الناحية الأخرى، حيث يتعذر إجراء العملية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. . .)(1) .

بالرجوع إلى المدونات الفقهية، نجد أن الفقهاء اختلفوا أيضًا في هذه المسألة وتعددت آراؤهم فيها، وقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز ذلك، وفي هذا يقول الإمام ابن قدامة (. . (فصل) وإن طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال وأبي الآخر، قدم قول الممتنع لأنه إن كان رب المال، فلأنه لا يأمن الخسران في رأس المال، فيجبره بالربح، وإن كان العامل، فإنه لا يأمن أن يلزمه رد ما أخذ في وقت لا يقدر عليه. وإن تراضيا على ذلك جاز. . وقال أبو حنيفة: لا تجوز القسمة حتى يستوفي رب المال ماله. . .

) (2) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 385 ـ 386 باختصار.

(2)

انظر: المغني: مرجع سابق: 5/ 63 ـ 64 باختصار.

ص: 1233

وبناء على هذا، فإنه يمكن الخلوص إلى القول بأن هذه المسألة كسابقتها اجتهادية، مما يجعل انتقاء رأي وترجيحه أمرًا متروكًا لاجتهادات أهل العلم في كل عصر وفي كل مصر، وإذ الأمر كذلك، فإن الاستناد إلى هذه المسألة أساسا لتثبيت فكرة المضاربة المشتركة، أمر يحتاج إلى إعادة النظر، بل إن الربط بين المضاربة الخاصة وأحد هذين الرأيين تعسف علمي غير مبارك، ذلك لأن المضاربة الخاصة كما تتسع للرأي القائل بعدم الجواز، فإنها تتسع أيضًا للرأي القائل بالجواز. . وعليه، فلا وجه للجوء إلى المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة تذرعًا بهذه المسألة المختلف فيها.

وأيا ما كان الأمر، فإننا ننتهي إلى تقرير القول بأن مسألة الشروط لا تعتبر ميزة للمضاربة المشتركة مقابل المضاربة الخاصة، لأن تلك الشروط ـ كما أسلفنا ـ مسائل خارجة عن حقيقة المضاربة وجوهرها، ويمكن لها أن ترتبط بالمشتركة، كما يمكن لها أن ترتبط بالخاصة في آن واحد، ولهذا، فقد كان حريًا بمهندسي فكرة المضاربة المشتركة البحث عن أسس منطقية أخرى، والاستناد عليها لتثبيت فكرتهم، بدلًا من اللياذ بمسألة الشروط لتحقيق ذلك.

وعلى العموم، إننا لسنا نرى من مانع شرعي في مراجعة جملة حسنة من الشروط التي نسجها الفقهاء السابقون مستندين إلى الواقع الأخلاقي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي كان سائدًا في زمانهم، كما أن الحاجة اليوم تمس إلى اجتهادات انتقائية ترجيحية تعتد بالآراء الفقهية التي تتناسب مع واقعنا المعاصر ما لم يكن في ذلك مصادرة لمعنى نص شرعي صريح صحيح قطعي واضح، وما لم يكن ذلك مؤديًا إلى مخالفة لقاعدة شرعية معتبرة متفق عليها وفضلًا عن هذا، فإنه من الممكن اليوم التفكير في توليد شروط جديدة اعتمادا على اجتهاد مقاصدي يعلي من شأن المقاصد الشرعية، ويعتد بمآلات الوقوع الفعلي للأفعال، وبهذين المنهجين، لا يبقى ثمة إشكال في التعامل مع مختلف المسائل والشروط والآراء التي ورثناها عن أئمتنا رحمهم الله إزاء المسائل المتعلقة بالمضاربة وبغيرها من عقود المعاملات.

ص: 1234

ثالثًا ـ مسألة ضمان المضارب المشترك ومدى تأثيرها على حقيقة المضاربة

من المسائل الهامة المنسوجة حول فكرة المضاربة المشتركة، مسألة ضمان المضارب المشترك أموال المضاربة التي يتلقاها من الكافة في جميع الأحوال، سواء أكان هنالك تعد وتقصير أم لم يكن هنالك تعد ولا تقصير، وبتعبير آخر، ينبغي اعتبار يد المضارب المشترك على مال المضاربة يد أمان ويد ضمان في الوقت نفسه، ويرى أصحاب فكرة المضاربة المشتركة ضرورة تضمين المضارب المشترك الأموال التي تدفع إليه لغايات الاستثمار ضمانًا لإنجاح عمله (. . . كوسيط مؤتمن في مجال الاستثمار المالي، والمقصود من ذلك هو ألا يجد المتعامل مع المصرف الربوي نفسه أحسن حالًا من الوضع الذي يمكن أن يتحقق له في تعامله مع المصرف الذي يسير في استثمار الأموال على نظام المضاربة المشتركة)(1) .

وأما أساس تضمين المضارب المشترك، فمختلف فيه عند القائلين به، إذ يرى المرحوم الأستاذ الصدر بأن أساسه التبرع لأصحاب الأموال، لأن البنك (= المضارب المشترك عند غيره) يعتبر وسيطًا بين رب المال والعامل، فضمانه لا يعتبر أمرًا محظورًا، لأن المحظور هو ضمان العامل رأس المال، والبنك ليس بعامل في هذه المضاربة، وهذا نص ما قاله:(. . . ضمان الوديعة: أما العنصر الأول فيمكننا أن نحتفظ به لصاحب الوديعة في البنك اللاربوي بضمان ماله لا عن طريق اقتراض البنك للوديعة. . . ولا عن طريق فرض الضمان على المستثمر لأنه يمثل دور العامل في عقد المضاربة، ولا يجوز شرعًا فرض الضمان عليه، بل يقوم البنك نفسه بضمان الوديعة والتعهد بقيمتها الكامل للمودع في حالة خسارة المشروع، وليس في ذلك مانع شرعي، لأن ما لا يجوز هو أن يضمن العامل رأس المال، وهنا نفترض أن البنك هو الذي يضمن لأصحاب الودائع نقودهم، وهو لم يدخل العملية بوصفه عاملًا في عقد المضاربة لكي يحرم فرض الضمان عليه. . . بل بوصفه وسيطًا بين العامل ورأس المال، فهو ـ إذا ـ جهة ثالثة، يمكنها أن تتبرع لصاحب المال بضمان مال، ويقرر البنك هذا الضمان على نفسه بطريقة تلزمه شرعًا بذلك، فيتوفر بذلك للمودعين العنصر الأول من عناصر الدفع الذي يدفعهم إلى الإيداع)(2) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 399 باختصار.

(2)

انظر: البنك اللاربوي، مرجع سابق، ص 32 ـ 33 باختصار.

ص: 1235

وأما الدكتور سامي فإنه يرى أن أساس تضمين المضارب المشترك ينبغي أن ينظر إليه (. . . على غرار ما نظر به بعض أهل الفقه للأجير المشترك، وذلك فيما قرروه له من أحكام، وإذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء الذي استؤجر عليه وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض، هما من العوامل التي دعت المالكية لاعتباره ضامنًا، فإن المضارب المشترك لا يقل شبهًا في وضعه بالنسبة للمستثمرين عن الأجير المشترك، حيث ينفرد المضارب المشترك بإدارة المال وإعطائه مضاربًا كيف يشاء ولمن يشاء، فلو لم يكن ضامنًا لأدى به الحال ـ جريًا وراء الكسب السريع ـ إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين المقامرين دون تحفظ أو مراجعة للموازين، مما يؤدي إلى إضاعة المال، وفقدان الثقة العامة، وما قد يترتب على ذلك من إحجام الناس عن دفع أموالهم للاستثمار، وهو الأمر الذي يعود على المجتمع كله ـ نتيجة ذلك الإحجام ـ بالضرر والخسران. . .)(1) .

وما إن ظهر الرأي حتى تناوله فريق آخر من الباحثين المعاصرين بالرفض والرد والتهجم، ومن أولئك الباحثين الدكتور الأمين الذي انبرى لتقويض كل الأدلة التي استند إليها الدكتور سامي وخلص إلى القول بأن (. . . المال في المضاربة عرضة للربح أو الخسارة بطبيعة الحال، سواء أكانت مضاربة خاصة أم مشتركة، ولذلك لا يجب على المضارب إلا إذا فرط في المال أو تعدى. . .)(2) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 399 ـ 402 باختصار وتصرف.

(2)

انظر: المضاربة الشرعية، مرجع سابق ص 35.

ص: 1236

وأما الدكتور الصاوي، فانتهى هو الآخر بعد رده على استدلالات القائلين بالضمان إلى القول:(. . . فلم يبق إلا أن نرجع إلى أصل القاعدة الشرعية وهو أنه لا ضمان على الأمناء إلا بتفريط أو عدوان، وإلى قاعدة العدالة الشرعية التي تنص على الاشتراك في مواجهة النتائج في باب الاستثمار مغارم كانت أو مغانم، حتى لا تكون شركة الاستثمار بين البنك والمودعين قد تميزت بالاشتراك في الربح وحده، بينما يتحمل البنك وحده الخسر في حالة حدوثه، وهو ما يعرف في القوانين التجارية بشرط الأسد، وهو شرط مرفوض لتنافيه مع مبدأ المشاركة والاستثمار الذي يتضمن المخاطرة، ومع العدالة التي تتسم بها أحكام الشريعة الإسلامية)(1) .

إن كل فريق من هذين الفريقين من الباحثين المعاصرين حاولوا أن يستنطقوا التراث لتأييد ما انتهوا إليه من رأي، فبينما يستند التخريج الذي انتهى إليه المرحوم إلى رأي عند المالكية يجيز لطرف ثالث التبرع بالضمان، نجد تخريج الدكتور سامي يُعنى بالبحث عن أوجه الشبه بين الأجير المشترك والمضارب المشترك، وقد كان تحقيق غاية إلحاق أحكام المضارب المشترك بأحكام الأجير المشترك، أحد الأسباب الأساسية وراء اختراع مصطلح المضارب المشترك دون غيره، على الرغم من وجود فوارق جذرية بين الأجير المشترك والمضارب المشترك، أعني أن للأجير المشترك أجرًا ثابتًا لا يتأثر بناتج عمله، وأما المضارب المشترك، فليس له أجر بتاتًا، وإنما له نصيب من الربح في حالة تحققه، وعلى كل، حاول الدكتور سامي الاستفادة من بعض أوجه الشبه بينهما، فجعل حكمهما واحدا على مستوى ضمان الأموال التي تدفع إليها.

ولئن لاذ هذا الفريق ببعض الآراء المأثورة عن الفقهاء السابقين في تقرير ما انتهوا إليه، فإن الفريق الآخر، استندوا إلى جمع من الأقوال المأثورة عن بعض فقهاء المذاهب الفقهية وخاصة المذاهب الأربعة في هذا الأمر، وقرروا في ضوء تلك الأقوال بأن ثمة اتفاقًا بين الفقهاء على أن المضارب لا يضمن مال المضاربة، وأن اشتراط رب المال ضمان المال، يجعل المضاربة عند بعضهم فاسدة، وبناء على هذا، فإن المضارب ـ سواء أكان مشتركًا أم خاصًا ـ لا يصح تضمينه مال المضاربة مطلقًا.

(1) انظر: الصاوي، مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام، (المنصورة، دار الوفاء طبعة أولى، عام 1990 م) ص 595 باختصار.

ص: 1237

هذا هو مجمل ما انتهى إليه الفريقان، ولا تزال الساحة الفكرية الإسلامية وخاصة الساحة الفقهية التي لاتزال ترهقها الفتاوى المتضاربة والمتعارضة إزاء هذه المسألة، بل إن عددًا غير قليل من المؤسسات المالية الإسلامية لا تزال متحيرة في أمرها، وتنتظر القول الفيصل في هذه المسألة الهامة لا للمضارب المشترك فحسب، وإنما للمضارب الخاص أيضًا.

على أنه من الحري بالتقرير أن مسألة الضمان لا ترتبط ارتباطًا إلزاميًا بالمضاربة المشتركة، بل إنها ذات صلة وارتباط بالمضاربة الخاصة وغيرها، ذلك لأن الضمان مسألة خارجة عن حقيقة المضاربة وليست داخلة فيها، مما يجعل المرء يتساءل عن سر اعتبار الدكتور سامي إياها إحدى مزايا المضاربة المشتركة، والحال أنه تشاطرها المضاربة المقيدة في هذا الأمر.

ص: 1238

وجهة نظر في هذا الخلاف:

وأيا ما كان الأمر، فإن جاز لنا إبداء وجهة نظرنا المتواضع في هذا الخلاف بين المعاصرين في هذه المسألة، فإننا نرى تقرير الأمور التالية:

أولًا: إن ثمة حاجة ماسة إلى تحرير محل النزاع بصورة علمية بعيدة عن العواطف والحماسات كما أن الحاجة تمس ـ أيضًا ـ إلى تحقيق القول في الآثار المترتبة على القول بالضمان وعدمه في ضوء الواقع الذي نعيش فيه، استنادًا إلى المصلحة الزمنية أو الضرورة الواقعية أو غيرها، وفضلًا عن ذلك، فإنه لا بد من تقرير القول بأن كلا الرأيين اجتهاديان، ذلك لأنه من المعروف أنه لم يرد في هذه المسألة نص صريح قطعي واضح من الكتاب والسنة، كما أنه لم ينعقد إجماع صحيح معتبر على رأي في هذه المسألة بالصورة التي تم عرضها في هذا العصر، فالأقوال المنقولة عن الفقهاء السابقين على الرغم من كثرتها تدور كلها حول بيان حكم اشتراط رب المال المضارب مال المضاربة في العقد، وأما الصورة التي نتحدث عنها، فتتمثل في تضمين المضارب المشترك وغيره المال بنفسه دون اشتراط رب المال.

ص: 1239

ثانيًا: تأسيسًا على الحيثيات المشار إليها سابقًا، فإنه يمكن القول بأن محل النزاع في هذه المسألة هو تضمين المضارب المشترك مال المضاربة بمحض إرادته وبدون أن يكون ذلك بناء على اشتراط سابق من أرباب الأموال عند العقد، وقد سبق أن أوضحنا أن الذي يضع الشروط في هذه المضاربة ـ كما قرر مهندسوها ـ هو المضارب المشترك وليس رب المال، وبالتالي فإنه هو الذي يضمن الأموال نفسه. وبناء على هذا، أليس من الممكن القول بأن عبارات الفقهاء السابقين في مسألة اشتراط الضمان على العامل، لا تشمل ما يتنازع فيه الباحثون المعاصرون، تعني أن أئمة الفقه العظام رحمهم الله أبدوا آراءهم ووجهات نظرهم في حكم اشتراط رب المال ضمان العامل مال المضاربة فاتفقوا تقريبًا على عدم جواز ذلك لما فيه من ضيق وحرج وضرر على العامل بيد أنه من النادر أن يجد المرء حديثًا موسعًا من لدن أولئك الفقهاء حول تبرع العامل بنفسه بالضمان ـ كما ذكر الأستاذ المرحوم الصدر ـ ويكاد المذهب المالكي أن ينفرد بالإشارة إلى هذا الجانب دون غيرهم، إذ إنهم اختلفوا في مدى لزوم هذا التطوع من العامل وعدم لزومه، مما يعني أن ثمة مساحة للاجتهاد في هذه المسألة التي لم تنل حظها من البحث والتحقيق والتدقيق كما نالت أختها من قبل.

وعليه، أليس من الممكن اليوم تقرير القول بأن ضمان المضارب المسمى بالمضارب المشترك أموال المضاربة في جميع الأحوال لا يتعارض مع ما تناوله السابقون من بيان وفي حول مسألة اشتراط رب المال على العامل ضمان مال المضاربة في جميع الأحوال؟!

ص: 1240

ثالثًا: من المعلوم أن المقصد الأساس من عدم جواز اشتراط رب المال على العامل ضمان مال المضاربة حماية العامل (= المضارب) من تحمل تبعات لا قبل له بها وخاصة أنه قد كان في تلك الأيام الطرف الضعيف والمحتاج في العقد. ونظرًا إلى أن وضع العامل (= المضارب = المؤسسة المالية) غدا اليوم مختلفًا تمام الاختلاف عما كان عليه الأمر من قبل، إذ إنه أمسى يملك من الإمكانات المالية والمادية التي تؤهله لتحمل سائر تبعات خسارة مال المضاربة، ولهذا، أليس من الممكن اليوم النظر إلى هذه المسألة في صورتها الجديدة وفي ضوء الواقع المادي والمالي الذي يتمتع به المضارب المشترك المعاصر، فيتم تقرير حكم مناسب له وفق الواقع الحالي الذي يعيش فيه؟

ص: 1241

رابعًا: ألا يمكن اليوم النظر إلى مسألة ضمان المضارب المشترك مال المضاربة بنفسه على أن ذلك من باب النذر المعروف في الفقه؟ نعني أنه إذا تبرع المضارب بضمان مال المضاربة ـ كما اقترح المرحوم الصدر ـ ألا يمكن اعتبار ذلك التبرع من باب النذر، وبالتالي فيجب عليه الوفاء بما التزم وتعهد به، أسوة بما يجب فعله على المكلف الذي ينذر أن يصوم لله يوما، فمن المعلوم أن صوم يوم غير رمضان ليس بواجب، ولكنه يغدو واجبًا عندما ينذر المرء بذلك، وبناء على هذا، فإذا ألزم المضارب نفسه ضمان مال المضاربة، فإنه لا شيء عليه في ذلك، لأنه لم يرد ـ حسب علمي المتواضع، نص صريح من الكتاب والسنة ينهي عن هذا الأمر، ويتوعد فاعله بالعقاب أو العتاب.

ص: 1242

خامسًا: لئن تواتر النقل عن أئمة الفقه العظام قديمًا بأن المضاربة ـ مطلقًا أو مقيدًا ـ يضمن مال المضاربة إذا تعدى أو قصر في حماية المال وحفظه من الضياع بناء على هذا فإننا نرى اليوم أن ثمة حاجة تدعو إلى القيام بضبط علمي دقيق للمراد بمصطلحي التعدي والتقصير في ضوء ما يشهده عالم الاقتصاد والمال من تطورات وتغيرات يوجب على الفرد الراغب في الاستثمار أن يلم به إلمامًا عميقًا بحيث يتجنب المغامرة والمخاطرة بمال المضاربة، إن هنالك جملة من التصرفات يمكن اعتبارها تعديًا وتقصيرًا في هذا العصر، نعني أن سوء التنظيم والتخطيط والإدارة وغيرها يعتبر كل أولئك تصرفات داخلة في دائرة التعدي والتقصير في هذا العصر، بل إن التساهل في انتفاء مجالات الاستثمار ووسائله وسيله، واللامبالاة وعدم المعرفة بأبجديات الاستثمار والتجارة الحديثة، يعد كل أولئك أيضًا من التعدي والتقصير في العصر الراهن. . وثمة قضايا ومسائل لم تكن بالأمس داخلة في دائرة التعدي والتقصير لاعتبارات ظرفية، غير أنها أضحت اليوم من صميم التعدي والتقصير وذلك نتيجة التغيرات التي يعيشها عالم المال والأعمال في العصر الراهن.

