الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأمين الصحي
وتطبيقاته المعاصرة
في ضوء الفقه الإسلامي
إعداد
المستشار محمد بدر المنياوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم وبيان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد تكالب الناس على التأمين حتى ارتفعت أرصدته ارتفاعًا فكليًا وأصبحت تمثل قوة اقتصادية يخشى بأسها، واستخدمت الملايين من أرباحه في الدعوة له والذود عنه، وإظهاره على أنه الدواء الناجع عندما تفجأ الخطوب أو تنقلب الأيام.
وفي العالم الإسلامي المعاصر سال المداد غزيرًا، وارتفعت الحناجر بالحوار حول مدى مشروعية هذا النوع المستحدث من المعاملات، ثم هدأت العاصفة عن حكم استقرت عليه المجامع العلمية الإسلامية، قضى بحرمة التأمين التجاري ومشروعية كل من التأمين التعاوني والتأمين الاجتماعي، وظلت –مع ذلك- أصوات هنا وهناك تسعى إلى الوصول إلى مشروعية التأمين بجميع أشكاله وصوره، أو على الأقل فيما عدا التأمين على الحياة.
والدراسة الماثلة تبدأ من حيث انتهت إليه مجامعنا العلمية، فلن تناقش ما استقر عليه الأمر فيها، وإنما ستعرض لبعض التطبيقات، التي اختارت لها نوعًا من التأمين، يمتاز بنبل غايته وشرف مقصده، وإن شانه في بعض الأحيان استهداف الربح المادي، وسيطرت عليه المصلحة الفردية، ذلكم هو التأمين الصحي.
وسوف تستفتح هذه الدراسة بمبحث أول عن أنواع التأمين، وتطوره الذي وقع في الماضي، وتطوره المنتظر في المستقبل، والمبادئ التي تحكم هذا التطور المرتقب.
وفي المبحث الثاني تعرض الدراسة لأحكام بعض التطبيقات المتصلة بالاتفاق مع المستشفيات على العلاج، سواء أكان ذلك باتفاقات فردية أم جماعية أم عن طريق شركات تأمين تجارية أو تعاونية.
وفي المبحث الثالث تعني الدراسة ببيان حكم الاشتراط مع الطبيب على البرء، بوصف أن هذه المعاملة وضعها رجال القانون (1) بين صور التأمين الصحي، وقدموا لدراستها بالكلام عن طبيعة عقد العلاج الطبي، بما يقضي استجلاء رأي الفقهاء الإسلاميين في ذلك، والتعرف على حكمهم في هذا الاشتراط.
والله أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصًا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا التوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد بدر المنياوي
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/676، بند 440؛ وحكم المحكمة المختلطة المشار إليها في هامش، ص 673، والصادر في 5 فبراير سنة 1918م؛ والدكتور عبد الرشيد السيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية سنة 1986، ص 71 – 72.
المبحث الأول
أنواع التأمين الصحي – وتطوراته
1-
(التأمين الصحي) اصطلاح مكون من لفظين، أولهما مشتق من الأمن، بمعنى عدم توقع مكروه، وقد استعمل في الاصطلاح ليبشر بإسباغ الطمأنينة التي يستبعد معها الخوف من وقوع المكروه مستقبلًا، على نحو ما استعمل في قول الله تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 – 4]، وقوله:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 – 99] .
والإنسان بفطرته محتاج إلى ضمان هذا الأمن، ذلك لأنه يؤمن بأن من الأخطار المتوقعة ما لا يستطيع أن يتحاشى وقوعه، وإذا وقع فلا قدرة له وحده على رده، أو تحجيم مضاره، بل لا بد له ممن يعاونه على هذا أو ذاك.
وقد كان الإسلام أحرص الشرائع كلها على الدعوة إلى التعاون والتآزر في تفريج الكروب وتخفيف وقعها، فمن شعائره أن من نفَّس عن مؤمن كربة في الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأن على المؤمن أن يكون لمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وأن على المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم أن يكونوا كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولم يقف الإسلام في الأمر بالتعاون والتكافل عند حد المشاركة الوجدانية، بل إنه أرسى مبادئ تخطى بها هذه الحدود، وانفرد بها عن أي نظام آخر، ويكفي مثلًا لذلك أن يشار إلى نظام التآخي بين المهاجرين والأنصار، ونظام تكافل العاقلة، ونظام كفالة الغارمين بإعطائهم سهمًا من مصارف الزكاة المفروضة فرضًا.
2-
على أن ربط (التأمين)(بالصحة) في الاصطلاح المشار إليه يحصرنا داخل إطار محدد لا يتجاوز الوسائل التي من شأنها استبعاد خطر المساس بالصحة كليًا أو جزئيًا.
ويقصد بالصحة في هذا الصدد كل المقومات البدنية والعقلية والوجدانية التي تتطلبها النفس البشرية لكي تستقيم على طريق الدين والدنيا، فالصحة من الأمور التي لا يتسنى دونها القيام على الوجه الأكمل بمطالب الحياة الأولى أو الحياة الثانية، فهي عماد الضرورات الخمس، سواء أكانت هذه الضروريات مقصودة في ذاتها، لحفظ النفس أو العقل أو النسل، أم مقصودة بوصفها وسيلة للحفاظ على الدين أو المال، ثم إن اختلالها يؤدي إلى اختلال غيرها من المصالح الحاجية والتحسينية، إذ هي أصل لهما بوصفها ضرورية، واختلال الأصل يلزم منه اختلال الفرع من باب أولى (1) .
3-
ورعاية الصحة ليس بالأمر المحدود أو الهين، فهو يشمل كل ما من شأنه أن يحصن الإنسان ضد المرض، كما يشمل علاج المرض إذا وقع، ومعالجة آثاره التي قد يخلفها، وبعبارة أخرى: فإن الرعاية الصحية تنطوي على الرعاية الوقائية والرعاية العلاجية معًا، كما تنطوي على تخفيف وقع الآثار التي قد تتخلف عن المساس بالصحة.
على أن التأمين الصحي لا يشمل الرعاية الصحية بكافة صورها وأشكالها، فهو لا يتناول إلا ما يتوافر فيه عنصران: أحدهما: أن يكون المستقبل هو محور النظر فيه. الثاني: أن يسهم الفرد (المؤمن عليه) في نفقات الرعاية إسهامًا؛ فلا يستقل بها وحده، ولا يتحملها عنه غيره (2) .
(1) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، طبعة دار الكتب العلمية – بيروت: 2/7، 9، 13، 14.
(2)
التقرير المبدئي للجنة الصحة والسكان والبيئة بمجلس الشورى المصري عن مستقبل الرعاية الصحية في مصر والتوجيه القومي للتأمين الصحي الاجتماعي، طبعة مجلس الشورى، سنة 1995م، ص 48 – 49 (غير متداول) .
وعلى هدى ذلك فإنه لا يعد تأمينًا صحيًا ما يأتي:
أ- الرعاية العلاجية بالمستشفيات الحكومية المجانية، والرعاية الوقائية من خلال أجهزة الدولة ووحداتها المحلية.
ب- الرعاية الصحية التي تقدمها المؤسسات والهيئات العامة للتابعين لها بلا مقابل مادي، كالرعاية التي تقدمها القوات المسلحة لأفرادها، والرعاية التي توفرها بعض الهيئات القضائية أو الشرطية في بضع الدول العربية الإسلامية لأعضائها.
جـ – الرعاية التي تقدمها الجهات الخيرية مجانًا في المستوصفات ووحدات الإسعاف أو غيرها.
د- العلاج الاقتصادي، أو بالأجر المخفض الذي تقدمه الدولة أو جهات الخير أو دور العبادة.
هـ- العلاج بأجر كامل في المستشفيات الخاصة، وعيادات الأطباء مما يتحمل المريض وحده نفقاته.
فهذه النماذج وأمثالها من وسائل الرعاية الصحية، ليست تأمينًا، لأنها تفتقد العنصرين السابقين كليهما، إذا كانت رعاية لمرض حال أو لإصابة وقعت، أو لعجز نزل، أو تفتقد أحدهما كما إذا كانت تعهدًا بعلاج ما قد يقع مستقبلًا بلا أجر أو بأجر مخفض.
أما إذا توافر العنصران فإن الرعاية تكون تأمينًا، سواء تولته شركة، أو جمعية، أو نظمته الدولة بنفسها أو بواسطة إحدى هيئاتها العامة، وسواء أسهم مع الفرد في تحمل النفقات أفراد آخرون، أو أعانته الدولة من خزانتها مباشرة، أو مولته عن طريق فرض ضريبة تمثل نسبة من الدخل، أو تقرير رسم على خدمة أو خدمات معينة، وساء أكان الاشتراك في الرعاية إلزاميًا أم كان اختياريًا، يحق للفرد أن يحصن نفسه به إن شاء، وإلى المدى الذي يريده.
