الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأمين الصحي
إعداد الدكتور العلي القري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
التأمين الصحي (وقد يسمى التأمين الطبي) هو نوع من أنواع التأمين الذي أصبح الآن ركنًا من أركان الحياة الاقتصادية المعاصرة. وأنواع التأمين كثيرة، منها التأمين على الحياة، والتأمين على خطر الحريق والحوادث، والتأمين البحري، والتأمين الصحي. . . إلخ.
ويجمع بين أنواع التأمين هذه قواسم مشتركة، وتنبني جميعها على نظرية واحدة، ولكن بينها اختلافات، ولذلك فإننا سنعني في البداية بالنظرية العامة للتأمين والقواعد المشتركة بين أنواعه، ثم نتطرق لخصوصيات التأمين الصحي.
1-
التأمين في اللغة:
التأمين في اللغة العربية مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف. وله معان: منها إعطاء الأمان، مثل تأمين الحربي إذا نزل في بلاد المسلمين لأمر ينصرف بانقضائه، ومنها التأمين على الدعاء وهو قول آمين أي استجب.
وأقرب معاني التأمين في المصطلح المالي المعاصر هو (إعطاء الأمن) ذلك أن التأمين هو نشاط تجاري غرضه أن يحصل تأمين الأفراد والشركات من بعض ما يخافون من المكاره مقابل عوض مالي، فهو معنى جديد، وإن كان اشتقاقًا صحيحًا من كلمة (أمن) .
2-
تاريخ التأمين:
التأمين قديم، ويدعي بعض الكتاب أنه قد عرف بصيغته المعاصرة منذ أيام الإغريق، إذ كان المحاربون عندئذٍ يجتمعون للمساهمة بأقساط في صندوق يقوم بتعويض أسرة الجندي القتيل (1) . وقيل: إن الفينيقيين عرفوا التأمين البحري بصيغة مشابهة لما سبق، وقد عاشوا قبل نحو ألفي سنة قبل الميلاد (2) .
ومن الثابت أن التامين بالصورة التي نعرفها اليوم كان معروفًا في أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي، وقد كان في مدينة فلاندرز الإيطالية سنة 1310م شركة متخصصة في التأمين، وتعود أول بوليصة للتأمين البحري إلى نحو سنة 1347م ميلادية. ويقال: إن أول تأمين ضد الحريق ظهر في بريطانيا بعد سنة 1666م مباشرة، وهي السنة التي شهدت حريق لندن الذي أتى على أكثر المباني في تلك المدينة (3) .
ولم تظهر شركة التأمين على الحياة إلا في سنة 1699م، أي بعد الانتهاء من إعداد قوائم الوفيات في بريطانيا سنة 1693م الذي جعل إجراء الحسابات الأكتوارية وإعمال قانون الأعداد الكبيرة أمرًا ممكنًا، كما سيأتي تفصيله.
وقد مارست اتحادات المهنيين (Guilds) في العصور الوسطى في أوروبا نشاطًا شبيهًا بالتأمين حيث كانت تجمع الاشتراكات من أعضائها من الصناع، ثم تساعدهم في حال وقوع المكروه على أحدهم، وقد اشتهرت بأنها لا تساعد من وقع المكروه عليه بسبب له فيه يد (مثل أن يحرق منزله بنفسه طلبًا للتعويض) بل تقتصر على ما وقع من المكروه بقوة قاهرة خارجة عن إرادة المستفيد، وهذا شبيه بشروط التأمين المعاصرة.
ويرى بعض المؤرخين أن انتشار التأمين البحري كان له أعظم الأثر في دعم النشاط التجاري للأوروبيين عبر البحار وما ترتب عليه مما يسميه الأوروبيون (اكتشاف) أمريكا ورأس الرجاء الصالح، وكان من أهم نتائجه الاستعمار الأوروبي الذي شمل أكثر بقاع الأرض لقرون عديدة.
لقد ساعد هذا النوع من التأمين على (تشتيت) مخاطر التجارة الخارجية، بحيث يتحملها عدد كبير من التجار غير مقتصر على الفئة التي تجوب البحار، وقد انتعشت في هذه الحقبة من الزمن (بورصة التأمين) فلم يكن للتأمين شركات متخصصة، بل كان التجار يقومون من خلال البورصة بالالتزام مباشرة – مقابل رسوم محددة – بالتعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالسفن التجارية بسبب مخاطر أعالي البحار. وقد اشتهر التجار في إقليم (لمباردي) الإيطالي بامتهان ذلك حتى أن بوالص التأمين في بريطانيا في ذلك الوقت كانت تكتب باللغة الإيطالية، وأسست لويدز ذات الشهرة الذائعة في التأمين حتى يوم الناس هذا في ليفربول بإنجلترا في سنة 1688م، وكانت قبل ذلك بورصة للتأمين، أما أول شركة تأمين تظهر في الولايات المتحدة فكانت في سنة 1752م أسسها بنيامين فرانكلين الذي صار بعدئذٍ رئيسًا للولايات المتحدة (4) .
(1) Johnc. Chichen. Risk Handbookp. 152
(2)
S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 10
(3)
S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 10
(4)
S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 152
3-
أصول التأمين:
الواقع أن الفكرة الكامنة في التأمين ليست إلا التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع يجري تقنينه وترتيبه بطريقة منظمة بتصميم نظام له يولد الربح لمن يقوم بهذا التنظيم. وخلاصته أن يقوم مجموعة من الناس يتعرضون لمخاطر متشابهة بضم تلك المخاطر إلى بعضها البعض (عن طريق شركة متخصصة) والاشتراك في رصد ما يكفي من المال لتعويض من يقع عليه المكروه خلال فترة معينة، ولما كان من طبيعة الأمور أن يقع المكروه على البعض فقط فصار دفع كل فرد مبلغًا صغيرًا كافيًا لتعويض البعض منهم الذي يتعرض لذلك المكروه.
فالإنسان يتعرض في حياته –وأثناء ممارسته لعمله ونشاطه- للعديد من المصائب التي يترتب عليها خسارة مادية أو معنوية، وقد تزايدت أهمية التأمين بقدر ما تطورت الحياة وتحسنت سبل المعاش وزادت رفاهية الإنسان، إذ يترتب على ذلك زيادة في المخاطر التي يتعرض لها الإنسان، والخطر ليس هو الخسارة بل هو احتمال وقوع المكروه الذي يسبب الخسارة، أي أن يكون الإنسان بين أمرين ليس يدري أيهما يقع، أحدهما المكروه الذي يحذر، والآخر هو السلامة منه. ولما كان ما يخشاه الإنسان هو هذه الخسارة، وجدنا المخاطر تتعاظم مع زيادة الثراء وكثرة الأصول المملوكة للإنسان وارتفاع مستوى المعيشة، لأنه بقدر ما تكثر هذه الممتلكات بقدر ما تعظم الخسائر التي تترتب على وقوع المكروه وتزداد حاجته للتأمين.
ولهذه الخسائر أسباب هي المكاره الذي يحاذر الإنسان منها كالحريق في المنازل، واصطدام السيارات، والمرض الذي يصيب الإنسان ويسبب له الألم أو يفقده القدرة على الكسب، والفيضانات والزلازل التي تسبب خسارة الأموال وهلاك الحرث والنسل. . . إلخ.
والخسارة في لغة التأمين (أي التي وقعت استحق المستأمن التعويض) لها معنى محدد وهو: (انحطاط قيمة أصل من الأصول بسبب غير متعمد) مثل تلك التي تسببها الحوادث والكوارث في الممتلكات، أو يسببها الموت أو المرض والعوارض الأخرى في جسم الإنسان، ولا يدخل في معناها الخسارة في التجارة على سبيل المثال.
إن تفادي المخاطر والحرص على السلامة طبع للإنسان وهو جزء من فطرته التي يشترك فيها مع كل كائن حي، ولذلك فالتأمين تدفع إليه هذه الغريزة، ويعد جزءًا من سعي الإنسان بطرق متعددة للحرص على السلامة، وهذه الطرق عرفها الإنسان منذ القديم وتبناها واعتمد عليها بدرجات مختلفة حتى يوم الناس هذا يواجه بها المخاطر التي تحدق به في حياته، منها:
أ- الحذر والحيطة، بالابتعاد عن الأماكن والأحوال التي تزيد من احتمال وقوع المكروه، مثل الامتناع عن الأفعال والسلوك الذي يسبب الضرر في الحل والترحال والعمل والراحة، كالسرعة في قيادة السيارة، وإهمال صيانة الأجهزة، ونحو ذلك.
ب- ومن طرق مواجهة المخاطر الترتيبات التي يتبناها الفرد لنقل هذه المخاطر إلى جهة أخرى، فالمقاولة من الباطن، على سبيل المثال، هي وسيلة لنقل مخاطر العمل من العاقد الأصلي إلى أطراف أخرى. وكذلك الشروط في العقود التي تحمي بعض أطرافها، والشروط الجزائية وطرق الاحتماء المختلفة في المعاملات التجارية، كل ذلك غرضه نقل المخاطر إلى جهة أخرى ومن ثم السلامة من عواقبها.
جـ- ومن ذلك أيضًا السعي نحو تقليل الخطر بالتنويع، فلا يضع الإنسان (البيض كله في سلة واحدة) كما يقولون، من ذلك مثلًا توسيع العمليات التي تقوم بها الشركة على رقعة جغرافية أكبر، فالخطر الذي تتعرض له الشركة التي يكون لها (50) مستودعًا اقل للمستودع الواحد من تلك التي يكون لها مستودع واحد كبير. . . إلى آخر ذلك مما هو معروف لا يحتاج إلى بيان، وكله يدل على سعي الإنسان إلى تفادي المخاطر.
إن التأمين بمعناه الحديث صيغة من صيغ (إدارة) المخاطر، وجذوره التكافل بين أفراد المجتمع الذي هو أساس الاجتماع في دورات التاريخ. وقد عرفت كل المجتمعات الإنسانية أنماطًا من التكافل والتعاون، وما زال الناس يهرعون إلى نجدة الملهوف ومساعدة المصاب ومد يد العون إلى المحتاج. ومجتمعات الإسلام هي غرة جبين الزمان في حرصها على التكافل وعنايتها بالتعاون، وحث دينها على مثل ذك في الأخلاق وفي القوانين الفقهية التي تنظم المعاش وتحكم العلاقات بين الأفراد. ومن أعظم مؤسساتها الزكاة والوقف ونظام العاقلة. فكان التأمين قائم بينهم بالتزام كل قادر منهم بمساعدة إخوانه ممن يقع عليه المكروه، دون الحاجة إلى وجود جهة مركزية تنظم هذا التكافل بعقود واتفاقيات أو شركات مختصة بذلك، إلا أن هذا الأمر قد اعتراه التبدل الذي وقع في حياة المجتمعات في العصور الحديثة، الأمر الذي احتاجت معه صيغ التكافل والتعاون إلى مؤسسات متخصصة يقتصر عملها على تنظيم هذه الوظائف والنهوض بحاجة الناس إلى مساعدة بعضهم بعضًا عند وقوع المكروه بطرق مؤسسية، فظهرت شركات التأمين كما نعرفها اليوم.
ورب سائل: لماذا احتاج الأمر إلى مؤسسات متخصصة ولم يعد يكفي فيه ما كان عليه الأوائل من ترتيبات للتعاون والتكافل ضمن نطاق العلاقات الاجتماعية أو المهنية أو علاقات الجوار والرحم؟ والجواب عن ذلك:
أ- إن المخاطر التي كانت تحدث بالفرد في الزمان القديم محدودة ومتشابهة بين فرد وآخر، وسبب ذلك بساطة الحياة وضآلة قيمة الأصول المملوكة للناس وقلة أنواع السلع والخدمات، ولذلك كان التزام الفرد بمساعدة الآخرين إنما هو التزام قابل للتوقع بصورة عفوية وممكن التقدير والقياس بسهولة، فالمخاطر متشابهة، ومستوى العيش متقارب، ثم لما تطورت سبل العيش وتحسنت وسائل المواصلات وتنوعت التجارات وازداد مستوى الرفاهية بظهور أنماط وأنواع مستجدة من السلع والخدمات كالسيارات والطائرات والكهرباء والإلكترونيات. . . إلخ، زادت هذه المخاطر زيادة عظيمة في الحجم والقيمة وتنوعت، فلم تعد متشابهة كما كانت في الماضي، ولذلك فإن من يعمل في التجارة يتعرض لمخاطر مختلفة تمام الاختلاف عن الطبيب أو العامل في محطة الكهرباء أو المعلم في المدرسة. . . إلخ، وأصبحت الفجوة بين الغني والفقير عظيمة؛ فأصبح التزام كل فرد بمساعدة الآخرين يترتب عليه تحمل بعضهم تبعات عند حدوث المكروه للآخرين أكثر من البعض الآخر، مما احتاج معه إلى تنظيم تتحدد بموجبه قدر المسؤولية بقياسها بمقدار الخطر.
