المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

‌التأمين الصحي

واستخدام البطاقات الصحية

إعداد الشيخ محمد علي التسخيري

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بالتأمين الصحي:

ونقصد به (العقد الذي يتم بين شخص أو مؤسسة (مؤمن له أو لها) مع مؤسسة تأمينية، يتعهد فيه الطرف الأول بدفع أقساط محددة لمدة محددة، ويتعهد فيه الطرف الثاني بتأمين قسط معين مما يتطلبه علاج الأمراض التي يصاب الطرف الأول بها خلال المدة (المحددة) .

ومن الطبيعي أن يتم الاتفاق على تفاصيل العقد من: تعيين المؤمن له، وطرفي التعاقد، والمبلغ المدفوع من قبل المؤمن له، ونوع الإصابة، وزمان التأمين (ابتداءً وانتهاءً) وأمثال ذلك من أمور تفصيلية.

والملاحظ أن هذا العقد يختلف عما يسمى بعقد (التأمين ضد المرض) ؛ حيث يتعهد الطرف الثاني (المؤمن) بأن يدفع مبلغًا معينًا لقاء مرضه، بالإضافة إلى رد مصروفات العلاج والأدوية (1) ، فلا يوجد هنا مبلغ لقاء المرض، كما أن المدفوع في عقد التأمين الصحي المتعارف لا يشمل كل المصروفات بل قسطا منها، يصل أحيانا إلى (80 %) ، أو يقل عنه، وربما كان ذلك للاحتياط من التساهل في مثل هذه الموارد.

هذه هي الصورة البسيطة لمثل هذا العقد، وقد راجعت اللوائح ـ وهي كثيرة ـ التي أصدرتها الحكومة الإسلامية الإيرانية حول هذا الموضوع فلم أر فيها ما يخرج عن روح هذا العقد، وإن كانت تحفها شروط إجرائية كثيرة تلزم الدولة أو الموظف أو المؤسسات التي تزاولها أن تقع طرفًا للتعاقد بشروط لم أر فيها ما يخالف الضوابط الشرعية (2) . إجمالاً.

(1)(الوسيط للسنهوري: 7/ 1378)

(2)

(يراجع مثلاً: نظام البند (5) من المادة (13) من قانون تأمين الخدمات الصحية العامة للبلاد)

ص: 1344

ثم إن الطرف الأول (المؤمن له) قد يكون شخصًا يدخل في العقد بصفته الشخصية، وقد يكون مؤسسة تؤمن موظيفه، وقد تكون شركة تأمين تتعاقد مع مؤسسة أخرى نيابة عن أشخاص أو مؤسسات.

كما أن الطرف (المؤمن) قد يكون فردًا يملك مؤسسة صحية أو لا يملكها، وقد يكون مؤسسة صحية، وقد يكون شركة تأمين تجارية، كما قد يكون مؤسسة حكومية. وهناك شقوق كثيرة متصورة، والمهم هو التركيز على حل التساؤل المطروح في الدورة العاشرة لمجمع الفقه الإسلامي، وأهم ما فيه مبحثان:

المبحث الأول: حكم التأمين الصحي ـ والبطاقات الصحية ـ وتفريعاته.

المبحث الثاني: حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.

هذا وسوف لن ندخل أيضًا في تحليل البطاقات الصحية التي قد تختلف من بدل لآخر ومن مؤسسة لأخرى، مشيرين إلى أن المهم هو علاج أصل (التأمين الصحي) . أما الشروط الأخرى فيجب أن تدرس على حدة، فقد تكون شروطًا ربوية بترتيب مبالغ إضافية تدفع عن تأخر الأقساط، وأمثال ذلك، فهي أمور لها مواردها من البحث، ولا تؤثر في بحثنا الرئيس. كما نعتقد أن الصور الأخرى غير المباشرة لا تؤثر كثيرًا على النتيجة.

ص: 1345

المبحث الأول

حكم التأمين الصحي

والمشكلة الأساسية فيه هي مشكلة الغرر، حيث يتم تصويرها على النحو التالي:

إننا على أفضل الحالات نحدد كل الظروف والإصابات والأقساط، ونشخص كل الظروف الصحية، ولكننا على أي حال نواجه بعامل مجهول هو كمية المبلغ الذي يجب أن يدفعه المؤمن، أو قيمة العمل الذي يجب أن يعمله خلال مدة التأمين، فهذا أمر يستحيل أو يصعب تحديده، وحينئذ يدخل عنصر الجهالة في العقد، فيكون العقد غرريًا تشمله النصوص الناهية عن بيع الغرر، والأصل فيها النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:((نهى عن بيع الغرر)) (1) .

وعن أثره في كل عقود المعاوضات المالية اختلفت المذاهب، فمن آمن بمبدأ (القياس) عممه عليها، ومن رفض القياس كالإمامية والظاهرية (أتباع ابن حزم) اختلفوا في التطبيقات.

(1)(هذا النص روته الصحاح من كتب أهل السنة، كصحيح مسلم، وسنن ابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، ولم يروه صحيح البخاري، وإن أشار إليه في بعض الأبواب، أما كتب الإمامية فقد جاء في بعضها، كعيون أخبار الرضا؛ ومستدرك الوسائل ودعائم الإسلام، ولكن أسانيده لوحدها غير معتبرة، ومع ذلك يقال عنه: إن اشتهاره يجبر إرساله (المكاسب: 5 / 185) ؛ (البيع للإمام الخميني: 3 / 204) فلا إشكال في صحة الإسناد إليه)

ص: 1346

وقد وجدنا من خلال تتبعنا للمسألة في الأحاديث، واستعراض أقوال العلماء من الإمامية، واستنادهم إلى مسألة الغرر في عقود معاوضية مختلفة، كالشيخ الطوسي الذي استند إلى هذا الحديث في كتابي الضمان والشركة (1) وابن زهرة في كتاب الشركة (2) وغيرهم، نطمئن إلى مسألة التعميم، ونعتبر ذلك مبدأ سعى إليه الإسلام في اتجاهاته المعاملية، وهذا المعنى تؤكده التطبيقات المتنوعة في مختلف الأبواب.

وقد ذكر العلامة الشيخ الأنصاري (من كبار علماء الإمامية المتأخرين) أن الدائر على ألسنة الأصحاب في نفي الغرر من غير اختصاص بالبيع، حتى إنهم يستدلون به في غير المعاوضات كالوكالة، فضلاً عن المعاوضات كالإجارة والمزارعة والمساقاة والجعالة، بل قد يرسل في كلماتهم ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر)) (3) مشيرًا إلى أن الأصل يذكر خصوص البيع، ولكنهم لتعميمهم ووجود بعض الأصول يرسلون هذا التعبير.

ويقول البجنوردي في هذا الصدد: (والإنصاف أن المستفاد من مجموع الروايات. . . . كون الجهل مضرًا ولو كان من قبل الشرط المجهول. وإن كانت (الرواية) واردة في باب البيع، لكن الظاهر عدم اختصاصها به) (4) .

فالبناء إذن على صحة السند، وتعميم آثاره على كل العقود.

وهل يترك النهي عن الغرر أثره على عقود التبرع؟

الملحوظ أن بعض المذاهب وخصوصًا المالكية يرون أن الغرر لا يؤثر في صحتها، وهذا ما قرره القرافي في فروقه بوضوح (5) ووافقهم عليه بعض العلماء من المذاهب الأخرى.