4-
ولا ريب أن الاشتراك في تحمل عبء المرض مزية تحسب للتأمين الصحي، فهذا الاشتراك يعد بلسمًا يداوي الأثر البدني الذي أورثه اختلال الصحة، وذلك إذا نظرنا إليه من زاوية إسهام غير المريض فيه، أما إذا نظرنا إليه من زاوية تحمل المريض بجزء من النفقات، فإنه يعد وسيلة لإشعار هذا المريض بأنه إنما يتلقى الرعاية بمقابل يتحمله هو، مما يحول بينه وبين الاستهانة بها أو الإفراط فيها دون مبرر، وهي أمور قاست منها نظم العلاج المجانية وشبه المجانية حين نهل من خيراتها من لا يستحق، أو كال منها المريض اكثر من حاجته، فأدى ذلك إلى أن منيت بالفشل الذريع الذي زكاه سوء الإدارة، وارتفاع تكلفة الرعاية، بارتفاع أجور القائمين عليها، وثمن الأدوية والمهمات المستخدمة فيها، إلى جانب اتساع نطاقها بتشعب طرق العلاج نتيجة للتقدم الطبي في الجراحة وفي وسائل التشخيص الحديثة، وازدياد عدد من يستحقونها بسبب زيادة نسبة المسنين الذين يتطلبون رعاية أوسع مدى مما يستحقه الشبان (1) .
(1) تقرير لجنة مجلس الشورى المصري، التقرير المبدئي للجنة الصحة والسكان والبيئة بمجلس الشورى المصري عن مستقبل الرعاية الصحية في مصر والتوجيه القومي للتأمين الصحي الاجتماعي، طبعة مجلس الشورى، سنة 1995م، ص 35.
5-
وقد نشأ التأمين أول الأمر بدافع شخصي، قوامه رغبة بعض الأشخاص في تحصين أنفسهم ضد مغبة خطر يتهددهم، فتلقف ذلك بعض الباحثين عن الربح، وتقدموا لهم يعرضون إعانتهم في كبوتهم عند وقوع الخطر الذي يخشونه، وذلك بتقديم بعض المزايا العينية أو النقدية، مقابل أن يسدد لهم –مقدمًا- طالبو الأمان، أقساطًا مالية، محسوبة على أساسٍ من قوانين الإحصاء وقوانين الاحتمال التي تكشف عن مدى احتمال وقوع الخطر، وقدره حين وقوعه، وعدد مراته، وذلك طبقًا للمجريات العادية للأمور، مع الاستعانة بميزة الأعداد الكبيرة، لما هو معروف من أنه كلما كبر عدد الوحدات الموضوعة تحت الملاحظة، وعظم تجانسها، فإن الخطر يكون أكثر انضباطًا في نسبة وقوعه. وهكذا يضمن هؤلاء المؤمنون، أن يقبل طالبو الأمان، لقلة القسط المطلوب منهم، وأن تعود عليهم العملية التأمينية بربح، يتمثل في الفرق بين الأقساط التي قبضوها، وقيمة المزايا التي قدموها لمن وقع عليهم الخطر من المستأمنين، وهو ربح لا بد وأن يكون مشبعًا، لقلة عدد مرات تحقق الخطر، وفقًا لما ترشد إليه القوانين الإحصائية المشار إليها، والتي هي عمادهم في الإقدام على التأمين، بحيث إنها إذا لم تضمن لهم أن يفوزوا بنصيب الأسد، فلا محل للتأمين.
ولا شك أن هذه النظرية النفعية الأنانية المحضة تعيب هذا النظام التأميني، وقد تصرف عنه من ينشد الأمان، إذا وجد ما يمكن أن يحقق مزاياه مبرأة من هذا الاستغلال المقيت، الذي يعود على المؤمن بالربح الوفير، وقد قوع ذلك فعلًا حين اكتشف الناس في العصور الوسطى أنه يمكن استبعاد دور التاجر المستغل، بخلق صلة مباشرة بين راغبي الأمان حتى يؤمن بعضهم بعضًا، فنشأت بذلك جمعيات لهذا الغرض، أطلق عليها اسم الجمعيات التبادلية، وفيها كان أعضاؤها جميعًا يسهمون في التعويض الذي يدفع لمن وقع به الخطر، عن طريق اشتراكات يقدرون كفايتها، فإن أوفت بالتعويض فيها ونعمت، وإلا أضيفت إليها مبالغ أخرى تصل بها إلى الكفاية، ولا بأس بعد ذلك من احتساب مقدار الاشتراك، وتوزيع الأعباء والتعويضات النقدية والعينية بذات الأسلوب الذي يستخدمه المؤمن التاجر سالف الذكر، طالما أن ذلك لا يمس عنصر التكافل والتعاون في مواجهة الكارثة.
على أن هذا التأمين التبادلي أو التعاوني لم يف وحده بالحاجة، ذلك لأنه يتطلب في أعضائه وفرة في العدد، وتجانسًا في المخاطر وتقاربًا في الحالة الاجتماعية، كما يتطلب توعية بالغة، حتى يقبل الأعضاء إلى الاشتراك فيه، فيعصمونه بذلك من التردي في حومة الفشل الذي يسعى إليه أنصر التأمين الأول، جزاءً وفاقًا على ما أضاعه عليه من ربح وفير.
لذلك، وبسبب هذه العقبات، نشأ نوع جديد من التأمين، يستبعد الربح الذي يصم النوع الأول، فيجعل الهدف اجتماعيًا بحتًا، ويعالج الفشل الذي يتعرض له النوع الثاني بعدم الإقبال عليه إقبالًا كافيًا، وذلك بجعل الاشتراك فيه إجباريًا، ويحكم قبضة القائمين على النظام ابتغاء حسن إدارته، فيحرره ما أمكن من الروتين الحكومي، ويجعل له موازنة مستقلة تتجمع فيها الاشتراكات التي يقدمها المؤمن عليهم وغيرهم، وتغذيها الأموال العامة التي تصدر عن الخزانة أو غيرها، وذلك حتى تؤتي هذه التأمينات أكلها كل حين بإذن ربها.
6-
وقد اصطلح علميًا على إطلاق اسم التأمين التجاري أو الخاص على النوع الأول، وعلى إطلاق اسم التامين التبادلي أو التعاوني على النوع الثاني، وعلى إطلاق اسم التأمين الاجتماعي على النوع الثالث، وجرى العمل في كثير من بلدان العالم على عدم الانحصار في نوع واحد من هذه الأنواع، وإن كانت الدول المتقدمة توسع من نطاق التأمين الاجتماعي أما الدول الإسلامية فقد بدأت تتبنى نظم التأمين التعاوني، ومع ذلك، فما تزال معظم بلاد العالم متشبثة بالتأمين التجاري الذي قد ينفرد ببعض صور التأمين، كالتأمين على حوادث السيارات.
7-
وهكذا يمكن من خلال ما تقدم أن نستشف خصائص كل نوع من أنواع التأمين سالفة الذكر:
ففيما يختص بالتأمين التجاري، فإن له من الخصائص ما يأتي:
1) أنه يهدف إلى الربح، فإذا لم يجد المؤمن ما يعينه على ضمان الربح الذي ينشده، فإنه يمتنع عن التأمين، كما إذا كانت المخاطرة غير منضبطة في مجموعها، لارتباط حدوثها بوقوع حروب أو كوارث طبيعية، أو كان ما يطلب فيه التأمين، من الأمور المستحدثة التي لم يسبق وقوعها بالقدر الذي يسمح بإعمال قوانين الإحصاء (1) .
2) أن التعاون على توزيع المخاطر ليس هدفًا لهذا النوع من التأمين، فالمؤمن لا تسيطر عليه روح التكافل أو روح الشهامة في تدارك من وقع بهم البلاء أو نزلت بساحتهم المصائب، ولا يعنيه أن تتحقق التسوية الحقيقية بين من يؤدي إليهم التعويض ممن وقعت عليه كوارث متساوية.
والمؤمن عليهم لا يرتبط بعضهم ببعض بأي رابطة عقدية، ولا أثر لوقوع الخطر على غير من وقع عليه، بحسب الأصل، ولا يهم أيًا منهم من التأمين سوى ضمان الحصول لنفسه على أكبر قدر من المزايا التأمينية.
وعلاقة المؤمن له بالمؤمن علاقة تاجر بعميل، وليست علاقة منظم للتعاون بفرد من أفراد الهيئة المتعاونة (2) ، وما يربطهما ليست رابطة جماعية تجمع بين المؤمن لهم، وإنما هي رابطة فردية يحكمها العقد لمحرر بينهما، ويستقل في ذلك تمامًا عما سواه من عقود التأمين الأخرى.
3) إن المؤمن –في هذا النوع من التأمين- يستقل بشخصيته عن المؤمن عليهم؛ فإذا قام التأمين التجاري على يد شركة مساهمة، فإنه –في العملية التأمينية- يمثل المؤمن جماعة المساهمين في هذه الشركة، ويكون المؤمن عليهم عملاءها، وتدخل الأقساط التي يدفعونها في ملكيتها بمجرد أدائها، وما تستثمره الشركة من الرصيد تعود أرباحه وفوائده على المساهمين فيها، فإذا زاد المتحصل من هذه الأقساط واستثماراتها عن مجموع التعويضات والمزايا الأخرى التي تستحق، استقر الفائض على ملكيتها، فإن قل تكبدت الشركة الفرق من رأس مالها.
4) إن العلاقة بين المؤمن والمؤمن عليه، علاقة تعاوضية، لا شأن للتبرع فيها، فتعهد المؤمن له بدفع القسط سببه تعهد المؤمن بدفع العوض أو المبلغ المؤمن به، وذلك على نحو ما يدل عليه تعريف عقد التأمين في القوانين ومنها القانون المصري (مادة 747) والقانون السوري (مادة 713) والقانون الليبي (مادة 747)، فقد جرى هذا التعريف بأن (التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له، أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَن له للمؤمِن) .