ب- كانت جميع النشاطات التي يقوم بها الأفراد تتم بصفة مباشرة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة، فالعلم يتلقاه التابع عن الشيخ، والمهنة يأخذها المتدرب عن الحرفي الماهر. . . إلخ، ثم صار الناس يتعلمون في مؤسسة تسمى الجامعة أو الكلية أو المعهد الصناعي، وكذلك حال التكافل إذ يتم ضمن علاقات النسب بين أفراد القبيلة الواحدة أو الجوار في الحي أو المهنة الواحدة أو أهل السوق الواحد. . . إلخ، ثم لما جاء عصر التخصص وتقسيم العمل ظهرت المؤسسات التي تخصصت في تلك النشاطات التي كان يقوم بها الأفراد في القديم، فصار العلم يتلقاه الطالب في جامعة فلا يقال: شيخه فلان، بل يقال: تخرج في الجامعة الفلانية. وكذلك حال المهن الصناعية التي ظهرت لها المعاهد المتخصصة والكليات، وليس حال التكافل استثناء من ذلك، فقد كان تعاون الناس ومساعدة بعضهم البعض يتم من خلال علاقات القرابة والجوار والرحم. . . إلخ. فاحتاج الأمر إلى أن تتخصص فيه مؤسسة، فظهرت مؤسسات التأمين تمامًا كما ظهرت البنوك (مؤسسات للوساطة المالية) والشركات المساهمة والجامعات والمعاهد والمنظمات الدولية. . . إلخ.
4-
قانون الأعداد الكبيرة:
ما كان للتأمين بصورته المعاصرة أن يظهر لولا اكتشاف ما سمي في علم الإحصاء: قانون الأعداد الكبيرة، ذلك أن سر التأمين ينكشف في الإجابة عن السؤال: كيف يؤدي تجميع المخاطر على مستوى مجموعة من الأفراد (وهو عمل شركة التأمين) ؛ إلى تقليل المخاطر التي يواجهها كل فرد من تلك المجموعة (وهو غرض المستفيد من التأمين) إنه قانون الأعداد الكبيرة (أو قانون المتوسطات) .
يعود اكتشاف هذا القانون إلى عدة قرون مضت عندما لاحظ الرياضيون في القرن السابع عشر في أوروبا عند إعدادهم لقوائم الوفيات؛ أن عدد الموتى من الذكور والإناث من كل بلد يميل إلى التساوي كلما زاد عدد المسجلين في القائمة. وقد أصبحت دراسة هذه الظاهرة جزءًا من علم الإحصاء عندما كتب عنها سيمون بواسان وسماها: قانون الأعداد الكبيرة لما بدا له من أنها تشبه نواميس الطبيعة، وقانون الأعداد الكبيرة يتعلق باستقرار تكرار بعض الحوادث عند وجود عدد كافٍ منها، مع أنها تبدو عشوائية لا ينتظمها قانون إذا نظر إليها كل واحدة على حدة.
مثال ذلك: مصيبة الموت؛ فهي تبدو خبط عشواء لا يمكن التنبؤ بوقوعها على فرد بعينه، ولكننا لو تحدثنا عن عدد الوفيات التي ستقع خلال العام الحالي في مدينة جدة، على سبيل المثال، لأمكن –بناء على الخبرة السابقة- أن نتوقع عدد الوفيات بشكل دقيق (إذا سارت الأمور على طبيعتها) . نحن نعلم أن القول بأن أحدًا لن يموت خلال العام في مدينة يسكنها أكثر من مليون أمر لا يقبل، وإذا استثنينا الكوارث والمصائب العامة والتغير الكبير في عدد السكان فإن الاحتمال الأكبر أن عدد الوفيات هذا العام لن يختلف كثيرًا عن الأعوام السابقة إذا كان لدينا عددًا كافيًا من أعوام سابقة نستخرج منه متوسطًا، هذا القانون هو الأساس الذي يقوم عليه التأمين.
إن الاستحالة التي تبدو قطعية عند محاولة توقع حادثة معينة تنقلب إلى ما يشبه اليقين إذا كان ما نحاول توقعه هو عدد كافٍ من الحوادث المشابهة. فنحن لا نستطيع أن نعرف إن كان زيدا أو عمرا سيتعرض لحادث اصطدام في سيارته، لأن ذلك في علم الغيب، ولكننا نستطيع أن نعرف بشكل بالغ الدقة كم عدد الناس الذي سيتعرضون لحوادث السيارات فيف مدينة جدة خلال السنة القادمة، اعتمادًا على وجود عدد كافٍ من السنوات التي نستطيع منها أن نستنتج ما نريد بناء على قانون الأعداد الكبيرة.
5-
الآثار الاقتصادية للتأمين:
إن التاريخ يثبت أن تطوير برامج التأمين المختلفة وانتشار العمل بها كان له آثار إيجابية في تقدم المجتمعات المعاصرة واستقرار المعاملات فيها وتحسين التوزيع للثروات والدخول في المجتمع، ولا ريب أن نهوض بريطانيا التجاري وثروتها التي تكونت في القرون الماضية من التجارة الدولية تعود في جزء كبير منها إلى براعتها في تطوير التأمين البحري، الذي مكن تجار لندن ووليفربول من غزو العالم (ثم استعمار أجزاء منه) . ويمكن تلخيص الآثار الاقتصادية لانتشار التأمين في المجتمع فيما يأتي:
أ- من الثابت أن أقدم أنواع التأمين هو التأمين البحري، ولقد كان للتأمين البحري بالغ الأثر في النمو الاقتصادي في أوروبا بعد القرون الوسطى، والذي كان للتجارة الدولية فيه دور مهم.
ب- إن وجود برامج فعالة للتأمين على الأصول والممتلكات يزيد من إقدام أصحاب الثروات على الاستثمار لأنها ستقلل المخاطر التي يواجهونها، فيصير بإمكانهم حصر ما يواجهونه من مخاطر بتلك المتعلقة بالعمل التجاري فحسب، فيزداد مستوى تخصصهم وخبرتهم. وجلي ما لهذا من آثار على توليد فرص العمل وزيادة الثروة القومية.
جـ- ويرى الاقتصاديون أن درجة التقدم الاقتصادي مرتبطة بتحقق الاستقرار في المجتمع والذي يعرفونه: انخفاض درجة (عدم التيقن تجاه المستقبل) ، ولذلك فإن كل ما أدى إلى توسيع دائرة (التيقن) أدى إلى تسريع التقدم وزيادة معدل الرفاهية. ولذلك فإن برامج التقاعد والتأمين بأنواعه والرعاية الصحية وتوفير فرص العمل واستقرار القوانين المنظمة للأعمال وقوة الجهاز القضائي. . . كل ذلك يزيد من إنتاجية الفرد ويحسن من نوعية حياته وإنتاجه.
د- من الثابت أن التأمين لا يؤدي إلى التعويض عن الضرر فحسب، بل يؤدي إلى تحسن مستوى السلامة وزيادة التزام الناس بسبلها ومبادئها، مما يترتب عليه تقليل حجم الأخطار، ذلك لأن لشركات التأمين مصلحة دائمة في تقليل الحوادث وسد الذرائع إلى وقوع المكروه وتفادي أسباب حدوث الخسائر، وذلك لكي تزيد من أرباحها بتقليل ما تدفعه من تعويضات، ويقتضي هذا تمويل الأبحاث وتطوير البرامج والإجراءات التي تولد الحوافز لدى المستأمنين بالاهتمام بالسلامة واشتراط إجراءات يلتزم بها المستأمنون، وما هذا الانضباط الذي نراه في قيادة السيارات في الدول الغربية إلا نتيجة لعوامل؛ منها الالتزام بالتأمين على السيارة وارتباط رسوم التأمين ودفع التعويض بطريقة القيادة والحرص على السلامة.
هـ- الاستقرار في التعامل بالديون، ومعلوم أن البيع الآجل وأنواع المداينات الأخرى لها دور مهم في رفع مستوى رفاهية الأفراد وتنشيط التجارة، لأن المخاطرة التجارية فيها عالية بسبب مطل المدينين أو إفلاسهم أو تعرضهم للمرض وفقدان الدخل أو الموت. ويتحقق الاستقرار لأن شركات التأمين يمكن أن تضمن تلك الحقوق في حالة وفاة المدين أو عجزه عن الكسب أو هلاك الرهون التي توثق بها تلك الديون.
و الاستقرار الاجتماعي، وذلك بتعويض العمال في التأمينات الاجتماعية عن أضرار الحوادث، وتوفير برامج التقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والتأمين ضد البطالة.
ز- الاستقرار التجاري عن طريق التعويض عن المسؤولية تجاه الآخرين.
ح- تعبئة المدخرات الضخمة التي تتكون عن دفع الناس أقساط التأمين بأنواعه المختلفة إلى شركات التأمين وثم توجيهها عن طرق تلك المؤسسات نحو المشاريع الاستثمارية وبخاصة طويلة الأجل. إن شركات التأمين تعد أكثر المؤسسات قدرة على جمع المدخرات، والادخار كما هو معلوم أساس نحو الاقتصاد الوطني.
6-
تعريف التأمين:
أ- التعريف الاقتصادي: يمكن تعريف التأمين من الناحية الاقتصادية بأنه: (أداة لتقليل الخطر الذي يواجه الفرد عن طريق تجميع عدد كافٍ من الوحدات المتعرضة لنفس ذلك الخطر (كالسيارة والمنزل والمستودع. . . إلخ) ؛ لجعل الخسائر التي يتعرض لها كل فرد قابلة للتوقع بصفة جماعية، ومن ثم يمكن لكل صاحب وحدة الاشتراك بنصيب منسوب إلى ذلك الخطر) (1) .
ب- التعريف القانوني: كما يمكن تعريف التأمين من الناحية القانونية بأنه: (عقد يتعهد بموجبه طرف مقابل أجر بتعويض طرف آخر عن الخسارة إذا كان سببها وقوع حادث محدد في العقد) . وقد عرفه القانون المدني المصري الجديد (م747) بأنه: (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المعين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن)(2) .
(1) Fiudemcntali & Insrue P50
(2)
أورده عبد الرزاق السنهوري في الوسيط.
7-
أطراف عقد التأمين:
أ- المستأمن: وهو الذي يدفع قسط التأمين وقد يسمى أحيانًا المؤمن له. ويفرق أرباب التأمين بين المستأمن والمستفيد، إذ ربما ليدفع الأقساط طرف ويستفيد من التعويض طرف آخر بشكل كلي أو جزئي. فمثلًا في التأمين على الحياة المستفيد ليس هو المستأمن، فالمستأمن هو منشئ البوليصة ودافع الأقساط، والمستفيد من يحصل على التعويض عند موت المستأمن. والمستأمن في التأمين ضد الحريق هو مالك البيت أو المستودع ولكن يكون جاره مستفيدًا إذا كان هو الذي تسبب خطؤه في إحداث الحريق، إذ لو لم يكن المصاب مؤمنًا لالتزم الجار بالتعويض. وفي التأمين ضد المسؤولية يستفيد المستأمن ولكن يستفيد أيضًا من وقع عليه الضرر بالحصول على التعويض، إذ لو لم يكن محدث الضرر مؤمنًا ربما لم يحصل المتضرر على تعويض.
ب- المؤمن: وهي الجهة التي تقدم خدمات التأمين وتحصل على الرسوم عن طريق بيع البوليصات التي تتضمن التغطية التأمينية، وتكون مؤسسات تجارية لغرض الاسترباح، أو تعاونية لنفع المشتركين في البرنامج أو حكومية.