ص: 1243

سادسًا: أنه لمن الحري بالباحثين اليوم في الاقتصاد الإسلامي أن يتجاوزوا الاختلاف حول مدى مشروعية اشتراط ضمان رب المال على العامل ضمان مال المضاربة وبدلًا من ذلك ينبغي اللياذ بمراجعة شاملة ودقيقة لمعاني مصطلح التعدي ومصطلح التقصير في ضوء ما يشهده عالم الاقتصاد من تطور وتغير وتقدم، بحيث يتم تحديد المعنى المراد منهما وفق ما استجد في عالم المال والأعمال من أسس ومبادئ تميز بين المخاطر التي يمكن تجنبها عبر سلسلة من التدابير والاحتياطات، والمخاطر التي لا يمكن للمرء تجنبها بتاتًا، فإذا وقعت الخسارة نتيجة عدم اتخاذ التدابير المطلوبة لمواجهة النوع الأول من المخاطر، فإن المضارب يغدو ثم ضامنًا لأموال المضاربة، وأما إذا كان سبب الخسارة النوع الثاني من المخاطرة القاهرة، فإن المضارب لا ينبغي أن يضمن ذلك، لأن تلك المخاطرة قاهرة وخارجة عن إمكانات الفرد وقدرته على ردها.

وإننا نعتقد أن معالجة هذا الجانب على المستوى العملي من شأنه التخفيف من الاختلاف العقيم حول هذه المسألة في عالم النظر لا في عالم التطبيق، ويوم أن تتوصل المؤسسات والمراكز البحثية الاجتهادية إلى آراء سديدة ورشيقة ومعاصرة لمعاني التعدي والتقصير ودائرة كل واحد منهما في ضوء الواقع المعاصر، سترتاح الساحة الفكرية وخاصة الفقهية من الصراع المزمن إزاء مسألة الضمان في المضاربة.

ص: 1244

سابعًا: أن كلل الذمم، وذهاب المروءة، وغلبة الجشع والطمع وحب الدنيا والمال، وخفة التدين لدى شريحة غير قليلة من أبناء الأمة في العصر الحاضر وخاصة في عالم المال والأعمال، تجعل من الأمر المشروع إعادة النظر في كثير من الاجتهادات الفقهية التي انبثقت عن واقع ديني وأخلاقي واجتماعي مختلف كان الغالب عليه الالتزام والوقوف عند حد الشرع.

وبناء على هذا، فهل يمكن اليوم الاستناد إلى المصلحة الزمنية والضرورة الواقعية لتقرير القول بأن قبول المضارب المضاربة لأكثر من رب مال في آن واحد من القرائن التي يمكن الارتكاز عليها في تضمينه مال المضاربة في حالة خسارته، لا على أساس أنه أجير مشترك، ولكن على أساس أن ذلك التصرف ذو علاقة وثيقة بالتعدي والتقصير لما ينطوي عليه ذلك التصرف من قرينة توحي عدم الاكتراث والمبالاة اللذين يجب على المضارب الالتزام بهما عند الاستثمار.

فلئن ضمن بعض الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه الأجير المشترك في القرن الأول الهجري، فقد كان ذلك بناء على مصلحة زمنية رآها أمير المؤمنين عندما قال قولته: لا يصلح الناس إلا ذاك، ووجه المصلحة:(. . . أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى حد أمرين، إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين)(1) .

انطلاقًا من هذا، فهل يمكن القول بأن ذات المصلحة الزمنية تقتضي اليوم تغليب جانب التضمين على جانب عدم التضمين، كما تقتضي تغليب حالة التعدي والتقصير على حالة عدم التعدي والتقصير، وفي ذلك إصلاح لحالة ارتكاس التدين في النفوس، وتقوية للوازع الديني لدى الناس في هذا العصر؟ .

(1) انظر: الشاطبي، الاعتصام بالكتاب والسنة، القاهرة، المكتبة الكبرى دون تاريخ: 2/ 119 باختصار.

ص: 1245

وأخيرًا: أجل، ليس هنالك محظور شرعي في مراجعة كثير من الاجتهادات المنسوجة حول العديد من قضايا المعاملات التي غدت اليوم تنطوي على أبعاد وأشكال لم تكن موجودة فيها من قبل، وإنه لقمين بالباحثين المعاصرين البحث عن الأصول والمقاصد والغايات والأهداف العامة التي يمكن الارتكاز عليها في مراجعة الشروط الاجتهادية التي وضعها ففهاؤنا القدامى رحمهم الله للمضاربة ولغيرها من المعاملات المالية التي لا تزال تشهد يومًا بعد يوم تطورًا وتغيرًا وتبدلًا وتحولا، فليس من مرية أن تغير الزمان والمكان والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف عوامل تدعو إلى مراجعة تلك الشروط والاجتهادات والآراء التي انتهى إليها أولئك الفقهاء تلبية لظروفهم والأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية السائدة، وقديمًا قرر الفقهاء بأنه لا ينكر تغير الأحكام والفتاوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والتقاليد والأعراف، ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي قال: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

ص: 1246

المبحث الرابع

المضاربة المطلقة المطورة بديلًا عن المضاربة المشتركة

في ضوء ما أوردناه من تحليل وتحقيق حول مصطلح المضاربة المشتركة، وأطراف العلاقة فيها، والمسائل الهامة التي تميزها عن المضاربة الخاصة، فإننا نرى ضرورة الاستغناء عن مصطلح المضاربة المشتركة، واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة في نطاق الاستثمار الجماعي، فلئن كان الهدف الأسمي من اختراع مصطلح المضاربة المشتركة في العصر الراهن يتمثل في إثبات أحكام خاصة للمضارب الذي يتلقى الأموال من الكافة، فإنه لا مرية أن المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء تتوفر على الأسس والمبادئ العامة التي يمكن الاستفادة منها في نطاق الاستثمار الجماعي.

إننا لنعجب كل العجب في تجاوز مهندسي فكرة المضاربة المشتركة عن المقارنة والموازنة بين المضاربة المطلقة وبين ما سموه بالمضاربة المشتركة، بل إن عجبنا لشديد جد شديد في إصرارهم الدائم على إجراء المقارنة بين المضاربة الخاصة (= المضاربة المقيدة) والمضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، الأمر الذي كلفهم تكلفًا في البحث عن مزايا خاصة بالمصطلح المخترع دون غيره من أشكال المضاربة التي عرفها تراثنا الفقهي الإسلامي، وقد كان حريًا بهم استفراغ الطاقة والانكباب على تطوير فكرة المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء في سالف الزمان، بحيث تغدو مواكبة لما يموج به العصر الحاضر من تغيرات وتطورات على مختلف الأصعدة عن عالم المال والأعمال، كما كان حقيقًا عليهم البحث عن كيفية الربط بين فكرة المضاربة المطلقة، وبين مختلف المسائل والقضايا التي خيل إليهم عجز المضاربة الخاصة عن تحملها وتقبلها، ذلك أن هذا النوع من المضاربة تتحمل كافة المسائل التي تناولوها وأوسعوها تحقيقًا وبحثًا بغض النظر عن صحة آرائهم فيها وعدم صحتها.

ص: 1247

إن الناظر في الأحكام التي قررها الفقهاء للمضاربة المطلقة يجدها أحكامًا مرنة تتسع لاحتضان كافة الأشكال الجديدة للتعامل في نطاق المضاربة، وليس فيها عجز في استيعاب مستجدات العصر في هذا المجال، إن نظرة متفحصة في مجمل المسائل التي استند إليها مهندسو فكرة المضاربة المشتركة في تقرير عدم مقدرة المضاربة على الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، تهدي المرء إلى أن نقدهم انصب ـ بصورة واضحة ـ على المضاربة المقيدة وليست المضاربة المطلقة.

وتوضيحًا لهذا الأمر، فإننا نرى أن نقف على تلخيص أمين للنقاط الأساسية التي ذكرها الدكتور سامي مبررًا عدم صلاحية نظام المضاربة بالشكل الذي صيغت فيه قواعده للوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، وهي:

1-

إن المضاربة لا تقبل انضمام طرف ثالث للمضاربة بعد بدء العمل فيها، وهذا لا يمكن القبول به في هذا العصر، ذلك لأن (الاستثمار المالي بالأسلوب المصرفي بني ـ أساسًا ـ على الخلط المتلاحق للأموال المودعة مع بقاء الأمور على حالها)(1) .

2-

إن لرب المال في المضاربة (. . أن يفيد المضارب بالشروط التي يراها مناسبة لحفظ ماله من الضياع، فله ـ مثلًا ـ أن يقيده بالمكان. . . وله أن يقيده بما يجوز له أن يتجر به. . . وله ألا يأذن له بإعطاء المال للغير مضاربة، والأهم من ذلك كله أن له أن يفسخ العقد ويكلف المضارب بتنضيض رأس المال. . فكيف يمكن لنا أن نتصور قيام استثمار جماعي يمكن أن يشترط فيه رب المال هذه الشروط ـ والتي هي شروط من حقه أن يشترطها في نطاق التعاقد الخاص بالنسبة لعقد المضاربة. . .)(2) .

3-

وفضلًا عن هذا، إن اقتسام الأرباح في المضاربة الخاصة مبني على أساس التصفية الكاملة للعملية، ومعلوم (. . . أن الاستثمار الجماعي المشترك يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع الأرباح في فترات دورية من ناحية أخرى، حيث يتعذر إجراء التصفية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. .)(3) .

(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 384.

(2)

تطوير الأعمال المصرفية، ص 385

(3)

تطوير الأعمال المصرفية: ص 386.

ص: 1248

هذه هي أهم المسائل التي اعتبرها الدكتور سامي دواعي لاعتماد فكرة المضاربة المشتركة للاسثتمار الجماعي، وبالنظر المتمعن فيها، نجد أن ثمة تركيزًا على المضاربة المقيدة واتخاذها أساسًا للنقد والانتقاد، والحال أن هذه المضاربة إحدى نوعي المضاربة عند الفقهاء، فالمضاربة المطلقة خالية من تقييد رب المال المضارب بالشروط التي أشار إليها الدكتور سامي، مما يجعل حديثه قائمًا على نظرة جزئية لفكرة المضاربة في التفكير الفقهي، وأما مسألتا اقتسام الأرباح وعدم قابلية الخلط المتلاحق للمال، فإنما تعتبران مسائل مختلفا فيها كما ذكر بنفسه، وبالتالي لا يصح الاعتماد على أحد الآراء واتخاذه أساسًا لرفض فكرة المضاربة برمتها، وقد كان قمينًا به الانتهاء إلى ترجيح الآراء الفقهية التي تصلح للاستثمار الجماعي في هذا العصر.

ولهذا فإننا نرى أن المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة هي التي تستحق في حقيقة الأمر الاستغناء كل الاستثغناء لافتقارها إلى الأسس العلمية المقنعة لقبولها واعتمادها أسلوبًا للاستثمار الجماعي في هذا العصر، ولقد بنينا هذا الرأي على جملة من المنطلقات يحسن بناء إيرادها في النقاط التالية:

أولًا: إن في تقسيم الفقهاء المضاربة إلى مضاربة مطلقة ومضاربة مقيدة ما يكفل تلبية حاجات الاستثمار المالي المعاصر، ويمكن التحقق من ذلك من خلال الوقوف على المعاني التي أعطاها الفقهاء لكلا نوعي المضاربة، فمفهوم المضاربة المطلقة والمقيدة ـ كما يقول الكاساني ـ في كتابه بدائع الصنائع:(. . . أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله، والمقيدة أن يعين شيئًا من ذلك. . .)(1) .

ومقتضى هذا التصور أن المضاربة المطلقة هي كل مضاربة لا يشترط فيها رب المال على العامل (= سواء أكان متعددًا أم غير متعدد) الالتزام بعمل معين أو بمكان أو زمان معينين، كما أنه لا يطالبه بالتعامل مع شخص بعينه، وإنما يترك له الخيار في تعيين نوعية التجارة والعمل المناسب لاستثمار مال المضاربة، كما يترك له الخيار في تعيين مكان الاستثمار وزمانه والأشخاص الذين يرغب في التعامل معهم لإنجاح عملية الاستثمار، وقد سميت هذه المضاربة مطلقة لعدم تقييد رب المال تصرف العامل في مال المضاربة بصورة عامة.

(1) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة عام 1982 م) : 6/ 87 باختصار.

ص: 1249

وأما المضاربة المقيدة، فتعني تقييد رب المال تصرف المضارب (= العامل) في مال المضاربة، كأن يشترط عليه الالتزام بعمل معين أو بمكان أو زمان معينين أو بأشخاص معينين. وهذا التقييد لا يخلو أن يكون كليًا أو جزئيًا، فإذا اشترط رب المال على المضارب (= العامل) الالتزام بعمل معين وبمكان وزمان معينين وبأشخاص معينين، كان التقييد تقييدًا كليًا، وأما إذا اشترط عليه الالتزام ببعض من الأوصاف المذكورة، كأن يشترط عليه الالتزام بعمل معين فقط، فإن التقييد يكون ـ حينئذ ـ جزئيًا، إذ تظل المضاربة مطلقة في المكان والزمان وصفة من يعامله، وكذلك الحال فينا لو قيَّده رب المال في المكان ودون نوعية العمل، وفي هذا يقول الإمام الكاساني ما نصه:(. . وأما المضاربة المقيدة، فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع ما وصفنا لا تفارقها إلا في قدر القيد، والأصل فيه أن التقيد إن كان مفيدًا يثبت، لأن الأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن، وإذا كان القيد مفيدًا كأن يمكن يمكن الاعتبار، فيعتبر لقول النبي ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ: ((المسلمون عند شروطهم)) ، فيتقيد بالمذكور، ويبقى مطلقًا فيما وراءه على الأصل المعهود في المطلق إذا قيد ببعض المذكور أنه يبقى مطلقًا فيما وراءه كالعام إذا خص منه بعضه أنه يبقى عامًا فيما وراءه. وإن لم يكن مفيدًا، لا يثبت بل يبقى مطلقًا، لأن ما لا فائدة فيه يلغي ويلحق بالعدم. . .) (1) .

(1) انظر: بدائع الصنائع، مرجع سابق: 6/ 98.

ص: 1250

أما المضاربة الخاصة، فهي ثلاثة أنواع:

أحدهما: أن يخصه ببلد، فيقول: على أن تعمل بالكوفة أو البصرة.

والثاني: أن يخصه بشخص بعينه، بأن يقول: على أن تبيع من فلان وتشتري منه، فلا يجوز التصرف مع غيره لأنه قيد مفيد لجواز وثوقه به في المعاملات.

والثالث: أن يخصه بنوع من أنواع التجارات بأن يقول له: على أن تعمل به مضاربة في البز أو في الطعام أو الصرف ونحوه. وفي كل ذلك يتقيد بأمره، ولا يجوز له مخالفته لأنه مقيد. . .) (1) .

(1) انظر: الموصلي: الاختيار لتعليل المختار (. . . .) 3/ 21.

ص: 1251

بناء على هذا التصنيف الواضح لأشكال المضاربة في التراث الفقهي (1) ، نرى أنه ليست ثمة معقولية في تعميم القول بأن المضاربة كل المضاربة لا يمكن لها الوفاء بحاجات الاستثمار المصرفي في هذا العصر، والحال أن الأمر لا يكاد ينطبق إلا على المضاربة التي سماها بعض الفقهاء بالمضاربة الخاصة، وأما المضاربة العامة، فإنها قادرة على استيعاب سائر الأساليب الاستثمارية القائمة على فكرة التعاون بين أرباب الأموال ـ لا دراية لهم غالبًا بأوجه تقليب الأموال ـ وبين المستثمرين الذين يحتاجون إلى رؤوس أموال لتوظيفها من أجل تحقيق أرباح لهم ولأصحاب الأموال والجهات المشاركة في عملية الاستثمار، وعليه، فإن مبادئ وقواعد المضاربة العامة والمطلقة المرنة تتسع لتحقيق الاستثمار المصرفي المنشود.

(1) بالنظر إلى هذا التصنيف نجد أن المضاربة العامة لا تختلف كثيرًا عن المضاربة المطلقة بل يمكن القول بأن كل مضاربة عامة تعتبر مضاربة مطلقة، والعكس صحيح، وإن يكن ثمة فرق بين المطلقة والعامة، فإنه يتمثل في نقطة التركيز لكل واحدة منهما، نعني أن، عموم المضاربة يكاد ينصرف إلى عموم مجالات عمل المضارب، وأما إطلاق المضاربة فإنه يشمل مجالات العمل والزمان والمكان والأشخاص وسوى ذلك، أما بالنسبة للعلاقة بين الخاصة والمقيدة، فتكاد هي الأخرى أن تكون متقاربة ومتطابقة نوعًا ما، وليس هنالك فرق سوى أن المضاربة الخاصة تنحصر في الأنواع الثلاثة، بينما المضاربة المقيدة تنتظم تلك الأنواع الثلاثة وسواها كتقييد صفة الشخص الذي يتعامل معه المضارب. نعني أن من حق رب المال تقييد صفة من يتعامل معه المضارب، وهذا التقييد لا يندرج ضمن الأنواع الثلاثة للمضاربة الخاصة، مما يعني أن كل مضاربة خاصة تعتبر مضاربة مقيدة، وليست كل مضاربة مقيدة مضاربة خاصة، ذلك لأن من المضاربة المقيدة ما ليست خاصة.

ص: 1252

ثالثًا: إن أحكام المضاربة في الفقه الإسلامي تختلف اختلافًا جذريًا عن أحكام الإجارة الخاصة والمشتركة، فالإجارة عقد على منفعة، والأجير سواء أكان خاصًا أم عامًا يستحق مقابل العقد أجرًا ثابتًا لا يتأثر بالناتج عن عقد الإجارة وأما المضارب المطلق أو المقيد فإنه لا يتلقى أجرًا ثابتًا، وإنما يكون له نصيب من الربح في حالة تحقيق استرباح لمال المضاربة، ويعني هذا أن لكل واحد منهما ـ المضارب والأجير ـ أحكامه الخاصة به، فليس من المقبول علميًا إلحاق أحدهما بالآخر وخاصة أن كلا العقدين يعتبر عقدًا أصليًا، وبناء على هذا، فلا وجه في اعتبار المضارب مثل الأجير المشترك من أجل إثبات بعض أحكام ذلك الأجير له، فالمضارب شريك لا يعني تعاقده مع رب مال واحد حرمانه حق التعاقد مع أرباب أموال آخرين، بل له أن يعقد ما راق له من عقود مضاربات ومشاركات وسوى ذلك ما لم يكن في ذلك ضرر عليه وعلى المتعاقدين معه. وبناء على هذا، فإن إلحاق المضارب بالأجير الخاص أو المشترك قياس مع الفارق، ولا سداد فيه البتة، بل إن اعتبار المضارب أجيرًا مشتركًا أو خاصًا يعتبر خروجًا بعملية المضاربة من كونها عملية اتفاق وتعاون بين رب مال لا دراية له بالتجارة وسواها وبين عامل متمكن من فهم سبل ومجالات تنمية المال وتثميره. وشتان ما بين التعاون والإيجار وما بين المشاركة والمؤاجرة.