(1)(نقلاً عن المكاسب: 5 / 185)

(2)

(الينابيع الفقهية: 17 / 21)

(3)

(المكاسب: 5 / 188)

(4)

(القواعد الفقهية: 3/ 248)

(5)

(الفروق للقرافي: 1 / 150 ـ 151، الفرق الرابع والعشرون)

ص: 1347

أما الإمامية فالقاعدة تقتضي موافقتهم لهذا الرأي، بعد أن نتذكر أن لديهم شكًا في أصل التعميم، ومع التسليم به فلا ريب في الاقتصار على القدر المتيقن وهو عقود المعاوضة، كما يمكن استفادة موافقتهم من بعض العبارات الواردة لدى فقهائهم، والتي تركز على خصوص الغرر المؤدي للتنازع، الأمر الذي يقل تصوره في عقود التبرع.

ونكتفي بهذا القدر فلا نبحث في أسانيد هذا الحديث وتفصيلاته، وكذلك فلن نبحث بشكل مفصل عن مسألة تصحيح عقد التأمين مطلقًا، فقد تم الفراغ من ذلك وصدر قرار مجمعي في ربيع الثاني 1406هـ حول منعه إذا كان مع الشركات التجارية، إذ جاء فيه:(إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، وإن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون) .

إلا أننا نشير هنا إلى أننا كنا نخالف هذا القرار، وقد قمنا بتصحيحه من طرق متعددة:

أـ باعتباره عقدًا مستقلاً حديثًا تشمله قاعدة (الوفاء بالعقود) .

ب ـ باعتباره صلحًا، وقد ذكرنا أن الكثير من العلماء ـ ومنهم الإمامية جميعًا ـ لا يحصرون الصلح في الموارد التي يكون فيها حق متنازع عليه بين الطرفين.

جـ ـ باعتباره هبة معوضة، ولا نسلم أن الهبة المعوضة حكمها هو حكم البيع تمامًا، كما ذكر بعض العلماء.

د ـ باعتباره ضمانًا معوضًا، يلتزم فيه أحد الطرفين بجبران الخسارة لقاء التزام الآخر بعوض، فهذا عقد ينتج ضمانًا، ولا داعي لحصر أسباب الضمان بالكفالة والتعدي والإتلاف.

ص: 1348

وعلى أي حال:

فإننا سننطلق من قرار المجمع الآنف ذكره، ولكن سنركز على نقاط أساسية أشار لها هذا القرر:

النقطة الأولى: هل إن عقد التأمين الصحي يحتوي على غرر كبير مفسد للعقد؟

النقطة الثانية: عقد التأمين الصحي وطبيعته التعاونية، وخصوصًا إذا كان في إطار مؤسسة عامة أو مؤسسة حكومية، إذ يغلب عليها هنا بوضوح الطابع التعاوني.

النقطة الثالثة: مسألة التأمين الصحي والحرج الاجتماعي.

ص: 1349

وسنبحث في كل نقطة من هذه النقاط الثلاث في ما يلي:

النقطة الأولى: هل إن عقد التأمين الصحي يحتوي على غرر كبير مفسد للعقد؟

بعد مراجعتي للنصوص اللغوية التي تفسر الغرر، والنصوص الشرعية التي تنهى عن الغرر ـ ولا ريب في أنها لم تخترع اصطلاحًا جديدًا له، بل تقصد الغرر العرفي الذي نعرفه من كلمات اللغويين ـ وما فهمه الكثير من الفقهاء من هذا المصطلح استطعت أن أخلص إلى أن الغرر المتصور هنا ليس من الغرر المنهي عنه، وهو الجهالة المؤدية إلى التشاح الذي يمنع من تنفيذ الصفقة (كما يعبر الحنفية)(1) أو المخاطرة المفضية إلى التنازع (كما يعبر الشيخ الأنصاري)(2) .

والذي نعتقد أن مسألة (الغرر) تحتاج من المجامع الفقهية إلى بحوث مفصلة تتناول بالدقة الأمور التالية:

1 ـ تعريف الغرر تعريفًا عرفيا يتناول هذا المفهوم بشكل تاريخي ويحدده على ضوء النصوص العربية الأصيلة، بعيدًا عن أي تصنع أو إضافة أو تأثر بفهم آخرين لم يعاصروا النص ولم يحيطوا بكل جوانبه. ونحن نعلم أنه ليس هناك اصطلاح فقهي خاص اعتمدته النصوص الإسلامية بعيدًا عن مفهومه العرفي، وهذا هو ديدن الشارع في كثير من الشؤون، وبالخصوص في شؤون المعاملات العرفية.

جاء في لسان العرب في مادة (غرر) بحث مفصل ننقل عنه ما يلي:

غره يغره غرًا وغرورًا وغرة فهو مغرور وغرير: خدعه وأطعمه بالباطل.

وفي الحديث: ((المؤمن غر كريم)) أي ليس بذي نكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، والغرر ما غرك من إنسان وشيطان، وخص يعقوب به الشيطان.

وقوله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] قال الفراء: يريد به زينة الأشياء في الدينا.

ويقال: وأنا غريرك من فلان، أي أحذركه.

وقيل: بيع الغرر ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول.

هذا وقد ذكرت الموسوعة الفقهية أن كتب اللغة تفسره بالخطر (3) ، وجاء هذا التفسير في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري، وأضاف بأنه جاء في القاموس ما ملخص تفسيره: غرره بأنه خدعه وأطمعه في الباطل. . . وعن النهاية بعد تفسيره الغرة بالغفلة أنه نهى عن بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول، وقال الأزهري: بيع ما كان على غير عهدة ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول (4) .

(1)(نقلاً عن: نظام التأمين، للأستاذ مصطفى الزرقا)

(2)

(المكاسب، للشيخ الأنصاري: 5 / 185)

(3)

(الموسوعة الفقهية: 9 / 186)

(4)

(المكاسب: 5 / 185)

ص: 1350

2 ـ وعلى ضوء ذلك تتم معالجة النصوص الإسلامية الواردة في النهي عن الغرر، فيحدد نوع الغرر المنهي عنه طبعًا بملاحظة مجمع النصوص المصححة لبعض المعاملات، كتلك التي تصحح عقودًا تشتمل على جهالة في النتائج.

وما أكثر العقود التي تنطوي على ذلك كعقود المزارعة والمساقاة والمضاربة والشركة، أو على جهالة وعدم اطمئنان بتحقق النتائج كعقد السلم، وحتى عقد القرض وبيع الشرط والبيوع التي تصاحبها خيارات وغيرها، أو على جهالة في كمية العمل، كعقد الحراسة وعقد الوكالة ـ خصوصًا عقد الوكالة المطلقة ـ حيث يجهل المتعاقدان مدى العمل الذي يمكن أن يتحقق بالحراسة والوكالة العامة وأمثالها.

هذا في حين يجد الباحث نصوصًا أخرى تنهى عن بيوع تنطوي على جهل، وربما عللت ذلك بالغرر الحاصل (وذلك كما في بيع الثمار، وبيع السمك في الماء، واللبن في الضرع، والصاع من صبرة) الأمر الذي يتطلب الدقة في معرفة درجات الجهل المقبولة والأخرى المرفوضة والتي تشكل غررًا.

3 ـ وبعد تحديد هذه الدرجات وتقعيد القواعد يجب أن يتم العمل على ملاحظة التطبيق الدقيق لها على الموارد المستحدثة بل وحتى على المواد القديمة التي رفضت بحجة الغرر.

ص: 1351

ولكي نمهد للموقف نجد أن من المستحسن أن نذكر مثالين:

الأول: حول مسألة اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد.

الثاني: مسألة خيار الشرط.