8-
محل عقد التأمين:
اتجه تصور الفقهاء المعاصرين لعقد التأمين إلى أنه عقد معاوضة فيه: ثمن (هو رسوم التأمين) ، ومثمن (هو التعويض الذي يدفع عند وقوع المكروه) ، وبائع (هو الشركة) ، ومشتر (وهو المستأمن) . وبناء عليه حكم على هذا العقد بالفساد للغرر، لأن دفع المثمن احتمالي يرتبط حدوثه بوقوع المكروه. أما أن عقد التأمين عقد معاوضة فهذا ما لا خلاف عليه، لكن الاختلاف على المحل؛ فإن المحل المتعاقد عليه فيه هو الالتزام بالتعويض وليس المبلغ المحدد للتعويض، فالمستأمن يدفع مبلغًا محددًا (رسوم التأمين) مقابل التزام الشركة بتعويضه عن الضرر في حال وقوع المكروه الموصوف في العقد، تعويضًا متفقًا عليه، ولذلك فإن المحل المتعاقد عليه –وهو الالتزام- موجود في عقد التأمين سواء انتهى بدفع التعويض عن الخسارة، أم تحققت السلامة للمستأمن.
وعلى ذلك فإن الالتزام الذي تلتزم به الشركة للتعويض ليس أمرًا احتماليًا، بل هو واضح يحصل عليه المستأمن بمجرد انعقاد العقد، ويترتب على ذلك الشعور بالأمان من قبل المستأمن، وهو الأمان الذي اشتق منه اسم التأمين. وهذا حاصل، سواء انتهى العقد بوقوع المكروه ودفع التعويض، أو انتهى بالسلامة وعدم الحاجة إلى دفع التعويض. وهو شبيه في ذلك بالكفالة (الضمان) ؛ فإن الرجل إذا كفل المدين أمام دائنه فإن التزامه بالضمان قد وقع، ولكن تسديد الدين إلى الدائن مرتبط بأمر احتمالي هو مطالبة الدائن له عند عجز المدين أو غيابه وقت السداد، ولا اختلاف أن محل العقد هو الالتزام بالدفع.
ورب قائل يقول: لا يكون بين التصور الأول والتصور الثاني فرق إلا في حالة كون الالتزام من قبل الشركة هو التزام بتعاقد جديد فيه ثمن ومثمن، أما وقد التزمت الشركة بتعويضه عن الضرر فهي إما أنها ستدفع مبلغًا للتعويض، وإما أنها لن تدفع، مع قبضها في كلا الحالين للرسم الذي هو ثمن الالتزام (إذا تصورناه كذلك) ، فأصبح المحل في حقيقته هو ذلك المبلغ الذي يدفع تعويضًا. والجواب أن ما ذكر صحيح لو كان هذا عقدًا واحدًا منفردًا، ولكن الشركة القائمة على التأمين تطبق قانون الأعداد الكبيرة، ولذلك فهي تجمع من كل المستأمنين رسومًا تكفي لتغطية مخاطرهم المتوقعة، فالتزام الشركة بالتعويض عن الضرر إنما هو التزام منها بأن تدفع لمن تعرض للمكروه جزءًا من الأموال التي بيد الشركة والتي جمعتها من المستأمنين، فأشبهت ذلك الكفيل الذي سدد الدين للدائن ثم رجع إلى المدين بما أدى.
9-
صفة المكروه الذي يمكن التأمين ضده:
ليس كل ما يتعرض له الإنسان من المخاطر قابل للتأمين ضده، إذ إن بعض المخاطر التي يتعرض لها الإنسان غير قابلة للحساب ولا التوقع، ولا بد أن تتوافر على المكروه الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتأمين صفات معينة يمكن عند وجودها أن تكون مادة لعمل شركة التأمين، فتقوم بحساب مقدار الخطر وتقدير أقساط التأمين اللازمة للتعويض عند وقوع المكروه. وهذه الشروط هي:
أ- وجود عدد كافٍ من المستأمنين يمكن من إعمال قانون الأعداد الكبيرة (1) ، فإذا كان العدد قليلًا لا يمكن لشركة التأمين حساب المخاطرة، ومن ثم لا تستطيع تقدير قسط التأمين.
ب- أن تكون الخسارة الناتجة عن المكروه واضحة لا لبس فيها، والموت هو أكثر المكروهات وضوحًا، ولذلك فإن أيسر عمليات التأمين من ناحية الحساب هي التأمين على الحياة، لأن التعويض فيه مرتبط بواقعة لا يختلف عليها. وليست كل أنواع المكروهات بهذا الوضوح، فالتأمين الصحي مرتبط بالمرض، لكن المرض لا يمكن دائمًا التأكد من وقوعه (مثل آلام الظهر لا يوجد حتى الآن جهاز يستطيع أن يثبت عدم وجود هذه الآلام التي قد يحس بها الإنسان مع كون جميع أجزاء جسده في أحسن حال) .
ج- أن يكون وقوع المكروه غير متعمدة، وألا يكون للمستأمن يد في وقوعه؛ فإذا احترق مستودع التاجر بفعله لم تدفع الشركة التعويض له (2) .
(1) أما ما نسمعه من تأمين مغنية على حنجرتها، أو تأمين وكالة الفضاء الأمريكية على مركبة تطلقها إلى الفضاء؛ فهذا ليس تأمينًا بالمعنى الغني لعدم إمكانية إعمال قانون الأعداد الكبيرة ولا يقوم به إلا لويدز، عن طريق تفتيت المخاطر على ما أطلق على (الأسماء) .
(2)
وهناك نوع من التأمين يسمى (No fault) أي إن التعويض يدفع بصرف النظر عن المتسبب، وهو يستخدم في الحالات التي يصعب فيها إثبات المتسبب، كالتأمين على السيارات.
د- يجب ألا يقع لأعداد كبيرة دفعة واحدة، ولذلك لا يوجد تأمين ربحي ضد البطالة لأنها تحدث لأعداد غفيرة في وقت واحد تسبب الإفلاس للشركة، أو ضد الحروب والانقلابات. . . إلخ. فالتأمين ضد البطالة تختص به الحكومة لأن عملها ليس معتمدًا على حساب الربح والخسارة.
هـ- أن يكون احتمال وقوع المكروه قابلًا للحساب، أي يكون لدى المؤمن القدرة على تقدير الخطر.
و أن يكون للمستأمن مصلحة فيما وقع التأمين عليه، فلا يمكن لفرد أن يدفع قسط التأمين ضد الحريق على منزل جاره بحيث لو وقع المكروه تسلم هو التعويض، لأنه لا مصلحة له في منزل جاره، فهو لم يخسر شيئًا بسبب وقوع الحريق.
10-
هل التأمين ضرب من القمار؟
يشبه التأمين القمار في حقيقة أن المقامر والمستأمن كليهما يدفع مبلغًا محددًا من المال ثم يستقبل المقدار، فربما كسب أضعاف ذلك المبلغ وربما خسر جميع ما دفع لشركة التأمين، ولا زال الناس يقاربون بين عقد التأمين والقمار منذ نشأ التأمين، بل ورد أن بعض القضاة في المحاكم البريطانية في القرن الثامن عشر لم يكونوا يرون فرقًا بين القمار والتأمين، ولذلك ما كانوا يحكمون بضرورة أن يكون الأصل المؤمن عليه ملكًا للمستأمن، لأنهم يقيسونه على القمار ويحكمون فيه بالقوانين المنظمة للخطر والمراهنة (ولم يكن القمار عندهم محرمًا) . حتى صدر قانون التأمين البحري سنة 1745م فمنع مثل ذلك (1) .
يرى أرباب التأمين أن الفروق جوهرية بين التأمين والقمار وأن هذا التشابه لا يخفي حقيقة اختلاف العقدين عن بعضهما البعض للأسباب التالية:
أ- إن المقامر يدفع مبلغًا من المال لتوليد خطر مصطنع ينبني عليه خسارة ما دفع من مال، أو الفوز بأضعاف ذلك، وإن هذا الخطر غير موجود في الطبيعة وإنما هو من صنع المقامرين، يتولد عندما يدفع كل مشترك حصته في القمار (كاليانصيب وما شابه ذلك) ، وفي نهاية اللعبة يربح الرابح ويخسر الخاسر. أما التأمين فهو يتعلق بأمر خارج عن إرادة كل الأطراف، وهو خطر حقيقي ناتج عما قدر عليهم من المصائب والمكاره التي تصيب الأموال والأولاد، ومن ثم فإن غرض دفع القسط التأميني ليس الاسترباح من ذلك الخطر بل تفاديه والاحتماء منه.
ولذلك فإنهم يفرقون بين الخطر القماري (Speculative Risk) لأنه يحتمل الربح والخسارة، والخطر في التأمين فيسمونه خطر محض (Pure Risk) لأنه لا يحتمل إلا الخسارة أو بقاء الأمور على ما هي عليه. لو أن رجلًا اشترى أسهم شركة لغرض الاستثمار فإنه يتعرض للربح والخسارة، ولذلك لا يمكن لشركة تأمين تقبل أن تؤمن على تلك الأسهم ضد الخسارة؛ لأن هذا من النوع الأول من المخاطر، ولو فعلت لصار عملها قمارًا وليس تأمينًا.
ب- إن القمار وسيلة للإثراء، لأن المقامر إذا استفاد في العملية أصبح أغنى مما كان عليه قبل المقامرة، وإذا خسر صار أقل ثراء مما كان عليه. أما التأمين فليس وسيلة للإثراء؛ إذ يقتصر على التعويض عن الضرر الواقع فحسب بمثل ثمنه أو أقل من ذلك (2) ، وتمنع أعراف وقوانين التأمين أن يحصل المستأمن على أكثر من ذلك حتى لا ينقلب العقد إلى وسيلة للإثراء غير المشروع (3) .
(1) David Kell p. (VI)
(2)
هل يمكن للمستأمن أن يجمع بين مبلغ التأمين وبين التعويض الذي يمكنه أن يحصل عليه من المتسبب في الضرر، أو أن ينشئ عدة بوالص للتأمين على نفس الخطر؟ هذا ما تمنعه قوانين التأمين في أكثر الدول فهي تجعل التعويض عن الضرر الذي يمكن الحصول على من المتسبب حقًا لشركة التأمين، كما لا تجيز الجمع بين أكثر من بوليصة على خطر واحد. كل ذلك حتى لا ينقلب التأمين وسيلة للإثراء.
(3)
جلي أن السماح بالتعويض بأكثر من مبلغ الضرر يولد الحافز لدى المستأمن لإحداث ذلك الضرر، وهو ما يسمى في لغة التأمين (المخاطرة الأخلاقية) .
(10-1) وسائل إبعاد التأمين عن القمار:
صار جليًا أن التأمين في نظر أربابه مختلف عن القمار، ومع ذلك فإن هذه الفروق إنما هي نتيجة تقيد نشاط التأمين بقواعد وشروط تبعده عن القمار، ولا ريب أن المنطق الذي اعتمد عليه التأمين يفسده استخدام الناس لهذه الوسيلة النافعة لغرض المقامرة، ولذلك تحرص القوانين المنظمة لعمل التأمين وتسعى الشركات المتخصصة في ذلك إلى تبني الطرق والقيود والإجراءات التي تضمن عدم انقلاب عقد التأمين إلى وسيلة للقمار. من ذلك مثلًا:
أ- لا تقبل هذه الشركات التأمين ضد أي خطر، بل لا بد أن يكون ضمن ما يسمى (الخطر القابل للتأمين)(Insurable Interest) ، ومن شروطه أن يكون للمستأمن مصلحة مباشرة فيما أمن عليه، مثل أن يكون الأصل المؤمن عليه، مملوكًا له أو أن يكون مرهونًا بدين عنده (في ظل القوانين الوضعية) . ويشترط أن تكون هذه المصلحة موجودة عند وقوع المكروه، فإن وجدت عند إنشاء بوليصة التأمين (بيت مملوك له) ثم لم يوجد عند وقوع الحريق (كأن يكون باع ذلك المنزل) لم يستحق التعويض، والغرض من هذا الشرط ألا يكون التأمين وسيلة للإثراء.