رابعًا: إن حصر وصف (المضارب المشترك) على حالات المضاربة التي يتعدد فيها رب المال دون العامل محل نقد، بل إن اتخاذ تعدد رب المال دون تعدد العامل أساسًا للتقسيم محل انتقاد، ولا يستند إلى منطق علمي سديد، ذلك لأن التعدد في المضاربة لا ينحصر ـ في حقيقة الأمر ـ في رب المال أو في العامل، وإنما يشملهما معًا. وبالتالي، فإن تسمية المضارب مضاربًا مشتركًا في حالة تعدد رب المال، لا يستقيم إلا إذا أوجدنا في المقابل تسمية خاصة لرب المال في حالة تعدد العامل في ماله، فهل يمكن والحال كذلك أن نطلق على رب المال في حالة تعدد العاملين في ماله برب المال المشترك لأن عددًا من العاملين يعملون له في ماله، وماذا عسى أن تكون الأحكام الخاصة به أي برب المال المشترك أسوة بالمضارب المشترك الذي نسجت له أحكام خاصة؟

ص: 1253

خامسًا: إن التقسيم الفقهي القديم للمضاربة تجاوز الاعتداد بتعدد العامل أو بتعدد رب المال مقررًا أو مؤكدًا بطريقة غير مباشرة على أن تعدد رب المال أو تعدد العامل في المضاربة لا يغيران في حقيقة الأمر من طبيعة عقد المضاربة، فإذا تعدد رب المال أو تعدد العامل في المضاربة، فإن لذلك التعدد حكمه الخاص بكل حالة منهما، مما يعني أن التعدد في العامل أو رب المال، لا يوجب ـ بأي حال من الأحوال ـ تصنيف المضاربة إلى مضاربة مشتركة ومضاربة خاصة، وخاصة أن التعدد في رب المال أو في العامل، ليس شأنًا جديدًا غير مألوف للفقهاء القدامى كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين المعاصرين، بل إنهم تناولوا الأحكام المتعلقة بتعدد رب المال وبتعدد العامل، ولكنهم أعرضوا عن تصنيف المضاربة بسبب تعدد رب المال أو العامل إلى مضاربة خاصة ومضاربة جماعية، وبناء على هذا، فإنه ليس ثمة ضرورة علمية ولا موضوعية إلى تقسيم المضاربة إلى مشتركة وغير مشتركة انطلاقًا من تعدد العامل أو تعدد رب المال.

سادسًا: إذا كان لكل فن لغته ومصطلحاته، وكان الحري بالباحث النزيه الالتزام بلغات الفنون والعلوم والمعارف، لذلك، فإن عودة مباركة إلى المدونات الفقهية تهدينا إلى تقرير القول بأن مصطلح المضاربة الخاصة كانوا يطلقونه مقابل مصطلح المضاربة العامة، وقد مر بنا تعريف كل واحد منهما. وبناء على هذا، فإن إطلاق بعض الباحثين المعاصرين مصطلح المضاربة الخاصة مقابل المضاربة المشتركة، يعتبر ذلك خروجًا واعتداء على المعهود الاصطلاحي الفقهي، كما يعتبر ذلك مصادرة متعمدة للمعنى العلمي المتواتر لدى الفقهاء لمصطلح المضاربة الخاصة.

ص: 1254

وفضلًا عن ذلك، فإن إطلاق مصطلح المضاربة الخاصة على المضاربة التي تكون العلاقة فيها ثنائية، وإطلاق مصطلح المضاربة المشتركة على المضاربة التي تكون العلاقة فيها ثلاثية، لا يستند إلى دليل علمي رصين، ذلك لأن العلاقة في المضاربة سواء أكانت خاصة (بالمفهوم المستحدث أو القديم) أم مشتركة (بالمفهوم الجديد) ثنائية وليست ثلاثية كما يظن البعض، نعني أن المضاربة لا تنعقد إلا بين عامل (متعدد أو غير متعدد) ورب مال (= متعدد وغير متعدد) وأما العقود الأخرى التي تعقد بعد انعقاد عقد المضاربة (الخاصة أو المشتركة) فإنها غير داخلة في عقد المضاربة، وتعتبر عقودًا منفصلة عن عقد المضاربة الأصلي الذي يتم إبرامه بين المؤسسة المالية وبين المودعين بصورة مستقلة، مما يعني أن العلاقة كانت وستظل ثنائية وليست ثلاثية.

سابعًا: إن استخدام بعض الباحثين المحدثين مصطلح المضاربة الجماعية مقابل المضاربة الفردية هو الآخر محل نقد ونظر، ذلك لأن الجماعية في المضاربة كما تكون على مستوى العامل، يمكن لها أن تكون على مستوى رب المال، فإن هذه المضاربة تعتبر مضاربة جماعية باعتبار تعدد العامل فيها، وكذلك الحال في تعدد رب المال دون العامل، نعني أنه إذا تعدد رب المال، ولم يتعدد العامل، فإن المضاربة يمكن وصفها أيضًا بأنها مضاربة جماعية من هذا الباب، وإضافة إلى هذا، فإنه من الوارد أن يتعدد العامل ويتعدد رب المال، كأن يكون هنالك أكثر من رب مال واحد وأكثر من عامل واحد، فإن المضاربة تعتبر في هذه الحالة أيضًا مضاربة جماعية، وبناء على هذا، فإن استخدام لفظ الجماعية وصفًا لذلك النوع من المضاربة الذي تمارسه المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة محل نقد ونظر لأن الجماعية لا تنحصر في تعددية رب المال، وإنما تنتظم تعددية العامل طورًا، وتعددية رب المال حينًا، وتعددية العامل ورب المال حينًا آخر.

ولهذا، فإن تخصيص جماعية المضاربة بالحالة التي يتعدد فيها رب المال، تخصيص غير علمي وغير مستند إلى دليل منطقي مقبول، وكل هذا يؤكد أن عزوف الأقدمين عن تقسيم المضاربة إلى فردية أو جماعية كان مقصودًا أو مبنيًا على إدراك دقيق بأن التقسيم إن كان لا بد منه، فإنه ينبغي أن يتمركز حول الآثار والنتائج التي تنتج عنه.

ص: 1255

ثامنًا: إن اعتبار مسألة الشروط والضمان أهم فوارق بين ما يسمى بالمضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، محل نظر، ذلك لأن اعتبار تلك الشروط لا ينبغي أن ينحصر فيما يسمى بالمضاربة المشتركة دون غيرها فمن الممكن أن توضع ذات الشروط فيما يسمى بالمضاربة الخاصة على حد سواء، فليس محظورًا شرعًا أن يضع العامل لرب المال تلك الشروط، وشتان ما بين وضع الشروط وبين اعتبارها والاعتداد بها شرعًا، فليس كل شرط يوضع يعتد به شرعًا، ولذلك، فإن وضع الشروط لا ينبغي اعتباره ميزة يتميز بها ما يسمى بالمضاربة المشتركة، وأما مسألة الضمان، فهي الأخرى لا تختلف في واقعها عن مسألة وضع الشروط، إذ إنه من حق من يسمى بالمضارب الخاص أن يضمن مال المضاربة في هذا العصر، كما أنه من حق من يسمى بالمضارب المشترك أيضًا أن يفعل مثل ذلك. مما يعني أن استناد تقسيم المضاربة إلى مشتركة وخاصة بناء على هذه الجزئية، أمر فيه نظر، كان الأولى تجاوزه وعدم الاعتداد به. ولهذا لأمر ما، تجاوز أئمة الفقه العظام الاعتداد بهذا الجانب في تقسيماتهم للمضاربة وركزوا تقسيمهم على عمل المضارب ومكان العمل وزمانه وصفة من يتعامل معه المضارب.

تاسعًا: تأسيسًا على ما سبق، فإننا نرى أن تصرفات العامل (= المؤسسة المالية) في أموال المضاربة التي تفد إليه، لها أحكامها وقضاياها المفصلة في المدونات الفقهية، ولا تخلو تلك التصرفات من أن تكون صحيحة وغير صحيحة، وكونها صحيحة لا يحول من حقيقة المضاربة إلى مطلقة أو مقيدة، أو مشتركة أو خاصة أو جماعية أو سوى ذلك كما ظن الكثير من الباحثين المعاصرين في هذه المسألة، فمسألة الشروط والضمان ولزوم العقد واقتسام الأرباح وسواها كما تفترض فيما يسمى بالمضاربة المشتركة، كذلك يمكن لها أن تفترض أيضًا فيما سموه بالمضاربة الخاصة أو المضاربة الفردية على حد سواء، ذلك لأن الشروط والضمان ـ كما أسلفنا ـ مسائل خارجة عن حقيقة المضاربة ولا تدخل في ماهيتها وبالتالي، فكل مضاربة قابلة لأن يشترط فيها تلك الشروط وذلك الضمان، وبطبيعة الحال، لقد تناول الفقهاء الأقدمون تلك الشروط والضمان بشيء من التفصيل والتحقيق والتحرير.

ص: 1256

وأخيرًا: إن الاستغناء عن مصطلح المضاربة واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة من شأن ذلك عدم التكلف في البحث عن تكييف شرعي خاص لها، ذلك لأن من المعلوم أنه لا خلاف بين أهل العلم بالفقه في مشروعية المضاربة المطلقة، ولا يؤثر عن أحد المنازعة في مشروعيتها، وفضلًا عن هذا، فإن هذا الاعتبار من شأنه الفصل العلمي بين أحكام المسائل المرتبطة بها وبين حقيقتها نعني ضرورة تناول تلك المسائل بصورة منفصلة عن المضاربة، فإذا استقرت لها أحكام لم يكن لذلك تأثير على حقيقة المضاربة إن إيجابًا أو سلبًا، ذلك لأن تلك الأحكام لا تعدو أن تكون أحكامًا فقهية منبثقة عن اجتهادات رشيقة للسابقين أو اللاحقين وفق ظروفهم الفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في تلك العصور وليس ثم محظور شرعي ـ كما أسلفنا ـ في مراجعة جملة حسنة من تلك الشروط والاجتهادات في ضوء ما يمليه علينا واقعنا الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي مسترشدين بمقاصد الشرع السامية وأهدافه العليا في المعاملات.

ص: 1257

بناء على هذه الملحوظات، فإننا نركن إلى تقرير القول بأن الحاجة تمس اليوم إلى تجاوز ما سماه بعض الباحثين المعاصرين بالمضاربة المشتركة والاكتفاء بتطوير الأسس والمبادئ التي تتكون منها المضاربة التي سماها فقهاؤنا ذات يوم بالمضاربة المطلقة أو المضاربة العامة، فأحكام المضاربة خاصة أو عامة ليست صنو الإجارة خاصة كانت أو عامة، مما يجعل إلحاق إحداهما بالأخرى تكلفًا لا يطيقه البحث العلمي النزيه المؤصَّل.

إن الأمل اليوم معقود على الباحثين في الاقتصاد الإسلامي المعاصر في أن يولوا مبادئ المضاربة المطلقة جانب الدراسة والتحقيق والتطوير، وأن يقدموا معالجات فقهية رشيقة لعدد من المسائل الهامة المرتبطة بالمضاربة، وعلى رأسها مسألة الضمان، ومسألة لزوم العقد، ومسألة الاسترداد وسواها، ولتأخذ تلك المعالجات بعين الاعتبار ما استجد في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتقني بحيث يتم انتقاء الآراء الفقهية التي تتناسب مع متطلبات ومقتضيات الاستثمار في هذا العصر ما لم يكن في تلك الآراء مخالفة صارخة لمعنى نص شرعي قطعي صريح واضح، أو مصادرة معنى قاعدة فقهية معتبرة، كما يتم توليد آراء فقهية جديدة قادرة على حسن توجيه هذه المسائل في ضوء الواقع، تحقيقًا لقيومية الدين الحنيف وتسديد الواقع الاقتصادي بتعاليمه الخالدة.

وبهذا، نصل إلى نهاية هذه الدراسة التي نأمل أن تحظي بمزيد من التنقيح والتصحيح من لدن أهل العلم الكبار المجتمعين في هذه الندوة المباركة، ولا يعدو أن يكون ما أوردناه محاولة متواضعة نروم منه الدعوة إلى المضي قدمًا في أسلمة كافة الأساليب والوسائل الاستثمارية التي تقدمها المصارف والمؤسسات التي تشوب أعمالها شائبة الربا ومخالفة القواعد الشرعية المعتبرة في الاستثمار.

ص: 1258

نتائج الدراسة

لقد خلصت هذه الدراسة إلى جملة متواضعة من النتائج، يحسن بنا تلخيصها في النقاط التالية:

أولًا: يراد بالمضاربة المشتركة عند القائلين بها ذلك النوع من المضاربة الذي يتلقى فيه المضارب الأموال من الكافة، ويعمل فيها وفق شروط وضوابط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب حتى يمكن تسيير دفة الاستثمار براحة وأمان وقد سمي هذا النوع من المضاربة مضاربة مشتركة لأن المضارب يعتبر عاملًا مشتركًا لأكثر من رب مال، حيث لا يختص بعمله رب مال واحد، وإنما يستخدمه عدد كبير من أرباب الأموال.

ثانيًا: يتميز المضارب المشترك عند القائلين به في أنه هو الذي يعهد إليه وضع الشروط المناسبة لعقد المضاربة، ويضمن أموال المضاربة التي تودع عنده على أساس المضاربة، ويستحق جزءًا من الربح مقابل ضمانه أموال المضاربة، لا مقابل عمله فيها، ذلك لأن الذي يقوم بالعمل الفعلي هم المستثمرون الذين يتعاقد معهم المضارب المشترك تباعًا. ولقد أوضحنا من قبل أن الأمر لا يعتبر في حقيقته ميزة قاصرة على المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ذلك لأنه ينطبق على المضاربة المطلقة إذ إنها تخلو من وضع الشروط والضوابط والقيود، وفضلًا عن ذلك، فإن وضع الشروط من حق جميع أطراف المضاربة سواء أكانت المضاربة مطلقة أم مقيدة أم مشتركة، نعني أنه كما يجوز لرب المال في المضاربة المقيدة أن يضع ما يشاء من الشروط والضوابط، فإنه يجوز للمضارب في المقابل أن يضع شروطه، وضوابطه عند العقد وكذلك الحال في المضاربة المشتركة وسواها، ولا حرج في ذلك بتاتًا.

ص: 1259

ثالثًا: للمضاربة المشتركة عند عامة القائلين بها، ثلاثة فرقاء، وهم: مالكو الأموال (= المودعون) ، وجماعة المضاربين الفعليين (= العاملون) ، والجهة الوسيطة (= المصرف) ، وتعتبر الجهة الوسيطة الشخص الجديد في نظام المضاربة المشتركة، وله صفة مزدوجة، حيث إنه يبدو ـ أحيانًا ـ مضاربًا بالنسبة للمستثمرين (= أصحاب الأموال) كما يبدو ـ أحيانًا أخرى ـ مالكًا بالنسبة للمضاربين (= العاملين) وبناء على هذه الصفة المزدوجة، فإنه لا يمكن تصنيفه مضاربًا خاصًا بل مضاربًا مشتركًا لأنه لا يلتزم بالعمل كمضارب لشخص معين أو أشخاص معينين، وإنما يعرض خدمته على كل من يرغب في استثمار ما لديه من مال.

رابعًا: يرى بعض الباحثين المعاصرين أن العلاقة في المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثلاثية، بينما يرى آخرون أنها علاقة ثنائية، وقد ملنا إلى هذا الرأي الأخير لوجاهته وسداده، ذلك لأن المضاربة عندما عقدت، عقدت بين أرباب مال ومضارب متمثلًا في المصرف الإسلامي، ولا علاقة بين هذا العقد وبين العقود التي يبرمها المصرف الإسلامي لاحقًا، ذلك لأن أرباب الأموال لا يعرفون أولئك الأفراد الذين يتعاقد معهم المصرف لاحقًا ولا تربطهم بهم علاقة مطلقًا، وفضلًا عن ذلك، فإن المصرف بوصفه مضاربًا ليس مطالبًا في واقع الأمر بدفع أموال المضاربة إلى غيره مضاربة بل له الحق ـ إذ كانت المضاربة مطلقة ـ في أن يدفعها إلى غيره مرابحة ومشاركة وسواها.

ص: 1260

خامسًا: ذهب بعض الباحثين إلى أن المصرف يستحق أجرًا ثابتًا على وساطته وربحًا من نصيب المضاربين الفعليين على عمله، ويرى آخرون أنه يستحق جزءًا من الربح مقابل ضمانه مال المضاربة، وقد أثبتت الدراسة أنه يستحق نسبة شائعة من الربح مقابل عمله لا مقابل الضمان أو الوساطة، ذلك لأن التنظيم والتخطيط والإدارة وسواها تعتبر كل أولئك جزءًا من العمل المطلوب لاستثمار أموال المضاربة تصحيحًا لما استقر عند البعض عدم الاعتداد بالتنظيم والإدارة والإشراف جزءًا من العمل، وحصرهم العمل في العمل العضلي، والحال أن كل أولئك يعتبر جزءًا من العمل، لأن العمل المطلوب للاستثمار لا يتوقف على العمل العضلي، وإنما يشمل العمل الذهني والفكري والإداري والتنظيمي والتخطيطي وغير ذلك وبناء على هذا فلا حاجة إلى التكلف في تكييف ما يستحقه المصرف بهذا الصدد.

سادساًَ: انتهى مهندسو فكرة المضاربة المشتركة إلى تقرير القول بأن هذه المضاربة تتميز عن المضاربة الخاصة في مسألتين هامتين، وهما: مسألة الشروط، ومسألة الضمان، فالمضارب المشترك لا يخضع للشروط التي يخضع لها المضارب الذي سموه بالمضارب الخاص، كما أن المضارب المشترك يضمن مال المضاربة خلافًا للمضارب الخاص. وقد أوضحت الدراسة أن هاتين المسألتين لا تختص بهما المضاربة المشتركة بل إن المضارب المطلق لا يخضع للشروط التي يخضع لها المضارب المقيد أو المضارب الخاص. وأما مسألة الضمان التي ذكروها، فإنها مسألة منفصلة عن حقيقة المضاربة سواء أكانت مشتركة أم خاصة، ويمكن تطبيقها على كلا نوعي المضاربة المطلقة والمقيدة ولهذا، فلا وجه علميًا في التهويل من شأن هاتين المسألتين والارتكاز عليهما لتثبيت فكرة المضاربة المشتركة.

ص: 1261

سابعًا: توصلت الدراسة إلى القول بأن جملة المسائل التي استصعب مهندسو فكرة المضاربة المشتركة تحققها في المضاربة الخاصة لا تعدو أن تكون مسائل خلافية وقد تعددت آراء الفقهاء إزاءها، مما يجعل المعاصرين في فكاك من الالتزام برأي بعينه من تلك الآراء المتعددة نعني أن مسألة لزوم عقد المضاربة بعد بدء المضارب العمل في مال المضاربة، ومسألة استرداد رأس المال أو جزء منه قبل نهاية العقد، ومسألة اختصاص رب المال بوضع شروط وضوابط معينة وغير ذلك تعتبر كل أولئك مسائل اجتهادية مختلفًا فيها لا يجوز الإلزام برأي منها، ولهذا فليس من المقبول في منطق العلم انتفاء رأي من تلك الآراء وتعميمها على جميع أنواع المضاربة في الفقه الإسلامي، بل ليس من المعقول في شيء الاستناد إلى أحد تلك الآراء لتبرير العدول والانصراف عن جميع أنواع المضاربة واعتبارها ـ جميعًا ـ غير قادرة على الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر

إننا نعتقد أن اعتماد المضاربة المطلقة مع اختيار الآراء التي تتناسب للاستثمار المالي المعاصر، كفيل بأن يجعل المرء يتجاوز فكرة المضاربة المشتركة ما دامت المضاربة المطلقة تتسع للآراء الاجتهادية المرنة.

ثامنًا: أوضحت الدراسة غياب الموضوعية والدقة العلمية في الأسباب والأسس التي تذرع بها مهندسو فكرة المضاربة المشتركة للدعوة إلى ضرورة الاستغناء عن نظام المضاربة التي تحدث عنها الفقهاء، ذلك لأن تلك الأسباب والأسس ترد في مجملها على نوع من أنواع المضاربة، وهو المضاربة المقيدة أو الخاصة، أو لا ترد على المضاربة المطلقة أو العامة التي تتوفر على درجة عالية من المرونة والسعة، ولهذا، فلا سداد علميًا في تعميم ما أجروه من مقارنات وموازنات بين المضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، وقد كان حريًا بهم إجراء ذات الموازنات والمقارنات بين المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة والمضاربة المطلقة أو العامة.