(1) فقد حدث مثلًا في أوائل القرن العشرين أن رفضت شركات التأمين التجارية التأمين على حوادث النقل الجوي، وحين شاع، وتحسنت وسائله، أقبلت على تغطية المخاطر التي تنشأ منه، سواء تلك التي تتعرض لها الطائرات نفسها، أو ما تنقله من أشخاص وبضائع. انظر: الشيخ عيسوي أحمد عيسوي. أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص 175.
(2)
الشيخ زكي الدين شعبان، التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، مجلة الحقوق والشريعة، بالكويت، السنة الثانية، العدد الثاني، يونيه 1978م، ص 26.
5) إن عقد التأمين التجاري يحدد مقدمًا مقدار القسط المستحق على المؤمن له، وقدر المزايا التأمينية التي يتحملها المؤمن، ولا تقبل – بحسب الأصل – أي تعديل يفرض على أي من طرفيه إبان سريانه أو بعد تحقق الخطر، ولو اتضح أن حاجة المؤمن له للمزية التأمينية تفوق كثيرًا القدر المتفق عليه في العقد.
6) إن عقد التأمين التجاري عقد اختياري، يقدم عليه الطرفان باختيارهما وبدافع المصلحة الذاتية لكل منهما، وإن كان ذلك لا ينفي أنه عقد إذعان، إذ لا يملك الراغب في الأمان إلا أن يرضخ للشروط التي يمليها المؤمن في وثيقة التأمين، كما أنه لا ينفي كذلك احتمال أن يكون عقد التأمين واجبًا في ذاته، كما إذا أوجب القانون القيام بالتأمين في كل عميلة من علميات النقل البحري، فذلك لا يخرج هذا التأمين عن طبيعته، فالراغب في ممارسة عقد النقل يكون –مع هذا الإلزام- على حريته في اختيار المؤمن وانتقاء نظام التأمين الذي يرتضيه، وذلك بخلاف ما إذا كان التأمين مفروضًا بالقانون في أقساطه ومزاياه وسائر القواعد التي تحكمه، فذلك يخرج العقد عن طبيعته الاختيارية، وقد يلحقه بالتأمين الاجتماعي كما في التأمين على حوادث السيارات في النظام المطبق في بعض البلاد العربية (1) .
فإذا تحققت الخصائص المشار إليها في عقد التأمين، كان تأمينًا تجاريًا، بغض النظر عن الشكل الذي يتشكل به؛ فقد يكون المؤمن شركة تجارية، وقد يكون تاجرًا عاديًا، أو مجموعة من الأطباء يمتلكون مستشفى أو يديرونه بهدف الربح، لحسابهم أو لحساب غيرهم، وقد يكون المؤمن له فردًا واحدًا أو مجموعة من الأفراد، وقد يكون الخطر المؤمن منه هو المرض مطلقًا، أو إصابة العمل، أو العجز عن الكسب بسب الشيخوخة أو غير ذلك.
(1) الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، التأمين وإعادة التأمين، من الوثائق المقدمة في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي بالمؤتمر الإسلامي، ومنشور في مجلة المجمع، العدد الثاني: 2/617 وما بعدها.
8-
أما التأمين التعاوني فإن خصائصه يمكن حصرها فيما يأتي:
1) إنه يسعى إلى التعاون ولا يهدف إلى الربح، فهو ينشأ بقصد إفادة جماعة يتعرض أفرادها لأخطار متشابهة بتأمين الأضرار التي تتهددهم، كالمرض وحوادث العمل والعجز، أو تتهدد ذويهم في حالة حدوث الوفاة نتيجة شيء من ذلك، ويقوم على أساس توزيع الاشتراكات التي تجمع من كل فرد من هذه الجماعة، على من يبتلى منهم بالمصيبة المؤمن منها، تعاونًا بينهم على تحمل تلك المصيبة مع من حاقت به، دون أن يعود على أيهم ربح مادي عما أداه من اشتراكات، فإن زادت هذه الاشتراكات على ما يصرف من تعويض، كان للأعضاء الحق في استرداد الفائض، وإن نقصت، طولبوا باشتراكات إضافية لتغطية العجز، أو أُنقصت التعويضات المستحقة بنسبة هذا العجز.
2) إن المؤمن لهم هم أنفسهم الذين يقومون بالتأمين، الرصيد المتحقق من اشتراكاتهم لا يخرج عن ملكيتهم، واستثمارات هذا الرصيد لا تذهب إلى ذمة أخرى. وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون لمجموعهم شخصية اعتبارية في القانون، تتملك الرصيد المتحقق من الاشتراكات ومن الاستثمارات، على أن يعتبر المستأمنون هم أنفسهم أصحاب هذه الشخصية، بحيث تعود عليهم نتيجة التصفية إذا حدثت.
3) إن تحديد الاشتراكات يخضع لمبدأ الموازنة بين مجموعها وبين التعويضات والنفقات التي تصرف، دون اعتبار لأي عائد مادي يعود على غير من يقع عليهم الخطر. كما أن تحديد المزايا التأمينية لا يتحتم أن يكون مقدمًا عند الاتفاق على التأمين، بل يجوز الاتفاق على ميعاد آخر لتحديد هذه المزايا وفق الظروف التي تمليها النظرة الاجتماعية التعاونية، وذلك بخلاف عقد التأمين التجاري الذي تحدد به هذه المزايا تحديدًا قاطعًا.
4) إن التأمين التعاوني تأمين اختياري، ولكنه لا ينطلق من زاوية المصلحة الشخصية الذاتية البحتة، كالتأمين التجاري، وإنما ينطلق من مصلحة الجماعة، ويستند إلى الاقتناع بمبدأ التعاون والتكافل، دونما إلزام قانوني بالالتجاء إلى نظام معين بالذات.
وفيما عدا الخصائص المشار إليها والتي يمتاز بها التأمين التعاوني، فإن طبيعة هذا التأمين لا تفرض أوضاعًا معينة، أو تملي شكلًا محددًا، فيجوز أن تتولاه جمعية أو شركة أو مؤسسة بالنسبة للتابعين لأيها، طالما أن القائمين عليه لا يسعون إلى الربح ولا يهدفون لغير التعاون والتكافل في تحمل تبعات المرض وآثاره.
وقد شاع في الآونة الأخيرة أسلوب مستحدث لهذا النوع من التأمين أطلق عليه اسم صناديق التأمين الخاصة، وهي صناديق ينشئها ويديرها ويستفيد منها جماعات من الأفراد، تجمعهم صفة واحدة، أو نشاط اجتماعي أو صناعي معين، وتتكون هذه الصناديق بدون رأس مال، وتنحصر مواردها –بصفة أساسية- في الاشتراكات واستثماراتها، وتعمل على تبادل تغطية المخاطر دون أن تهدف إلى ربح، وقد اكتسبت هذه الصناديق شرعية في الدول التي تقوم فيها، وتدخلت الحكومات للإشراف والرقابة عليها، ضمانًا لحماية الحقوق التأمينية للمؤمن عليهم وحسن ضبط حساباتها (1) .
(1) في تفصيل نظام صناديق التأمين الخاصة، الدكتور سعد السعيد عبد الرزاق، بحثه المقدم لمؤتمر مشاكل نظام التأمين الاجتماعي المصري، المنعقد بالقاهرة في 23 و 24 مارس 1996م، ص 2 و27. وبحث الدكتور الفونس شحاته المقدم لذات المؤتمر عن دور صناديق التأمين الخاصة في استكمال نطاق الضمان الاجتماعي، ص 12. والبحثان من توزيع المؤتمر، ولم يطبعا بعد.
9-
أما التأمين الاجتماعي فإن خصائصه الأساسية تجمل فيما يأتي:
1) أنه يهدف إلى أن تكون الرعاية الصحية التأمينية حقًّا للناس، وليست منحة يتبرع بها الآخرون وتعاونًا مع من وقعت عليه مصيبة المرض، كالتأمين التعاوني، كما أنها ليست مقابل التزام أدَّوه فيحصلون على الرعاية عوضًا عنه، كالتأمين التجاري، وإنما هي ناشئة عن الحاجة إليها، مرتبطة بها (1) ، ويمليها مبدأ الضمان الاجتماعي الذي يجعل لكل فرد من بني آدم حقه في معيشة كريمة، دون استجداء لأحد أو توقف على سبق القيام بأي بذل أو عطاء.
2) أن هذا التأمين يتطلب فيمن يُسبغ عليه مظلته، أن يكون على يسار يسمح له بأداء الاشتراك كما يتطلب ذلك كل من التأمين التجاري والتعاوني، وذلك لأنه فرض أساسًا لحل مشكلات الطبقات الضعيفة التي قد لا تستطيع أن تواجه –بمفردها- ويلات المرض وآثاره، وبالتالي فإنه من غير المقبول أن يُشرط لإسباغ حمايته أن يكون المنتفع على قدر معين من اليسار (2) .