المثال الأول ـ شرط القدرة على التسليم استنادًا للمنع عن بيع الغرر:

استند الفقهاء عند عرض مسألة اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد إلى مسألة المنع عن الغرر، وهنا يقول الشيخ الأنصاري:

(وبالجملة فالكل متفقون على أخذ الجهالة في معنى الغرر، سواء تعلق الجهل بأصل وجوده أم بحصوله في يد من انتقل إليه، أم بصفاته كمًّا أو كيفًا، وربما يقال: إن المنساق من الغرر المنهي عنه، الخطر من حيث الجهل بصفات المبيع ومقداره، لا مطلق الخطر الشامل لتسليمه وعدمه، ضرورة حصوله في بيع كل غائب، خصوصًا إذا كان في بحر ونحوه، بل هو أوضح شيء من بيع الثمار والزرع ونحوهما، والحاصل عدم لزوم المخاطرة في مبيع مجهول الحال بالنسبة إلى التسلم وعدمه، خصوصًا بعد جبره بالخيار لو تعذر.

وفيه: أن الخطر من حيث حصول المبيع في يد المشتري أعظم من الجهل بصفاته مع العلم بحصوله، فلا وجه لتقييد كلام أهل اللغة، خصوصًا بعد تمثيلهم بالمثالين المذكورين:(بيع السمك في الماء، والطير في الهواء) واحتمال إرادة ذكر المثالين لجهالة صفات المبيع لا الجهل بحصوله في يده، يدفعه ملاحظة اشتهار التمثيل بهما في كلمات الفقهاء للعجز عن التسليم لا للجهالة بالصفات) .

وبعد أن ذكر أمثلة على استدلال علماء الشيعة والسنة على اعتبار القدرة على التسليم بالحديث النبوي المشهور، عقب على ذلك بقوله:(فالأولى أن هذا النهي من الشارع لسد باب المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات)(1) .

ويشكك الإمام الخميني على هذا الاستدلال، مستعرضًا أقوال اللغويين رافضًا إرجاع المعاني التي ذكروها إلى (الجهالة) ومقررًا أنه ليس من الضروري إرجاعها إلى معنى جامع، قائلاً:(وبالجملة، الغرر مستعمل في معان كثيرة لا يناسب كثير منها للمقام، والمناسب منها هو الخدعة، والنهي عنها ـ كالنهي عن الغش ـ أجنبي عن مسألتنا هذه، فإرجاع المعاني إلى معنى واحد أجنبي عن معانيه، ثم التعميم لما نحن فيه ـ أي اشتراط القدرة على التسليم ـ مما لا يمكن المساعدة عليه، إلا أن يتمسك بفهم الأصحاب ـ وهو كما ترى ـ أو تكشف قرينة دالة على ذلك، وهو أيضًا لا يخلو من بعد. لكن مع ذلك تخطئة الكل مشكلة والتقليد بلا حجة كذلك) .

ويقول في نهاية تعليقه، بعد أن يستعرض الروايات الواردة في الغرر ويشكل على كيفية الاستفادة منها:(والإنصاف أن الحكم (اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد) ثابت وإن كان المستند مخدوشًا) (2) وهكذا فهو لا يعتبر الإبهام في القدرة على التسليم من الغرر.

ويمكن أن نضيف هنا أن جبر هذا الإبهام بالخيار أمر يقبل التأمل، ولا يبعد قبوله لنفي الغرر المتصور، وهو الذي أشار إليه الشيخ الأنصاري بتعبير (المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات) .

ولا نريد هنا أن نقرر في مسألة اشتراط هذا الشرط في صحة العقد عمومًا، بقدر استهدافنا القول بأن هذا الإبهام لا يبرر بنفسه ـ في نظر بعض كبار الفقهاء ـ هذا الاشتراط.

(1)(المكاسب: 5 / 186)

(2)

(البيع: 3 / 206 ـ 207)

ص: 1352

المثال الثاني ـ خيار الشرط:

ورغم الاختلاف في تسميته فقيل عنه: خيار الشرط، والخيار الشرطي، وخيار التروي، وبيع الخيار. فقد أجمعت المذاهب على مشروعيته، وقد استدل له تارة بالإجماع، وأخرى بالأخبار العامة المسوغة للاشتراط، من قبيل:الخبر الذي ادعي تواتره: ((المسلمون عند شروطهم)) (1) . وثالثة بالأخبار الخاصة من قبيل ما رواه الدارقطني عن محمد بن إسحاق عن الرجل الأنصاري الذي كانت بلسانه لوثة، فكان لا يزال يغبن في البيوع (2) . وما رواه البخاري من حديث:((المتبايعان كل منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار)) (3) .

فهو عقد مجمع على صحته إجمالاً، ولكنه على أي حال يشتمل على غرر بالمعنى الشائع عن الغرر، وخصوصًا إذا لاحظنا مدة الشرط، وقد ذكرت الموسوعة الكويتية أن الحكمة التي لاحظها الفقهاء في التوقيت هي:(ألا يكون الخيار سببًا من أسباب الجهالة الفاحشة التي تؤدي إلى التنازع، وهو ما تتحاماه الشريعة في أحكامها)(4) .

ونحن نجد الفقهاء يختلفون في هذه المدة، فهناك من يفوض ذلك للمتعاقدين في حدود المعتاد، وهناك من يحدد بثلاثة أيام، وهناك من يفوض للمتعاقدين مطلقًا وهو مذهب أحمد ومحمد بن الحسن وأبي يوسف وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وابن المنذر وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور وعبيد الله بن الحسن العنبري (5) وقال الشيخ الأنصاري من علماء الإمامية ما نصه:(ولا خلاف في صحة هذا الشرط ولا في أنه لا يتقدر بحد عندنا)(6) .

وقال الإمام الخميني: (لا إشكال في صحة اشتراط الخيار في العقد وثبوته بالشرط. . . ويشترط تعيين الدة وضبطها بدوًا وختمًا، فلو تراضيا على مدة مجهولة كقدوم الحاج مثلاً بطل البيع لصيرورته غرريًا)(7) .

وكانت مشكلة الغرر المتصور هنا هي المشكلة الأساسية أمام الفقهاء، فالجهل هنا موجود لا محالة؛ لأن من ليس له الخيار على الأقل لا يعلم بالمدة التي سيبقى معها العقد قائمًا.

فربما أجابوا بأن (الجهالة التي لا يرجع الأمر معها غالبًا إلى التشاح، بحيث يكون النادر كالمعدوم، لا تعد غررًا كتفاوت المكابيل والموازين)(8) وربما قيل بأن (حديث ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر)) مخصص بخروج الغرر والحاصل من جهالة مدة الخيار، إلا لبطلت كل البيوع بجهالة مدة خيار المجلس، بل لا يضر جهالة أصل ثبوت الخيار. . فيعلم أن المراد من الحديث هو النهي عن بيع يكون المبيع أو الثمن فيه مجهولاً كمًا أو وصفًا، فتكون إضافة البيع إلى الغرر من قبيل الإضافة إلى المفعول) (9) .

(1)(المكاسب: 5 / 218) طبعة تبريز

(2)

(سنن الدراقطني: 3 / 56 ط. دار المحاسن وغيره)

(3)

(صحيح البخاري: 4 / 337 ط، المطبعة السلفية وغيره)

(4)

(الموسوعة الكويتية: 2 / 82)

(5)

(الموسوعة الكويتية، ص 83)

(6)

(المكاسب: 5 / 228، طبعة تبريز)

(7)

(البيع: 4 / 209)

(8)

(المكاسب: 5 / 228)

(9)

(البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)

ص: 1353

وربما قيل بأن (الغرر المذكور لا يضر بصحة المعاملة والشرط، وذلك لأن الغرر الآتي من قبل الاشتراط مشمول للقاعدة، لا الآتي من قبل عمل صاحب الخيار؛ فإنه بعد ثبوت الخيار له فالجهل بعمله متأخرًا عن القرار المعلوم لا يضر بالبيع ولا بالشرط)(1) كما قد يقال: إنه لا دليل على أن كل جهل داخل المعاملة يضر بالعقد (2) .