ص: 1262

تاسعًا: انتهت الدراسة إلى القول بأن المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى المضاربة المطلقة للاستثمار الجماعي المنشود، ذلك لأنها تتميز بالمرونة والسعة وتتوفر فيها سائر الأسس والمبادئ التي تحتاج إليها المؤسسات المالية المعاصرة، وإضافة إلى ذلك، فإنها تعطي المضارب - سواء أكان فردًا أم جماعة ـ مجالًا واسعًا للتصرف والتحرك لتقليب الأموال، وفضلًا عن ذلك، فإنها تتسم بالانفتاح وعدم الانغلاق وتكاد أن تكون خلوًا من الشروط والضوابط المقيدة لحركة المضارب وتصرفاته، ولهذا، فليس هنالك مبرر علمي يقتضي العدول عن هذا المصطلح الفقهي القار المرن القادر على تلبية حاجات الاستثمار المالي المعاصر إلى مصطلح جديد ذي مشاكل وتساؤلات وأسس فكرية غير محررة ومشكوك فيها. إنه ليس ثم وجه علمي معتبر لإعطاء المضاربة الموسومة بالمشتركة بعض أحكام الإجارة المشتركة كالضمان وغيره، ذلك لأن أحكام الإجارة ـ خاصة ومشتركة ـ تختلف اختلافًا جذريًا عن أحكام المضاربة ـ عامة أو خاصة ومطلقة أو مقيدة ـ فالأجير المشترك أو الخاص يستحق ـ بلا خلاف ـ مقابل عمله أجرًا ثابتًا ومحددًا في بداية العقد، كما أن عقد الإيجار عقد على معاوضة على تمليك منفعة بعوض، وأما المضارب المطلق أو المقيد ـ وحتى المشترك ـ فإنه لا يستحق مقابل عمله أجرًا ثابتًا، ولكنه يستجق جزءًا من الربح، كما أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح بمال من جانب رب المال وعمل من جانب المضارب، وهذا الربح ليس بأمر مضمون خلافًا للأجر الذي يستحقه الأجير، وبناء على هذا، فلا يصح إلحاق أحكام بعضهما ببعض.

عاشرًا: إن الحاجة اليوم تمس إلى إعادة النظر في معاني العديد من المصطلحات المرتبطة بالمضاربة وغيرها من المعاملات، وعلى رأسها مصطلح التعدي ومصطلح التقصير، فالمعاني المرادة منهما تتجدد بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والظروف، ذلك لأن ما كان يعتبر بالأمس القريب غير تعد وتقصير، غدا اليوم يعتبر تعديًا وتقصيرًا، وبناء على هذا، فإننا لا نرى حاجة إلى التوسع في الاختلاف حول مسألة ضمان المضارب ـ الخاص أو المشترك ـ وعدم ضمانه أموال المضاربة التي تودع عنده، وبدلًا من ذلك، ينبغي اللياذ بتجديد القول في معاني ومضامين هذين المصطلحين، فسوء التخطيط والإدارة والتنظيم والإشراف. يمكن اعتبار ذلك كله مندرجًا تحت معاني التعدي والتقصير في هذا العصر. . . وعليه، فعلى حاملي الهم التصحيحي لمسار الاقتصاد الوضعي وأسلمته، أن ينصرفوا إلى إعادة تأصيل معاني هذين المصطلحين وغيرهما في ضوء الواقع الذي تعيش فيه.

ص: 1263

وأخيرًا: ثمة حاجة إلى القيام بدراسات علمية جادة حول فكرة المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء لتغدو وسيلة مثلى لتحقيق استثمار فعال لأموال المودعين، وتحقيقًا لهذا الأمر، نرى ضرورة مراجعة جملة حسنة من الآراء الاجتهادية التي توصل إليها الفقهاء القدامى إزاء فكرة المضاربة بشكل عام وفكرة المضاربة المطلقة بشكل خاص فليس من مرية أن من الآراء اجتهادية ظرفية متأثرًا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي كان سائدًا في زمانهم، واعتبارًا بأن ذلك الواقع قد تغير في شطر كبير منه، لذلك، فلا بد من أن تتغير تلك الاجتهادات المتأثرة بالواقع السابق، عملًا بالقاعدة الفقهية الراسخة التي تقول: لا ينكر تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف، فهل يمكننا القول بأنه لا ينكر تغير الآراء الاجتهادية بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال؟ .

هذه بعض النتائج المتواضعة التي توصلنا إليها، وأملنا أن تنال نصيبًا وافرًا من تعليقات وتصحيحات الأساتذة العلماء الكبار المشاركين في هذا التجمع العلمي، والله اسأل أن يفقهنا في دينه، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه ولي ذلك وعليه قدير.

كان الانتهاء من إعداده بعد فجر الثامن من شهر رمضان المبارك لعام 1422 هـ.

أ. د قطب مصطفى سانو

ص: 1264

العرض ـ التعقيب والمناقشة

العرض

الرئيس:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:

فهذا العرض مع المناقشات المتعلقة بموضوع القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية.

والعارض فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة:

الدكتور عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:

فمن الأبحاث المقدمة في موضوع القراض:

البحث الأول: لفضيلة الدكتور أحمد الحجي الكردي.

البحث الثاني: لفضيلة الدكتور حسين كامل فهمي.

البحث الثالث: لفضيلة الشيخ القاضي محمد تقي العثماني، رئيس المجلس الشرعي بهيئة المحاسبة والمراجعة ونائب دار العلوم بكراتشي.

والبحث الرابع: للأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، أستاذ الفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.

والبحث الخامس: للدكتور عبد الستار أبو غدة، عضو المجمع.

وقد لاحظت أن هذه الأبحاث بعضها حدد بمقدمات ممهدات ما بين موجزة أو مطولة، وأن هذه المقدمات اشتملت على كثير من المسائل المهمة، ولو لم تكن إحدى النقاط العشرة المحددة في ورقة العمل التي اقترحتها الأمانة العامة للمجمع.

ورأيت من المفيد أن أشير إليها إشارة للتنويه بها دون تفصيلها، لأنها ـ كما قلت ـ خارج ورقة العمل، ولكن لتوجيه الأنظار إليها وقراءتها والاطلاع عليها في الأبحاث.

بعض الأبحاث لم تستكمل جميع النقاط، واقتصرت على أربع أو خمس نقاط مختلفة.

ص: 1265

وقد رأيت أن الأجدى عرض هذه الأبحاث متوازنة متواكبة حتى تغطي المحور العام الذي يشملها وهو القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية (حسابات الاستثمار المشتركة) .

وليس من شأن العرض مناقشة ما جاء في الأبحاث، ولكن من المفيد تسليط الضوء على ما انفرد به بعض الأبحاث حتى تكون محلًا للمناقشة.

في بحث فضيلة الشيخ تقي العثماني تناول تكييف المضاربة المشتركة في المقدمات وأن الميزة الأساسية فيها هي تعدد أرباب المال، بخلاف المضاربة المعهودة في كتب الفقه غالبًا بأن تكون بمال واحد ومضارب واحد.

وأشار في مقدمة بحثه إلى أن هناك علاقتين في هذه المضاربة المشتركة علاقة بين أرباب المال، وهي من حيث التكييف شركة، وقد أشار إلى بعض النصوص الواردة في هذا لابن قدامة والكاساني، وأنها حسب رأيه شركة عنان وليس شركة ملك، ثم أشار أيضًا إلى موضوع اختلاف النسبة التي يشترطها المضارب ربحًا له على أرباب الأموال، فليس بالضرورة أن تكون متماثلة، وأورد أيضًا نصوصًا مهمة عن البغوي والنووي وابن قدامة، وبين في ثنايا بحثه أن المضاربة المشتركة، أو الجماعية المستمرة، الأولى أن تكون نوعًا جديدًا، كما أنه تناول موضوع التقويم (التنضيض الحكمي) .

بحث فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو أورد في مقدمته أهمية المضاربة، واستوفى تعريفات المضاربة من الفقهاء القدامى وبعض المعاصرين، أورد منهم تعريف الشيخ باقر الصدر، والدكتور سامي حمود، والدكتور حسن الأمين، والدكتور محمد فاضل الدبو.

وبين أن هذه التعريفات لهؤلاء الفقهاء المحدثين إنما هي شروح وتوضيحات ولا تخرج عن تعريفات المدونات الفقهية المعروفة.

ثم بين أن المضاربة المشتركة ليس لها تعريف لأنها أمر معاصر، لكن لها تصويرات صورها عدد من هؤلاء الفقهاء المحدثون وبينوا ما يتعلق بها، والمهم في هذا أنه أورد في مفهوم المضاربة رأيين: أحدهما ـ للدكتور سامي حمود ـ بأن هناك ثلاث علاقات، وأنه تابع فيها الشيخ باقر الصدر، وأن هذه العلاقات الثلاث ـ حسب تكييف الشيخ باقر الصدر ـ إنما هي بين أرباب المال وبين التجار الذين يعملون لتنفيذ المضاربة، وأما البنك فهو وسيط أو وكيل بأجر، وأنه يأخذ أجرًا كما يأخذ حافز من الربح وهذا التصوير مغمور الآن، والعمل على خلافه.

كما أنه فند هذا الأمر وبين أنه ليس هناك علاقة مباشرة بين أرباب المال وبين الذين ينمون هذا المال، وإنما العلاقة المباشرة بين أرباب المال وبين البنك الذي هو المضارب، ثم هذا المضارب بسبب أن المضاربة مطلقة يحق له أن يضارب هو فيتحول إلى كأنه رب مال، والذي ينمي المال هو مضارب ثان.

ص: 1266

وقد أطال الدكتور قطب في مناقشة هذا المصطلح (المضاربة المشتركة) فلم يرتض هذا المصطلح ورأى أنه يحجب المصطلح الفقهي الذي هو (المضاربة المطلقة) وأن المضاربة المشتركة ما هي إلا مضاربة مطلقة ثم تطويرها وإدخال بعض التعديلات فيها، وأطال النفس فيها، حتى استغرق هذا الكلام بعض صفحات من أول بحثه وعشر صفحات من آخره، وهذا الأمر ميسور، لأنه لا مشاحة في الإصطلاح، كما في القاعدة العلمية.

كما أنه قسم بحثه إلى أربعة مباحث: البحث الأول: خصصه لهذا المصطلح ومناقشته، والبحث الثاني: لمفهوم المضاربة وما يتعلق بها، والبحث الثالث: تكلم فيه عن المضاربة من حيث الشروط والضمان.

بحث فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي أورد في بدايته أن عقد المضاربة المشتركة عقد مركب، لأنه يبدأ بإيداع ويتضمن وكالة، وهو أيضًا شركة، وقد يتحول إلى غصب أو إجارة، وهذا محل للمناقشة، لأن هذه الصفات إنما هي صفات تعتور هذا العقد بحسب مراحله، وليس هو عقدًا مركبًا من البداية، أحببت فقط أن أشير إلى هذا حتى يكون محلًا للمناقشة.

ثم أشار إلى أن المؤسسات المالية طورت عقد المضاربة وركزت عليه، وهذا شيء جدير بالتنويه، لأن المؤسسات المالية أو البنوك الإسلامية قامت على أساس المضاربة، لأنه تتقبل الأموال من المستثمرين في غالب الأحوال على أساس المضاربة، ثم أورد في مقدمة بحثه تعريف المضاربة ومشروعيتها وأطرافها وشروطها، وأورد بعض صور المضاربة المشتركة، وركز على الصورة التي هي محل البحث، وهي أن يتعدد أرباب المال ويكون المضارب واحدًا.

كما أنه أورد وصفًا لإجراءات المضاربة، كيف تتم في المؤسسات المالية الإسلامية منذ البداية إلى النهاية، وأشار إلى تكييفها، وأدرج في الأطراف التي تقوم عليها المضاربة المشتركة التجار القائمين بتنمية أموال المضاربة، وهذا سبق أن نوهت إلى من أوردها أول مرة، وإلى أن الدكتور قطب ناقشها:

ورد على القائلين بأن المضاربة المشتركة شركة أموال بين المستثمرين والبنك، أو أنها إجارة.

ثم أورد في خاتمة بحثه من نافلة القول بيانًا عن اشتراط ربح لغير أطراف المضاربة، وهو مسألة فقهية مقررة، وكذلك إخراج المضاربة للزكاة، وتفضيل المشاركة على المضاربة، لأنها ليس فيها هذه المشكلات التي اقتضت وضع هذه الأبحاث عنها.

الأستاذ الدكتور حسين كامل فهمي أورد في مقدمة بحثه تعريفًا موجزًا بالحسابات بأنواعها، وجعل بحثه من ثلاثة مباحث: الأول: مسألة الخلط وحدها وأطال النفس فيها والمبحث الثاني: تناول فيه بقية النقاط، إلا نقطة الضمان فقد خصص لها، المبحث الثالث، لأنها في غاية الأهمية، وهي جديرة بهذا الإفراد.

الآن أتناول هذه النقاط من خلال هذه الأبحاث، نقطة خلط المضارب بين أموال أرباب المال، أو بين ماله وبين أموالهم.

تقريبًا هناك شبه اتفاق بين هذه الأبحاث بأن هذا الخلط إذا كان قبل المضارب بالمال الأول فلا مانع منه، وأما إذا كان بعد ذلك ولم يكن فيه إضرار برب المال الأول وكان مشمولًا بموافقة رب المال لقوله:(اعمل برأيك) فإنه في مذهب الحنفية لا مانع منه، وأما عند المالكية والشافعية والحنابلة فقيه شيء من التضييق.

ص: 1267

وقد شدد الدكتور حسين فهمي في هذا الأمر، فبين أن الخلط هذا رغم أنه وارد في مذهب الحنفية لكنه آثر مذهب الجمهور وطالب بتطبيقه والاقتصار عليه وأورد الدفوع التي تثار على منع الخلط، من أنه يغتفر في الشركات ما لا يغتفر في غيرها، وأن المضاربة الثانية توحي بجواز الخلط لأن المضارب حينما تكون مضاربة مطلقة ويضارب مرة ثانية وكذلك موضوع الشخصية الاعتبارية، ورد على هذا الدفوع وبين أن التمسك بمنع الخلط فيه محافظة على حقوق الشركاء وموافقة لآراء جمهور الفقهاء.

ثم ناقش بمناقشة جيدة واسعة موضوع الشخصية الاعتبارية والتصور القانوني الذي يذهب إلى أن الشركاء يملكون حقًا في الشركة ولا يملكون في موجوداتها وهذا يحسن التأمل فيه للاستفادة منه.

فضيلة الشيخ تقي عثماني أشار إلى نقطة مهمة جدًا تميز بها بحثه، وهي أن بعض القوانين تشترط على المضارب أن يسهم بماله، وهذا في قوانين صناديق الاستثمار يطلب من المضارب الذي يريد صندوق الاستثمار، وغالبًا تدار على أساس المضاربة أن يسهم بنسبة من رأس المال المطروح، حتى يكون في هذا طمأنينة للمستثمرين الذين يستثمرون معه، وهذا يجعل في الاستفادة من مذهب الحنفية منجى من التضارب مع هذه القوانين.

وحقق أيضًا فضيلة الشيخ تقي بأن تطبيقات الشافعية تشير إلى أن هناك سماح بالخلط، وقد أورد عبارة للرملي بهذا الخصوص، كما أشرت إلى نحو هذا في بحثي.

ص: 1268

أما النقطة الثانية: هي لزوم المضاربة وتوقيتها، وهما نقطتان، ولزوم المضاربة طبعًا هو خلاف القول المنتشر الشائع في الفقه بأن المضاربة كغيرها من الشركات عقد غير لازم، فلكل من الطرفين أن يفسخه بمحض إرادته دون موافقة الطرف الآخر.

وأما التوقيت فهو أن يجعل للمضاربة وقت تنتهي بانتهائه بدون حاجة إلى الفسخ. فموضوع اللزوم: إن كل الفقهاء تقريبًا مطبقون على أن المضاربة غير لازمة.

وأما التوقيت فعند الحنفية والحنابلة لا مانع منه، لأنها مكيفة بالوكاة، والوكالة تقبل التقييد. وأما المالكية والشافعية فإنهم لم يذههبوا إلى ذلك. فالمالكية قبل الشروع قالوا: غير لازمة، ولكن بعد الشروع قالوا: إنها تلزم، لأنه يتعلق بها حق للمضارب، لأنه اشترى بضائع، وهذه البضائع قد ترتفع قيمتها فيكون له نصيب في الربح.

وموضوع اللزوم له مخرج وهو بألا يكون هذا تغيير لمقتضى العقد، وإنما يكون تعهدًا من أرباب المال بأنهم لا يلجؤون إلى فسخ المضاربة، أي لا يطالبون باسترداد مشاركاتهم أو مساهماتهم.

نقطة الاسترداد والتخارج: فالدكتور أحمد الكردي لم ير في التخارج بأسًا، على ألا يكون هناك مبالغة، وهو أنه يقترح عدم المبالغة في منع السحب من المؤسسات المالية، حتى لا يلجأ المستثمرون إلى البنوك التقليدية، وأشار إلى أن السحب أو التخارج قد يترتب عليه كسر للوديعة، والحقيقة مسألة كسر الوديعة تسمية شائعة، ولكن ليس هو كسر للوديعة، وإنما هو شراء للحصة، فالمؤسسة المالية حينما تسمح بالتخارج تشتري حصة هذا الإنسان وهذا خاضع للعرض والطلب.

كما أشار إلى الاسترداد واقترح ألا يكون بمبلغ محدد سلفًا.

التخارج لم يحظ بمزيد من البحث في معظم الأبحاث، لأن الدكتور حسين فهمي والدكتور قطب تكلما عن انفساخ المضاربة، وإذا كان هذا الانفساخ والمال ناض أو غير ناض وهناك ربح أو غير ربح. والانفساخ غير التخارج.

كما أنهما حينما تكلما عن الاسترداد تكلما عن الفسخ قبل الشروع وبعده.

وفي ورقتي أوردت عن الاسترداد والتخارج كلامًا طويلًا غير ممل، وأورد فضيلة الشيخ تقي العثماني كلامًا موجزًا غير مخل، وتطرقنا في بحثينا إلى ما يتعلق بالاسترداد والتخارج من أنه يقع على موجودات قد تكون غالبة عليها النقود والديون وهذه المسألة جاءت في قرار المجمع في سندات المضاربة، والمجمع بت في نصف الموضوع، حيث أشار إلى أنه إذا كان الغالب الأعيان والمنافع فلا مانع من التداول، ومثله التخارج الذي يتم من طرف من خارج المضاربة، أو الاسترداد ما بين المضارب وأرباب المال، وأما إذا كان العكس فالمجمع لم يبت فيها، وأشار إلى أنه ستوضع لائحة في هذا الموضوع، وحتى الآن لم توضع هذه اللائحة.

والجدير بالذكر أن إحدى المؤسسات المالية في الكويت - وهي الشركة الأولى للاستثمار ـ عقدت ندوة فقهية وأوردت هذا الموضوع، وكتبت فيه عدة أبحاث.

وإذا أشرت في ورقتي إلى بدائل الموضوع - غلبة الديون والنقود ـ وأشار فضيلة الشيخ تقي على مسألة سد عجوة. ولا يتسع المقام لعرض هذه الأشياء ولا سيما أنها لم ترد في بقية الأبحاث، فتنظر في ورقتنا.

ص: 1269

النقطة الخامسة من نقاط ورقة العمل التي اقترحتها الأمانة العامة للمجمع: هي نقطة توزيع الأرباح بطريقة النمر، أو النقاط.