3) أن الاشتراك الذي يسدده المؤمن له، لا يرتبط بما اشترط بالعقد من مزايا تأمينية، كالتأمين التجاري، ولا بمقدار ما يسدد من تعويضات، لمن حاقت به الكارثة من المؤمن عليهم، كالتأمين التعاوني، وإنما يرتبط بأمر آخر لا شأن له بهذا أو ذاك، كمقدار الأجر الذي يتقاضاه المؤمن له، والعمل الذي يقوم به، والنفع الذي يعود منه على صاحب العمل أو على المجتمع. وعلى سبيل المثال، ففي التأمين الاجتماعي المطبق في مصر يختلف الاشتراك باختلاف ما يمارسه المؤمن عليه من عمل –وظيفة أو عمل خاص أو طلب علم (طالب) ، أو عمل سابق (متقاعد) أو عمل غيره (أرملة) -، ويختلف أيضًا بحسب الأجر، وقد يلزم بالاشتراك فيه غير المؤمن له من أصحاب الأعمال أو من سواهم، فيفرض على هذا الغير أداء مبلغ معين يمثل –في العادة- نسبة من الأجر أو المرتب الذي يحصل عليه المؤمن له.
4) أن هذا النوع من التأمين يمتاز بأنه إجباري (3) ، فلا يملك المؤمن عليهم الخيار في التأمين أو عدمه، كما هو الحال في التأمين التجاري والتأمين التعاوني؛ فهو مفروض عليهم فرضًا باشتراكاته ومزاياه التأمينية وسائر نظامه، ولا يملكون فيه تعديلًا، وإنما الحق في ذلك كله للقائمين على هذا التأمين يسعون فيه على هدى ما تمليه الأغراض الاجتماعية التي يهدف إليها، وفي حدود ما تفرضه الأداة القانونية المقرر بها.
(1) تقرير لجنة مجلس الشورى المصري، المرجع السابق، ص 13؛ والدكتور محمد رفعت رضوان، وكيل أول وزارة الصحة المصرية، مؤسسة التأمين الصحي في جمهورية مصر العربية، إصدار اللجنة العلمية للتأمين الصحي الاجتماعي بالقاهرة، الطبعة الثانية، ص 23.
(2)
الدكتور محمد نصر الدين منصور، التأمينات الاجتماعية، سعد سمك للنسخ والطباعة سنة 1993م، ص 39.
(3)
الدكتور محمد رفعت رضوان، وكيل أول وزارة الصحة المصرية، مؤسسة التأمين الصحي في جمهورية مصر العربية، إصدار اللجنة العلمية للتأمين الصحي الاجتماعي بالقاهرة، الطبعة الثانية، ص 40-41.
ويلقى هذا النوع من التأمين إقبالًا متزايدًا لما يحققه من مزايا تأمينية خالصة، ولخفة أعبائه على المستأمنين بالمقارنة بما يحتويه من مزايا عند وقوع الكارثة، لا سيما بعد ارتفاع نفقات الرعاية الصحية وتشعب مسالكها، ووفرة ما يحققه التقدم الطبي من فرص لم تكن ميسرة في الماضي القريب.
ولذلك كله فإنه عادة ما تحتفظ الدولة بسيطرتها على هذا التأمين الاجتماعي، فتتولاه بنفسها أو تعهد به إلى مؤسسة عامة تعمل تحت إشرافها أو وفقًا لقواعد منضبطة تضعها، وهي تتصرف في الرعاية وفق ما يمليه الصالح العام وفي حدود الإمكانات التي توفرها؛ فقد تتولى توفير الرعاية الصحية التأمينية من خلال وحدات مملوكة لها، وقد ترى الفصل بين ملكية هذه الوحدات وإدارتها فتحتفظ بملكيتها وتعهد بإداراتها إلى شركات متخصصة في ذلك، أو تكتفي باستئجار بعضها بأدواتها وأطبائها وفنييها، أو تتفق مع أطباء أو فنيين (أشعة – تحليل) على القيام بخدمة المؤمن عليهم لديها، مقابل أجر محدد لكل خدمة، أو بأجر إجمالي تدفعه عن مدة معينة.
ومن ناحية أخرى فإن أجهزة التأمين الصحي الاجتماعي قد تقدم خدماتها عينًا في صورة علاج ودواء وأدوات تعويضية، وقد تقدم هذه الخدمات نقودًا على دفعة واحدة أو على دفعات متعددة أو مدى الحياة.
ونتيجة لأن هذه الأجهزة مكلفة بإشباع حاجة المرضى الموضحة تفصيلاتها في نظامها، فإنها قد تعجز عن موازنة إيراداتها مع نفقاتها، مما يضطر الدولة إلى التدخل لإعادة هذا التوازن، وقد يكفي مثلا، لما تتحمله مثل هذه الأجهزة من نفقات تفوق مواردها أن نشير إلى أن التأمين الاجتماعي المفروض في مصر على العاملين بالحكومة وبالقطاع العام والخاص، من سنة 1964م لم تفرض فيه سوى اشتراكات زهيدة (1) وقد بقيت على ضآلتها هذه، فلم تزد طوال أكثر من ثلاثين سنة، رغم الارتفاع الرهيب الذي أصاب نفقات الرعاية الصحية، مما كان من آثاره أن وصلت مديونية هذا التأمين، في أوائل سنة 1996م إلى نحو (340) مليونًا من الجنيهات (2) .
على أن هذا الإخلال الجسيم في الموازنة بين إيرادات هذا التأمين ونفقاته لا يحق أن يكون مبررًا لإلغائه أو تنقيص فوائده، وإنما يكون دافعًا إلى إعادة تنظيمه ابتغاء إحكام إدارته، أو زيادة إيراداته، أو خلق مصادر جديدة لموارده وضبط قواعده حتى لا يستفيد منه إلا من هو جديد بالاستفادة وبالقدر الذي يحتاجه حقيقة، دون تفريط في الرعاية الصحية أو إفراط في استنزاف المال العام في غير ما يقتضي ذلك.
(1) اشتراكات هذا التأمين عبارة عن (4?) من أجر العامل يلزم صاحب العمل بثلاثة في المائة ويلزم العامل بواحد في المائة، فضلًا عن رسوم تافهة يتكبدها بمناسبة طلب بعض الخدمات (مثلًا خمسة قروش للطبيب الممارس العام، وعشرون قرشًا للزيارة المنزلية) .
(2)
تصريحات الدكتور نبيل المهيري رئيس هيئة التأمين الصحي بمصر وآخرين من المسؤولين عن الهيئة، منشورة بجريدة الأهرام الصادرة يوم 29/1/1996م، ويوم 4/2/1996، ويم 6/2/1996؛ والأهرام الاقتصادي عدد رقم 1413 الصادر في 5/2/1996، ص 14 – 18.
10-
هذه هي أنواع التأمين الشائعة، وتلك هي السمات البارزة لكل منها، وهي سمات ليست ثابتة تستعصي على التبديل والتغيير، بل هي عرضة دائمًا لهذا وذاك، إذ هي تقوم على أحد عمادين: أولهما: التراضي على الشكل الذي يحقق المصلحة، سواء أكانت فردية أم جماعية، والثاني: هو التوازن الاجتماعي كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
فالتراضي هو عماد عقد التأمين التجاري، كما هو عماد عقد التأمين التعاوني، والإرادة التي أنشأت كلًّا منهما تستطيع أن تضيف إلى أيهما من الخصائص ما تشاء، كما تستطيع أن تخص أحدهما ببعض خصائص الآخر، فتخلق نظامًا مزيجًا مختلطًا منهما، بل وتستطيع كذلك، بما لها من سلطة إنشاء عقود غير مسماة، أن تبتدع نوعًا مستحدثًا لا يدخل تحت أي من النوعين السابقين.
أما التوازن الاجتماعي الذي هو عماد التأمينات الاجتماعية فقد كان ثمرة لكفاح الطبقة العاملة، ولذلك فإنه لم يبلغ صورته الحالية دفعة واحدة، وإنما تدرج مع تدرج خطوات التطور الاجتماعي؛ وبما أن هذا التطور مستمر، فإن النظم القانونية للتأمينات الاجتماعية ما زالت هي الأخرى في تطور مستمر (1) .
ونتيجة لسلطان الإرادة النشط، وللتطور الاجتماعي المستمر، فإن في الأفق الاقتصادي، العملي والنظري،، نماذج من التأمين قد يصعب إخضاعها إخضاعًا كاملًا لأحد الأنواع سالفة البيان، وقد يعنينا في دراستنا الحالية للتأمين الصحي النماذج الآتية، وبعضها مطبق فعلًا:
أ- نموذج تأمين تقوم به شركة تجارية، غير أنه ملزم لا يمكن الأطراف خيارًا فيه. (التأمين على السيارات في بعض البلاد العربية) .
ب- نموذج تأمين تعاوني تقوم به شركة مختلطة، تشكل فرعًا لمنظمة أعم، وتمثل فيه الحكومة، بما يسمح لها بالإشراف والرقابة، وتسهم الدولة في تحمل المخاطر إذا تعثرت شركة التأمين أو زادت المخاطر عن القدر الذي جمعت الاشتراكات على أساسه. (قريبًا من النموذج الذي أوصت به هيئة كبار علماء السعودية)(2) .