وأخيرًا قد يقال: (إن الظاهر من موارد استعمالات الغرر أنه ما يقرب إلى الخديعة)(3) وليس موردنا من موارد الخديعة.

وهذا القول الأخير هو الذي يمكن استفادته من شروح اللغويين، بتقريب أن الخديعة التي تشير إليها المصادر اللغوية إذا أضيفت إلى البيع حملت معنى معينًا من الخداع يمكن تلخيصه بأنه (ما كان له ظاهر يغر وباطن مجهول يجعله في معرض الخطر المعاملي، وهو الاختلاف بعد ذلك بشكل يصعب معه تعيين الموقف عند النزاع والتشاح، فيحصل الضرر والهلكة والخطر) .

وهذا المعنى يستفاد أيضًا من النصوص الناهية عن الغرر، ولا مجال هنا لاستعراضها، وربما كان هو ما توصل إليه الكثير من الفقهاء؛ فحتى الشيخ الأنصاري صاحب المكاسب الذي فسر الغرر بالجهالة يقول بعد البحث:(فالأولى أن النهي من الشارع لسد باب المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات)(4) .

وقد رأينا أن الإمام الخميني مثلاً يشكك في اعتبار مجهولية القدرة على التسليم داخلة تحت عنوان (الغرر)(5) .

ويقول أيضًا: (والإنصاف أن اعتبار العلم في غير ذات المبيع والأوصاف التي ترجع إليها لا دليل معتد به عليه، غاية الأمر إلحاق الأوصاف التي هي دخيلة في معظم المالية ـ كالريح والطعم واللون ـ فيما يراد منه ذلك. . . نعم لا إشكال في لزوم إحراز عدم الفساد والمذهب للمالية لا للغرر، بل لإحراز تحقق البيع بعد تقومه بالمالية)(6) .

ويقول الشيخ الضرير: (وقد ورد الحديث الصحيح بمنع بيع الغرر فوجب الأخذ به ومنع كل بيع فيه غرر، ومقتضى هذا أن يؤثر الغرر في عقد البيع وحده. ولكن نظرنا فوجدنا أن الغرر إنما منع في البيع لأنه مظنة العداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ولما كان هذا المعنى متحققًا في كل عقود المعاوضات المالية ألحقناها بالبيع)(7) .

وقد استنتج الأستاذ الزرقا هذا المعنى من النصوص قائلاً: (إن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز للحدود الطبيعية، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض اعتمادًا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل) .

أما بالنسبة للجهالة فهو يركز على رأي الحنفية في التمييز بين جهالة أخرى (فالجهالة التي تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد فتبطله، والجهالة التي لا تأثير لها في التنفيذ لا مانع منها، وعلى هذا يصححون الوكالة العامة)(8) .

(1)(البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)

(2)

(البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)

(3)

(تعليقة المرحوم الغروي على المكاسب، ص 300، طبعة مجمع الذخائر ـ قم)

(4)

(المكاسب: 5 / 185)

(5)

(البيع: 3 / 206 ـ 207)

(6)

(البيع: 3 / 359)

(7)

(الغرر في العقود، ص 42)

(8)

(نظام التأمين، ص 51 ـ 52)

ص: 1354

وعلى هذا الاستنتاج كنا قد صححنا ـ كما قلنا من قبل ـ عقد التأمين عمومًا، ولا نريد أن نعيد البحث، وإنما فصلنا قليلاً في معنى الغرر لنركز بعد هذا على مسألة التأمين الصحي، ونستعرض إمكانيات تصحيحه حتى على ضوء القرار الذي اتخذه مجمع الفقه الإسلامي المؤرخ في 16 ربيع الثاني 1406هـ والمرقم (2) حيث جاء فيه:

1 ـ إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا.

2 ـ إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون (1) .

وبالتأمل في ما مضى نجد أن الغرر الموجود في هذا العقد ليس من الغرر الكبير الذي تتحاماه الشريعة ـ كما عبرت الموسوعة الكويتية ـ وليس مما يرجع الأمر معه إلى التشاح ـ كما عبر الشيخ الأنصاري ـ وليس ما يقرب إلى الخديعة ـ كما علق المرحوم الغروري ـ وليس ما يجعل العقد في معرض الخطر المعاملي ويؤدي إلى التنازع في المعاملات ـ كما عبر الشيخ الأنصاري في موضع آخر ـ وليس من النوع الفاحش المتجاوز للحدود الطبيعية بحيث يجعل العقد كالقمار المحض ـ كما يعبر الأستاذ الزرقا ـ وليس من الجهالة التي تمنع تنفيذ العقد ـ كما يعبر الحنفية ـ كما أنه لا يشكل مما مظنة للعداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل ـ كما عبر الشيخ الضرير ـ ثم إنه ليس مما كان له ظاهر يضر وباطن مجهول، مما يؤدي للاختلاف ويؤدي بالتالي إلى الضرر والهلكة والخطر ـ كما قلناه في الحصيلة.

وبالتالي فلا نستطيع أن نطلق عليه عبارة (الضرر الكبير) ليشمله الحكم السابق لمجمع الفقه.

هذا ويمكن أن يقال لتأكيد هذا الاستنتاج: إن دراسة الحالة دراسة موضوعية دقيقة ومعرفة الظروف التي يعيشها الشخص، أو دراسة مجموع الحالات التي يعيشها عمال مؤسسة ما، ومعدل الخسائر التي تصيب هذا المجموع، يمكن أن يوصل إلى حالة من الاطمئنان بالنتائج إجمالاً، رغم أن الخسائر تختلف من حالة إلى أخرى، مما يجعل الحسابات تقرب إلى الواقع على الإجمال لدى المؤسسة المؤمنة، في حين نعلم أن الأقساط المدفوعة من قبل المؤمن له أو لهم واضحة ومحددة.

(1)(مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثانية: 2 / 731)

ص: 1355

بحث أصولي:

وعند الشك في شمول أدلة النهي عن الغرر لهذا المورد وغيره يمكننا التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص المنفصل، وتوضيح الأمر فيه إجمالاً هو كما يلي:

من الواضح أن هناك أدلة عامة أو مطلقة تشمل أفرادًا عديدة من قبيل: كل ماء طاهر، أوفوا بالعقود، أحل الله البيع، وأمثال ذلك. وهناك أدلة مخصصة لمثل هذه العمومات من قبيل: استثناء ما تغير لونه أو طعمه، أو رائحته بالنجاسة من عموم (كل ماء طاهر) أو استثناء العقود الغررية من حكم (لزوم الوفاء) . أو استثناء البيوع الربوية من (أحل الله البيع) وأمثال ذلك.

والأدلة المخصصة أو الأدلة الخاصة تارة تكون واضحة المفهوم ومعلومة المصاديق، وأخرى تكون هناك شبهة في مفهومها أو مصادقيها.