والأستاذ الدكتور أحمد الكردي أشار إلى أن هذه الطريقة تشتمل على جهالة ولكنها تغتفر لأن فيها مصلحة، وأن المحاسبة قد تقدمت شوطًا، فتذلل هذه الجهالة، وأن هذا الأمر مبني على التسامح، كما أشار أيضًا فضيلة الشيخ تقي إلى أن هذا الأمر لا بد منه، بسبب عدم التزامن بين دخول المستمرين أرباب المال وخروجهم، فإنهم يدخلون تباعًا، ورأس مال المضاربة يكون تراكميًا، ولذلك لا يمكن إلا اللجوء إلى هذا الأمر، وأنه يحتاج إلى التنضيض الحكمي.

ووجود إمكانية السحب والدخول غير المتزامن والمتواكب قد يحدث تداخلًا في الأرباح، ولكنه أشار إلى أن هذه المضاربة المشتركة هي نوع جديد، ورأى أن هذا الأمر جائز لأنه لا يشترط أن يكون ربح كل واحد من الشريكين مبنيًا على ما حصل من مساهمته المالية أو العملية بالإدارة ـ كما أشار إلى فرعين في الفقه يستأنس بهما لهذه الطريقة، وهي أنها قد يكون فيها، كما جاء في الأوراق الأخرى التي سأشير إليها، ربح سابق على دخول الشخص. أشار إلى أنه في شركة الأبدان يتم توزيع على أساس الإنتاج اليومي بتراضيهم عليه. وعند الحنفية لا يشترط خلط مال الشريكين، وإنما يمكن العمل مع عدم الخلط، فإذا تحقق ربح من المالين يتم تقاسمه بين الشركاء، فهنا يكون ربح مال أحد الشريكين للآخر، كما أن هذا الموضوع طرح في إحدى ندوات البركة، وقد أشار الشيخ تقي وأشرت أنا في ورقتي إلى ما جاء في تلك الندوة وهي ندوة فقهية، والندوات التي تقيمها المؤسسات المالية وهي روافد للمجمع لا يستنكر الاستفادة منها، فجاء في هذه الندوة وهي الندوة الحادية عشر للبركة: يجوز استخدام طريقة النقاط (النمر) لحساب توزيع الأرباح بين المشاركين في حسابات الاستثمار العامة، وذلك بالنظر إلى المبلغ والزمن لموجودات كل حساب، والتوجيه الشرعي لذلك: أن أموال المشاركين في وعاء استثماري واحد قد ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها في الحساب، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن بحسب طريقة (النمر) هو أعدل الطرق المحاسبية المتاحة لإيصال مستحقات الحسابات من عائد الاستثمار لأصحابها، وإن دخول المستثمرين على هذا الأساس يستلزم المبارأة عما يتعذر إيصاله لمستحقية بهذه الطريقة.

ومن المقرر أن المشاركات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات، وإن القسمة في صورتها المشتملة على تعديل الحصص تقوم على المسامحة.

هذه وجهة المجيزين، ولكن الأستاذ الدكتور حسين فهمي، بناء على اقتصاره على منع الخلط لا يرى حاجة إلى هذه الطريقة، لأنه يطالب بأن يكون دخول المستثمرين معًا وانتهاء المضاربة معًا، وهو يرى عدم الخلط والتنضيض الحقيقي والقسمة وأشياء في بحثه، ولا أريد أن أناقش لأن هذا شأن غيري.

ص: 1270

النقطة السادسة: وهي تشكيل هيئة تمثل أرباب المال: تقريبًا الأساتذة الباحثون يؤيدون هذه الفكرة ويرون فيها نوعًا من الإشراف والمراقبة، على ألا يكون هناك تدخل من هذه الهيئة في عمل المضارب، لأنه لا يجوز لأرباب المال أن يتدخلوا في قرار المضارب (القرار الاستثماري) والأستاذ الدكتور حسين فهمي أكد على هذا الموضوع ورأى أنه ضروري، ورد على حجج المعارضين بأن المودعين كثر، وأنهم أكثر من المساهمين أحيانًا ومبدأ عدم التدخل، فرد على هذه الحجج وبين أنها للمصلحة وفيها فائدة.

واختيار هذه الهيئة عادة يكون بالانتفاء بوضع شروط بأن يكون أكبر المساهمين، مثلًا من يملك في وعاء الاستثمار حدًا معينًا بحيث لا يزيد عددهم عن عشرة، وهؤلاء ـ كما قلنا ـ لا يتدخلون وإنما يراقبون ويشرفون ولهم أيضًا مهمة أخرى أشرت إليها في بحثي وهي أنهم يقومون بإطلاق بعض القيود التي سبق تقييد المضارب بها، فقد يقيد المضارب مثلًا بألا يعمل في بلد معين أو في نشاط معين، فإذا شعر المضارب أن هذه القيود تغل يده وتعوق الاستثمار يلجأ إلى هذه الهيئة التي تمثل أرباب المال والمستثمرين فيعفونه من بعض هذه القيود.

وقد وجدت نصًا للإمام الحصكفي من الحنفية ـ طبعًا هذا الإطلاق ليس فيه شيء ولكن هل لهذه الهيئة أن تقيد المضارب بقيود جديدة؟ الحصكفي يقول: إذا كان قبل الشروع: لا مانع من ذلك، وأما إذا كان بعد الشروع فليس لرب المال أن يقيد المضارب، لأن هذا يعطل نشاطه بعد أن دخل على أساس الإطلاق.

ص: 1271

النقطة السابعة: ما يطلق عليه (أمين الاستثمار) : هذا الموضوع لم يحظ باهتمام أو بتركيز من بعض الأبحاث، لأنه لم يتم إدراك المراد منه بشكل واضح، فمثلًا الدكتور حسين فهمي ظن أن المراد من أمين الاستثمار البنك نفسه وأورد نموذجين: أحدهما: أن يشارك البنك بماله، والآخر: أن تكون هناك بنوك ضيقة تعمل بالوكالة بعمولة، ولا تعمل بالمضاربة.

والواقع أن أمين الاستثمار أصبح مهمًا جدًا في أوعية الاستثمار، وهو جهة محايدة خارجة عن المضاربين وأرباب المال، ويتم تعيينها بوضع شرط في نشرة المضاربة، وتكون مهمة أمين الاستثمار مراقبة المضارب لتحقيق شروط المضاربة، فإذا أراد أن يشتري شيئًا وكان في شروط المضاربة منع منه لا يعطيه المال الذي يتطلبه هذا الشراء، وإذا أراد أن يبيعه ويخالف شروط المضاربة كذلك وتحفظ لديه أموال المضاربة وشهدات الاسهم أو الصكوك،. . . إلخ فله مهما حمائية، وهو ليس وكيلًا عن المساهمين، ولا جزءًا من جهاز المضارب، وإنما هو مستقل. والأبحاث رأت أنه لا مانع من ذلك، لأن فيه نفعًا، وأنا استأنست لهذا الأمر بالعدل في الرهن، إذا الراهن والمرتهن لم يتفقا لم يرض الراهن أن يكون الراهن في يد المرتهن فإنه يصار إلى العدل وهو طرف ثالث مؤتمن من الطرفين توضع لديه العين فهذا يصلح سندًا لهذا الأمر.

النقطة الثامنة: وضع معدلات لربح المضارب، والأبحاث كلها وافقت على ذلك، ذلك لأنه لا يخل بمقتضى المشاركة، لأنه لا يقطع الاشتراك في الربح.

وكذلك الوعد بحوافز للمضارب، فيقال له: الربح مثلًا خمسون، ولكن إذا حققت نسبة من الربح تصل إلى كذا أو تزيد عن كذا فتأخذ من تلك الزيادة نسبة كذا، أو تأخذ كل تلك الزيادة، فهذا من قبيل الوعد بالهبة، وهو لا يقطع المشاركة وفيه حث على حسن الأداء.

ص: 1272

النقطة التاسعة: تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من شخصيات معنوية، وهذه النقطة قديمًا لما كان المضارب فردًا وشخصًا طبيعيًا لا إشكال، ولكن الآن حينما يأتي المستثمر ويقدم أمواله للمؤسسة المالية أو البنك، فهناك جمعية عمومية ومجلس إدارة ومديرون تنفيذيون، فمن هو المضارب؟ هذه النقطة تناولها الأستاذ الدكتور أحمد الكردي فقال:(هي الشركة) وأورد رأيًا آخر بأنه هناك احتمال أن تكون الشركة والعمال والموظفون كلهم، واقترح في هذه الحالة أن يوزع الربح عليهم جميعًا وهذا تفرد به في بحثه.

والدكتور حسين فهمي انصرف عن هذا الموضوع لأنه تكلم عن موضوع آخر، وهو أنه إذا كان المضارب شخصية معنوية، فكيف ينشئ وعاء آخر؟ فطالب بأن تكون هناك ميزانية مستقلة، لعدم التداخل بين النشاط الأصلي للبنك وبين نشاط المضاربة، وهذه النقطة أيضًا موضوع تحديد المضارب جاءت الإشارات إليها في ثلاثة أبحاث، وهي أنها هي المؤسسة المالية أو البنك، فجاء في ورقة الشيخ تقي العثماني وورقة الدكتور قطب وورقتي إشارة إلى هذا وأنه وردت في ندوة البركة، وإذا كان لا مانع من القراءة في هذه بشكل موجز، لأنها نظمت هذا الأمر تنظيمًا وافيًا.

جاء في تلك الندوة: إن المضارب في المؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتسلم الأموال لاستثمارها على أساس المضاربة هو الشخص المعنوي نفسه: البنك والشركة، لأنه هو الذي يناط به الذمة المالية التي بها يحصل الوجوب له أو عليه، وليس الجمعية العمومية التي تملك المؤسسة ولا مجلس الإدارة الذي هو وكيل عن المالكين، ولا المدير الذي هو ممثل الشخص المعنوي.

ولا تتأثر العلاقة بين أرباب المال والمضارب في المؤسسة المالية ذات الشخصية الاعتبارية بالتغير الكبير في مالكي المؤسسة (الجمعية العمومية) أو التبديل الكلي أو الجزئي في أعضاء مجلس الإدارة، لأنهم قد يتغيرون كل عام، أو تغيير المدير وأعوانه لأنه ذلك الحق مقرر في النظام الأساسي للمؤسسة، وإذا حصل بعد التغيير إخلال بالتعدي أو التقصير فإن في أحكام المضاربة ما يحمي أرباب الأموال، بتحميل المسؤولية على من وقع منه التعدي أو التقصير، وهذا ما لم يكن هناك قيد صريح من رب المال، لأن استمراره في المضاربة رهين ببقاء من كانوا في المؤسسة عند دخوله في المضاربة من الأشخاص الطبيعيين كلهم أو بعضهم في الجمعية العمومية أو المجلس والإدارة فتكون مضاربة مقيدة ويملك حق الخروج بالإخلال بذلك القيد وهذا أمر غير مطبق.

ص: 1273

ثم أشارت الندوة إلى أنه إذا تم الاندماج بين الشخصين المعنوي القائم بالمضاربة وبين شخص معنوي آخر، بحيث يصير الشخص المعنوي الموحد متضمنًا لها فلا تتأثر المضاربة بذلك لبقاء الشخص المعنوي القائم بالمضاربة ضمنًا.

وإذا كانت المضاربة مع أحد فروع الشخص المعنوي فاستقلت وصارت له شخصية معنوية أخرى مغايرة للشخصية المعنوية السابقة التي كانت للفرع بالتبعية، فيكون حيئنذ لأرباب المال حق الخروج.

النقطة الأخيرة: في ورقة العمل هي الضمان في المضاربة: وهذه النقطة الحقيقة ورد فيها اتجاهان - ما في الأبحاث-:

الاتجاه الأول الذي جاء في بحث الدكتور قطب: أطال في هذا الموضوع وأشار إلى رأي الشيخ باقر الصدر بأنه لا مانع من الضمان، وأنه بمثابة النذر، كأنه نذر شيئًا فالتزم به وأشار إلى بحث للدكتور سامي حسن حمود بتشبيه المضاربة المشتركة بالإجارة المشتركة أنه يمكن تضمين المضارب، وأطال النفس في هذا الموضوع، واقترح في ذلك أنه لا مانع منه، لأنه يشبه التطوع بالضمان عند المالكية وأن فيه حماية، وأن رب المال هو الطرف الضعيف، خلافًا لما كان عليه الحال سابقًا من أن المضارب كان هو الطرف الضعيف، وأشار أيضًا إلى أن مفهوم التعدي والتقصير مفهوم يحتاج إلى بلورة، وقد يكون التعدي خفيًا، ولذلك ففي هذا الضمان حماية.

الاتجاه الآخر الذي ورد في الأبحاث الباقية أكد ما عليه المدونات الفقهية من منع ضمان المضارب، وأن في هذا التباسًا بعمل البنوك التقليدية واشتملت الأبحاث على نقد مفصل لفكرة الإجارة المشتركة، وخصوصًا ورقة الدكتور حسين فهمي، فإنه أطال فيها النفس وناقش أيضًا طروحات أخرى، منها: أن يكون هناك ضمان من طرف ثالث ولكن بالاشتراط، خلافًا لقرار المجمع وهو ما اقترحه الدكتور منذر قحف فرد على هذا أيضًا، وأيضًا تناول بالرد ما يسمى تضمين يد الأمين بالشرط، وهو ما ارتآه الدكتور نزيه حماد، والدكتور نزيه يرى أن هذا ممكنًا وله فيها بحث مفصل، واقتصر على التلف دون الخسارة وشبه بالتطوع والدكتور حسين فهمي ناقشه في ورقة بحثه مناقشة طويلة، والحقيقة أن هذا الموضوع إذا كان من المسلمات في المدونات الفقهية فلا مجال لخدش هذا الاتفاق الفقهي ولا سيما أن هذه هي الشعرة الأساسية بين الاستثمار الإسلامي المشروع الذي لا يخلو من المخاطرة مهما بُذِلَتْ من وسائل، والاستثمار التقليدي القائم على الضمان والله أعلم، وأرجوا ألا أكون قد أطلت، وأني لم أجحف بحق إخواني أصحاب الأبحاث وإن كنت قد أجحفت في حق بحثي.

ص: 1274

التعقيب والمناقشة

الشيخ نظام اليعقوبي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

بدأت أفكر وأشك في وجود توجه في مؤامرة داخلية على المصارف الإسلامية كما تفضل –صباح اليوم- الأستاذ عبد اللطيف جناحي، فسبحان الله، أصبحنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. في صباح اليوم اتفقت الأبحاث كلها في موضوع المشاركة المتناقضة على جواز العقد في جملته وفي نقاط مهمة اتفقت عليها وكان الاختلاف في تفاصيل، فكان الواجب أن نقرر ما اتفقت عليه ونرجئ بحث التفاصيل والجزئيات إلى مزيد بحث.

والآن هنا نجد في ورقة الدكتور حسين كامل فهمي أنه يمنع ويحرم خلط الأموال وطريقة حساب النمر ويشكك في الشخصية الاعتبارية، ثم يعود فيستدرك ويقبلها باستحياء، فمسألة خلط الأموال وحساب النمر صدرت فيها قرارات وفتاوى من هيئات شرعية معتبرة ومن مؤتمرات وندوات كما قرأ بعضها الشيخ عبد الستار وأفتى بها علماء لهم وزنهم، وجلهم من أعضاء مجمعكم الموقر هذا. فالباحث جزاه الله خيرًا لم يكلف نفسه عناء النظر في هذه القرارات وبحث ما جاء فيها أو على الأقل إيراد نصها ومناقشتها، ويبدو أن الأخ الباحث لم يحتك بالمصرفيين وعمل البنوك الواقعي، ولم يستفصل منهم، هل يمكن فعلًا عمل ما يقترحه أم لا؟ لأن ما يقترحه يستحيل تطبيقه في البنوك اليوم، يعني كل ألف ريال نجعل لها مضاربة مستقلة؟ هذا لا يمكن. فلهذا أطلب أن يعدل هذا البحث بحيث يدخل فيه رأي تلك الهيئات وأولئك العلماء واستدلالاتهم وقراراتهم، وإذا طبع البحث في هذه الصورة فيسبب بلبلة للناس، ويعطي الربويين حجة قوية ويقولون: كل ما تفعله البنوك الإسلامية اليوم فهو خطأ وحرام وداخل في الربا والمحرم. والعياذ بالله. وشكرًا.

الشيخ عبد الله بن منيع:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فقد استمعنا من العارض جزاه الله خيرًا بعرض أبحاث إخوتنا الأعزاء، فجزى الله الجميع خيرًا، وكان عرضًا موفقًا، وأعتقد أنه أتيحت له فرصة لم تتح لمحبه، لكن الحمد لله على ما قضى وقدر.

ص: 1275

ما يتعلق بما جاء بهذه الأبحاث:

أولًا: ما يتعلق بمشاركة المضارب في أعمال المضاربة، في مال المضاربة بعد مباشرة المضارب لأعمال المضاربة نفسها، هذا في الواقع يحتاج إلى تفصيل، إن كان الأمر قد باشر وكان المال مال متاجرة ليس موزعًا على وحدات معينة وعلى وحدات يجري تقويمها دوريًا؛ فكيف نتصور دخول المضارب بمال. . . مباشرة أعمال المضاربة نعم إن وجد توزيع هذا المال إلى وحدات يجري تقويمها ثم يدخل المضاربة بشراء وحدات أو بالاكتتاب في هذه الوحدات المقومة فهذا في الواقع يقتضي العدل في دخوله مع المضاربين أنفسهم أو مع أرباب المال.

القول في اشتراط أن يسهم المضارب بجزء من ماله في المضاربة هذا في الواقع قول يحتاج إلى نظر. نعم إن أراد أن يسهم باختياره فله في إسهامه صفتان:

الصفة الأولى: بصفة رب مال بما قدمه من ماله في هذه المضاربة ولكن هذا لا يعني أن تتأثر شخصيته كمضارب فهو في الواقع مضارب في المال كله، وفي نفس الأمر يدخل بما يدخل فيه من مال مشاركًا لأرباب المال، ولكن هذا ينبغي أن يكون على سبيل الاختيار وفي نفس الأمر معروف أن المضاربة نوع من الشركات، وهي تعتمد على عنصرين: مال وعمل. المال من رب المال، والعمل من المضارب نفسه فلا يجوز لنا أن نبعد هذا النوع من المضاربة عن معناها الشرعي.

ما يتعلق بتحديد مدة المضاربة: فالواقع أن الأمر كما سمعنا في البحوث أن المضاربة من الشركات الجائزة، لكنا نرى إلى أن الأخذ بذلك يعرقل سير المضاربة، فالقول بلزومها لمدة معينة وإلزام الأطراف المعنية بها في هذه المدة قول تقتضيه مصلحة المضاربة.

ما يتعلق بالتنضيض الحكمي الذي تشوف إليه وأشاعه هو المضارب (المؤسسات المالية) .

والمؤسسات المالية تتشوف إلى أن تأخذ ربحها مستعجلًا وألا تنتظر للآماد الطويلة التي قد تستغرق سنوات فلا شك أنه يعتبر حلًا من الحلول التي من شأنها أن تيسر أمر هذا النوع من المشاركات والاستثمار.