ب- لا تقع التغطية في التأمين إلا بمقدار الضرر الواقع، حتى لا يكون سبيلًا للإثراء، ولا يولد الحوافز على المجازفة بإحداث المكروه للحصول على التعويض. فإذا أمن على بيته ضد الحريق بمبلغ (125) ألف ريال وهي قيمة البيت عند إصدار البوليصة، ثم لما وقع المكروه كانت قيمته لا تتعدى (110) ألف، لم يحصل إلا على المبلغ الثاني لأن هذا هو مقدار الضرر الذي وقع عليه عند وقوعه.
ج- وتنص أكثر القوانين على ضرورة أن يتنازل المستأمن لشركة التأمين عن كل ما يمكن أن يحصل عليه من تعويض عن الضرر من محدث الضرر، وإذا كان مؤمنًا فوقع المكروه بفعل فاعل واستحق التعويض ليس له أن يقوم هو بمقاضاة الفاعل والحصول منه على تعويض زيادة على ما حصل عليه من شركة التأمين إذ لا يستحق من ذلك شيئا إلا إذا كان ما يحصل عليه من الشركة المؤمنة أقل من مقدار الضرر الحقيقي، فيحصل عندئذٍ من الفاعل (أو من الشركة المؤمنة) على الفرق بينهما، وتعطي القوانين الشركة المؤمنة الحق في أن تقوم هي بملاحقة المتسببين في حصول الضرر إن كان بفعل فاعل.
د- لا يكون التأمين على الأصول إلا بأقل من قيمتها الحقيقية، بحيث يشترك المؤمن والمستأمن في تحمل الخطر، لتقليل ما يسمى المخاطرة الأخلاقية في العقود تلزم شركة التأمين المستأمن بدفع جزء من مبلغ التعويض، ويسمى (Deductible) لغرض إبعاد عقد التأمين عن القمار.
11-
أنواع التأمين من حيث طريقة التنظيم:
يمكن تقسيم التنظيمات في مجال التأمين إلى نوعين رئيسيين: الأول: هو التأمين الذي تقوم به الحكومة، والثاني: ذلك الذي يقوم به القطاع غير الحكومي.
والنوع الثاني يمكن تقسيمه إلى نوعين رئيسيين: أولهما تأمين لا ربحي غرضه نفع حملة بوالص التأمين، وثانيهما ربح غرضه في المقام الأول نفع ملاك المؤسسة. كما يمكن تقسيم التأمين اللا ربحي إلى نوعين: تأمين تعاوني لا ربحي، وتأمين تبادلي. كما يمكن تقسيم التأمين الربحي إلى نوعين: تأمين تعاوني ربحي، وتأمين تجاري، كما يلي:
وسوف نعرض لكل نوع بشيء من التفصيل.
(11-1) التأمين الحكومي:
وهو التأمين الذي تقوم به الحكومة لمنفعة أفراد المجتمع، وأهم أنواع هذا التأمين: برامج التقاعد والضمان الاجتماعي وأنواع التأمينات الاجتماعية الأخرى. وهو يختص في الغالب المخاطر التي لا يغطيها التأمين في القطاع الخاص لعظمها، أو لعدم تحقيقها الربح. ويتميز التأمين الحكومي عن سائر أنواع التأمين بما يلي:
أ- أن الاشتراك في البرنامج يكون إلزاميًا لجميع الأفراد الذين ينطبق عليهم أوصاف يحددها القانون، فموظفو الحكومة يشتركون جميعهم بلا استثناء في معاشات التقاعد وهم ملزمون بذلك.
ب- يستحق المشارك في التأمين الاجتماعي التعويض بمجرد الاشتراك ودفع الاشتراكات المطلوبة دون الحاجة إلى إثبات عوزه أو حاجته المالية، فهو بذلك يختلف عن أنواع البرامج الاجتماعية التي تقدمها الحكومة.
جـ- يحدد القانون طرق تحديد التعويضات، ولا تكون مستمدة من اتفاقيات فردية بين المؤمن والمستأمن كما هو الشأن في التأمين التجاري.
د- أن التعويضات في التأمين الحكومي غير معتمدة على مقدار الاشتراكات بالنسبة للفرد، ولكنها مقننة ضمن نظام عام للتأمين، بخلاف التأمين الخاص حيث يختار المستأمن التغطية التأمينية المطلوبة ويدفع الرسوم الخاصة بها.
هـ- تديره الحكومة أو إحدى مؤسساتها العامة.
و ويغطي التأمين الحكومي في الغالب المكاره التالية: الموت، والإصابات المعقدة عن العمل، والمرض والشيخوخة، وتعويضات البطالة والتقاعد.
وقد تمتد أغراض التأمين الحكومي إلى تغطية مخاطر يختص بها القطاع الخاص عادة؛ ففي بعض الدول تقوم الحكومة بالتأمين على جميع المواطنين ضد ما تسببه الحوادث من موت أو أضرار جسدية، حيث تدفع تعويضًا إلى أي مواطن يصاب نتيجة حادث (يكون غير متعمد) ، ويجري تغطية تكاليف ذلك من ضريبة تفرضها على دخل ذوي اليسار من المواطنين، ومثل هذا التأمين موجود في نيوزيلاندا وهو بلا شك صورة من صور التكافل بين أفراد المجتمع، وكذا ما تقوم به بعض البلدان من دفع معاش تقاعدي لكل مواطن يبلغ الستين، ولا يكون على رأس العمل، بصرف النظر عن سجله الوظيفي وعمله في الحكومة أو سواها حتى لو كان عاطلًا عن العمل طوال حياته، ولا يحتاج أن يدفع للحكومة أقساطًا شهرية لكي يؤهل مؤهلًا للحصول على هذا المعاش، ومصدر تمويل ذلك هو حصيلة الضرائب.
(11-2) مؤسسات التأمين الخاصة التي لا تسعى لتحقيق الربح:
أشهر مؤسسات التأمين اللاربحية الموجودة في التطبيق العملي والمنتشرة في البلاد الغربية هي مؤسسة التأمين التعاوني والتي تسمى Mutual، ومؤسسة التأمين التبادلي والتي تسمى Reciprocal.
(11-2-1) التأمين التعاوني-اللاربحي:
مؤسسة التأمين التعاوني اللاربحي هي هيئة يملكها حملة بوالص التأمين، أي المستأمنون، وهم فيها مثل حملة الأسهم بالنسبة للشركة المساهمة، وليس لها رأس مال إذ إن رأسمالها هو حصيلة الرسوم (أي قيمة بوالص التأمين) عند بداية عمل الشركة، ثم تتراكم فيها الاحتياطيات، وتدفع الشركة لحملة بوالص تأمينها (أي المستأمنين) ريعًا سنويًا عن فائض الأموال لديها وعوائد الاستثمار، ولكنها تحتفظ بجزء من ذلك على صفة احتياطات لتقوية المركز المالي لها، ولهذا النوع من المؤسسات عدة أشكال منها:
أ - تعاونية مع إعادة مطلقة للتقييم: والمقصود هنا تقييم الرسوم إذ لهذا النوع من المؤسسات الحق في الرجوع على المستأمنين وطلب زيادة الرسوم منهم (بعد انعقاد العقد) بشكل غير محدود، وبالقدر الذي يكفي لتغطية حجم التعويضات خلال تلك السنة، والمستأمنون فيها ملتزمون بالدفع وتسمى باللغة الإنجليزية (Pure assesment mutuals) ونظرًا لهذا الالتزام المطلق من قبل المستأمنين لا يكون عمل هذه المؤسسات إلا ضيقًا ومن خلال الجمعيات والنقابات وما شابه ذلك، والفكرة فيها مستمدة من حقيقة أن الباعث على هذا النوع من البرامج هو التعاون بين الأعضاء لمساعدة من يقع عليه المكروه منهم، لذلك كان منطقيًا أن اشتراكاتهم خلال سنة إذا لم تكن كافية أن يرجع عليهم لزيادة حصة كل واحد منهم، وبخاصة أن العمل قائم على إرجاع ما فاض من الأموال إليهم في نهاية العام إن كان ثم فائض.
ب- تعاونية مع رسم متقدم: وتقوم باستقطاع رسم عالٍ نسبيًا من المستأمنين لدفع كافة التعويضات والمصاريف الإدارية، ولتغطية احتياجات الشركة، فهي تشبه الشركة المساهمة، فإن فاض في نهاية العام شيء رد إلى المستأمنين.
جـ- التعاونيات المؤبدة: وهي تحصل على رسم أوَّلي مرتفع يستثمر لتوليد دخل كافٍ لتغطية المصاريف والتعويضات، ولا يدفع المستأمن بعد ذلك أية رسوم، إذ يكفي الأرباح المتولدة من تلك المبالغ المدخرة لتغطية التعويضات. ثم إن الشركة تقوم بعد عدد من السنوات عندما تصبح الأرباح فائضة عن حاجة التعويضات بدفع ريع سنوي للمستأمنين إضافة إلى استمرار تغطيتهم، وفي حال رغبة المستأمن الخروج من الشركة فإن له أن يسترد الرسم الأولي الذي ساهم فيه، كما أن الشركة عند تصفيتها تقوم برد تلك الرسوم إلى أصحابها (أي حملة البوالص) أولًا.
وكانت أكثر شركات التأمين في الولايات المتحدة هي من هذا النوع، ولكن بعد أن صار قطاع الأعمال يتركز النشاط فيه في مؤسسات قليلة بعد أن اتجهت الشركات إلى شراء بعضها البعض في كافة قطاعات الاقتصاد عن طريق إصدار سندات الدين والاقتراض من البنوك، لم تكن شركات التأمين التعاوني اللاربحي قادرة على مثل ذلك؛ لأنها لا تستطيع الاقتراض من البنوك حيث لا ملاك لها، فصارت تتحول إلى شركات ربحية، وذلك بأن تقل بوالص التأمين إلى أسهم وتفصل بين نشاط التأمين وملكية الشركة.
(11-2-2) التأمين التبادلي (Reciprocal Insurance) :
هو نوع من أنواع برامج التأمين غير المستهدف للربح، وإنما مبناه التعاون يبن حملة البوالص.
إن الفكرة الأساسية في التأمين التبادلي قديمة، وقد أورد بعض الكتاب أن التجار في الصين كانوا قبل نحو 3000 سنة قبل الميلاد إذا أرسلوا البضائع عبر الأنهار اتفقوا على توزيع بضائع كل تاجر على جميع السفن، حتى إذا غرقت سفينة كان الجميع شركاء في الخسارة (1) .
ولكن التأمين التبادلي لا يعود بصيغته المؤسسة إلا إلى سنة 1881م في نيويورك؛ عندما وجد تجار الأطعمة في نيويورك أن شركات التأمين تبالغ في قياس الخطر عند التأمين على مستودعاتهم فيأخذوا منهم أقساطا أكثر مما يجب مما يعني أنهم في الواقع يدفعون الرسوم ليس فقط لتغطية مخاطرهم بل أيضا لتغطية مخاطر غيرهم ممن تأخذ الشركة عليه رسوما أقل مما يجب ولذلك قرروا أن يتبادلوا فيما بينهم بوالص التأمين بصورة مباشرة، ومن هنا جاءت فكرة التأمين التبادلي، ويمكن للمثال التالي أن يوضح الفكرة الأساسية في التأمين التبادلي:
لنفترض أن في المنطقة التجارية ألف مستودع، تبلغ قيمة كل واحد منها مخزون فيه بضاعة قيمتها (80.000) دولار، يمكن لملاك هذه المستودعات أن ينظموا برنامج تأمين تبادلي باشتراك كل واحد منهم بتغطية مقدارها (80.000) دولار، وفي نفس الوقت يتحمل كل واحد منهم مخاطر مقدارها أيضًا (80.000) دولار (أي يضمن للبرنامج هذا المبلغ) على جميع المستودعات فلو احترق أحد المستودعات مثلًا فقد وقعت خسارة على صاحبه مقدارها مبلغ (80.000) دولار، فيقوم مدير البرنامج بالطلب من كل مشترك وعددهم (1000) بدفع مبلغ (80) دولار، ومن ثم يجري تعويض صاحب المستودع فتكون المحصلة هي توزيع خطر قدره (80.000) دولار على ألف شخص، لاحظ أنه لو احترقت جميع المستودعات لتحمل كل فرد مقدار ما ضمن للبرنامج وهو قيمة مستودعه، وتنص بوالص التأمين المتبادلة على ذلك.