وهناك بحوث مفصلة في أقسام هذه البحوث، إلا أننا سنركز على البحث الذي يرتبط بموضوعنا نحن، وهو بحث يعنون في أصول الفقه لدى الإمامية على النحو التالي:

هل يسري إجمال المخصص ذي الشبهة المفهومية إلى العام أم لا؟ ويعنون به أنه إذا ورد عام وورد مخصص لذلك العام، لكن وقعت شبهة في مفهوم الخاص من قبيل موردنا هذا. فهناك عام يقول:(أوفوا بالعقود) والمفروض أن المراد هو العقود العرفية، أي التي يؤمن العرف بأنها عقود تامة، وهناك خاص يقول بعدم الوفاء بالعقود الغررية، ووقع الشك في مفهوم الغرر، وهو شك بين الأقل والأكثر، أي لا نعلم بأن اللغرر هل يختص بالغرر الفاحش المؤدي للنزاع في المعاملات؟ أو يشمل كل جهالة في العقد؟

فالأقل هو خصوص الغرر المؤدي للنزاع عادة، والأكثر هو الأعم منه ومن عيره من أنواع الجهل، فما هو الموقف في هذه الحالة؟

ص: 1356

يقول الأصوليون في هذه الحالة: إن إجمال الخاص لا يسري إلى العام، ذلك أن هذا العام قد انعقد ظهوره بشكل كامل، فشمل كل العقود العرفية. وعندما يأتي الخاص فإنه يخصص في القدر المتيقن، وهو هنا (الغرر الفاحش المؤدي للنزاع) ولكنه لا يستطيع التخصيص فيما عدا ذلك؛ لأنه ـ أي الخاص ـ لا تعلم حجيته فيه، أي في القدر الزائد.

فإذا خرج القدر المتيقن من تحت العام بحجة أقوى (وهي حجة الخاص) يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجية العام وظهور فيه (1) وبتعبير آخر يقول المرحوم الشهيد الصدر، بعد أن يأتي بمثال للعام هو (أكرم كل فقير) ومثال للخاص وهو (لا يجب إكرام فساق الفقراء) ، ويتردد مفهوم الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين خصوص من ارتكب الكبيرة، يقول:(إن مقتضى الحجية وهو ظهور العام في العموم بالنسبة لمورد الإجمال موجود والمانع مفقود، أما وجود المقتضي فلما تقدم من أن المخصص المنفصل لا يهدم الظهور، وإنما يتقدم عليه في الحجية بملاك الأظهرية أو القرينية، وأما عدم المانع فلأن الثابت من المانع عن حجية العموم إنما هو بمقدار فاعل الكبير من الذنب، وأما فاعل الصغيرة فلم يثبت بحسب الفرض خروجه بالتخصيص، فيبقى العام على حجيته لما تقدم من أن ظهور العام بنفسه حجة في نفي التخصيص المحتمل)(2) .

وهنا نقول:

إن الغرر الذي انتهينا إليه والمنهي عنه لا يشمل موردنا ـ كما قلنا ـ فإذا شككنا في شموله لموردنا أي (الغرر غير الفاحش الذي لا يؤدي إلى النزاع المعاملي) فمعنى ذلك أننا شككنا في مفهوم الغرر، وترددنا فيه بين خصوص الغرر الفاحش المؤدي للنزاع أو ما يشمله ويشمل غيره، وحينئذ يمكننا التمسك بعموم (أوفوا بالعقود) وأمثاله من العمومات والإطلاقات الصحيحة للعقود العرفية، لشمول موردنا هذا دون أن يعارضه الدليل المخصص الذي افترضنا فيه شبهة مفهومية، فهو لا يقوى على إخراج ما يحتمل شموله من نطاق أفراد العام الذي هو حجة فيه.

إلى هنا ينتهي بحثنا المختص عن النقطة الأولى: وهي مسألة مدى احتواء عقد التأمين على الغرر المنهي عنه.

(1)(راجع أصول الفقه للمظفر: 1 / 130 المطبعة العلمية ـ النجف)

(2)

(بحوث في علم الأصول: 3 / 299 (تقرير السيد محمود الهاشمي)

ص: 1357

النقطة الثانية ـ التأمين الصحي وطبيعته التعاونية:

ذكرنا فيما سبق أن المالكية يعتبرون جواز الغرر في عقود التبرع والتعاون قاعدة عامة، واستنتجنا من بعض عبارات الإمامية أنهم أيضًا يجيزون ذلك، بل إن تعميمهم لآثار الغرر إلى مطلق المعاوضات فيه نظر؛ لأنهم لا يقبلون القياس كالظاهرية.

وقد رأينا أيضًا أن مجمع الفقه الإسلامي بجدة قد أخذ بهذا الرأي في قراره حول التأمين، ونحن نعتقد أن طبيعة عقد التأمين عمومًا هي طبيعة تعاونية، وهو نفس الرأي الذي تبناه الأستاذ مصطفى الزرقا، ولكن حتى لو تنازلنا عن هذا الرأي، فإننا نجد أن مسألة التأمين الصحي ـ رغم ظاهرها المعاوضي ـ تحمل بشكل أكثر وضوحًا معنى التعاون والتضامن، حتى ولو كان القصد منها الربح التجاري (خصوصًا بعد أن حذفنا من البين مسألة التأمين من المرض نفسه وقصرناه على العلاج) ، ويتأكد هذا الموضوع عندما يتم التعاقد بين مؤسسة لها موظفون ومستشفى يؤمن لهم العلاج اللازم، كما يتأكد أيضًا عندما يتم التعاقد بين المؤسسات الحكومية والمستشفيات الخاصة لتحقيق هذا الغرض.

أما فيما إذا كانت المؤسسات المتعاقدة داخلة كلها تحت الإطار الحكومي العام، فإن العنصر الغرري لا يتصور تأثيره كثيرًا في البين، ولا معنى لتصور النزاع داخل الإطار الواحد.

وهناك نقطة أخرى ربما كان لها دخلها في البين، وهي تؤكد لنا الطبيعة التعاونية لهذا العقد، وهي: أن ننظر للحالة الاجتماعية ككل، فنقارن بين مجتمع تشرع فيه حالة التأمين الصحي حتى من قبل القطاع الخاص، وآخر ينتفي فيه هذا النوع من التأمين، ومن الطبيعي أن المجتمع الأول ينعم بحالة جيدة من التعاون والتضامن بالنسبة للمجتمع الثاني، مما يؤكد لنا هذه الحالة التعاونية بلا ريب.

ولسنا نرى بأسًا في وجود قصد ربحي أو تجاري لدى أحد المتعاقدين للتأثير على تغيير الطبيعة التعاونية للعقد، تمامًا كما في مسألة الاستئجار لقضاء الصلوات مثلاً، فإن نية الحصول على مبلغ الإجارة لا تتنافى مع قصد القربة فيها، كما يقرره العلماء، وعلى هذا ربما قربت مسألة أخذ الأجرة على الواجبات كالمعاجلة والتغسيل والتعليم، بل وكل عمل يحتاج إليه المجتمع في مختلف المجالات العلمية والطبية والاجتماعية باعتبارها من الواجبات الكفائية.

ص: 1358

النقطة الثالثة ـ مسألة الحرج الاجتماعي عند نفي التأمين الصحي:

إن مسألة التأمين الصحي هي حاجة اجتماعية ملحة، وخصوصًا للطبقات الفقيرة، ولا يمكن التغاضي عنها؛ لأن ذلك يشكل حرجًا اجتماعيًا عامًا، حتى ولو لم يكن يمثل حرجًا شخصيًا في بعض الموارد.