ص: 1276

إلا أنني أرى أن الأمر يحتاج منا إلى النظر في أمرين:

الأمر الأول – فيما يتعلق بالأصول الثابتة:

ينظر إلى قيمتها التاريخية، وفي نفس الأمر إلى ما استهلك من عمرها، فإذا تصورنا أن عينًا من الأصول الثابتة قيمتها عشرة ملايين، وفي نفس الأمر مضى من عمرها سبع سنوات، فمعنى ذلك أن قيمتها ثلاثة ملايين، بينما يحتمل أن تكون قيمتها ثلاثة ملايين، بينما يحتمل أن تكون قيمتها وصلت إلى خمسين مليونًا فهل هذا تقويم عادل؟ لا شك أنه غير عادل ولا شك أن القول بأخذ التقويم التاريخي هو قول غالب المعايير المحاسبية، ولكنه من الجانب الشرعي اتجاه غير عادل، لا بالنسبة للمضارب ولا لرب المال، وأكثر من ما يكون الظلم والتقصير والنقص على رب المال نفسه.

وهناك أمر آخر – وهو ما يتعلق بالديون التي هي بعد التنضيض:

فيحتمل أن تتعثر هذه الديون وأن تنعدم فمن الذي يتحمل مسؤولية النقص؟ لا شك أن رب المال المضارب أخذ نصيبه من ربحه، فهل هذا يتفق مع جوهر المضاربة التي يعتمد الربح فيها أو استحقاق المضارب على سلامة المالي نفسه؟ فهذا جانب آخر ينبغي أن يكون محل اعتبار ونظر.

وأقترح لهذه النقطة أن يوجد صندوق مخاطر تكون موارده من الأرباح المتكررة في مستجدات المضاربة. وأي نقص يأتي على رؤوس الأموال يمكن أن يغطي من هذا الصندوق.

ما يتعلق بالضمان والقول بأن المضارب ينبغي أن يتحمل الضمان لا سيما وقد تطورت الآن وسائل الاستثمار وكثرت الأموال المستثمرة ونحو ذلك وكثر الخطر عليها، لكن هذا لا يسوغ القول بأن نحرق ما يكاد يكون إجماعًا في أن المضارب لا يضمن إلا ما كان نتيجة تعد أو تقصير فينبغي أن يكون هذا في الاعتبار. حفظكم الله.

ص: 1277

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فلا يسعني إلا أن أؤيد تقديم الشكر من السادة الذين سبقوني من الأساتذة الفضلاء الذين أسهموا في إثراء هذا البحث سواء كانوا مانعين أو مؤيدين، كما أشكر أيضًا الدكتور عبد الستار الذي وفَّي التلخيص حقه وأضفى في بيانه المتميز النقاط المختلفة بحيث عمت جميع جزئيات البحث.

أما المناقشة فالواقع إنني أذكر هذه الأمور:

أولًا: إنني أؤيد بكل شدة مشروعية المضاربة المشتركة، لا من حيث إقرار واقعها فقد يكون الواقع ظالمًا، ولكن من حيث تطبيق جزئيات المفاهيم التي قامت عليها هذه المضاربة، بالاعتماد على ما هو تلفيق مشروع من مختلف الآراء المذهبية، فكل جزئية من جزئيات المضاربة المشتركة يمكن أن نجد لها تخريجًا واضح المعالم، وبالتالي يمكن القول بسهولة بمشروعية هذا النوع الجديد الذي اقتضته الحياة المعاصرة، والذي حقق نجاحًا واضحًا، خصوصًا فيما يتعلق بتعدد المشاركين (أرباب الأموال) وإسهام المضارب بمال، بالإضافة إلى جهده، وكأن هذه الناحية فقط يمكن أن تجر المضاربة المشتركة إلى شركة عنان، وهذا ما أميل إليه، وسواء كيفنا أنها مضاربة مشتركة أو شركة عنان فالمهم النتائج، ولا يهمنا تكييف العقد كثيرًا، إلا إذا أردنا أن نعرف مدى مشروعية هذا التصرف أو عدم مشروعيته فهذه أول ناحية أركز عليها.

نقطة أخرى: وهي أن التوقيت للمضاربة ما دام الحنفية والحنابلة أجازوا هذا التوقيت، فلماذا نتشكك في الموضوع؟ الواقع الذي أغنى شركة المضاربة هم الحنفية دون بقية المذاهب، هم الذين قالوا بتقسيم المضاربة إلى مطلقة ومقيدة مع أن كل المذاهب الأخرى لا تقول إلا بالمضاربة المقيدة. فهذا الأفق الواسع الذي يتميز به الحنفية من الناحية التطبيقية لا مانع من القول به وأيدهم في هذا أيضًا فقهاء الحنابلة.

النقطة الأخيرة: محاككة أرجو ألا أمس مقام أخينا الشيخ تقي العثماني أنه أورد كلمة للعلامة الكاساني في موضوع التفاوت في تقدير الأرباح بين الشركاء:

أولًا: هذه العبارة أؤكد أنها ليست في المضاربة بحسب علمي وحفظي وتدريسي وإنما هي في شركة العنان. الشيء الثاني: هذه العبارة التي أوردها للعلامة الكاساني، وأنا لا أقر أن نكون سمحاء في إطلاق كلمة الإمام، فيكفي علامة، لأن الإمام لا يطلق إلا على من استقل بقواعد واستنبط بناء عليها، أما أتباع المذاهب فليسوا بأئمة،. . . فعبارة ما اعتمده الشيخ تقي حفظه الله من استنباط حكم جواز تفاوت الأرباح من عبارة الكاساني عكس المطلوب، فالكاساني هذه العبارة في أنه يجوز التفاوت في الربح بالاعتماد على زيادة العمل ولم يطلق الكاساني هذه العبارة في أنه يجوز التفاوت بالأرباح سواء وجد العمل أو لم يوجد فالعبارة تنص صراحة في آخرها: وإن شرطاه –أي زيادة الربح- على أقلها ربحًا لم يجز، فما استنبطه فضيلة الشيخ عكس ما تدل عليه عبارة الكاساني، والله أعلم، وشكرًا، والسلام عليكم.

ص: 1278

الشيخ علي السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

الشكر والتقدير للإخوة الباحثين وللدكتور عبد الستار على العرض الطيب وللإخوة المعقبين.

هذا الموضوع له خطورته فيما يتعلق بالواقع الملموس والتجربة القائمة، وهي –كما تفضل- المحاربة الآن من جهات مختلفة، النقطة التي أريد من المجمع الموقر أن يكز عليها ويؤكدها هي ما يتصل بالضمان، وهذا من أخطر ما يمكن، والآن يوجد دعوات فعلًا سمعناها وأبحاث قدمت لبنوك إسلاميةوهيئات رقابة شرعية تقدمت لأن يكون البنك الإسلامي ضامنًا، هذه قضية في غاية الخطورة، لأنه الفرق الأساسي بين البنك الإسلامي والبنك الربوي، والأخ الحبيب الغائب الحاضر الدكتور سامي حمود عندما خرج بفكرته عن الضمان على المضارب المشترك وأن هذا مثل الأجير المشترك وأنه يضمن، وناقشته وبينت له أولًا أن المضارب المشترك ليس فكرة جديدة معنى ولا لفظًا، وخرجت له من أحد كتب الفقه باللفظ (مضارب مشترك) هذا اللفظ، و (خلط الأموال) هذا مضارب مشترك معنى، هذا الأمر ليس جديدًا، الجديد هو الصورة المعاصرة، وهي لا تغير من أصل الموضوع، فأصل الموضوع قائم موجود. كون أن يكون المضارب المشترك يعمل لاثنين أو ثلاثة: الحكم لا يختلف لأنه يعمل لألفين أو ثلاثة آلاف، فإذن هنا إذا قلنا بأنه يجوز للمضارب أن يكون ضامنًا إذن تفقد المصارف الإسلامية مصداقيتها، ثم فرق كبير بين المضارب المشترك والأجير المشترك. فالأجير المشترك عليه أن يحافظ على العين، والمضارب يستهلك العين، لا يكون مضاربًا إلا باستهلاك العين في الاستثمار، والجير لا بد أن يحافظ على العين، فكيف نقيس هذا على هذا؟ وشكرًا.

والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

ص: 1279

الشيخ عبد اللطيف الجناحي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الشكر موصول للباحثين الكرام ولأخينا الدكتور عبد الستار أبو غدة، على تلخيصه الوافي، لأننا لم نتمكن من قراءة الأبحاث كلها.

نناقش موضوعًا مطبقًا في المصارف الإسلامية على مدى ربع قرن من الزمن، وكنت أتمنى أن أي بحث يكتب في موضوع مطبق أن ينزل إلى أرض الواقع ويجلس في المصارف الإسلامية، ومصارفنا مفتوحة لكل إنسان، نحن نجشع العلماء وأصحاب رسائل الماجستير والدكتوراه، وندعوهم لأن يأتوا إلى البنوك ثم نكافئهم، أحيانًا ندفع لهم، لأننا نتعلم منهم كثيرًا وهم يتعلمون أيضًا. فهناك في أرض الواقع فتاوى موجودة، والفتوى لا تلحظ إلا بدليل. أنا أذكر شيخي الشيخ عبد الله بن مبارك –رحمه الله عندما قرأت عليه حكمًا من الأحكام غضب، فقلت له: هذا حكم إذا أصاب صاحبه فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، قال: لا، أين دليله؟ نحن أمة دليل فإذن لا ينقض إلا بدليل، وهذا ما تعلمناه من مشايخنا ومنكم.

الخوف أن نستغل هذه الأبحاث كما استغل رأي محمد عبده في التأمين التجاري وبدأت شركات التأمين التجارية تتاجر بفتوى الإمام محمد عبده وهو مما يقولونه براء تمامًا.

في البنوك الإسلامية هنا وعاءان تقريبًا رئيسيان: وعاء خاص يدخل فيه كبار المستثمرين (من لهم ملايين) ، وهذه الأوعية لها شروطها، وقد تخسر وتربح، ولم يطلب منا أحد من هؤلاء الذين خسروا أو ربحوا أن نرضى لهم ذلك. وأنا أستغرب لماذا نناقش الضمان وهو غير مطلوب من قبل المودعين أساسًا. لم يطلب أحد من البنك الإسلامي أن يضمن له وديعته.

هناك وعاء آخر لصغار المستثمرين (وعاء مشترك)، هذا الوعاء: نوزع كل مبلغ يأتينا على مجموعة من الأوعية، نبيع ونشتري، ونضارب، وندخل في المشاركة، ونوزع المال بحيث على مدى خمسة وعشرين سنة الآن لم يخسر مودع واحد، أعطونا بنكًا خسر مودعوه. صحيح قد يكون مرت سنة على بنك أو بنكين دون أن يوزع، ولكن لم يخسر بنك إسلامي في الوعاء المشترك، فإذن إثارة قضية الضمان تعديناها نحن في عالمنا الإسلامي في البنوك الإسلامية ولا يطلب أحد أن نضمن له.

هناك نقطة في بحث الدكتور عبد الستار: هيئة أرباب المال. أنا لم أجد مسوغًا لماذا (هيئة أرباب المال) ؟ أرباب المال معظمهم لا يعرفون كيف يشترون أموالهم، ولا يعرفون أصول المضاربة وغيرها من العمليات الشرعية. لكن إذا أريد الاطمئنان على سير العمل فهناك البنك المركزي يشرف، وهنك لجنة رقابة شرعية، وهناك محاسبون قانونيون، وكل هؤلاء مدعاة للاطمئنان، أما قضية رب المال إذا كان ليس له أن يتدخل إذن دوره ملغي من الأساس، فإذن لا ضرورة لوجود هيئة لأرباب المال.

ص: 1280

النقطة الهامة التي أود أن أشير لها وهي بيت القصيد أننا في الدول الإسلامية نعمل كبنوك إسلامية دون وجود قانون للبنك الإسلامي، فالبنوك الربوية لها قوانين أما البنوك الإسلامية فلا قانون لها وهنا الإشكال. لا يوجد قانون يحكم البنوك الإسلامية، يحمي المودعين منها، ويحميها من المودعين، هذا ما يجب أن نطالب به: أن يكون هناك في كل بلد إسلامي فيه بنك إسلامي أن يكون هناك قانون يصدر باسم (قانون المصارف والهيئات والمؤسسات المالية الإسلامية) وهذا ما يجب أن تنص عليه قرارات المجمع.

هناك نظام أساسي وعقد تأسيس يلتزم به البنك، ولكن نحن بحاجة إلى قانون تصدره الدولة، وهنا في الكويت أنا أعرف أن هناك اجتهاد ومشروع مقدم لدى الدولة لإصدار قانون، فقانون المصرف الإسلامي الذي تصدره الدولة هو أقوى من قانون الشركات، فإذا اجتمع المؤسسون على نقطة محددة تخالف القانون إذًا القانون هو الذي يعلو على النظام الأساسي للشركة. وهذا هو الفارق بين الاثنين. وشكرًا.

ص: 1281

الشيخ عياش المقدار:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ليس تعقيبًا وإنما مجرد طرح استفسارات حول بعض الموضوعات، في موضوع (الاسترداد والتخارج) الذي هو من قبيل الصلح: لدي بعض الاستفسارات: هل يعتبر أصحاب الفضيلة قياس السحب بالودائع على التخارج قياسًا صحيحًا؟ ثم إن كان صحيحًا واعتبر التخارج عقد بيع لحصة في الوعاء الاستثماري؛ ألا يلحق هذه الحصة الجهالة حين التخارج فيكون صلحًا على محل مجهول؟ والخارج أو البائع لا يعلم عن طبيعة موجودات الشركة محل البيع، ولا عن الطرف الآخر الداخل أو المشتري، بخلاف تداول الأسهم فهذه المعلومات كلها متوفرة.

أيضًا: إن التخارج بالسحب من الوعاء الاستثماري قد يتضمن توزيعًا غير عادل للربح وبخاصة في بعض الحالات، وقد ذكر الشيخ ابن منيع حفظه الله قبل قليل أمثلة لذلك.

أيضًا: تطوع المضارب بالضمان، مع أن هذا الالتزام قائم من المضارب على أساس التبرع، ورغم عدم اشتراطه في العقد، لكن إذا علم وصار معروفًا ألا يأخذ حكم الشرط؟ ثم إنه قد لا يكون لهذا الرأي حظًا من التطبيق إلا إذا كان شرطًا في العقد وهو محظور.

أيضًا: بالنسبة لصندوق تغطية مخاطر الاستثمار: هذا الصندوق أيضًا يقوم على التبرع، وذلك باقتطاع نسبة من أرباح المودعين بحيث يقوم الصندوق بتغطية الخسارة إن وجدت، والإشكال أن هذا التبرع قد يصبح من شروط الإذعان التي يخضع لها المودع من غير رضاه.

أيضًا: إن هذا التبرع في الصندوق غير متمحض، بل فيه معنى المعاوضة فهو من قيل التبرع بعوض أو ما سماه الفقهاء: الهبة بعوض، وقد أدخل الفقهاء هذه الصورة في عقود المعاوضات مما قد يكون مدخلًا لشبهة الربا وشكرًا لكم.

ص: 1282

الشيخ عبد السلام العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أتمنى أن أتصل بعدد من بحوث هذا اللقاء قبل وقت كاف لأتمكن من قراءتها بإمعان، خاصة البحوث التي تذهب إلى منع المضاربة المشتركة ولا تكتفي بذلك إنما تتوجه إلى منع أكثر الأمور التي يجري العمل عليها في البنوك الإسلامية. حقيقة لا بد أن نستذكر نشأة البنوك، لم تنشأ البنوك هكذا من فراغ، فيما يتعلق بالتجربة الأردنية في هذا المجال؛ وأحب أن أقول لأخي الأستاذ عبد اللطيف: إن الذي ينظم البنوك الإسلامية في الأردن هو قانون تصدره الدولة.

في سنة (1977م –1397هـ) كان لنا لقاءات موسعة في مجلس الإفتاء لدراسة مشروع هذا القانون، جلسنا أكثر من ثمانية عشر لقاءً ومعظمها كان في رمضان، بعضها كان يستمر من بعد صلاة التراويح إلى صلاة الفجر ونحن نتحاور كفريق. تجاوز عدد العلماء المشاركين خمسة عشر عالمًا بالإضافة إلى المختصين وكان من بينهم الدكتور سامي حمود، وعندما عرض فكرة ضمان المضارب واعتبار أن المضاربة المشتركة أمر جديد ويقاس على الأجير المشترك تصدى له العلماء باستدلال طويل وبناقش قام على استقراء لنصوص الشريعة ولقواعد الفقه وانتهى المجلس إلى رفض هذا الأمر جملة وتفصيلًا.

ص: 1283

لكن بالتحري والتدقيق وجدنا أن النصوص الشرعية، بل كما أشار أستاذنا الشيخ السالوس أن فقهاءنا استعملوا حتى لفظ المضاربة المشتركة، وهنالك نصوص في المغني لابن قدامة وغيره كنت أتمنى لو كان هنالك أدنى تصور عندي أن هنالك من سيمنع هذا العقد وسيندد به لكنا جهزنا هذه النصوص وأحضرناها معنا، فكنت أتمنى أن يطلع على هذا، وهذا منشور، فهذا القانون ومذكرته الإيضاحية وما جرى من قرار مطول لمجلس الإفتاء تجاوز عدد صفحاته الأربعين صفحة أن يطلع عليه ليرد ويناقش هذا الأمر في إطار علمي سليم وليس دون ملاحظة الأدلة التي أتى بها المجيزون ضمن توجه شمولي قائم على نظام فقهي دقيق يجيز ما يمكن إجازته ويمنع ما يجب منعه، وهناك في تلك اللقاءات بلورنا فكرة ضمان الطرف الثالث، وأكدنا على معنى أنه شخص ثالث وأنه لا يصلح أن يضمن المضارب، وكان توجها في الواقع أن أصحاب رؤوس الأموال يقيمون فيما بينهم صندوقًا تعاونيًا حيث إن ما يقتطع هو من أرباح أصحاب رؤوس الأموال وليس من أموال البنك، لأننا كما نعلم فكرة البنك هنالك شركة مساهمة عامة في كثير من دولنا لها مال تقدم به المساهمون هذا هو الشخصية الاعتبارية التي تشكل العامل فيتلقى ودائع المودعين هم أصحاب رأس المال فيكون في هذه الصورة: في صورة التأسيس للبنك وقبوله للودائع الشركة المساهمة العامة هي العامل والمودعون هم أصحاب رؤوس الأموال، ثم بعد ذلك هذه الشركة بعد أن يقع المال في يدها تصبح هي صاحب المال بالنسبة لأي مضارب يريد أن يتعامل معها في عقد مضاربة مستقلة.

ص: 1284

مثل هذه البدهيات نتمنى ألا نعود ننكثها كما أشار أخي الكريم في مطلع الحديث، وأن نتوجه لحل المشكلات التفصيلية التي باتت هذه البنوك تواجهها، مثلًا موضوع توزيع الأرباح بطريقة عادلة، والأفضل أن نلجأ إلى النمر، التمييز بين أنواع الحسابات، محاسبة المماطل الذي لا يقوم بسداد الأقساط، ما يسمى بالشرط الجزائي في إطار البنوك، مثل هذه القضايا كنت أتمنى أن يتوجه إليها البحث بدل أن نهاجم أصل العملية.

الآن في المملكة صدر حديثًا في سنة 2000م قانون للبنوك، أخذت البنوك الإسلامية فصلًا فيه وقد أمضى مجلس الإفتاء في دراسة هذا الفصل أكثر من أربعة أشهر حتى اعتمده بكل حرف فيه. وعندما أقر من مجلس الأمة حرصوا على ألا يمسوا أي حرف حتى لا يظن أن تغيير أي حرف قد يؤدي إلى تغيير الحكم كما أقره مجلس الإفتاء بالضبط. مثل هذه الأمور يجب أن تكون بين أيدينا إذا أريد لنا أن نتصدى لمثل هذه القضايا بالمنع، أما إذا كان القصد إثراء المسيرة فلا بد أن نتوجه إلى المشكلات التي تصادفنا.