جـ- نموذج تأمين تقوم به شركة مملوكة للدولة وتدار بذات القواعد والأسس والعقود التي تدار بها الشركات التجارية للتأمين (كشركات التأمين المصرية التي أُممت ظلت تباشر نشاطها التأميني كما كانت) .
د- نموذج تأمين تتولاه مؤسسة عامة ويفتقد شرط الإلزام؛ كأن يترك للأفراد حرية الاشتراك فيه.
هـ- نموذج تأمين تعاوني غير أنه:
- يستند إلى رأس مال لا يملكه كأن يقترضه من بنك إسلامي (شركة التأمين الإسلامية بالخرطوم) .
- أو يكون في أصله جزء من أرباح شركة تجارية ويخصص للتأمين الصحي على المساهمين في هذه الشركة وورثتهم (الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي) .
- أو تكفل الشركة التعاونية شركة تأمين تجارية بمقابل.
- أو تسند العملية التأمينية لشركة تأمين تجارية بمقابل.
- أو تباشر الشركة التعاونية نشاطها التأميني عن طريق مشروعات تجارية؛ كأن تنشئ لحسابها مستشفيات لعلاج المؤمن عليهم وعلاج غيرهم، وتهدف من هذه المستشفيات إلى الربح.
إلى غير ذلك من النماذج التي قد تصوغها الحاجات المتطورة والأفكار المتجددة مما لا يمكن إدخاله تحت حصر (3) .
(1) الدكتور أحمد حسن البرعي، المبادئ العامة للتأمينات الاجتماعية وتطبيقاتها في القانون المقارن، الطبعة الأولى سنة 1983م: 1/45.
(2)
الدكتور توفيق وهبة، الإسلام شريعة الحياة، القاهرة سنة 1975م، ص 13، 136 – 137. والشيخ علي الخفيف في بحثه عن التأمين، المقدم إلى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، والمطبوع حديثًا ملحقا بعدد المحرم سنة 1417هـ من مجلة الأزهر، ص 88، 90.
(3)
راجع في هذا الشأن الكلمة والأبحاث التي ألقيت في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي، وعلى الأخص كلمة الأستاذ عبد اللطيف جناحي، وكلمة الشيخ معروف الدواليبي، وبحث الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود. وهي جميعًا منشورة في مجلة المجمع، العدد الثاني: 2/706 وما بعدها، 685 وما بعدها، 617 وما بعدها. وراجع أيضًا الملخص الذي كتبه الشيخ فرج السنهوري، لبعض الأبحاث التي قدمت لمجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره السابع، الجزء الثاني. وراجع كذلك الدكتور أحمد السعيد شرف الدين، عقد التأمين وعقود ضمان الاستثمار (واقعها الحالي وحكمها الشرعي) سنة 1982م، ص 234 – 235.
على أن ما يكشف عنه التأمل في تطور التأمين على مستوى العالم أن الدول تسعى إلى تثبيت أقدامها فيه على أوسع مدى، وذلك جريًا على ما تراه نظرية الضمان الاجتماعي المعاصرة، في قمة تطورها، من ضرورة أن يكون أداء خدمات الضمان الاجتماعي، ومنها التأمينات الاجتماعية، عن طريق وسيلة عامة، وأنه لا يجوز إسنادها إلى هيئات خاصة، لأن مثل هذا الهدف الاجتماعي الذي تسعى إليه، لا يمكن تحقيقه من خلال مؤسسات تستهدف إلى الربح بالدرجة الأولى (1) .
فإذا روعي بجانب ذلك أن التوازن الاجتماعي كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية هو غاية للدولة الإسلامية بدليل قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25](2) ، وروعي أيضًا ما سبق أن ألمحنا إليه من أن الرعاية الصحية تدخل في نطاق الضروريات التي تؤثر على الحاجيات والتحسينيات، وتوجب على ولي الأمر التدخل للعمل على ضمان تحقيقها، فإنه لذلك تكون الدول الإسلامية مدفوعة بوازع من دينها الحنيف إلى التوسع في التأمين الاجتماعي بفرضه فرضًا، وإسناده إلى مؤسساتها وهيئاتها العامة، ومع ضبط قواعده، وإحكام إدارته حتى يؤتي أهدافه المنشودة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) الدكتور السيد حسن عباس، النظرية العامة للتأمينات الاجتماعية، دار المعارف بالإسكندرية سنة 1983م، ص 339.
(2)
الدكتور السيد حسن عباس، النظرية العامة للتأمينات الاجتماعية، دار المعارف بالإسكندرية سنة 1983م، ص 336 وما بعدها، والمراجع الإسلامية المشار إليها في هامشه.
المبحث الثاني
حكم التأمين الصحي
مع تطبيقات على التعاقد مع المستشفيات
11-
ذكرنا من قبل أن التأمين الصحي قد يكون كغيره من أنواع التأمين، تجاريًا، أو تعاونيًا، أو اجتماعيًا، وأن لكل نوع من هذه التأمينات خصائصه التي يمتاز بها.
ويهمنا –في مستهل الكلام عن حكم التأمين الصحي- أن نشير إلى أن أولي العلم في البلدان الإسلامية المختلفة، قد استقر اجتهادهم على حرمة التأمين التجاري، وعلى مشروعية كل من التأمين التعاوني والاجتماعي، وفرغوا اجتهادهم هذا في عدة قرارات، كان منها –حسب ترتيب صدورها- ما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في دورته الثانية المنعقدة بالقاهرة بتاريخ المحرم سنة 1385هـ/ مايو سنة 1965م، وفي دورته الثالثة المنعقدة بالقاهرة أيضًا، بتاريخ جمادي الآخرة ورجب سنة 1386هـ/ سبتمبر وأكتوبر سنة 1966م، وما صدر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة، المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397هـ، وما صدر عن المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الأولى المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي بتاريخ 10 شعبان سنة 1398هـ، وما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي في دورته الثانية المنعقدة في جدة بتاريخ ربيع الثاني سنة 1406هـ/ ديسمبر سنة 1985م.
ومع تقديرنا الوافر للتأصيل الشرعي الذي حظيت به هذه القارات، فإننا نرجو ألا نظلمها –كثيرًا- حين نلخص فحواها على النحو التالي:
أولًا: عقد التأمين التجاري ذو القسط الثابت، عقد فيه غرر كبير مفسد له، وهو ضرب من ضروب المقامرة والرهان المحرم، ويشتمل على ربا الفضل وربا النساء، أو ربا النَّساء وحده حسب الأحوال، وفيه أخذ مال الغير بالباطل، وإلزام بما لا يلزم شرعًا.
وقد فصلت لجنة هيئة كبار علماء السعودية الأسانيد الشرعية لذلك كله، وردت الشبهات التي أثارها القائلون بمشروعية هذا النوع من التأمين، بينما اكتفى مجمع المؤتمر الإسلامي بالاستناد إلى أن عقد التأمين التجاري (به غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو محرم شرعًا) .
ثانيًا: عقد التأمين التعاوني عقد مشروع؛ وقد قرن مجمع المؤتمر الإسلامي هذا الحكم بأنه عقد (قائم على أساس التبرع والتعاون) ، بينما أوضح تقرير اللجنة المنبثقة عن هيئة كبار علماء السعودية الأسانيد الشرعية للجواز، وأضاف أنها ترى أن يكون هذا التأمين على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة، للأسباب التي ذكرتها، ومنها (أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم، باعتبارهم أصحاب المصلحة الفعلية، وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة، ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية) .
ثالثًا: عقد التأمين الاجتماعي من الأعمال الجائزة، مثله في ذلك نظام المعاش الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول، وسائر نظم التأمينات الاجتماعية المتبعة في دول أخرى، وقد صرح بذلك مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمره الثاني، وأكد في مؤتمره الثالث انطباق حكم الجواز على أنواع التأمينات التعاونية، والاجتماعية، وما يندرج تحتهما من التأمين الصحي ضد العجز والبطالة والشيخوخة وإصابات العمل وما إليها (1) .
(1) نشر تقرير لجنة العلماء التي شكلها المجمع الفقهي بمكة المكرمة، مع قرار هذا المجمع في مجلة مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي، العدد الثاني: 2/643 – 651. ونشر قرار مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر بذات المجلة وذات العدد، ص 731. ونشرت قرارات المؤتمرين الثاني والثالث لمجمع البحوث الفقهية بالأزهر ضمن مجموعة قرارات وتوصيات المؤتمرات من الأول للتاسع، طبعة مطبعة الأزهر سنة 1985م، ص 27، 46.
12-
ولعل فيما تردد في مؤتمرات علماء المسلمين، وفي كتبهم، وفي مقالاتهم، وفي ندواتهم من الحوار العلمي، والمناقشات المثرية ما يعتبر معه ترديد ذلك من نافلة القول؛ بتحصيل حاصل هضمه علماؤنا الأفاضل وأدلى كل منهم بدلوه فيه، مما قد يكون معه من المفيد أن نعرض مباشرة لحكم بعض التطبيقات المتصلة بـ التأمين الصحي، ملتزمين بما رأته مجامعنا العلمية الموقرة في حكم ما تمخض لنوع من أنواع التأمين الثلاثة، ومسترشدين باجتهادها هذا في شأن ما اختلط أو استجد من أنواع التأمينات.