وقد ذكر الأستاذ الضرير شروطًا لتأثير الغرر، ومنها:(ألا تدعو للعقد حاجة) معللاً ذلك بقوله: (لأن العقود كلها شرعت لحاجة الناس إليها، ومن مبادئ الشريعة المجمع عليها رفع الحرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . ومما لا شك فيه أن منع الناس من العقود التي هم في حاجة إليها يجعلهم في حرج، ولهذا كان من عدل الشارع ورحمته بالناس أن أباح لهم العقود التي يحتاجون إليها ولو كان فيها غرر. . ثم ذكر أن الحاجة قد تكون عامة وقد تكون خاصة)(1) . إذا افترضنا قيام الدولة بعملية التأمين هذه، فإننا لا نرى مشكلة في البين كما مر، أما إذا كانت الدولة غير ملتزمة لسبب أو لآخر بذلك، فإن المنع من عملية التأمين الصحي سوف يشكل بلا ريب حالة حرجية تلقي بثقلها الكبير على

عاتق أفراد المجتمع، ولا تقل ثقلاً عن المصاديق التي تذكرها النصوص الإسلامية لعنوان الحرج.

وقد رأينا أئمة أهل البيت عليهم السلام يذكرون مصاديق للآية الشريفة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] تعد عادية بالنسبة لهذه المسألة المهمة، وهي من قبيل ما جاء في الرواية التالية:

عن الكافي والتهذيب والاستبصار: أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن الحسين بن رباط، عن عبد الأعلى مولى آل سام:(قلت لأبي عبد الله ـ يعني الصادق عليه السلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه)(2) .

يقول المرحوم البجنوردي في هذا الصدد: (فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدل دلالة واضحة على أن رفع الأحكام الحرجية مخصوص بهذه الأمة كرامة لنبينا صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة، والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحًا أو غير ممكن، فلا شك في أن المراد من التكاليف والأحكام الحرجية ـ ولو كانت وضعية ـ هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبًا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص؛ لأنه قد يكون العسر النوعي موجبًا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة لبعض الأشخاص غير حرجى)(3) .

ومما لا ريب فيه أيضًا أن دليل (لا حرج) من الأدلة الثانوية نظير (لا ضرر) وهو يتقدم على أدلة الأحكام الأولية المحمولة على موضوعاتها، من قبيل:(نفي الغرر) والمنفي بدليل (لا حرج) هو جعل الحكيم التشريعي الموجب للحرج.

(1)(الغرر وتأثيره في العقود، ص 46)

(2)

(وسائل الشيعة: 1 / 327)

(3)

(القواعد الفقهية للبجنوردي: 1 / 212)

ص: 1359

ملاحظة مهمة:

لما كان الحرج النوعي ثابتًا فإن دليل (لا حرج) يسوغ لولي الأمر بمقتضى تشخيصه لذلك أن يسمح بمثل هذا التأمين ـ إن لم نقل بأنه عقد مسموح به طبق الأصل ـ رفعًا لذلك الحرج النوعي، إلا أن الأشخاص يختلفون في ذلك، والاحتياط يقتضي ألا يقدم الشخص الذي يشعر بالحرج على هذا العمل، حتى مع السماح الاجتماعي العام بذلك، ولكننا ذكرنا قبل هذا أن صحة هذا العقد هي على القاعدة، فلا حاجة لمثل هذا الاحتياط.

وإلى هنا قد انتهينا من المبحث الأول بنقاطه الثلاث وهو مبحث حكم التأمين الصحي.

ص: 1360

المبحث الثاني

حكم اشتراط البراء لاستحقاق المقابل

وهذه مسألة قد لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع التأمين الصحي، إلا أن الاطلاع على نتائجها نافع في البين.

وربما لم تكن المسألة بحاجة إلى توضيح كثير، وخلاصتها أن يشترط المريض على معالجه أو حتى على شركة تأمين أن يتحقق البرء حتى يستحق الشخص أو الشركة المبلغ المعين، فهل يصح هذا الشرط؟ وإذا كان فاسدًا فهل يفسد العقد؟ هذا ما يجب توضيحه. وسيكون بحثنا على النحو التالي:

1 ـ قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) :

هذه القاعدة من المسلمات الفقهية الإسلامية، والأصل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:((المسلمون عند شروطهم ـ أو على شروطهم ـ إلا شرطًا حرم حلالاً)) (1) .

ولا شك في صحة هذا الحديث على اختلاف تعابيره، وملخص دلالته: أن على كل مسلم الثبات عند التزاماته، والوفاء بها، إذ إنه صلى الله عليه وسلم هنا في مقام إنشاء الحكم لا الإخبار به.

وعلى ضوء ذلك أجمع المسلمون على وجوب الوفاء بالشروط الصحيحة، وإن كانوا اختلفوا في أمور كثيرة متفرعة، من قبيل: شمول العبارة للأحكام كلها، باعتبارها إلزامات والتزامات إلهية أم لا، وشمول القاعدة للشروط الابتدائية أو اقتصارها على الشروط المذكورة ضمن العقود، وهذا ما لا داعي فعلاً للحديث عنه، وإنما المهم الحديث عن توفر شرائط صحة الشروط في موردنا هذا حتى يمكن الإلزام به.

(1)(جاء هذا الحديث في كل الكتب الحديثية، فلا نطيل في نقل مصادره، يراجع مثلاً: وسائل الشيعة، الباب (20) من أبواب المهور، الحديث (4) من كتاب النكاح)

ص: 1361

2 ـ شرط القدرة:

ذكر العلماء شرائط صحة الشرط ليمكن الإلزام به، وأولها شرط القدرة، أي أنه يجب أن يكون مقدورًا للمشروط عليه، ذلك أن الاشتراط يعني الجعل في العهدة، وما لم يكن قادرًا عليه لن يكون متمكنًا من الوفاء به، ومن ذلك اشتراط أمور ـ بنحو شرط الفعل أو شرط النتيجة ـ غير داخلة تحت سلطة الإنسان، وإنما تتحقق بإرادة الله تعالى فقط، كموردنا هذا وهو البرء من المرض، فهو بيد الله جل وعلا، وإن كان للإنسان أن يهيئ الظروف الملائمة للشفاء.

والسر في كون هذا الشرط فاسدًا هو أنه يحول العقد إلى عقد غرري لمجهولية النتيجة، يقول الشيخ الأنصاري:(لأن تتحقق مثل هذا الشرط بضرب من الاتفاق ولا يناط بإرادة المشروط عليه فيلزم الغرر)(1) .

ويقول السيد البجنوردي: (فمثل اشتراط جعل الزرع سنبلا، والبسر رطبًا، واشتراط كون الدابة بحيث تحمل في المستقبل، حيث إنها ليست تحت سلطان المشروط عليه، يكون لغوًا أو باطلاً، بل لو أخذ وصفًا للمبيع في البيع أو لغيره في سائر المعاوضات يكون العقد فاسدًا لكونه غرريًا)(2) .

وقد قرر العلماء جميعًا أن العقد الذي يدخله الغرر حتى من قبل الشرط الغرري باطل على اختلاف في تعابيرهم (3) .

ولكن اعتبار اختلاط شرط القدرة منفذًا للغرر في العقد قد يختلف فيه، كما سنرى.

وقد جاء في الموسوعة الكويتية التعبير التالي: القسم الثاني: ما يحكم معه بصحة التصرف سواء أسقطه المشترط أم لم يسقطه، وهذا القسم يتناول الشروط الباطلة التي تسقط ويصح معها التصرف عند الحنفية، والشروط الباطلة التي يصح معها التصرف عند المالكية، والشروط الفاسدة التي يصح معها التصرف عند الشافعية والحنابلة.

وذكرت من أنواعه: الرابع: اشتراط أمر يؤدي إلى جهالة أو أمر غير مشروع، كما لو باع بقرة وشرط أن تدر كل يوم صاعًا، فإن ذلك لا يصح لعدم القدرة عليه، ولعدم انضباطه (4) .