(1) Fundamentasls of Insurance p. 75
وتنتشر مثل هذه الأنواع من التنظيمات للتأمين بين أعضاء النقابات والجمعيات المهنية والعاملين لدى جهة واحدة كموظفي شركة أو عمال مصنع، وهي لا تحتاج إلى هيكل إداري في الغالب، ولا تكون مسجلة كشركة بل يقوم عليها محام يقوم بتسجيل هذه الاتفاقيات ويرعى مصالح المشاركين في البرنامج، وهو يقوم بذلك مقابل مرتب شهري أو جزء من الربح المتحقق من استثمار الأموال، ويبدأ مثل هذا البرنامج بدفع كل فرد مبلغًا محددًا من المال (80 دولار في مثالنا السابق) ثم يقوم المحامي المذكور بإيداعها في أحد البنوك لغرض الاستثمار، ولكن التزام كل مشارك يكون بالحد الأعلى المتفق عليه.
فإذا وقع المكروه وكانت الأموال المودعة في الحساب لا تكفي؛ يقوم المدير (المحامي) بتوزيع التبعات على الجميع بالتساوي، ثم يحصل منهم على المبالغ المطلوبة، وقد تستمر سلامة المشاركين مدة طويلة يترتب عليها نمو ذلك المبلغ نموًا عظيمًا إلى الحد الذي لا يحتاج معه إلى مطالبتهم بعد ذلك بدفع شيء عند وقوع المكروه، لكن التزامهم القانوني يبقى مستمرًا، وفي حالات معينة قد يصل الأمر إلى إعفائه من هذا الالتزام، وتلك هي الحالات التي ينمو هذا المبلغ إلى الحد الذي يمكن أن يكون مساويًا لرأسمال شركة تأمين تجارية؛ عندئذٍ تصدر بوالص تأمين لا تتضمن شرط إعادة التقويم، أي طلب مبلغ إضافي من كل مشترك.
وتنشيط مثل هذا البرنامج للتأمين في الولايات المتحدة في أصناف التأمين المختلفة بما فيها السيارات والحريق، وبخاصة بين ملاك المنازل في الأحياء التي تنشأ عن مشروع عقاري واحد، لا سيما أن المنازل في تلك البلاد مصنوعة من الخشب وتتعرض للحريق كثيرًا، ويمكن للمشاركين في مثل هذا البرنامج الانسحاب في أي وقت لا تكون ترتبت عليهم فيه التزامات.
(11-3) الفرق الأساس بين مؤسسة التأمين التعاوني، وشركة التأمين الربحية:
إن الفرق الأساسي بين مؤسسة التأمين التعاوني، وشركة التأمين الربحية ليس في طريقة تنظيم الشركة ولكنه في صفة العقد مع المستأمنين، فالمستأمنين في النوع الأول من المؤسسات يملكون مؤسسة التأمين، إذ إن بوليصة التأمين هي أيضًا سهم في الشركة، ولهم ما لملاك الشركات من حيث استحقاق الربح والتمثيل في مجلس الإدارة ونصيب من أموال الشركة عند التصفية، وإدارة الشركة تعمل بأجر هو عبارة عن رواتب الموظفين ونفقات الإدارة.
أما المستأمنين في شركة التأمين الربحي فليس لهم مثل ذلك، إذ إن الشركة يملكها حملة أسهمها، وبما أن العلاقة التعاقدية بين المستأمنين وشركة التأمين التعاوني هي علاقة مالك مع الشركة التي يملكها، فإن علاقة المستأمنين في النوع الثاني هي علاقة بائع ومشتر، وقد اشتهرت شركات التأمين التعاوني بأنها تدفع ريعًا إلى حملة البوالص في كل عام، وهذا أمر تفعله أيضًا بعض الشركات التي تصنف ضمن المؤسسات الربحية.
(11-4) التأمين الربحي:
تتضمن صيغة التأمين الربحي نوعين من المؤسسات:
أ- شركة التأمين التجاري: وتشبه شركات التأمين التجارية الشركات الأخرى التي يكون غرضها الربح؛ إذ يكون لها رأس مال، ويكون لها أسهم قد تتداول في الأسواق، ويكون هدفها الأساسي هو توليد الأرباح لأصحاب الشركة الذين يدفعون رأسمالها ويمتلكون الأسهم، ولذلك يسمى هذا النوع من شركات التأمين أحيانًا:(الشركات ذات الملاك) ، وهي ذات مسؤولية محدودة، ولذلك فإن الحد الأعلى لمسؤولية حامل السهم هو قيمة ما دفعه لشرائه، والمؤمن هو الشركة وليس حامل السهم، ولا يمكن لحامل السهم الانسحاب من الشركة ولكن يمكن له بيع أسهمه في السوق، والمستأمن يشتري بوليصة التأمين فيحصل على الالتزام بالتعويض بصرف النظر عن الوضع المالي للشركة، إذ يكون ما يستحق من تعويض دينًا ممتازًا على تلك الشركة، وليس له أن يشارك في الربح.
ب- شركة التأمين التعاوني الربحي: صيغة شركة التأمين التعاوني الربحي ليست ذات بال في الدول الغربية، وإنما انتشرت في البلاد الإسلامية، وجاءت تطبيقًا غير سليم للفتوى بإجازة التأمين التعاوني، وتشبه شركة التأمين التعاوني الربحي شركة التأمين التجارية في أن لها حملة أسهم، وأنها تستهدف الربح وتسعى إلى توزيع العوائد عليهم، وتعمل بصفة مماثلة لشركة التأمين التجاري، ومع أن ما يدفعه المستأمن يسمى تبرعًا إلا أن الشركة ملتزمة بالتعويض، حتى لو جاءت تبرعات المستأمنين دون مقدار التعويضات، إذ يقوم ملاك الشركة بإقراض الوعاء (حتى يتمكن من التعويض) قرضًا ليسترده منه فيما بعد برفع الرسوم، والاختلاف بينهما يمكن تقسيمه إلى قسمين: مؤثر من الناحية الشرعية، وقسم غير مؤثر:
فأما القسم الغير مؤثر فهو:
أ- ما درجت عليه تلك الشركات من رد جزء من الفائض في الوعاء التأميني إلى المستأمنين، ذلك أن الشركة تنظر في وعاء رسوم التأمين في نهاية كل عام مالي؛ فإن وجدت في الوعاء مبلغًا فائضًا بعد دفع النفقات الإدارية ودفع المستحقات لتعويض المشتركين الذين وقع عليهم المكروه في تلك السنة قامت برد جزء من ذلك المبلغ للمستأمنين، ويرى بعض الباحثين أن هذا الفائض يتحقق بسبب أن هذه الشركات تأخذ رسومًا من المستأمنين يزيد حجمها عن المبلغ المطلوب ابتداءً، أي أعلى مما تقتضيه الحسابات الأكتوارية مما يحقق هذا الفائض بالضرورة، ويرى البعض أن مسألة الرد هذه هي العنصر المؤثر في الفرق بين ما جاز من التأمين وما حرم، وليس مثل هذا الرأي بشيء.
ب- إن ما يدفعه المستأمن يسمى تبرعًا، وليس رسم اشتراك أو ثمن بوليصة كما هو الحال في التأمين التجاري، ويرى البعض أن هذا يغير طبيعة العلاقة بين الشركة والمستأمنين من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، ومعلوم أن الغرر الكثير مفسد لعقود المعاوضات، وليس مفسدًا لعقود التبرعات، لذلك قالوا بجواز هذه الصيغة للتأمين هي وجود الغرر فيها، والقاعدة أن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وليس في هذا العقد حقيقة التبرع ولا معناه، والدليل على ذلك أن استحقاق التعويض يجري حسابه على أساس القسط المدفوع وليس على أساس الحاجة أو الضرر، وأن قبول اشتراك المستأمنين وتقدير أقساط التأمين مبني على مقدار الخطر وليس الرغبة في التكافل، فإذا كان عمر الرجل كبيرًا لم يقبل في التأمين الصحي التعاوني إلا (بتبرع) يمثل أضعاف ما يطلب من الصغير في السن، والسبب أن الأول أكثر حاجة إلى الرعاية الصحية.
جـ- إن المستأمنين لا نصيب لهم في الأرباح المتولدة من استثمار المال في الوعاء، وهو المصدر الرئيس للدخل في شركات التأمين، وليسوا ملاكًا للشركة، وهما أمران لا يكون التأمين تعاونيًا غرضه التكافل إلا بهما.
أما القسم الثاني فهو فروق مؤثرة وإن لم تكن من لوازم التأمين التعاوني، وإنما درجت على مثلها هذه الشركات وهي:
أ- الاقتصار في تثمير الأموال في الوعاء على الاستثمارات المباحة من الناحية الشرعية، بخلاف شركات التأمين التجاري التي تستثمر أموالها غالبًا في سندات الدين الربوية.
ب- التزام الشركة بدفع التعويض حتى لو لم يكن الوعاء كافيًا لتغطية المخاطر، وذلك بإقراض الشركة الوعاء قرضًا بغير فائدة ثم استرداده في سنة مالية تالية، أما شركات التأمين التعاوني اللاربحي فإنها ترجع على المستأمنين بزيادة رسوم لأنهم ملاك الشركة.
12-
طريقة حساب الرسوم ومصدر ربح شركة التأمين:
تحسب الرسوم في شركات التأمين أيًا كان نوعها أو طريقة عملها اعتمادًا على الحسابات الأكتوارية التي تبين احتمال وقوع المكروه (الخطر) ومقدار التعويض المتوقع دفعه، وبناء على ذلك تحدد الشركة مقدار ما يدفعه كل مستأمن بحيث إذا اجتمعت هذه الرسوم أصبحت كافية لتعويض من يقع علهم المكروه. وكلما كان عمل الشركة متقنًا وخبرتها طويلة وبمقدار التنافس في أسواق التأمين كلما كان مبلغ الرسوم كافيًا فقط لتغطية التعويضات بلا زيادة، ولذلك فإن زيادة مجموع الأقساط عن مبلغ التعويض لا تحدث صدفة بل هي أمر معتمد، إذ لا سند يمثل ذلك من الناحية العملية أو الرياضية، ومخالف للأسس الفنية التي قام عليها التأمين (1) .
أما ربح شركة التأمين فمصدره عوائد استثمار الأموال التي بيد الشركة قبل استخدامها في دفع التعويض لمن وقع عليه المكروه، فإذا كانت شركة تأمين على الحياة فإن هذه الأموال تكون عظيمة وتبقى بيد الشركة مدة طويلة.
وشركات التأمين التجارية تستثمر أموالها في سندات الدين الربوية وأمثالها من الاستثمارات ذات المخاطر المتدنية، ولذلك فإن من الفروق المهمة بين الشركة التجارية وشركة التأمين الإسلامية هو استثمار هذه الأموال ومصدر ربح الشركة.
(1) سناء محمد هلال، رسالة ماجستير حول التأمين.
13-
آراء الفقهاء في التأمين:
اتصل التأمين بالفقهاء المسلمين للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، ولعل أول فقيه تحدث عن التأمين بصيغته المعهودة اليوم هو العلامة محمد أمين بن عابدين المولود سنة 1784م.
وقد عرف المسلمون عقد التأمين عندئذٍ من البحارة الأوربيين، إذ كانت سفنهم يغطيها التأمين البحري الذي يسمى في ذلك الزمن سكيوريتيه (بالفرنسية) واشتهر عند المسلمين باسم (سوكره)، فقال فيه ابن عابدين:(إذا عقد في بلد إسلامي كان عقد معاوضة فاسد لا يلزم الضمان به، لأنه التزام ما لا يلزم شرعًا، وهو باطل عند الأحناف) .
وقد اختلف الفقهاء منذ ابن عابدين في حكم التأمين؛ فمنهم من أجازه بلا تحفظ وهم قلة قليلة، ومنهم من أجاز أنواعًا منه حتى لو كان على صفة التأمين التجاري، إلا أن جمهورهم منذ ابن عابدين قد منع التأمين التجاري وأجاز ما يسمى التأمين التعاوني على اختلاف في صيغة الأخير يأتي تفصيلها لاحقًا.