لا أريد أن أطيل، لكن حقيقة إذا أردنا أن نثري هذه المسيرة فيجب أن يكون هناك فريق يشكله هذا المجمع من فقهاء مخصتصين لهم الاطلاع على هذا التعامل ومعرفة به ومواكبة له ومجموعة من الخبراء الاقتصاديين ليكون هنالك مواكبة من هذا المجمع لهذه المسيرة المباركة التي يجب أن نرعاها دائمًا بالتسديد.

والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 1285

الشيخ عبد الرحمن الأطرم:

بسم الله الرحمن الرحيم

يبدو لي أن الكلام ليس في أصل المضاربة، وليست المضاربة المشتركة من حيث حكمها في الأصل، وليس في منع الضمان فهذه قضايا سبق أن نوقشت والمجمع له قرار القراض، وإنما في بعض الإشكالات الطارئة في الموضوع أو التي صادفت تطبيقات هذا الموضوع خاصة مع انتشار حسابات الاستثمار المشتركة والصناديق المفتوحة التي تمثل فيها الإشكال، وأود في هذا الصدد أن أعرض على أصحاب الفضيلة ثلاث مسائل:

المسالة الأولى: مسألة الدخول والخروج في الصناديق أو الحسابات الاستثمارية والتي سماها البعض (التخارج) . . . إلا أن يشترطه المبتاع، فهل هذا الحديث يمكن أن يكون مبنيًا على تلك المسألة؟ نوقش هذا خاصة في ندوة البركة في ماليزيا، وفي ملتقى فقهي آخر، ووصلت بعض الآراء فيه إلى أن العبرة بالأصل، وأن الديون والنقود في تلك الحالة تكون تابعة حتى لو كان أكثر من الأعيان، وهذه المسألة محل خلاف، ومن المرجو أن تكون محل حسم في ذلك المجمع، حتى يبنى عليها مسألة بيع الوحدات أو الدخول والخروج من الصناديق أو الحسابات الاستثمارية إذا حرر ذلك الموضوع، أما إذا تمحضت الديون والنقود فلا إشكال في الأمر أنه تراعى أحكام الديون، أو تراعى أحكام العقود، وللمالكية بالمناسبة كلام مهم على حديث بيع العبد بالمال يجدر بأهل العلم أن يتأملوه.

ص: 1286

المسألة الثانية: التنضيض الحكمي أو التقويم، وقد أشير إليه في قرار من قرارات المجمع، والإشكالية إنما تكون أيضًا في حالة وجود الديون فهل يصلح التقويم وفي الصناديق ديون مستحقة على آخرين أو ديون مطلوبة من آخرين؟ فإنه في التقويم يشمل الأعيان الموجودة والنقود والديون. الأعيان لا إشكال في تقويمها إذا كانت بسعر اليوم لا بالسعر التاريخي، كما ذكر الشيخ عبد الله بن منيع، وكذلك النقود لا تحتاج لتقويم، فالأمر فيها ظاهر. المشكلة كامنة في الديون، فكيف نقومها؟ فإذا قومناها واعتبرناها بسعر التقويم في هذا اليوم أو الأسبوع أو الشهر، ثم بعد ذلك خسرت ولم تستوفِ تلك الديون، لأي سبب، حدث تعثر، وكنا قد أدخلناها في التقويم فما الحكم؟ وقد تكلم الفقهاء في شركة المضاربة على مسألة التقويم إذا كان هناك ديون، وفيما وقفت عليه أنه محل إجماع بينهم أنه لا يعد نهائيًا ما دام فيها ديون، إلا إن نظر إليها فيها العصر على أنه تكون هناك مخصصات للديون، فقد يكون هذا من مواضع التأمل أو أنهم قد رضوا بذلك، رضي المضارب ورضي صاحب المال، ولكن فعلًا هل الرضى يكون مُنهِيًا لتلك الإشكالية؟ وقد بني على مسألة التنضيض الحكمي أو التقويم مسألة استحقاق المضارب للربح استحقاقًا نهائيًا بناءً على ذلك التقويم، أما لو قيل بأنه على الحساب فلا إشكال، فهاتان مسألتان مهمتان،: إحداهما تتعلق في بيع وحدات الصناديق، والثانية تتعلق في التنضيض الحكمي أو التقويم، وفي قرار المجمع الذي أقر فيه التقويم لم يوجد في البحوث كلها –حسب اطلاعي عليها- بحث نقطة التقويم إذا كان هناك ديون أو نقود، ومع ذلك صدر القرار باعتبار التقويم أو التنضيض الحكمي فيتأمل.

ص: 1287

المسالة الثالثة: تأقيت المضاربة: كما تعلمون أن المضاربة قد تكون مؤقتة وقد تكون مفتوحة؛ فإذا كانت مؤقتة فهل يعني التأقيت أن المضاربة لازمة أو لا؟ الشيخ تقي العثماني وصل إلى نتيجة واحدة في خاتمة بحثه قال فيها: لا يجوز عند جمهور الفقهاء توقيت المضاربة، بمعنى ألا يجوز للمضارب بعد المدة بيع الأصول الموجودة في الوعاء، ويجوز التوقيت بمعنى ألا يدخل في العمليات الجديدة، لكن التوقيت بمعنى عدم الفسخ قال: لا يجوز عند جمهور الفقهاء أن تلزم المضاربة على الفريقين لمدة محددة بحيث لا يمكن لأحد الفريقين فسخها قبل تلك المدة، وهذه المسألة تحتاج أيضًا إلى حسم في المجمع هل يجوز التأقيت بمعنى أنه لا يجوز فسخ المضاربة إلا عند انتهاء المدة؟ . ورأيت في بحث الدكتور أحمد الحجي الكردي حيث قال بأنها: تلزم إلى مدة معينة وأن جمهور الفقهاء على منع اللزوم، وأجازه المالكية ورجح مذهب المالكية ولم أر في عبارة المالكية التي نقلها ما يدل لذلك، ولكن ربما يدل لذلك أن فقهاء الحنابلة الذين قالوا بجواز التأقيت والحنفية أنه يشمل عدم الفسخ ويشمل إنهاء المضاربة إذا انتهت المدة، والشيخ تقي يبدو أنه مصر على أن كلام الفقهاء لا يشمل مسألة عدم الفسخ (اللزوم) ، وإنما كلامهم في التوقيت منصب على أنه إذا انتهت المدة فإن المضارب لا يعمل بعدها، أما اللزوم فلأي منها أن يفسخ قبل ذلك وهذه النقطة دقيقة وأرى من المناسب أن يبت فيها المجمع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ص: 1288

الشيخ فريد واصل:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن واله وبعد:

أولًا: خالص شكري وتقديري لأصحاب البحوث التي قدمت في جلسة اليوم، ولم تتضح بالنسبة لي في جزئياتها التفصيلية ما يمكن أن يكون هذا الخلاف الذي دار بيننا في هذه الجلسة المباركة، لأننا عندما اجتمعنا حول هدف معين وهو حل مشكلة معينة وهي صناديق الاستثمار الخاصة بالمؤسسات الإسلامية أو البنوك الإسلامية دارت البحوث في تفصيلاتها حول المضاربة، وهذه المضاربة في مجال أطرافها: هل هي عقد خاص أم عقد عام أم عقد مشترك؟ وأعتقد أنه الخلاف الذي دار حول هذه البحوث هو من وجهة نظري خلاف شكلي يتعلق بالفروع الفقهية والاجتهادات التي تحقق لي من خلال قراءة هذه البحوث أن الجميع مجمع على ضرورة معالجة هذه القضية الموافقة على الموضوع المعروف، وهو حل حسابات الاستثمار المشترك سواء اعتبرنا ذلك مضاربة خاصة أو عامة، أو أن أطراف العملية طرفان أو ثلاثة أطراف.

هذا الخلاف الذي دار: دار حول التكييف الفقهي أو الشرعي لشرعية هذه المعاملة، وأعتقد أن ما سمعته من المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع ومن العرض القيم الذي قدمه الدكتور عبد الستار على أن هناك بعض الاعتراضات حول بعض الاصطلاحات التي وردت في بحوث الإخوة والزملاء. وأعتقد أن هذا الخلاف لا يؤثر على المضمون الحقيقي وعلى أننا جميعًا نتفق حول ضرورة البحث والرجوع إلى أهل الخبرة، وأعتقد أن ما ذكره الدكتور عبد اللطيف والدكتور العبادي إنما يجب أن نرجع إلى أهل الاختصاص في هذه الجوانب المالية، ثم نبحث ما هي المعوقات وما هي الأسباب التي دعت إلى أن يتم عرض هذا الموضوع وبخاصة أنه عندما عرض وتم البحث والمناقشة فيه فتح الباب من جديد من أجل أن يتم التوسع في صناديق الاستثمار والتوصل بها إلى أن تتسع الدائرة من أجل أن تحصر دائرة ما نطلق عليه (البنوك التقليدية) ، وأنا حقيقة رأيت من خلال هذه البحوث المقدمة وما رأيته من البحث الذي قدمه الدكتور عبد الستار والأخ قطب مصطفى سانو، وإن كان له في مجال التكييف الفقهي من وجهة نظره أنه تدخل في قضية الضمان، واعتبر البعض أن هذا الضمان إنما قد يكون مسببًا أو وسيلة لانحصار الجانب فيما يتعلق بالبنوك الإسلامية، وأنا أعتقد أن هذا الاقتراح وإن كان يمكن تعديله في الصياغة النهائية على أن هذا هو السبب الذي يمكن أن يحصر الاتجاه إلى البنوك التقليدية وفتح هذه البنوك إلى أن تسير على منهج أحكام الشريعة الإسلامية.

ص: 1289

وأعتقد أيضًا أن الاتجاه إلى أن يكون لها القانون الذي ينظمها –كما ذكر الدكتور عبد السلام- أنه أصبح ضرورة من الضروريات، لأننا يجب الآن أن نعلم أن البنوك أو المؤسسات المالية أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة، وأن قضية المال إنما هي والإنسان صنوان، وقضية المال الآن يجب أن ننظر إليها ليس بنظرة الفقهاء في عصرهم، وإنما في عصرنا نحن كيف نحمي المال الآن، لأن المال السابق كان يمكن كنزه، أما الآن فإن كنز المال يتلفه وإتلاف المال هذا إنما يعتبر من الأسباب التي نحن قد نحاسب على إهمالنا في هذا، والطريق الوحيد إنما هو الاستثمار، ولا يتحقق إلا من خلال المؤسسات المالية التي تعمل في هذا المال وتستثمره لتحقيق التوازن والتكامل في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وإحياء الأمة الإسلامية ومحاولة الوقوف أمام هذا الغزو الذي أصبح يمسك الاتجاه في السياسة النقدية. يجب أن نفهم الآن أن استثمار الأموال استثمارًا حقيقيًا هو الحل الوحيد للخروج من الدائرة التي قد تكون سببًا من الأسباب التي في يوم من الأيام قد نعجز عن الوصول إلى طعامنا وشرابنا.

ومن هذا المنطلق أقول بأن هذه البحوث المعروضة على هذا المؤتمر الكريم أعتقد أنها تعتبر ورقة جيدة جدًا في مجملها، وأن الخلافات الفرعية فيها هي خلافات فقهية اجتهادية، ولا بد أن نخرج منها بقرار يحقق الهدف الذي من أجله اجتمعنا في هذا المؤتمر الكريم، ولكن قبل ذلك يجب أن نرجع لأهل الاختصاص في مجال معرفة ما هي المعوقات التي قد تكون سببًا لإحجام بعض الذين يتوسعون في هذه المصارف الإسلامية، أو العقبات التي قد تتعلق بالأموال في مجال استثمارها بين المودعين والمساهمين، وبخاصة أن هذه الصناديق تفتح المجال لأصحاب الأموال القليلة وليس الكثيرة. وشكرًا.

ص: 1290

الشيخ قطب مصطفى:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم سليمًا كثيرًا.

اللهم إن للإنسان زلات فاغفر زلات ألسنتنا، وللحديث هفوات فاعف عن هفوات حديثنا، وللكلام سقطات فاغفر سقطات كلامنا، وأنت المثبت فثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا واجعل لنا في سائر أمورنا خيرًا. أصحاب الفضيلة السادة الفقهاء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

اسمحوا لي في بداية هذه المداخلة المتواضعة أن أعبر عن شكري الجزيل لفضيلة الدكتور عبد الستار، الذي تكرم فلخص البحث الذي قدم في هذه الجلسة، وليس في جعبتي كثير من الأقوال التي أود أن أقولها في هذه المناسبة إلا أنني أود أن أعلق على نقاط ثلاث وردت أثناء التعليق والمداخلات التي عني بها السادة الفقهاء.

القضية الأولى: حقيقة هذه المضاربة: هل هي عقد جديد كما ذهب إليه عدد كبير من أصحاب الفضيلة؟ أم أنها ليست بعقد جديد؟ بالرجوع إلى تاريخ المضاربة نجد أنه عندما يقال: إن المضاربة مشروعة دائمًا يرجع إلى أنها مشروعة بالسنة التقريرية، ذلك أن الناس كانوا يمارسونها في عصر الرسالة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ذلك، ولكن نظرة أخرى في الواقع الذي كان عليه الناس في الجزيرة العربية قبل الإسلام نجد أن المضاربات التي كانت تتم: كانت تتم في شكلين أساسيين: شكل جماعي، وشكل فردي.

أما الشكل الجماعي فعودة مباركة إلى تلك الحادثة التي تحدثنا عن أبي سفيان عندما خرج بأموال قريش إلى الشام ولا شك أنه كان في تلك الحالة في وضعية يمكن أن يطلق عليها اليوم المضارب المشترك، لذلك عندما عاد واعترض المسلمون هذا المال كان قوله: يا قريش إن أموالكم في خطر. إذًا الجدية إن كانت لا بد أن يكون لها وجود في المضاربة فهي لا تعدو أن تكون في بضعة من المسائل التي يتحدث عنها الناس الذين يمارسون هذه الممارسة، فعقد ليس جديدًا في حقيقة الأمر وجد قبل الإسلام، واستمر العمل به إلى هذا العصر الذي صار فيه نوع من التنظيم الدقيق لهذه المعاملة.

وإذا لم يكن عقدًا جديدًا وهو عقد من العقود التي عرفتها الناس في معاملاتهم اليومية.

فليست هنالك من حاجة إلى التهويل من هذه الناحية التي تتميز بها هذه المضاربة في بعض تطبيقاتها.

إذًا كان للمضاربة المشتركة أو الجماعية وجود قبل الإسلام، قبل عصر الرسالة، واستمر هذا العمل إلى هذا العصر الذي نحن فيه. لماذا أقول ذلك؟ لأن الذين تحدثوا في فكرة المضاربة المشتركة حاولا أن ينسجوا حولها جملة من المسائل بحكم أو بدعوى أنها عقد جديد، وبما أنها عقد جديد فلا بد أن تكون لها أحكام جديدة، وبالتالي تأتي هذه المسائل التي تحدث عنها مهندسو هذه الفكرة في هذا العصر.

وإذا الأمر كذلك - وهو كذلك إن شاء الله - ننتقل إلى الجديد في هذه المضاربة، هي مسألة الضمان التي تشكل أهم قضية في هذه المسألة، وفي الوريقة التي بين أيديكم حاولت جاهدًا أن أتحدث عن الضمان وأحرر محل النزاع بين المختلفين في هذه المسألة؛ فالضمان الذي تحدث عنه الفقهاء ضمان يتمثل في اشتراطه عند انعقاد العقد، فإذا اشترط رب المال على العامل أن يضمن المال عندئذ يعتبر هذا الشرط فاسدًا أو باطلًا عند بعض الفقهاء.

ولكن لا يجد المرء حديثًا لدى الفقهاء حول الضمان عندما يأتي من المضارب (العامل) نفسه، وربما يخيل إلي أن المالكية ومعهم الإباضية، وبعض الإمامية، هم أولئكم الفقهاء الذين عنوا بهذا الحديث في هذا الجانب وسموه بالتبرع بالضمان، أي أن العامل الذي قصد من عدم تضمينه حمايته هو الذي يضمن هذا المال، بناء على حسابات ومراجعات وأسس، وربما توقعات يرى من خلالها أن المال سيسلم.

إذًا ما على المحسنين من سبيل، إذا كان رب العمل أو العامل هوالذي يتبرع والمالكية يقولون بذلك، سواء قبل الشروع في العمل أو بعد الشروع فيه لا أظن أن هنالك غضاضة بالنسبة للمصارف الإسلامية أن تأخذ هذا الرأي المبارك الذي انتهى إليه المالكية وخاصة أن عامة الفقهاء لا يعارضون هذه الفكرة التي توصل إليها بعض المالكية ومنهم ابن بشير وهو من هو في المدرسة المالكية.

ص: 1291

القضية الأخرى: التعدي والتقصير: كثيرًا ما نردد هذا المصطلح، ولكن ليس هنالك ثمة ضبط للمراد بهذا المصطلح، ما هو التعدي في المفهوم الاقتصادي المعاصر؟

وما المراد بالتقصير في المفهوم الاقتصاد المعاصر؟ ما لم يتم تحرير معانٍ لهذين المصطلحين ربما يظل هنالك خلاف بين أرباب الأموال وبين المضاربة في قضية التعدي وعدمه.

هل –مثلًا- سوء التنظيم أو التخطيط أو عدم مراعاة أو معرفة المضارب بأبجديات البحث أو الاستثمار المعاصر هل يعتبر ذلك أمرًا داخلًا في مفهوم التعدي أو التقصير؟ لو أن شخصًا أخذ مالًا وضارب فيه في بعض المضاربات التي تعرف أنها لا يمكن للشخص أن يلجأ إليها إلا إذا كان عنده خبرة كافية تمكنه من معرفة بعض المؤهلات والمواهب التي يمكن لها أن تنتج عن هذه الممارسة.

إذًا ثمة حاجة ملحة على عاتق فقهاءنا الكرام أن يعيدوا النظر في تحديد المراد بمسألة التعدي والتقصير، ومن ثم يتم التجاوز في الخلاف حول الضمان وعدمه.

القضية الأخرى: وجود قانون للمصارف والبنوك الإسلامية: عندما كنت أكتب هذا البحث ذهبت إلى أحد المصارف الإسلامية الذي كان بجواري في دولة ماليزيا، فوجدت عندهم قانونًا خاصًا ينظم الأعمال التي تخص المصرف الإسلامي في جميع تصرفاته وفي جميع المعاملات التي يقوم بها هذا المصرف. فثمة قانون وهذا القانون معمول به ويحتكم إليه في المحاكم عندما يقع شيء من النزاع بين الفقهاء في هذه القضية.