(1)(المكاسب، ص 276)

(2)

(القواعد الفقهية: 3 / 226)

(3)

(الموسوعة الفقهية: 26 / 11 ـ 16)

(4)

(نقلاً عن: مغني المحتاج: 2 / 33 ـ 34)

ص: 1362

3 ـ محاولة لتصوير القدرة هنا:

وقد يقال في موردنا: إن ظاهر هذا الشرط هو شرط الوصول إلى النتيجة، وهي البرء. إلا أن واقعه العرفي هو بذل أقصى الجهد للوصول إليها، فهو شرط فعل وليس شرط نتيجة، فإن كا هذا هو المراد فلا مشكلة في البين، ولكنه خلاف ظاهر الاشتراط.

وقد يقال أيضًا: إن هناك من الأمراض ما يمكن للطبيب الماهر أن يطمئن فيها إلى النتيجة ـ بإذن الله تعالى ـ وحينئذ لا يعد العرف هذا الشرط شرطًا غير مقدور، وبالتالي فلن يكون غرريًا باطلاً. . . وربما يقاس هذا إلى بعض الشروط الأخرى الصحيحة عرفًا، من قبيل: شرط الإيصال إلى المقصد الفلاني، أو شرط القضاء على العدو وتحقيق النصر، أو شرط استكمال البناء، واختراع الوسيلة، وأمثال ذلك مما يتوقف الأمر فيه على لطف الله وعنايته، بل يمكن أن يقال: إن تحقيق كل الشروط متوقف على ذلك، فلا فرق بين شرطنا هذا وباقي الشروط.

والإنصاف: أن هذا الأمر لا يمكن نفيه في جميع الموارد ولا قبوله في الجميع، وإنما تختلف الحال فيه من مورد إلى آخر، فلا يمكننا أن نتصور الفرق بين الشروط المستساغة عرفًا وهذا الشرط في بعض الموارد، وذلك لما قلنا عن الغرر من قبل، ولما نجده وجدانًا من إمكان تحقيق النتيجة بكل ثقة ـ ومع التوكل على الله تعالى ـ في مثل هذه الموارد.

ص: 1363

4 ـ بعض الشروط المشابهة:

هذا وقد ذكر فقهاء الإمامية بعض المسائل المشابهة، من قبيل: اشتراط أن تحمل الدابة في المستقبل، حيث ذكر الشيخ الأنصاري أن العلامة الحلي أبطل هذا الاشتراط؛ لأنه غرر عرفًا، ولكن نقل عن الشيخ الطوسي والقاضي ابن البراج أنهما حكما بلزوم العقد مع تحقق الحمل، وبجواز الفسخ إذا لم يتحقق، حيث إن الظاهر ـ كما استفاده الشهيد الأول في الدروس ـ هو تزلزل العقد باشتراط مجهول التحقق. . وهذا يعني وجود خلاف في اشتراط (القدرة على الشرط) عند الفقهاء (1) ولعل ذكر الخيار هنا لرفع حالة الغرر المؤدية للنزاع، وهو ما أشرنا إليه عند بحثنا عن اشتراط القدرة على التسليم وأدائه إلى الغرر عند عدم العلم به.

ومن الأمثلة التي تذكر ما لو اشترط على المشتري بيع السلعة المشتراة من زيد، فإن المشتري إنما يقدر على الإيجاب فقط لا العقد المركب، فالقبول ليس تحت قدرته، ومع ذلك فقد جزم العلامة في (التذكرة) بصحة هذا الشرط غير المقدور تمامًا، فقال:(لو اشترط بيعه على زيد فامتنع زيد من شرائه احتمل ثبوت الخيار بين الفسخ والإمضاء والعدم، إذ تقديره: بعه على زيد إن اشتراه. وهنا يقول الشيخ الأنصاري معلقًا: ولا أعرف وجهًا للاحتمال الأول، إذ على تقدير إرادة اشتراط الإيجاب فقط قد حصل الشرط، وعلى تقدير إرادة اشتراط المجموع المركب ينبغي البطلان، إلا أن يحمل على صورة الوثوق بالاشتراء، فاشتراط النتيجة بناءً على حصولها بمجرد الإيجاب، فاتفاق امتناعه من الشراء بمنزلة تعذر الشرط عليه يحمل قوله في التذكرة: ولو اشترط على البائع إقامة كفيل على العهدة فلم يوجد أو امتنع (الكفيل) المعين ثبت للمشتري الخيار) (2)

وهكذا نجد أن هناك مجالاً للتخريج على أساس الوثوق بالنتيجة، كما عبر الشيخ الأنصاري في جعل الاشتراك عرفيًا، أما الغرر فيتلافى حينئذ بخيار تخلف الشرط ولا يعود من الغرر المنهي عنه.

(1)(المكاسب، ص 76)

(2)

(المكاسب: 5 / 276)

ص: 1364

هذا ويمكننا أن نطرح الأسلوب التالي للحل:

فقد ذكر الإمام الخميني أن العقلاء يستخدمون أسلوب الاشتراط وأسلوب الخيار عند تخلف الشرط، ويترتب لديهم عند الاشتراط حقان:

أحدهما: حق إلزام المشروط عليه بالعمل به.

والثاني: حق الخيار عند التخلف.

فلو كان الحق الثاني تابعًا للحق الأول ـ بمعنى أنه مع عدم وجود حق للإلزام لا يوجد حق للخيار ـ فإن أمر العقد يدور بين اللزوم والفساد، ويقع الشرط غير المقدور باطلاً.

أما لو كان الحق الثاني تابعًا لمطلق تخلف الشرط (اختياريًا كان أم لا) صح الشرط، وترتب على تخلف الخيار تمامًا لو طرأ التعذر بعد العقد، فهم لا يحكمون ببطلان العقد حينئذ ولا بلزومه بل يحكمون بالخيار للتخلف، فالقدرة ليست شرطًا لصحة الشرط، بل هي شرط عقلي لجواز إلزامه على العمل به، هذا ما هو الحال لدى العقلاء، فإذا دخلنا الساحة الشرعية ولاحظنا قوله صلى الله عليه وسلم:((المؤمنون عند شروطهم)) الدال بكل وضوح على الإلزام فحينئذ قد نقول: إن الأحكام الكلية القانونية لا تتقيد بالقدرة كما لا تتقيد بالعلم، وبكون الحكم الفعلي ثابتًا لموضوعه علم به الكلف أم لا، قدر عليه أم لا، وحينئذ فوجوب تحقق الشر ثابت، والعذر عن الإتيان به لا يوجب بطلانه رأسًا، فيترتب عليه الخيار.

وقد نقول بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف ولا يعقل تعلقه بالعاجز، فإن ذلك لا يوجب بطلان هذا الشرط (نظير البطلان في الشرط المخالف للكتاب أو السنة) لأن غاية الأمر قصور الأدلة عن إيجاب العمل بهذا الشرط، وتكفل الخيار عند التخلف، فلا تدل على عدم الخيار عند عدم الوجوب.

وعندئذ نقول: ليس هناك دليل شرعي على بطلان هذا الشرط (كما في موردنا هذا) ، ويبقى العمل العقلاني (الذي أشرنا إليه من إيجاب الخيار) عملاً معتبرًا ولا رادع شرعي عنه (1) .

(1)(البيع: 5/ 144 ـ 147)

ص: 1365

5 ـ إن كان فاسدًا فهل يفسد العقد:

وإذا افترضنا فساد هذا الشرط فإنه لا يجب الوفاء به، وإذا كان الشرط يعود إلى الغرر في العقد فإنه يبطله، لأنه عقد منهي عنه.