ولعل أول جهد فقهي جماعي يعنى بدراسة التأمين التجاري (على أساس مجمعي) ما وقع في ندوة أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق في شوال 1380 هـ (إبريل 1961م) ؛ فقد قُدمت أبحاث فقهية في التأمين تباينت آراء أصحابها، وشهدت تلك الندوة الخلاف الشهير بين مصطفى الزرقا ومحمد أبو زهرة رحمهما الله جميعًا حول المسألة، ولم ينته المؤتمر إلى رأي محدد عدا الدعوة إلى ابتكار نظام إسلامي للتأمين، ثم جرى بحث الموضوع في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ (1965م) ، وأجاز المؤتمرون فيه نظام التقاعد، كما أجازوا قيام الجمعيات التعاونية لغرض التأمين حيث يشترك جميع المستأمنين فيها بالتأمين، ولكنه توقف في مسألة التأمين التجاري.
وفي عام 1392هـ (1972م) دعت ندوة التشريع الإسلامي التي انعقدت بطرابلس ليبيا إلى أن يعمل على إحلال ما أسمته التأمين التعاوني محل التأمين التجاري، وفي عام 1397هـ (1976م) قرر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة حرمة التأمين بكل أنواعه.
ثم نص قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى في سنة 1398هـ على تحريم التأمين بجميع أنواعه (وكان القرار بالأكثرية، إذ لم يوافق الشيخ مصطفى الزرقا على هذا القرار وكان عضوًا في المجمع) .
(13-1) اعتراضات الفقهاء المعاصرين على التأمين التجاري:
كان قرار مجمع الفقه الإسلامي (رابطة العالم الإسلامي) الصادر سنة 1398هـ قرارًا طويلًا مفصلًا تضمن تقرير لجنة كوَّنها المجمع وعمد إليها بصياغة القرار، وتكونت من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد السبيل، والشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله.
وقد استندت الهيئة (ثم المجمع الفقهي) في قولها بحرمة التأمين إلى ستة (أدلة) هي:
أ- أن فيه غررًا فاحشًا؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ.
ب- وأنه ضرب من ضروب المقامرة، لأن فيه غرمًا بلا جناية وغنمًا بلا مقابل، أو بمقابل غير مكافئ.
ج- وأنه يشتمل على ربا الفضل والنساء، فإذا دفعت الشركة إلى المستأمن أكثر مما دفع لها فهو ربا فضل، ولأنه يدفع بعد مدة فيكون ربا نساء أيضًا.
د- وأنه من الرهان المحرم؛ لأن فيه جهالة وغررًا ومقامرة، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة: في خف أو حافر أو نصل.
هـ- وأن فيه أخذ مال الغير بلا مقابل وهو محرم.
و ويتضمن الإلزام بما لا يلزم شرعًا، لأن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه.
كما ردت على أدلة المجيزين للتأمين، فردت استدلال إباحته بالاستصلاح بالقول: إن هذه مصلحة شهد الشرع بإلغائها، وردت القول بالإباحة الأصلية لوجود النص، وردت القول بالضرورة إذ لم تر تلك ضرورة تبيح المحظور، وكذا الاستدلال بالعرف لأن العرف ليس من أدلة التشريع، ونفت أن يكون التأمين من أنواع عقود المضاربة، وردت القياس على ولاء الموالاة، لأن ذلك قصده التآخي وهذا غرضه الربح، وكذا قياسه على الوعد الملزم لأن غرضه ليس المعروف والقربة بل الربح، وقياسه على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب، لأن الضمان نوع من التبرع بينما التأمين معاوضة، وكذا قياس التأمين على ضمان خطر الطريق فإنه كما ذكرت قياس مع الفارق، كما لم تقبل قياس التأمين على نظام التقاعد، لأن التقاعد (حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤولًا عن رعيته، وراعى فيه ما قام به الموظف من خدمة الأمة) فليس هو من المعاوضات المالية، كما ردت القياس على نظام العاقلة لأن تحمل دية القتل الخطأ وشبه العمد الأصل فيها صلة القرابة والرحم التي تدعو إلى النصرة والتواصل، أما عقود التأمين التجارية فليست كذلك، وردت قياسها على عقود الحراسة لأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وكذا قياسه على الإيداع لأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بالحفظ.
(13-2) صيغة التأمين المفتى بجوازها:
ذكرنا سابقًا أن الفتاوى المجمعية قد اتجهت إلى القول بحرمة التأمين التجاري، وقد قدمت ما أسمته صيغة بديلة مقبولة من الناحية الشرعية سميت التأمين التعاوني، فما هي صفة هذا التأمين وما اختلافه عن التأمين التجاري؟
ورد في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه:
(التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر، والثاني خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية) .
وقد فصل في بيان هذه الصيغة أحد الباحثين فقال: (التأمين التعاوني ويسمى التأمين بالاكتتاب، وهو أن يجتمع عدة أشخاص معرضين لأخطار متشابهة، ويدفع كل منهم اشتركًا معينًا، وتخصص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه ضرر، وإذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض كان للأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، أو انقضت التعويضات المستحقة بنسبة العجز، وتدار بواسطة أعضائها فكل واحد منهم يكون مؤمنًا ومؤمنًا له)(1) .
يتضح مما سبق أن التأمين الذي تشير إليه الفتوى يتصف بما يلي:
أ- أنه اتفاق بين مجموعة المستأمنين وليس شركة مسجلة ذات ملاك وحملة أسهم.
ب- التزام كل فرد من المستأمنين فيه نحو الآخرين هو بمقدار نصيبه من الخطر العام الذي يتعرض له مجموع المشاركين، لأن هذا هو معنى التعاون والتكافل، ولذلك كان ما يدفعه من قسط محل المراجعة بالزيادة أو النقص.
جـ- إن الفتوى لا تمنع استثمار أقساط التأمين لمصلحة أصحابها، ولكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن نطاق المباح.
وصيغة التأمين الذي أشارت إليها فتوى هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية قابلة للتطبيق، بل هي موجودة ومعروفة، وقد أشرنا إليها آنفًا عند الحديث عن صيغ شركات التأمين، وتسمى هذه الصيغة (التأمين التبادلي) ، أما ما انتشر العمل به فيما سمي التأمين التعاوني فهي مختلفة، وسواء كانت جائزة أم ممنوعة فهي ليست تطبيقًا للفتاوى المذكورة.
(1) هو الدكتور عمر المترك في كتابه: (الربا والمعاملات المصرفية) ، ص405.
14-
التأمين الصحي:
إن المبادئ الأساسية للتأمين الصحي هي نفس المبادئ الأساسية لكل أنواع التأمين، فهي عملية يتم فيها تجميع المخاطر المتشابهة التي يتعرض لها عدد كبير من الأفراد، ثم إعمال قانون الأعداد الكبيرة لتقدير عدد من يتوقع أن يقع عليهم المكروه منهم، ثم حساب الرسوم عليهم جميعًا بحيث تكون كافية لتعويض تلك الفئة.
إلا أن للتأمين الصحي خصوصياته من حيث نوع المكروه الذي يغطيه التأمين، ومن حيث صيغة العقد وطريقة دفع التعويض.
(14-1) صيغ عقد التأمين الصحي:
يعد التأمين الصحي من أكثر أنواع التأمين تعقيدًا، لكثرة ما فيه من أصناف الخدمات وصيغ المعاقدات، ولعل مرجع ذلك إلى أنه يتعلق بحدوث مكروه لا يمكن التحقق من حدوثه إلا بصعوبة كبيرة، فالتأمين على الحياة إنما عد أبسط أنواع التأمين، لأن المكروه الذي إذا وقع استحق المستفيد التعويض هو الموت، ولا غرو أن الإنسان لا يكون إلا حيًا أو ميتًا وليس بينهما منطقة متوسطة، أما الصحة فهي أمر مختلف، فقد يشكو الإنسان من الآلام وخمول النشاط وقد ينتابه شعور بالاعتلال وإحساس بالألم في بعض أعضاء جسمه يحتاج معه إلى رعاية صحية، مع أن الأطباء لا يجدون فيه علة، فهل يستحق التعويض المنصوص في وثيقة التأمين لشعوره بالمرض، أم لا يستحقه لحكم الأطباء عليه بانعدام المرض؟ ولذلك جاءت صيغ التعاقد في التأمين الصحي كثيرة متنوعة يصعب الإحاطة بكل تفاصيلها في مثل هذا البحث، ولكنها تنقسم بصفة أساسية إلى نوعين يستقلان أحيانًا ويجتمعان أحيانًا أخرى.
الأول: عقد رعاية صحية وفيه، يدفع المشترك مبلغًا من المال مقابل أن يحصل خلال مدة العقد –وهي سنة- على الرعاية الصحية المتمثلة في الكشف على صحته لدى مستشفيات محددة وإجراء التحاليل الطبية ووصف الدواء والإقامة في المستشفى وإجراء العمليات الجراحية عند الحاجة أو العلاج الطبيعي، وربما تضمن صرف الدواء والمستلزمات الطبية أيضًا.
ولأن غرض هذا العقد هو الرعاية الصحية وليس العلاج من الأمراض فقط، تجده يشمل الرعاية الصحية للحمل والولادة للنساء ورعاية المواليد، وقد يشمل الطب النفسي.
وتختلف درجاته فقد يكون شاملًا لكل ما ذكر وقد يستثنى منه الدواء أو التطعيمات الوقائية أو الأسنان أو النظارات الطبية أو جراحة التجميل وما إلى ذلك، ويكون له في الغالب حدود قصوى من ناحية المبلغ تزيد وتقل بحسب نوعية التغطية؛ فيقال: بطاقة ذهبية وأخرى فضية. . . وهكذا، وقد يكون للتغطية سقف واحد فيقال: بحيث لا يزيد ما تتحمله شركة التأمين في كل شيء عن مليون ريال، وربما كان لكل نوع من الخدمة سقف مستقل يمثل الحد الأعلى لتلك الخدمة، فيقال: لا يزيد ما يصرف للدواء عن مبلغ كذا، والعمليات الجراحية عن مبلغ كذا. . . إلخ، وكل ذلك مؤثر في تحديد الرسوم.
ويقدم هذا النوع من التأمين شركات التأمين كما تقدمه أيضًا المستشفيات والعيادات الطبية مجتمعة أو مستقلة، فنقوم بتوقيع العقود مع الشركات لتقديم الرعاية الصحية للعاملين فيها ونحو ذلك.
والثاني: وهو نوع آخر من التأمين الصحي، ولكنه يندرج تحت صيغ التأمين على الحياة، للشبه الكبير بينهما إذ إن التعويض فيه مرتبط بواقعة حدوث المرض وليس مرتبطًا مباشرة بالعلاج والبرء من ذلك المرض، ولذلك كان تحديد وتعريف الأمراض مهمًا في هذا النوع من العقود.
يستحق المستأمن التعويض في هذا النوع من التأمين بمجرد حدوث المكروه، ويكون التعويض في العادة مبلغًا محددًا من النقود، فهو في الواقع ليس متصلًا بصفة مباشرة بالعلاج، وإنما يقوم على دفع مبلغ المال المتفق عليه للمستأمن إذا أصيب بمرض ليقوم هو باستخدامه للعلاج إن شاء (وربما اشترط في بعض العقود دفعه لجهة العلاج) ، وقد يقتصر التأمين على مرض معين، مثل التأمين ضد الإصابة بمرض الإيدز أو السرطان، وقد يتضمن مجموعة من الأمراض المزمنة أو عسيرة العلاج أو المقعدة عن الكسب والعمل، ولا يتضمن الأمراض الخفيفة أو التي يكون علاجها يسيرًا، ويكون التعويض مبلغًا محددًا كما أسلفنا، وربما كان راتبًا يوميًا يدفع إليه أثناء إقامته في المستشفى أو مدة عجزه عن ممارسة العمل، وقد يتضمن راتبًا دائمًا في حالة العجز الدائم، وليس هذا الصنف من التأمين الصحي هو موضوع ورقتنا هذه، وليس هذا هو المقصود عندما يتحدث الناس عن التأمين الصحي والبطاقة الصحية في هذه المنطقة من العالم، ولذلك لن نلقي له بالًا في هذا البحث.