وهذه التطبيقات المعنية هي:
أولًا: اتفاق شخص مع مستشفى على أن يتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
ثانيًا: اتفاق مؤسسة مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجة موظفيها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعلميات ونحوها، أو مع عدم الالتزام بذلك.
ثالثًا: توسط شركة تأمين تجارية أو تعاونية بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة.
أولًا – حكم اتفاق شخص مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجته طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها:
13-
تخضع الحالة المعروضة في هذا التطبيق لعقد فردي، يجري بين شخص ومستشفى، يتعهد فيه المستشفى بعلاج هذا الشخص، من أمراض أو إصابات، لا شأن لها في وقوعها، ولا تعرف – هي أو الشخص المتعاقد معها – إن كان سيقع منها شيء في الفترة التي حدداها أو لا، وإذا وقعت، فلا يدري أيهما على أي خطورة ستكون، ولا مقدار ما تستنفده من نفقات لعلاجها، ولا ما تحتاجه من وقت وعمل لذلك، أما المتعاقد مع المستشفى فيتعهد بأن يدفع له مبلغًا معينًا، مقابل الخدمة العلاجية المحتملة، على أن لا يكون من حقه أن يسترد شيئًا مما دفعه، إذا لم يقع له ما يستحق العلاج المتفق عليه.
والعقد، على النحو الواضح مما تقدم، تتوافر له خصائص عقد التأمين التجاري، فهو عقد اختياري لا إجبار لأي من طرفيه على إبرامه، وليس التعاون على توزيع المخاطر هدفًا له، وإنما الهدف منه الربح، والمؤمن فيه ليس هو المؤمن عليه، والعلاقة بينهما علاقة معاوضة، تقوم على الاحتمال، وتنأى بنفسها عن التبرع.
ووضوح العلاقة التعاوضية ثابت من أن تعهد الشخص بدفع المبلغ الذي التزمه، سببه تعهد المستشفى بالعلاج. أما الاحتمال، فيكمن في أن التزام المستشفى بتقديم العلاج يتوقف على وقوع المرض أو حدوث الإصابة، وكلتاهما واقعة احتمالية غير مؤكدة الوقوع ولا معروفة النتيجة، ولا يد لأي من الطرفين في وقوعها أو في جسامتها. ثم إن هذا الاحتمال أمر يقوم عليه العقد، لأن ما يتوقف هذا التأمين على وقوعه أو على قدره، يعد ركنًا أساسيًا له، لا وجود للتأمين دونه.
وأما كون علاقة المتعاقدين بعيدة عن التبرع ولا صلة لها بالتعاون على الخير، فلأن المستشفى لا تبغي من ورائها مجرد أداء خدمة إنسانية تتفضل بها على عبد من عباد الله، كما أن المتعاقد معها لا يهدف من قيامه بالتزامه، أن يعاون غيره –ممن لا يعرفه ولا يرتبط به بأي رابطة – فيما قد يحل به من أمراض أو إصابات، كما أنه لا يهدف كذلك إلى فعل الخير للمجموع بتقديم العلاج إلى من يحتاجه ممن لا يقدر على تكاليفه، وإنما كل من المتعاقدين يرمي إلى مصلحة ذاتية له، فالمستشفى يسعى إلى ضمان ربح مادي لها، بحصولها على المبلغ المدفوع وعدم تقديم ما يبلغ مبلغه من علاج، والمتعاقد يهدف إلى أن يحقق لنفسه وفرًا في النفقات إن وقعت به مصيبة المرض أو الإصابة واحتاج إلى مبالغ طائلة لعلاجها.
ومن ناحية أخرى، فإنه لم يقع الذي يتهدد الشخص المتعاقد، فإن التزامه بتقديم المبلغ النقدي المتفق عليه يتعرى عن سبب شرعي يبرر الحصول عليه، فالمستشفى لم يقدم أي علاج يستحق عليه أجرًا، ولا فضل له في عدم وقوع المرض أو الإصابة حتى يتقاضى مقابلًا لجهده في منع وقوعه، ومجرد ضمان عدم الوقوع لا يملكه، إذ إن حدوث الأمراض ووقوع الإصابات مرده إلى أمور لا يد له فيها.
وترتيبًا على ذلك يكون العقد قد شابه ما يشوب عقد التأمين التجاري من غرر كبير وجهالة فاحشة، مما يشكل أكلًا لأموال الناس بالباطل أو إلزامًا بما لا يلزم شرعًا.
فأما الغرر الكبير (1) فقد تناول منه –فيما تناوله- المعقود عليه، وهو هنا العلاج الذي تعهدت به المستشفى في مقابل المبلغ الذي دفعه المتعاقد، إذ إن هذا العلاج لا يُعرف إن كان سيقدم أولًا، وإذا قدم، فعلى أي قدر يكون، وما هي نسبته إلى المبلغ المدفوع للمستشفى.
(1) الخرشي، الطبعة الأولى، ص 3، 425 وما بعدها؛ الشرح الصغير، طبعة دولة الإمارات سنة 1989م: 3/91. وقد وضع الإمام ابن القيم معيارًا للغرر الكبير يتمثل في أن يكون المعقود عليه مما لا يعلم حصوله، أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقة مقداره، وهي الأنواع التي ورد فيها النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم (زاد المعاد: 4/484 – 485) ، وراجع الشرح القيم الذي أدلى به فضيلة الدكتور الصديق الضرير، عضو مجمع الفقه الإسلامي المنشور في مجلة المجمع، العدد الثاني 2/679 وما بعدها.
ولا يقال في هذا الشأن إن المعقود عليه ليس هو ما تقدم، وإنما هو الأمان الذي تسبغه المستشفى على المتعاقد بمجرد التزامها بعلاج ما قد يحدث له دون مقابل جديد أيًّا كانت درجة جسامته، ذلك لأن الأمان أمر نفسي محض يستحيل الالتزام به، فهو إحساس وشعور لا تملك المستشفى أن تبثه في نفس المتعاقد، ولا تستطيع أن تقوم بأي عمل من شأنه منع وقوع المرض أو الإصابة المؤمن منها (1) . فإن قيل: إن المستشفى سوف توفر للمتعاقد أسباب الأمان بتعهدها بالعلاج بالغا ما بلغ قدره، فإن هذا القول لا يدل على أكثر من أن الأمان هو الباعث على إبرام المتعاقد للعقد، والثمرة التي سعى لجنيها والنتيجة المترتبة على وجود التزام المستشفى بأداء العلاج المعقود عليه، والذي يقابل المبلغ المدفوع، وذلك مما يؤكد أن المحل هو العلاج والمبلغ، وليس هو الأمان أو توفير أسبابه.
ومن ثم ولما كان الواضح مما سلف بيانه أن الغرر قد أصاب المعقود عليه، وكان كبيرًا، وليس باليسير، وكان العقد من عقود المعاوضة المالية وليست هناك حاجة عامة تلجئ إليه، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بواسطة طرق أخرى من بينها التأمين التعاوني، فإنه لذلك يكون قد تأكد بطلان الاتفاق بما شابه من غرر.
وأما الجهالة الفاحشة فإن قيامها بالعقد مترتب على وجود الغرر الكبير، فضلًا عما تؤدي إليه –في التعاقد الماثل- من كثرة المنازعات بسبب الغموض الذي يكتنفه، وبالتالي فإن وجودها يصم العقد بالبطلان كذلك.
وأما أكل أموال الناس بالباطل، فلأن حصول المستشفى على المبلغ الذي سدده المتعاقد، إذا لم يُصب هذا بشيء من الخطر الذي تعهد المستشفى بعلاجه، يكون أخذًا لهذا العوض دون مقابل، فهي لم تفعل شيئًا تستحق عليه مقابلًا ولا فضل لها في عدم وقوع المرض أو الإصابة، وبالتالي فإن استيلاءها على المبلغ الذي دفعه المتعاقد يكون أكلًا له من غير الأوجه التي أباحها الله وأذن بها.
وإذا وقعت الواقعة، فإن التزام المستشفى بالعلاج يُعد إلزامًا بما لا يلزم شرعًا (2) ، إذ لم ينسب إليها أنها أفسدت الانتفاع بأي عضو للمتعاقد بطريق المباشرة أو التسبب، ولا يوجد سبب يقتضي وجوب الضمان، ومن ثم فإنه لا محل لإلزامها بتقديم العلاج عينًا أو نقدًا، لأنه إلزام بما لا يلزم شرعًا.
ولا يقال في هذا الشأن: إن المستشفى يعد أجيرًا مشتركًا يتحمل الضمان، وفق ما ذهب إليه بعض الفقهاء، ذلك لأن ضمان الأجير المشترك –على فرض توافره جدلًا- لا يتناول ضمان ما لا يمكن الاحتراز عنه (3) .
(1) الدكتور وهبة الزحيلي، في بحثه الذي قدمه، ومناقشته التي أبداها في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي والمنشورين في العدد الثاني من مجلة المجمع: 2/547، 661 وما بعدها.
(2)
الالتزام بما لا يلزم شرعًا كان هو الحجة الرئيسية التي بنى عليها العلامة ابن عابدين رأيه بعدم جواز التأمين البحري. (حاشية) رد المحتار: 4/170 – 171، فصل في استئمان الكافر، مطلب فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى (سوكره) ، طبعة دار الفكر – الطبعة الثانية.