والظاهر من بعض العلماء (1) كابن زهرة ـ وهو من قدماء الإمامية ـ في (الغنية) أن الشرط غير المقدور كصيرروة الزرع سنبلاً والرطب تمرًا يؤدي إلى صيرورة البيع غير مقدور على تسليمه فيعود غرريًا، ولكن العلامة الحلي في (التذكرة) يصرح بوقوع الخلاف في الشرط غير المقدور، ممثلاً بالمثالين المذكورين، وينسب القول بصحة العقد إلى بعض العلماء.

ويعلق المرحوم الأنصاري عليه بقوله: (والحق أن الشرط غير المقدور من حيث هو غير مقدور لا يوجب تعذر التسليم في أحد العوضين، نعم لو أوجبه فهو خارج عن محل النزاع كالشرط المجهول، حيث يوجب كون المشروط بيع الغرر)(2) .

ويمكن أن نشير هنا إلى ما قلناه في مسألة اشتراط القدرة على التسليم، من أن وجود الخيار هناك قد يرفع الغرر المتصور (فراجع ذلك) .

وعلى أي حال: فإنه لا يبعد القول بأن مثل هذا الشرط لا يدخل العقد في الغرر، حتى لو قلنا بفساده، فيبقى مجال للبحث عن صحة العقد مع عدم تحقق الشرط؛ وذلك لأنه مشمول لعمومات الصحة والوفاء.

(1)(سلسلة الينابيع الفقهية: 13 / 209)

(2)

(المكاسب: 5 / 287)

ص: 1366

6 ـ الإشكالات على صحة مثل هذا العقد الصحيح والباطل شرطه:

وقد ذكر صاحب المكاسب منها أربعة وأجاب عنها، ولكنه توقف في النهاية عن الإفتاء، وهي:

أولاً: أن للشرط قسطًا من العوض مجهولاً، فإذا سقط لفساده صار العوض مجهولاً.

وأجاب عنه بالنقض في مسألة سقوط الشرط الفاسد في النكاح مع صحته، وبالحل مانعًا أن الشرط يقابل بشيء، وإن كان له دخل في زيادة العوض ونقصانه، ولذلك لم يكن في فقده إلا الخيار بين الفسخ والإمضاء مجانًا، ومقررًا أن التفاوت بين المتصف بالشرط وغيره منضبط وليس مجهولاً، ومؤكدًا أن الجهالة الطارئة على العوض لا تقدح بعد أن تم العقد بلا جهل عند الإنشاء.

ثانيًا: أن التراخي إنما وقع على النحو الخاص، فإذا تعذر لم يبق التراخي على ما هو عليه.

وأجاب عنه بمنع كون ارتباط الشرط بالعقد يحوج انتفاؤه إلى معاوضة جديدة تمامًا لو تبين نقص أحد العوضين؛ فإنه لا يبطل العقد من الأصل وإن كان يوجب الخيار.

ثالثًا: يذكر بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام والتي يبدو منها فساد أصل العقد وأجاب عنها.

واستدل لصحة هذا العقد بروايات من قبيل:

حديث نافع أن عائشة رضي الله عنها ساومت بريرة، فخرج إلى الصلاة فلما جاء قالت: إنهم أبوا أن يبيعوها إلا أن يشترطوا الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما الولاء لمن أعتق)) (1) والظاهر منها صحة العقد وبطلان الشرط.

وأخيرًا: تردد في المسألة قائلاً: (والإنصاف أن المسألة في غاية الإشكال)(2) .

7 ـ ما الحكم لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد والمفسد للعقد؟

إن قلنا بأن العقد فاسد من الأول فلا أثر لهذا الإسقاط، ولكننا لم نقل به.

والله أعلم.

(1)(صحيح البخاري: 3 / 94) ، طبعة إحياء التراث. والرواية رواها مشايخ الإمامية في أصولهم)

(2)

(المكاسب: 5 / 289)

ص: 1367

ملخص البحث:

قمنا بعون الله وتوفيقه بالخطوات التالية:

أولاً: عرفنا بالتأمين الصحي نفسه، ولم نر ضرورة للتعرض لتفاصيل البطاقات الصحية.

ثانيًا: للوصول إلى الحكم الشرعي للتأمين الصحي سلكنا الخطوات التالية:

أـ ركزنا على أن المشكلة الأساسية في هذا العقد هي مشكلة الغرر، فبحثنا بإيجاز عن نوع الغرر المنهي عنه، وذكرنا ضرورة التعمق ـ أكثر من ذي قبل ـ في هذا البحث المهم، وللتمهيد لمعرفة النتيجة تعرضنا لمثالين مهمين يقوم البحث فيهما على نوع الغرر الذي يصاحبهما وهما:

ـ مسألة اشتراط القدرة على التسليم.

ـ مسألة خيار الشرط.

وخلصنا بالتالي إلى أن الغرر المنهي عنه هو:

(ما كان له ظاهر يغر وباطن مجهول يجعله في معرض الخطر المعاملي، وهو الاختلاف والنزاع بعد ذلك بشكل يصعب معه تعيين الموقف عند التشاح، فيحصل الضرر والهلكة والخطر) .

ب ـ ثم قمنا بتطبيق النتيجة على موردنا (التأمين الصحي) فلم نجد فيه مصداقًا لهذه النتيجة.

جـ ـ وذكرنا بحثًا أصوليًا يوضح الموقف عند الشك في مثل هذا المورد، وهو بحث (التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للدليل المخصص) ورأينا أيضًا أنه لصالح تصحيح المورد، وانسجامه مع القواعد.

د ـ بحثنا عن الطبيعة التعاونية للتأمين الصحي، وأكدناها من خلال نظرة اجتماعية عامة.

هـ ـ وبالتالي ذكرنا مدى الحرج الاجتماعي، الذي يتحقق بنفي موضوع التأمين الصحي. والحرج من العناوين الثانوية التي تتقدم على عناوين الأحكام الأولية حتى ترتفع الحالة الحرجية.

ص: 1368

ثالثًا: تعرضنا لحكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل عبر الخطوات التالية:

أـ توضيح قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) .

ب ـ ضرورة أخذ شرط القدرة في الشروط اللازم الوفاء بها.

جـ -محاولة لتصوير وجود هذا الشرط في مورد مسألتنا.

د ـ الحديث عن بعض الشروط المشابهة التي ذكرها الفقهاء.

هـ ـ وتعرضنا لأسلوب يحل المشكلة على أساس من السلوك العقلاني غير المنهي عنه من قبل الشارع.

وـ ومع افتراض فساد هذا الشرط فهل يبطل العقد؟ هذا ما ذكرناه هنا.

ز ـ حل بعض الإشكالات على النتيجة والاستدلال عليها.

ح ـ الحكم فيما لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد.

ص: 1369

مشروع القرار المقترح

أما بعد. . .

فإن مجمع الفقه الإسلامي قرر:

1 ـ أن عقد التأمين الصحي جائز وذلك:

أولاً: لعدم بلوغ الغرر فيه إلى الحد الكثير.

وثانيًا: لطبيعته التعاونية.

وثالثًا: للحاجة الاجتماعية إليه.

2 ـ من المرجح أن تشكل شركات تعاونية لهذا الغرض، أو تعمل الحكومات على تأمين هذه الحاجة لموظفيها بل لمواطنيها.

3 ـ لا يختلف الحال فيما لو كانت هناك واسطة في العقد من شخص أو شركة تعاونية أو تجارية، وإن كان من المرجح عدم إدخال الشركات التجارية في البين.

4 ـ لو اشترط شخص على الطبيب المعالج البرء لاستحقاق المقابل فإنه يراعى في تصحيح هذا الشرط نوع المرض، وقدرة المعالج.

وعند التخلف يثبت خيار تخلف الشرط، فله الفسخ فيعود لأجرة المثل وله الإمضاء.

والله تعالى أعلم

ص: 1370