15-
المعاقدة على العلاج الطبي وموقع التأمين الصحي منها:
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن غرض الإنسان من المعاقدة مع الطبيب هو البرء مما يشكو منه من مرض ولا يتصور له غرض غير ذلك ولو كان الأمر بيد المريض لما تعاقد مع الطبيب إلا على البرء، لكن المرض والبرء منه شيء يصعب جعله محلًا لعقد معاوضة، لصعوبة التحقق من وجوده أو الشفاء منه. ولذلك لا يقبل الأطباء أن يكون العوض في عقد العلاج شيئًا لا يمكن التأكد من وجوده أو وقوعه، إذ الأمر فيه راجع إلى المريض.
فالمشكلة الأساسية في هذا النوع من المعاقدة هي أن المعلومات الدقيقة عن محل العقد متاحة لطرف واحد فقط هو المريض، فلو جاء المريض يشكو من ألم الظهر فعالجه الطبيب، فإن الأخير لا يعرف إن كان المريض برء مما يجد إلا أن يخبره بذلك، فإذا ربط استحقاق العوض بالبرء لم يكن الطبيب متأكدًا من حصوله على الأجر إلا أن يكون المريض أمينًا صدوقًا، إذ بإمكانه الادعاء أن الآلام لا زالت موجودة، ولذلك يتفق الناس في عقد العلاج الطبي على أن يكون المحل شيئًا يمكن التأكد من وقوعه من قبل الطرفين، مثل أن يكون محله التشخيص ووصف الدواء المناسب، أو إجراء عملية جراحية ونحو ذلك، مع بقاء الغرض النهائي للمريض هو البرء من المرض.
لا ريب أن عقد العلاج الطبي من أكثر عقود المعاوضات غموضًا وصعوبة، وليس أدل على ذلك من أن القانون الفرنسي حتى عهد قريب لم يكن يعتبر ما يقع بين المريض والطبيب عقدًا لصعوبة تطويع العلاقة بينهما في عقد مسمى، وأن المطلوب من الطبيب هو (تحقيق نتيجة) وليس (بذل عناية) فقط (1) .
لقد تعامل الناس في القديم، ولا زالوا يتعاملون حتى يوما لناس هذا بأنواع من عقود العلاج، وسوف نقوم أدناه بعرض سريع لأهمها لنرى فيما بعد موقع عقد التأمين الصحي من تلك العقود:
(1) انظر في ذلك: التأمين الإجباري، ص 90.
أ- عقد العلاج الطبي عقد بيع:
كان عمل الطبيب قديمًا تركيب الأدوية ووصفها للمرضى الذين يشترونها منه، فإذا جاء المريض وشخصه الطبيب باعه ما يصلح حاله من أدوية يركبها بنفسه له، فهذا في حقيقته عقد بيع المثمن فيه الدواء وما يدفع المريض من ثمن هو لذلك الدواء، والتشخيص تابع لذلك ليس له ثمن مستقبل، ومثل هذا العقد موجود في معاملات الناس في يومنا هذا فيما يفعله بعض الصيادلة من وصف الدواء وبيعه على المريض بعد أن يبين الأخير له ما يشكو منه، ولا يثير مثل هذا النوع من المعاقدة إشكالًا إذ أنه مستوفٍ لشرائط الصحة في البيوع، لكنه لا ينهض بحاجات الناس إلى العلاج من المرض.
ب- عقد العلاج الطبي عقد إجارة:
وكان مما يقوم بها الأطباء في الزمان القديم خدمات ينتفع بها المريض، مثل الحجامة أو كحل العين أو الكي ونحو ذلك، وقد خرجوه في هذه الحالة على الإجارة وجعلوا الطبيب أجيرًا يستحق من الأجر بقدر ما يتراضى عليه مع المستأجر وهو المريض، ويمكن أن يكون عقدًا لمرة واحدة أو عقدًا متجددًا، كأن يأتي كل يوم ليكحل عين المريض فإذا برأ أخذ بمقدار ما كحل المريض، وربما كان لمدة محددة كشهر أو نحوه.
قال ابن قدامة في المغنى: (ويجوز أن يستأجر كحالًا يكحل عينه، لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه، ويحتاج أن يقدر ذلك بالمدة، لأن العمل غير مضبوط فيقدر به، ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين)(1) .
وجاء في المدونة: (قال ابن القاسم: وأنا أرى أنْ أشترط أن يكحله كل يوم أو كل شهر فإن ذلك جائز إذا لم ينقده فبرأ قبل ذلك، كان للطبيب من الأجر بحساب ذلك، (قال) إلا أن يكون صحيح العين واشترط عليه أن يكحله كل شهر بدرهم يكحله كل يوم فهذا لا بأس به، لأن هذا قد لزم كل واحد منهما ما اشترط، فالإجارة فيه جائزة) .
وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: (ولو شرط لطبيب ماهر أجرة وأعطى ثمن الأدوية فعالجه بها فلم يبرأ استحق المسمى إن صحت الإجارة. . . وليس للعليل الرجوع بشيء، لأن المستأجر عليه المعالجة دون الشفاء بل إنْ شرطه بطلت الإجارة، لأنه بيد الله تعالى، ثم إن جاعله عليه صح ولم يستحق المسمى إلا بعد ظهوره) .
فعقد العلاج الطبي عندما يكون إجارة فمحله هذه الخدمة التي يقدمها الطبيب له، وإن كان معها أدوية كانت الأدوية في عقد بيع مستقل.
(1) 6/137.
جـ- عقد العلاج الطبي عقد جعالة:
أما إذا لم يكن ثم شراء أدوية (بيع) ولم يكن محل العقد خدمة (إجارة) محددة (كالحجامة) ، فإن التعاقد مع الطبيب يمكن أن يكون على البرء فيكون عندئذٍ جعالة.
قال في المعونة للقاضي عبد الوهاب (1) : (وصفة الجعل أن تكون الأجرة مقدرة والعمل غير مقدر، فمتى قدر العمل لم يكن جعلًا وصار إجارة) . ومسألتنا هذه الأجرة فيها معلومة، ولكن العمل غير معروف لأنه مرتبط بالبرء.
وقد اختلف الفقهاء في الاستطباب يكون عقد جعالة فأجازه عدد منهم.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل (2) :
(وقد أجاز لنا مالك علاج الطبيب إذا شارطه على شيء معلوم، فإن صح أعطاه ما سمى له، وإن لم يصح من علاجه لم يكن له شيء) .
وقال في المدونة (3) :
(قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برئ فله حقه وإلا فلا شيء له) .
وقال القاضي عبد الوهاب في المعونة (4) :
(يجوز مشارطة المعلم على تعليم الصبي القرآن على الحذاق ومشارطة الطبيب على برء العليل، لأن الضرورة تدعو إلى ذلك فجوز لأجلها إذا كان مقامه في التعليم غير معلوم وبرء العليل غير معروف المدة) . وقال في مكان آخر (5) :
(فأما مشارطة الطبيب على برء العليل والمعلم على تعليم القرآن فتردد بين الجعل والإجارة) .
وقال في الرسالة لابن أبي زيد القيرواني (6) :
(ولا بأس بتعليم المعلم القرآن على الحذاق ومشارطة الطبيب على البرء) .
وقال في موضع آخر (7) :
(والاستئجار للطبيب إنما هو على البرء إلا أن يكون رجلًا لا علة به، فيستأجره على كحل وضمد أو دواء مذكور فيجوز ذلك) . فإذا علم نوع الخدمة ومقدارها كان إجارة مثل الكحل والضمد وإلا فهو جعالة يعاقده على البرء.
وذكر في حاشية الصاوي على الشرح الصغير هذه المسألة، وعدها من الإجارة فقال:(الأحوال التي تستحق فيها الأجرة بتمام العمل (كمشارطة طبيب على البرء) فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره، فله بحساب كرائه الأول، فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب ما عمل) .
وقال في الفواكه الدواني: (بقوله: (مشارطة الطبيب على البرء جائزة) والمعنى: أنه يجوز معاقدة الطبيب على البرء بأجرة معلومة للمتعاقدين، فإذا برئ المريض أخذهما الطبيب وإلا لم يأخذ شيئًا. واتفقا على أن جميع الدواء من عند العليل لأنه يجوز كونه من عند الطبيب على أنه إن برئ العليل يدفع الأجرة وثمن الدواء، وإن لم يبرأ يدفع قيمة الدواء فقط، وإنما لم تجز تلك الصورة لأدائها إلى اجتماع جُعل وبيع وهو لا يجوز) .
(1) ص 1114.
(2)
8/472.
(3)
9/422.
(4)
ص 1116.
(5)
ص 405.
(6)
ص 219.
(7)
ص 146.
وقال ابن قدامة في المغني (1) :
(. . فأما إن قدرها بالبرء (أي مشارطة الطبيب) قال القاضي: لا يجوز، لأنه غير معلوم، وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز، لكن يكون جعالة لا إجارة، فإن الإجارة لا بد فيها من مدة أو عمل معلوم، فأما الجعالة فتجوز على مجهول) .
فإذا كان عقد العلاج الطبي عقد جعالة فإن ذلك يعني أن الجهد الذي يبذله الطبيب غير معلوم بدقة، فهو ربما عالجه مدة طويلة وربما برئ من مرضه بجهد قليل، والجعل فيها لا يتغير بمقدار العمل، بل هو مرتبط بالنتيجة وهي البرء.
نخلص من ذلك إلى أن العلاج الطبي في القديم كان يتم على أساس عقد بيع أو الإجارة أو الجعالة بحسب الحال وطبيعة العلاقة بين المريض والطبيب تحتمل الصيغ الثلاث مستقلة أو مجتمعة وما ذلك إلا لخصوصية العلاج عن سائر الخدمات الأخرى لكون غرض المريض دائمًا هو البرء من المرض، وصعوبة أن يكون ذلك محلًا لعقد معاوضة.
(1) 6/137.
(15- 1) عقود العلاج الطبي المعاصرة:
مما تميزت به عقود العلاج الطبي في القديم أنها كانت تنشئ علاقة مباشرة بين الطبيب والمريض؛ فبيع الأدوية واستئجار الطبيب ومجاعلته كل ذلك ينشئ عقدًا طرفاه مريض وطبيب، لكن الأمر مختلف في يوم الناس هذا.
يمكن القول: إن عقد العلاج الطبي في أيامنا هذه على ضربين:
الأول: عقد إجارة بين المريض والطبي، ومحله التشخيص الطبي، فيأتي المريض إلى طبيبه ويدفع مبلغًا محددًا معلومًا (رسم الكشفية) مقابل أن يفحص هذا الطبيب بدنه أو يستمع إلى أسئلته وشكواه، ثم يصف له علاجًا على صفة حميه أو تناول أدوية أو نحو ذلك، ويستحق الطبيب أجرته بمجرد قيامه بذلك، وليس الأجر مرتبط بالشفاء أو تحسن صحة المريض، إلا أن هذا النوع من المعاقدة قليلًا ما يكون أساس العلاقة بين المريض والطبيب وبخاصة في العمليات الجراحية وما في حكمها، إذ إن أكثر عمل الناس هو العلاج في المشافي وهي الضرب الثاني.
الثاني: وتكون العلاقة التعاقدية في العلاج والرعاية الصحية بين المريض وشخصية اعتبارية هي المستشفى الذي يعمل فيه أطباء وممرضون وأخصائيو مختبر وما إلى ذلك، فالطبيب الذي يباشر علاج المريض أجير للمستشفى وليس للمريض، وهو يحصل على أجرته المقررة مقابل ما يقوم به من علاج للمرضى، لكن خدمته مقدمة للمستشفى وليس للمريض مباشرة.
يمكن أن نتصور أن عقد العلاج في المستشفى إنما محله خدمة طبية ذات مستوى من الجودة مقرر من قبل المستشفى، ويزيد ما يدفعه المريض إلى المستشفى بمقدار ما يحصل عليه المريض من الخدمات. جلي أن المستشفى يشتري خدمات العلاج من أطبائه على صفة عقد إجارة محدد فيه عملهم بشكل دقيق يحكمه دوامهم اليومي في العيادات وما إلى ذلك، ثم يبيع المستشفى تلك الخدمات إلى المرضى مضيفًا إليها أشياء أخرى، مثل الغرفة التي يرقد فيها المرضى ورعاية الممرضات له والطعام المقدم له وآلات التصوير الشعاعي والتحليل. . . إلخ.