في حقيقة الأمر في مسألة تكييف العلاقة: هل المضاربة هنا تعتبر شركة عنان أو شركة عقد أو غير ذلك؟ هنالك علاقة ثنائية. الذي حصل أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى عمل البنك بوصفه وسيطًا أو منظمًا أو مشرفًا على الأعمال التي يقوم بها، أولئك المستثمرون الفعليون يخرجون من دائرة العامل أو المضارب. والحال أن التنظيم والإشراف يعتبر جزءًا أساسيًا في دائرة العمل، وبالتالي إذا كان للبنك نصيب في هذه المعاملة يكون نصيبه بوصفه عاملًا لا بوصفه وسيطًا ولا بوصفه طرفًا ثالثًا، لكنه طرف ثان هو الذي تعاقد مع أرباب الأموال وهو الذي اتفق معهم على الأرباح وعلى طريقة تقسيمها، ثم تكون هنالك مضاربات أخرى التي انتهينا في هذه الورقة أن المضاربة المشتركة في حقيقتها هي صورة من صور المضاربة المطلقة، وكونها مضاربة مطلقة تعني أن للبنك مرونة وفسحة في التصرف في هذه الأموال. إن مضاربة أو مرابحة أو شركة أو غير ذلك من التصرفات التي يراها أنها ستكون في صالح المال الذي أودع لديه الاستثمار. هذا ما وددت أن أبدي فيه من وجهة نظر، وأكرر شكري لهذا الجمع الكبير من العلماء.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1292

الشيخ عبد اللطيف المحمود:

بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لقد اتجهت بعض الأبحاث المقدمة لموضوع القراض أو المضاربة في المؤسسات المالية الإسلامية على الحديث العام دون تمييز بين الصناديق الاستثمارية وبين حسابات الاستثمار المشتركة. والمتجهة في الصناديق الاستثمارية المغلقة أنه لا يكون فيها خلط جديد للأموال، من الانتقادات الموجهة إلى خلط حسابات الاستثمار المشتركة التي تقوم بها جميع المصارف الإسلامية أن الأرباح قد يأخذها من لا يستحقها، وقد يمنع من الربح من استحقه، وهذا أمر له وجهة نظره وهو أمر حق، ولكن إذا أخذت المصارف بالحسابات الشهرية والتنضيض الحكمي لكل شهر فإن هذا يقلل الانتقال في الأرباح والخسارة بين صاحب حساب وصاحب حساب آخر. ولكن أؤيد الدعوة إلى مناقشة موضوع حسابات الاستثمار المشتركة وما يتعلق بها من قضايا ندوة متخصصة للفقهاء والمختصين.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 1293

الشيخ محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فليس عندي إلا تعليق بسيط على ما تفضل به علامتنا وإمامنا الشيخ وهبة الزحيلي –حفظه الله تعالى – بالنسبة للعبارة التي ذكرتها عن العلامة الكاساني رحمه الله. الواقع أن الذي أردت أن أنوه به بنقل هذه العبارة أن هناك فرقًا جوهريًا بين مذهب الشافعية وبين مذهب الحنفية في موضوع تفاوت نسب الأرباح، فالأصل عند الشافعية والمالكية أن تكون نسبة الأرباح لجميع الشركاء موافقة لمساهمتهم، وإنما يجوز التفاوت كاستثناء إذا اشترط أحد الشركيين عملًا ولم يشترطه الآخر، أو اشترط زيادة في العمل، فهذا استثناء، فالأصل عندهم التساوي في النسب إلا إذا. . . . العمل الذي يريد أن يشترط الزائد في النسبة.

أما الحنفية فعندهم عكس ذلك؛ الأصل عندهم أنه يجوز التفاوت في النسب، وإنما لا يجوز كاستثناء إذا اشتراط أحد الشركاء عدم العمل، فإذا اشترط عدم العمل لا يجوز له أن يشترط الزيادة في الربح، أما إذا لم يشترط عدم العمل ولكنه لم يعمل فعلًا فإنه يجوز له أن يشترط زيادة النسبة، وهذا الأمر الذي يتبين من عبارة الكاساني، وعلى كل فالمقصود من ذكر هذه العبارات أنه لو اشترطنا من اشترطه الكاساني رحمه الله، فإنه يجوز في المضاربة المشتركة أن تتفاوت نسب الأرباح لأرباب الأموال، وذلك لأن هؤلاء ليس من أعمالهم إلا أن يعطوا هذا المال إلى آخر مضاربة، وفي هذا العمل يشترط الجميع، وليس هناك أي تفاوت في هذا العمل بين أرباب الأموال، ولذلك يجوز أن تتفاوت نسب الأرباح فيما بين أرباب الأموال في المضاربة المشتركة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1294

الشيخ محمد مختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشكر موصول للسادة الباحثين وعلى العرض الجيد الذي قام به فضيلة الشيخ عبد الستار أبو غدة، وللتعقيبات الجيدة التي استمعنا إليها وانتفعنا منها، ومداخلتي أولًا:

هي النظر في هذا العقد أو هذه الصيغة الاستثمارية أو هذا النشاط الاقتصادي.

إن الذي يلاحظ أن الكتلة المالية الموجودة اليوم هي أكثر بكثير وهي أضعاف أضعاف ما كان يوجد في العصور السابقة، فاليوم أصبح الموظف والعامل والتاجر الصغير كلهم يستطيع أن يدخر فائضًا من ماله ويريد أن يستثمره، فأصبح الاستثمار لهذه الأموال الصغيرة والكبيرة في آن واحد حاجة من حاجات المجتمع يدخل تحت قسم الحاجي الذي اعنى به الأصوليون وبينوا أنه عليه يقوم النظام الإسلامي مع الضروريات والتحسينيات. هذه الحاجة لا يمكن أن نحققها بنفس الآليات التي كانت موجودة في العصور السابقة، فلو طبقنا كل الآليات الموجودة والعقود الموجودة كما هي متصورة عند الفقهاء لا نستطيع أن نستوعب هذه الأموال ولا أن نحركها، ولا أن تحدث هذه الأموال الشغل الذي هو إن فقد اهتز المجتمع وفقد توازنه، فلا بد إذن في نظري من النظر إلى العقود وهذه الطرق مرة متصلة بالإمكانات التي يمكن أن تقع والتي يمكن أن نحرك بها الاقتصاد الإسلامي.

ص: 1295

وبناء على هذا فإني أقول: إن ما قرر في المضاربة أو ما قرر في الشركات يستأنس به، ويرجع في هذه الأحكام المستجدة إلى القواعد العامة وإلى عدم الظلم وإلى أخذ كل إنسان حقه وأنه لو ضيقنا وطلبنا أن تجري المضاربة في عصورنا الحاضرة على أساس الاتفاق بين عامل وصاحب رأس مال؛ معنى ذلك أننا أجبرنا الناس على اختزان أموالهم. من هذه النقطة أريد أن أقول: إن المعروف عند البنوك الإسلامية أن التنضيض يكاد يقع يوميًا، وأن كثيرًا من الاستثمارات المالية التي تقوم بها البنوك الإسلامية تقوم بها لمدة محددة وقليلة جدًا، وبناء على هذا فإن التنضيض الحكمي هو الذي يمكننا من أن نسير بهذه الآليات سيرًا يحقق التطور الاقتصادي للعالم الإسلامي، وإذا اعتمدنا التنضيض الحكمي فإنه لا شك أن فيه قضية الديون التي تحدث عنها الإخوة خاصة فضيلة الشيخ عبد الرحيم الأطرم، هذه قضية حلتها البنوك الإسلامية باعتبار أنه في كل بنك إسلامي يوجد صندوق المخاطر الذي يعني ويتحمل هذه الديون التي لم تسدد، فإذا وقع التنضيض الحكمي فإن معنى ذلك أن كل واحد قد أخذ حقه وأنه إذا تخلف مدين عن الوفاء بدينه فإن دينه يستخلص من صندوق المخاطر. لكن الإشكال الذي عنده والذي أود أن لو تعرض إليه السادة الباحثون هو أن المصارف الإسلامية في عقودها تجعل نسبة؛ ترتفع هذه النسبة مع طول بقاء المال عند المضارب، فإذا كان المستثمر أبقى ماله ثلاثة أشهر فله (45?) من الأرباح، وإذا كان أبقى ماله ستة أشهر فله (60?) ، وإذا كان أبقى ماله تسعة أشهر فله (80?) من الأرباح، وإذا أبقى ماله سنة أو أكثر فله (90?) من الأرباح، فإذا دخل الشخص على أساس أنه يبقى ماله سنة كاملة، ثم جاء في الأثناء وطلب أن يستعيد ماله لحاجات ظهرت ألجأته إلى ذلك فكيف يحاسب؟ فهل يحاسب على أساس ستة أشهر وهو قد عقد العقد على تسعة أشهر أو على سنة؟ هذه نقطة حبذا لو تدرس دراسة مستفيضة. وشكرًا لكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1296

الدكتور إبراهيم الغويل:

إن كل هذه القضايا المتصلة بالعمليات المصرفية إنما هي جزء نعرفه نحن في تاريخ الاقتصاد وفي تاريخ النقود بأنه نشأ عن القول بالوظيفة الثالثة للنقدين، فالأصل في النقود أنها أداة تقييم أو قياس قيمة وأنها أداة تبادل. حينما قيل: إنها مخزن أو كنز أو مكان لكنز القيمة ظهرت الوظائف المعروفة المترتبة عليها عملية خلق النقود أو الائتمان وأن ليس كل الناس يطلبون نقودهم في نفس الوقت، وبالتالي من الممكن ضخ هذه الأموال من جديد، وقد ترتب على ذلك ظهور البنوك، وترتب على كل ذلك كل هذه العمليات.

الوظيفة الثالثة للنقدين هي التي حاربها الإسلام بمنعه الربا وبفرضه الزكاة.

إذًا أنا مع اتجاهي لتأكيد الكلام الذي قاله الشيخ عبد اللطيف الجناحي، بأننا لا بأس أن ندعم وما قاله الشيخ فريد واصل، أن ندعم هذه المسيرة وهذا التوجه الإسلامي، لكنني لا زلت أذكر نفسي، وإخوتي بأننا علينا أن نبحث عن نظام بديل ينطلق من الرؤية الإسلامية، وليس بتبرير ما أخذت به الأنظمة الأخرى التي نقطة البدء ما بيننا وبينها منقطعة.

ليست هناك وظيفة ثالثة للنقدين في الإسلام ويترتب على ذلك عدم ابتزاز النقود. الصورة المذهلة التي وصلت لها البشرية اليوم أن المقياس أصبح مهتزًا. اليوم تسمعون أن النقدين بقيمة كذا اليوم، وبقيمة كذا غدًا، وبقيمة كذا بعد غد. هل تصورتم لو سمعتم أن مقياس الطول بالمتر أصبح اليوم (120 سم) ثم غدًا (90 سم) ؟ وأن الميزان أصبح (1050 غرامًا) اليوم وغدًا (950 غرامًا) ؟ هل يقبل ذلك؟ النقدان اهتزا لفقدانهما للأساس وللاعتراف الرأسمالي بالوظيفة الثالثة للنقدين، وبنظرية خلق النقود عن طريق الائتمان التي ترتبت عليها البنوك، ولك ما ترتب عليها من عمليات.

الذي أدعو إليه، رغم دعمي لكل هذه المسيرة التي تحاول أن تؤسلم المصارف، ولكنني أقول لكم: إن المصارف والبنوك ليست إسلامية. هي مترتبة على عملية الائتمان والوظيفة الثالثة للنقود. وللنقدين وظيفتان، وليس لهما وظيفة ثالثة، وليست هناك عملية ائتمان وخلق للنقود.

إذا في الإسلام هناك نظام بديل يقوم على منع الربا وفرض الزكاة، وأن اختزان الأموال يؤدي إلى تآكلها مع الزمن، ولكنها يجب أن تتفق بطريقة محددة إسلامية.

الذي أراه وما نسير فيه نحن نؤسلم كثيرًا من العقود والأنظمة التي ابتكرتها المصارف التي قامت على نظرية الائتمان والتي قامت على الوظيفة الثالثة. لا مانع من ذلك على أساس أنها المعالجة الوقتية وأنها تحت الضرورات أو الحاجة التي تلزم بذلك، ولكن لا بد أن نفكر باستمرار ونذكر أنفسنا أنه علينا أن ندرس إمكانية النظام البديل الذي قوم على التصور الذي أسسه القرآن والذي لا بد أن يقدم للبشرية، لأنه هو وسيلة الإنقاذ الوحيدة، لأن هذا النظام الذي يسير بالطريقة المصرفية وبالائتمان وبالوظيفة الثالثة ستختنق به البشرية اليوم أو غدًا، سواء امتد الزمن أو قصر، ولا بد من إنقاذها بالنظام الإسلامي الذي يعتمد على أن العمل هو الأساس وأن العمل الصالح له جزاء، وعلى {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، وعلى الزكاة والإنفاق.

هذا ما دعوت له دومًا وأذكر به نفسي وإخوتي.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 1297

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

قرار رقم: 122 (5/13)

بشأن

القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية

(حساب الاستثمار)

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422هـ، الموافق في 22 – 27 ديسمبر 2001م.

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية (حساب الاستثمار)) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.

قرر ما يأتي:

أولًا:

أ- المضاربة المشتركة: هي المضاربة التي يعهد فيها مستثمرون عديدون – معًا أو بالتعاقب- إلى شخص طبيعي أو معنوي، باستثمار أموالهم، ويطلق له غالبًا الاستثمار بما يراه محققًا للمصلحة، وقد يقيد بنوع خاص من الاستثمار، مع الإذن له صراحة أو ضمنًا بخلط أموالهم بعضها ببعض، أو بماله، أو موافقته أحيانًا على سحب أموالهم كليًا أو جزئيًا عند الحاجة بشروط معينة.

ب- المستثمرون بمجموعهم هم أرباب المال، والعلاقة بينهم –بما فيهم المضارب إذا خلط ماله بمالهم – هي المشاركة، والمتعهد باستثمار أموالهم هو المضارب، سواء أكان شخصًا طبيعيًا أم معنويًا، مثل المصارف والمؤسسات المالية، والعلاقة بينه وبينهم هي المضاربة (القراض) ، لأنه هو المنوط به اتخاذ قرارات الاستثمار والإدارة والتنظيم. وإذا عهد المضارب إلى طرف ثالث بالاستثمار فإنها مضاربة ثانية بين المضارب الأول وبين من عهد إليه بالاستثمار، وليست وساطة بينه وبين أرباب الأموال (أصحاب الحسابات الاستثمارية) .

جـ- هذه المضاربة المشتركة مبنية على ما قرره الفقهاء من جواز تعدد أرباب الأموال، وجواز اشتراك المضارب معهم في رأس المال، وإنها لا تخرج عن صور المضاربة المشروعة في حال الالتزام فيها بالضوابط الشرعية المقررة للمضاربة، مع مراعاة ما تتطلبه طبيعة الاشتراك فيها بما لا يخرجها عن المقتضى الشرعي.

ص: 1298

ثانيًا: ومما تختص به المضاربة المشتركة من قضايا غالبًا ما يأتي:

أ – خلط الأموال في المضاربة المشتركة:

لا مانع من خلط أموال أرباب المال بعضها ببعض أو بمال المضارب، لأن ذلك يتم برضاهم صراحة أو ضمنًا، كما أنه في حالة قيام الشخص المعنوي بالمضاربة وتنظيم الاستثمار لا يخشى الإضرار ببعضهم لتعين نسبة كل واحد في رأس المال، وهذا الخلط يزيد الطاقة المالية للتوسع في النشاط وزيادة الأرباح.

ب – لزوم المضاربة إلى مدة معينة، وتوقيت المضاربة:

الأصل أن المضاربة عقد غير لازم، ويحق لأي من الطرفين فسخه، وهنالك حالتان لا يثبت فيهما حق الفسخ، وهما:

(1)

إذا شرع المضارب في العمل حيث تصبح المضاربة لازمة إلى حين التنضيض الحقيقي أو الحكمي.

(2)

إذا تعهد رب المال أو المضارب بعدم الفسخ خلال مدة معينة فينبغي الوفاء، لما في الإخلال من عرقلة مسيرة الاستثمار خلال تلك المدة.

ولا مانع شرعًا من توقيت المضاربة باتفاق الطرفين، بحيث تنتهي بانتهاء مدتها دون اللجوء إلى طلب الفسخ من أحدهما، ويقتصر أثر التوقيت على المنع من الدخول في عمليات جديدة بعد القوت المحدد، لا يحول ذلك دون تصفية العمليات القائمة.

جـ – توزيع الربح بطريقة (النمر) في المضاربة المشتركة:

لا مانع شرعًا حين توزيع الأرباح من استخدام طريقة النمر القائمة على مراعاة مبلغ كل مستثمر ومدة بقائه في الاستثمار؛ لأن أموال المستثمرين ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن هو أعدل الطرق لإيصال مستحقاتهم إليهم، لأن دخول حصة المستثمرين في المضاربة المشتركة بحسب طبيعتها موافقة ضمنًا على المبارأة عما يتعذر الوصول إليه، كما أن من طبيعة المشاركة استفادة الشريك من ربح مال شريكة، وليس في هذه الطريقة ما يقطع المشاركة في الربح، وهي مشمولة بالرضا بالنسب الشائعة الناتجة عنها.

د – تأليف لجنة متطوعة لحماية حقوق أرباب المال (لجنة المشاركين) :

حيث إن للمستثمرين (أرباب الأموال) حقوقًا على المضارب تتمثل في شروط الاستثمار المعلنة منه والموافق عليها منهم بالدخول في المضاربة المشتركة، فإنه لا مانع شرعًا من تأليف لجنة متطوعة تختار منهم لحماية تلك الحقوق، ومراقبة تنفيذ شروط المضاربة المتفق عليها دون أن تتدخل في قراراته الاستثمارية إلا عن طريق المشورة غير الملزمة للمضارب.

ص: 1299

هـ – أمين الاستثمار:

المراد بأمين الاستثمار أي مصرف أو مؤسسة مالية ذات درجة عالية في التصنيف وخبرة وملاءة مالية يعهد إليه تسلم الأموال والمستندات الممثلة للموجودات ليكون مؤتمنًا عليها، ولمنع المضارب من التصرف فيها بما يخالف شروط المضاربة. ولا مانع من ذلك شرعًا بشرط أن يكون ذلك مصرحًا به في النظام (المؤسسة أو المضاربة) ليكون المساهمون على بينة، وبشرط ألا يتدخل أمين الاستثمار في القرارات، ولكن يقتصر عمله على الحفظ والتثبت من مراعاة قيود الاستثمار الشرعية والفنية.

و– وضع معدل لربح المضاربة وحوافز للمضارب:

لا مانع شرعًا من وضع معدل متوقع للربح، والنص على أنه إذا زاد الربح المتحقق عن تلك النسبة يستحق المضارب جزءًا من تلك الزيادة، وهذا بعد أن يتم تحديد نسبة ربح كل من الطرفين، مهما كان مقدار الربح.

ص: 1300

ز – تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخص المعنوي (المصرف أو المؤسسة المالية) :

في حال إدارة المضاربة من قبل شخص معنوي، كالمصارف والمؤسسات المالية، فإن المضارب هو الشخص المعنوي، بصرف النظر عن أي تغيرات في الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة أو الإدارة التنفيذية، ولا أثر على علاقة أرباب المال بالمضارب إذا حصل تغير في أي منها، ما دام متفقًا مع النظام المعلن والمقبول بالدخول في المضاربة المشتركة، كما لا تتأثر المضاربة بالاندماج بين الشخص المعنوي المدير لها مع شخص معنوي آخر. وإذا استقل أحد فروع الشخص المعنوي وصارت له شخصية معنوية مغايرة فإنه يحق لأرباب المال الخروج من المضاربة ولو لم تنته مدتها.

وبما أن الشخص المعنوي يدير المضاربة من خلال موظفيه وعماله فإنه يتحمل نفقاتهم، كما يتحمل جميع النفقات غير المباشرة، لأنها تُغطى بجزء من حصته من الربح.

ولا تتحمل المضاربة إلا النفقات المباشرة التي تخصها، وكذلك نفقات ما لا يجب على المضارب عمله، مثل من يستعين بهم من خارج جهازه الوظيفي.

ح – الضمان في المضاربة، وحكم ضمان المضاربة:

المضارب أمين، ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة، ولا يتغير بدعوى قياسها على الإجارة المشتركة، أو بالاشتراط والالتزام. ولا مانع من ضمان الطرف الثالث طبقًا لما ورد في قرار المجمع رقم 30 (5/4) فقرة (9) .

والله أعلم.

ص: 1301