(3)
الشيخ عيسوي أحمد عيسوي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص 214 وما بعدها.
وكذلك لا يقال: إن المستشفى تلتزم بالعلاج إبرارًا بوعدها الذي قطعته على نفسها إذا دخل الموعود في السبب وهو المرض أو الإصابة طبقًا لما يراه بعض المالكية (1) ، ذلك لأن هذا الفريق إنما يُلزم الواعد بالوفاء دفعًا للضرر الذي وقع على الموعود بسبب من قبل الواعد، بمعنى أن الموعود ما كان ليقدم على العمل لولا ذلك الوعد، فالإخلال بالوعد يترتب عليه ضرر بالموعود، ويكون الواعد هو السبب في ذلك الضرر، فيُلزم بالوفاء بوعده. وليس الحال كذلك في التطبيق المعروض، فالمستشفى لم تدفع المتعاقد إلى القيام بأي عمل أدى إلى وقوع الخطر المؤمن منه، حتى تكون ملزمة بالضمان إذا هو دخل فيه وأصابه الضرر منه، وبالتالي فلا مجال لمطالبة المستشفى بالعلاج إلا من باب مكارم الأخلاق، وهو أمر مبني على التبرع ولا شأن له بمثل عقد المعاوضة موضوع الفحص (2) .
ونتيجة لما سبق جميعه تكون الواقعة المعروضة من تطبيقات التأمين التجاري الذي استقرت المجامع العلمية في اجتهادها الجماعي على تحريمه، سواء في ذلك أكان المستشفى قد تعهد بتقديم الدواء مع العلاج والعمليات الجراحية، أم قصر تعهده على شيء من ذلك دون غيره.
(1) في تفصيل الآراء عن الوعد الملزم: المحلي لابن حزم، طبعة دار الفكر: 8/28، مسألة رقم (1125) ؛ والشيخ عيسوي أحمد عيسوي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص197، 215.
(2)
يقول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير، في موضوع قريب:(لا عبرة بما شرط على الخفراء في الحارات والأسواق من الضمان، لأنه التزام بما لا يلزم، ولا يرد على هذا قول مالك: من التزم معروفًا لزمه، فإن مقتضى هذا أنه إذا شرط عليهم الضمان ورضوا به، يضمنون لالتزامهم بالضمان، وهو معروف، لأن هذا غير الإجارة، كما يدل عليه قوله (معروفًا) ، إذ من المعلوم أن الشرط متى كان في مقام عقد، لم يكن معروفًا، ولأن ضمانهم حين إجارتهم ضمان بجعل، فيكون فاسدًا، لأن الضمان لا يكون إلا لله) ، طبعة المطبعة التجارية: 4/36.
ثانيًا- حكم التعاقد بين المؤسسات والمستشفيات للتعهد بمعالجة العاملين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين:
14-
يلفت النظر في هذا التطبيق أن كلمة (مؤسسة) اصطلاح قانوني قد يطلق على المؤسسة العامة التي تدير مرفقًا عامًا، ولا تسعى أساسًا إلى الربح، وقد ينصرف إلى المؤسسة الخاصة التي ليست مملوكة للدولة ولا لإحدى الشخصيات العامة، ولا تخضع في إدارتها لأي من الهيئات العامة، وهذه مفارقة لها أثرها على الحل والحرمة.
كما يلفت النظر كذلك، أن اشتراط تقديم المستشفى للدواء، مع العلاج والعمليات الجراحية، قد يؤثر في الحكم الشرعي.
ومن ثم فقد رؤي تقسيم التطبيق إلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: تقوم على افتراض أن المؤسسة التي تعاقدت تابعة للدولة، أو تنفذ التزامًا مفروضًا عليها من الدولة.
الصورة الثانية: تقوم على افتراض أن المؤسسة التي تعاقدت ليست تابعة للدولة وليست ملزمة بتأمين علاج العاملين بها، وأن المستشفى سوف يقدم العلاج ويجري العمليات، ولا يصرف الدواء.
الصورة الثالثة: تقوم على افتراض أن المستشفى سوف يصرف الدواء مع العلاج والعمليات الجراحية.
أ-الصورة الأولى: المؤسسة المتعاقدة تخضع للدولة أو تنفذ التزامًا تفرضه عليها:
15-
لا ريب أنه إذا كانت المؤسسة التي تعاقدت مع المستشفى على علاج موظفيها، مؤسسة تابعة للدولة في ملكيتها أو إدارتها، أو كانت مؤسسة تقوم على مرفق عام، فإن التأمين الذي تجريه على موظفيها يكون في حقيقته نظامًا تفرضه بوصفها هيئة من هيئات الدولة، وتهدف منه إلى القيام بواجبها فحسب، في تدبير وسائل العيش والرفاهية للأفراد، وبذلك يكون تعاقد هذه المؤسسة مع المستشفى من قبيل التأمينات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لموظفيها لقاء ما بذلوه ويبذلونه من خدمات.
ومثل هذا الحكم يجري على المؤسسة الخاصة التي تكون في تعاقدها مع المستشفى منفذة لنظام وضعته الدولة لرعاية العاملين فيها ولو لم يكونوا من موظفيها، فذلك يدخل أيضًا في نطاق التأمينات الاجتماعية المطبقة في كثير من بلدان العالم.
وإذا كانت المجامع الإسلامية قد استقرت على مشروعية هذا النوع من التأمينات، لما يحققه من فوائد جمة، ترحب بها المبادئ الإسلامية السمحة، فإنه لذلك لا يكون هناك شك في جواز هذا التعاقد.
ب-الصورة الثانية: المؤسسة المتعاقدة مؤسسة خاصة، غير ملزمة بالتأمين طبقًا لنظام الدولة، والمستشفى غير ملزم بصرف الدواء:
16-
تخضع الحالة المعروضة في هذا التطبيق لعقد تبرمه مؤسسة خاصة، باختيارها، مع مستشفى أو مستشفيات، لعلاج العاملين بها، من الأمراض أو الإصابات التي قد تعرض لهم، خلال فترة معينة، مع إجراء العمليات الجراحية اللازمة دون تقديم الدواء الذي يحتاجونه، ذلك لقاء مبلغ معين تدفعه المؤسسة.
وعقد التأمين المشار إليه في هذه الصورة يطلقون عليه في الدراسات القانونية اسم عقد التأمين الجماعي، ويقولون:(إن من خصائصه أن طالب التأمين يعقده لمصلحة مستفيدين لا يعينهم بذواتهم، وإنما يكون تعيينهم بتعيين بعض الصفات التي تجمع بينهم في علاقاتهم به، ويكون مستفيدًا في التأمين، وفي الوقت ذاته مؤمنًا له، كل شخص توافرت فيه هذه الصفات وقت وقوع الحادث المؤمن منه. . . ولا تتعدد أقساط التأمين بتعدد المستفيدين، بل هي أقساط عقد واحد يشمل جميع المستفيدين، فهو عقد جماعي)(1) .
والعقد بالصورة المعروضة في التطبيق، عقد معاوضة، لأن التزام المستشفى بالعلاج سببه التزام المؤسسة بأداء المبلغ المتفق عليه. وهو عقد احتمالي، لأن الالتزام بالعلاج متوقف على وقوع المرض أو الإصابة، إلا أن الاحتمال فيه يختلف عن الاحتمال الذي يوفره العقد الفردي، فقد قصدت المؤسسة منه مصلحة جماعة العاملين بها، ووضعت حقوقهم في سلة واحدة، وبحيث تتأثر وتؤثر في حقوق والتزامات المستشفى وهي مجتمعة، فالتزام المؤسسة بأداء المبلغ ليس مقسمًا على عدد رؤوس العاملين، وإنما هو مدفوع عنهم جملة واحدة، والتزام المستشفى بعلاج أحد هؤلاء العاملين ليس منفصمًا عن التزامها بعلاج سائرهم. وطبقًا للمجريات العادية للأمور، فإن هذه العوامل –بما له من تأثير في تحديد الالتزامات والحقوق- قد روعيت في الاتفاق، فاستعين بقانون الأعداد الكبيرة، الذي من شأنه أن يحدد -على سبيل الظن الراجح بالنسبة للمجموع – عدد المرات التي تقع فيها الكارثة، ومدى خطورتها، وأن يحدد بالتبعية واجب العلاج ونفقاته بما لا يخرج –في واقع الأمر – عما تفرضه قوانين الإحصاء.
وترتيبًا على ذلك، يكون هذا العقد قد خلا من الغرر الكبير المبطل لعقود المعاوضات، وإن شابه الغرر اليسير الذي كثيرًا ما يلابس العقود التعاوضية فلا يؤثر فيها، لأنه لا ينصب على احتمال وجود العوض أو عدم وجوده، ولا على احتمال حصوله أو عدم حصوله، فالعوض حاصل على كل حال، وإن كان الواقع منه قد يزيد أو ينقص قليلًا عما قدره العاقدان وقصداه، ثم إن في منع هذا التعاقد إضرارًا بالعاملين في المؤسسة بإضاعة مكسب تبرع به رب العمل بلا مقابل، ولا يصلح التأمين التعاوني لأن يملًا الفراغ الذي يتركه لما يتطلبه من اشتراكات قد ينوء بها كاهلهم، كما لا يمكن اعتباره تأمينًا اجتماعيًا خالصًا، لأن المؤسسة ليست من هيئات الدولة، ولا يوجد من يلزمه به وحرمان العاملين منه ينطوي على إخلال بالمساواة الواجبة لعدم التسوية بينهم وبين الموظفين الذين يعملون معهم في ذات البلد، وقد يتفقون سويًا في طبيعة العمل أو يتقاربون في ذلك.