وتلك هي أكثر عقود العلاج في يوم الناس هذا. والواقع أن صيغة العقد بين المريض والمستشفى يصعب تصنيفها ضمن العقود المسماة، حقيقة الأمر أن المريض عندما يراجع المستشفى فإنه يدخل في معاقدة مقصود منها البرء مما يشكو منه، وسواء كانت إجارة أو بيعًا أو جعالة لا يكون واضحًا عند الدخول في هذا العقد مقدار الجهد المقدم من المستشفى ومقدار الثمن الذي سينتهي إلى دفعه إليه، ولأن الإنسان يدخل إلى المستشفى أو يراجعه ولا يعرف ما ينتهي به الأمر، لأن الأطباء هم الذين يحددون ما يحتاج إليه ويقرون كمية الخدمة التي سينتهي إلى دفع ثمنها.
(15 – 2) عقد التأمين الصحي:
عقد التأمين الصحي الذي يكون محله الرعاية الصحية مختلف عن كافة أنواع التأمين، ذلك أن عقود التأمين على الحياة وتلك الخاصة بمخاطر الحريق والحوادث. . . إلخ جميعها مرتبطة بوقوع حادثة معينة، مثل الموت أو الحريق أو حادث الاصطدام في السيارات أو غرق السفن أو سرقة الممتلكات. . . إلخ. أي وقوع أمر محتمل الوقوع لا يعرف إن كان سيقع مدة العقد أو لا يقع، فإن وقع استحق المستأمن مبلغًا من المال، أما إذا لم يقع فلا يستحق المستأمن شيئًا.
أما عقد التأمين الصحي الذي محله الرعاية الصحية فإن التعاقد فيه إنما هو خدمة يحتاج إليها الإنسان ولا يستغني عنها، وهي ليست مرتبطة من حيث الوقوع بأمر مجهول ربما وقع فاستحق التعويض أو لم يقع فلا يستحق شيئًا، وإنما هي متعلقة بأمر لا يكاد ينجو منه إنسان خلال مدة العقد وإن اختلفت حاجة كل واحد عن الآخر، ذلك أن ما يقدم في عقد التأمين الصحي المذكور إلى المستأمن إنما هو خدمات الرعاية الصحية خلال مدته وهي سنة كاملة، إن حاجة المريض إلى قدر من الرعاية الصحية خلال مدة العقد ليس أمرًا احتماليًا بل هو يكاد يكون مؤكد الوقوع، وإنما الاختلاف في مقداره، فالأمر المعتاد أن يحص على خدمات طبية تتعلق بالأمراض العارضة، ولكن ربما حصل له مرض مقعد فاحتاج إلى مزيد علاج.
والغالب أن تقدم خدمات التأمين شركات متخصصة في التأمين، إلا أن المستشفيات تقدمه أحيانًا مستقلة ومجتمعة، وعندما يفعل المستشفى ذلك فإنه يأخذ اشتراكًا سنويًا من الفرد مقابل استعداده لعلاجه طوال العام، أما إذا قامت به شركة تأمين فإن العقد يكون بين المستشفى وتلك الشركة، يمكننا القول إذن: إن عقد التأمين الصحي هو صنف من صنوف عقد العلاج الطبي، لما سبق ذكره من أن محله هو الرعاية الصحية وليس التعويض عن وقوع حادث معين.
(15 – 3) الغرر في عقود العلاج الطبي:
لا تخلو عقود العلاج بأنواعها التي أشرنا إليها آنفًا من الغرر، وربما كان الغرر قليلًا كما في التشخيص الطبي، فإذا كانت حالة المريض واضحة مشهورة لم يحتج الطبيب إلا إلى دقائق قليلة لوصف العلاج، وربما كانت حالته غريبة غير معتادة فاحتاجت وقتًا أطول وتشخيصات إضافية، فإن كانت الأجرة واحدة فجلي أن في مقدار الجهد المبذول من قبل الطبيب جهالة عند انعقاد العقد، وإن كانت الأجرة تزيد في الحالة الثانية، كان انعقاد العقد بين المريض والطبيب على أجرة مجهولة لأنه دخل في العقد على أساس رسم الكشف ثم أضيفت إليه الإضافات، فإن قيل: تلك عقود متعددة وليست عقدًا واحدًا؛ رد على ذلك بأن المنفعة من العقد الأول لا تحصل إلا بوجود العقود الأخرى، فدل على أنهما عقد واحد انعقد على جهالة ثمن.
وربما كان الغرر عظيمًا كما في معاقدة الطبيب على البرء، حيث يكون الثمن معلومًا والبرء مجهولًا، لكن عقود العلاج الطبي بكل صيغها لا تخلو من الغرر، لأن طبيعة العلاج تفرض مثل ذلك.
فإذا نظرنا إلى عقد التأمين الصحي وجدناه يشتمل على الغرر، لأن المستأمن يدفع مبلغًا في أول العام ولا يدري مقدار ما سوف يحصل عليه من رعاية صحية خلال ذلك العام، ولكن الغرر في هذا العقد هو دون ما في صيغة المعاقدة على البرء التي أجازها ثلة من الفقهاء القدامى على أساس الجعالة، لأن ذلك هو مقصود المريض لا مقصود له سواه، ولأن الطبيب أعلم بالأمراض وأدويتها من المريض، ولذلك فإنهما إذا عقدا عقدًا على البرء فإنما يفعلان ذلك لغلبة ظن الطبيب أن المريض سيشفى بعلاجه له.
16-
رأينا في المسألة:
مقصود المريض من الدخول في عقد للعلاج الطبي سواء كان مع طبيب أو كان مع مستشفى أو مع شركة للتأمين الصحي إنما هو البرء من المرض لا مقصود له سواه، إلا أن البرء من المرض أمر يصعب أن يكون محلًا لعقد معاوضة لصعوبة التحقق من حدوثه إلا في القليل من الأحوال، ولا يغير من غرض المريض أن نجعل محل العقد خدمة طبية أو تشخيصًا يقوم به الطبيب، وإن كانت تلك تقلل من الجهالة في العقد، والتأمين الصحي لغرض الرعاية الصحية هو أقرب إلى عقود العلاج الطبي منه إلى أنواع التأمين الأخرى (كالتأمين على الحياة) ، ولذلك نجد المستشفيات تقدمه، كما تجتمع عيادات الأطباء فتفعل الشيء ذاته، ولذلك فإن النظر الصحيح للتأمين الطبي إنما يكون بالمقارنة بينه وبين عقود العلاج الطبي الأخرى. وإن نظرة فاحصة تخبرنا أن الغرر فيه ليس أكثر من الغرر في عقود العلاج الطبي الأخرى. وغاية ما يقال: إنه عقد جعالة على البرء من المرض، وقد أجاز هذه الصيغة جمهرة من الفقهاء، كما أسلفنا.
17– خلاصة واستنتاجات:
1-
إن جذور التأمين إنما هي التكافل والتعاون اللذين هما أساس الاجتماع في حياة الناس.
2-
وفكرة التأمين جمع المخاطر المتشابهة (كاحتمال وقوع الحريق) وتقدير عدد من يتوقع أن يتعرض لهذا المكروه، وبعد معرفة مقدار التعويض المطلوب لإزالة آثار المكروه عن تلك الفئة، جمع أقساط صغيرة من مجموعة كبيرة من الناس يكفي مجموعها للتعويض المطلوب، كل ذلك اعتمادًا على قانون الأعداد الكبيرة.
3-
فإذا قامت به شركة تجارية، فإنها تفصل المشاركين عن بعضهم البعض وتلتزم أمام كل واحد منهم بالتعويض، ومن هذا الباب قال جمهور الفقهاء المعاصرين بحرمة التأمين التجاري، لأنه عقد معاوضة عظم فيه الغرر.
4-
والبديل الذي اقترحته المجامع الفقهية هو التأمين هو التأمين التعاوني، وصيغته اجتماع أولئك الأفراد الذين يتعرضون لمخاطر متشابهة والتزام كل واحد منهم تجاه إخوانه بتحمل جزء من المبلغ اللازم لتعويض من يقع عليه المكروه، فإن دفع قسطًا معجلًا فهو عرضة للمراجعة بطلب الزيادة منه عند الحاجة لها أو برد ما زاد إليه.
5-
وقد قامت المؤسسات التي تسمى شركات التأمين التعاوني على صيغة مختلفة مبناها الاسترباح، وتعمل بطريقة مشابهة للتأمين التجاري، واختلافها الرئيس أن أموالها لا تستثمر في الربا أو المحرمات، وأن عقودها تنص على أن ما يدفعه المستأمن هو تبرع منه لصندوق التكافل.
6-
والتأمين الصحي لا يختلف في نظريته الأساسية عن بقية أنواع التأمين وإن كان له خصوصياته. وقد بينا أن التأمين الذي نعني به في هذه الورقة هو تأمين لغرض الرعاية الصحية وليس دفع مبلغ من المال عند الإصابة بمرض، وفيه يلتزم المؤمن بعلاج المستأمن والكشف عليه وصرف العلاج له وتحمل مصاريف المستشفى ونحو ذلك، وخصوصيته أن حاجة الإنسان له قائمة لا يكاد يستغني عن العلاج أحد فليس تعويضًا مرتبطًا بحادثة معينة.
7-
ثم تطرقنا إلى عقود العلاج بشكل عام، ورأينا أن هذه العقود جميعا لها خصوصية وتختلف عن عقود المعاوضات الأخرى، إذ إن مقصد المريض منها جميعًا هو البرء مما يشكو منه، بينما محل العقد في غالب الأحوال هو الكشف والعلاج ونحوه، وليس للمريض في ذلك غرض إلا بقدر ما يقربه من الشفاء. وأن عقد العلاج الطبي في يوم الناس هذا نادرًا ما يكون علاقة مباشرة بين المريض والطبيب، بل هو عقد بين المريض والمستشفى الذي يتعاقد هو مع الأطباء والممرضين. . . إلخ. وكما أن المستشفى يتعاقد مع أطبائه وممرضيه وأخصائيي المختبرات فيه، فكذلك شركة التأمين الصحي فإنها تتعاقد مع مستشفيات متعددة لعلاج المستأمنين لديها.
8-
وسواء عرف المريض ما يشكو منه ورغب في علاجه أم كان يحتاج إلى كشف وتشخيص، فإن عقد العلاج الطبي بين المريض والمستشفى لا يخلو من الجهالة، إذ هو يقول: عالجوني، فيقومون بما اعتادوا عليه ثم تخرج الفاتورة بالمبلغ المطلوب، ولا يتصور أبدًا أن المريض يأتي وهو يعرف ما يريد، فيقول: اعملوا لي تحليل دم وكشفا بالأشعة. . . إلى آخر ذلك! .
عليه فإن عقد العلاج الطبي مع المستشفى وإن كان محله الكشف والتشخيص ووصف الدواء إلا أن الطبيب هو الذي يقرر حجم كل ذلك وثمنه، يعني أن الغرر موجود فيها.
9-
وعقد التأمين الصحي بناء على ذلك ليس كثير الاختلاف عن عقود العلاج الأخرى، وبخاصة عقد العلاج مع المستشفى، إذ إنها جميعًا تربط بين المريض ومؤسسة علاجية، وإن محله الكشف والعلاج.
المراجع
1-
عبد اللطيف محمود آل محمود، التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية.
2-
حسين مطاوع التركوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 36، رمضان 1418هـ، ص 99 – 135.
3-
محمد عبد الظاهر حسين، التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية والمهنية، دراسة تطبيقية على بعض العقود، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994م.
4-
سناء محمد علي هلال، موقف الشريعة الإسلامية من التأمين، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة.
5-
شوكت عليان، التأمين في الشريعة والقانون، الرياض، دار الرشد 1981م.
6-
التأمين الإجباري، محمد عبد الظاهر حسين، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994م.
7-
Georges Dionne، Foundation of Insurance Economics، Boston، Kluwer Academic Publishers 1992.
8-
David St. Kelly، Micheal L Ball، Principles of Insurance Law، Sydney. Butterworth، 1991.
9-
James Athearn، Risk & Insurance، New York، West Publicity، 1981.
10-
Robert Cautev and Thomes Ulen، Law and ecenemics، Londan، Scot، Favman & Cauqeuy 1988.
11-
Robert I. Mehr، Fundamentals of Insuranca، Irwin، Hcme Wood، IL 1983.