وما دام الغرر يسيرًا، وقد لابسه ما سلفت الإشارة إليه، فإن الجهالة الفاحشة تكون منتفية، لعدم توفر ما يُفضي إلى كثرة المنازعات، لا سيما إذا نص في العقد صراحة على ما تقول الدراسات القانونية إن العمل جرى به، وهو أنه يجب إخطار المؤمن بأي تعديل في ظروف العمل يكون من شأنه أن يؤثر في تقرير طبيعة الأخطار المؤمن منها ومداها، كما يجب إخطاره بكل تغيير في عدد المستفيدين ومقدار مرتباتهم، وإنه إذا وقع خطأ بحسن نية، فإن للطرفين –بعد اكتشافه- أن يتفقا على زيادة المبلغ المدفوع، أو استبعاد أثر هذا الخطأ من نطاق التأمين، ليسترد المؤمن ما يكون قد دفعه للمؤمن لهم عن هذه الأخطار (2) .
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 7/2، ص1404.
(2)
الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: ص1408.
ومن ناحية أخرى، فإن العقد المعروض لا ينطوي على أكل لأموال الناس بالباطل أو الإلزام بما لا يلزم شرعًا، طالما أنه لا يتصور –طبقًا للمجريات العادية للأمور- ألا تؤدي المستشفى علاجًا مقابل المبلغ الذي قبضته، فلم تجر العادة أن مثل من يعملون في المؤسسات الكبيرة –لا يمرض منهم أحد أو يصاب بأذى طوال الفترة المحددة في العقد والتي هي عادة –ولمصلحة الطرفين- لا تكون قصيرة، حتى تسمح بتطبيق المتوسطات التي تدل عليها الدراسات والإحصاءات العلمية المدروسة.
ونتيجة لذلك كله، فإن العقد المعروض، وإن لم يكن تعاونيًا خالصًا، لافتقاده لخصائص عقد التأمين التعاوني، وليس تبرعًا بحتًا، لأن المؤسسة، وإن دفعت المبلغ من موازنتها دون قصد الرجوع على العاملين، فإن المستشفى لا ترضى عادة ألا يكون لها هامش مقبول من الربح فيما تقدمه من خدمات علاجية، هذا العقد المعروف إذا لم يكن هذا ولا ذاك، فإنه يفتقد كثيرًا من خصائص عقد التأمين التجاري؛ فليس للمؤسسة مصلحة ذاتية في علاج من يصاب من العاملين أو يمرض، وإنما هي تهدف –أساسًا- إلى التكافل الذي من شأنه أن يستحث هؤلاء العاملين على الإخلاص في الأداء، استشعارًا منهم بالرعاية والحرص على مصالحهم الشخصية خارج النطاق المباشر للعمل، ثم إن الترابط واضح بين المؤمن عليهم، فهم يشكلون جبهة واحدة، يخلقها العقد ذاته ولا تستقى من عقود أخرى خارجة عنه، وهم لا يدفعون مقابلًا ماديًا لما يحصلون عليه من خدمات، هي في حقيقتها لا تخرج عن طابعها الإنساني، ومن ثم فإن هذا العقد يعتبر نوعًا من التأمين المختلط الذي يلابسه الهدف الاجتماعي ويؤثر فيه الغرض النبيل الذي يسعى إليه وهو البرء والشفاء والرعاية الصحية، وهو وإن لم يكن تبرعًا، فإنه شبيه بالتبرعات من بعض الوجوه، وبالتالي فلا يكون به ما يرجح الجانب التجاري، ويحق لذلك تغليب الجانب الاجتماعي فيه، والحكم عليه بالمشروعية.
جـ-الصورة الثالثة: التزام المستشفى بتقديم الدواء بجانب العلاج والعمليات الجراحية، مقابل ما تدفعه المؤسسة:
17-
وفي هذه الصورة نجد أن بعض الفقه الإسلامي قد ورد به ما يمنع أن يلتزم الطبيب بتقديم الدواء للعليل.
فقد جاء في الذخيرة: (قال ابن يونس: قال سحنون: أصل إجارة الطبيب الجعالة، فلذلك لا يضرب أجلًا قبل، ويكون الدواء من عند العليل كاللبن والجص في بناء الدار، وإلا فهو غرر، إن لم يذهب داؤه باطل ويدخله بيع وجعل)(1) .
ويقول ابن حزم في موضوع مماثل: (ولا يجوز أن يشترط على المستأجر للخياطة إحضار الخيوط، ولا على الوراق القيام بالحبر، ولا على البناء القيام بالطين أو الصخر أو الجيار، لأنه إجارة وبيع معًا، قد اشترط أحدهما مع الآخر، فحرم ذلك من وجهين؛ أحدهما أنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل، والثاني أنه بيع مجهول وإجارة مجهولة، لا يدري ما يقع من ذلك للبيع ولا ما يقع منه للإجارة، فهذا أكل مال بالباطل، فإن تطوع كل ما ذكرنا بإحضار ما ذكرناه من غير شرط جاز ذلك، لأنه فعل خير)(2) .
على أن الحنابلة والشافعية صح لديهم ما يخالف هذا؛ فقد جاء في الإنصاف ما مضمونه أنه إذا جمع بين بيع وإجارة صح، وهو المذهب. قال الشيخ تقي الدين: يجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قولهم، وقدمه في المغني، والمحرر، والشرح، والفروع، والفائق (3) .
وجاء في حاشية الشرواني على شرح تحفة المحتاج ما مؤداه أنه يجوز تقديم الطبيب للدواء، فإن لم يشف العليل فلا يرجع على الطبيب الماهر بشيء، ويرجع على غير الماهر في صناعته بثمن الأدوية، إذا كان قد جهل حاله (4) .
وإذا كان هذا الرأي الأخير لا يصطدم مع النص، ويستجيب للمصلحة في أمر يجوز أن يكون لصالح الناس أثر في الحكم (5) ، فإنه لذلك يكون هو الأولى بالاتباع، لا سيما والمروي عن مالك وعن أحمد بن حنبل أنه يجوز أن يكون الدواء من عند الطبيب (لضرورة الناس)(6) .
(1) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.
(2)
المحلي، لابن حزم، طبعة دار الفكر: 8/196، 197 مسألة رقم 1313.
(3)
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية لمؤسسة التاريخ العربي: 7/321.
(4)
حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، طبعة دار إحياء التراث العربي: 6/163.
(5)
يرى الدكتور عبد الستار أبو غدة أن الحكم الفقهي في اشتراط الدواء على الطبيب هو من القضايا الملحوظ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، وأنه لا يوجد ما يلزم بمتابعة هذه القضايا مع تطور أصول التعامل في مجالها، (الدكتور عبد الستار أبو غدة، في فقه الطبيب وأدبه، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي، طبع وزارة الصحة العامة بالكويت، الطبعة الثانية، العدد الأول، ص594) .
(6)
الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.
ثالثًا-حكم اتفاق مجموعة من العاملين، مع جهة تتعهد بالعلاج، في حالة ما إذا توسطت بينهما شركة تأمين تجارية أو تعاونية:
18-
يحكم العلاقة –موضوع هذا التطبيق- تعاقد يقوم بين أطراف ثلاثة:
الطرف الأول: مجموعة العاملين الراغبين في تأمين العلاج مستقبلًا، ويجمع بينهم اشتراكهم في مؤسسة واحدة يعملون بها.
الطرف الثاني: الجهة التي سوف تباشر العلاج الفعلي، كالمستشفى، وهي تستند عادة إلى مشروع تجاري يهدف إلى الربح مقابل تقديم الخدمات الطبية.
الطرف الثالث: شركة تأمين تجارية أو تعاونية تقوم بدور الوسيط بين الطرفين الأول والثاني، وهي وساطة لا تهدف إلى مجرد الجمع بين الطرفين، بمقابل أو بغير مقابل، مع التزام الطرف الثاني في مواجهة الطرف الأول بالتزامات مباشرة، وإلا لما كان لهذه الوساطة أثر فيما يختص بالحكم الشرعي على التعاقد بين الطرفين الأولين وإنما المعني بهذه الوساطة هو إنشاء علاقتين: إحداهما بين المستفيدين والشركة، والثانية بين الشركة والمستشفى.
وإذا كانت العلاقة الأولى تقوم على التأمين، فإن العلاقة الثانية –في الفرض المعروض للبحث- تقوم على العلاج دون تأمين، إذ لو كانت علاقة تأمينية لما كان هناك محلل للتردد في انطباق حكم التأمين التجاري عليها، فالطابع التجاري يكسوها من كل جانب، سواء أكانت الشركة تجارية أم تعاونية.
فالفرض المعروض لاستجلاء الحكم الشرعي، إذن، هو ارتباط المستفيدين بالشركة في علاقة تأمينية، وارتباط الشركة بالمستشفى في عملية تجارية عادية مبرأة من الغرر والجهالة، لقيامها مثلًا –على أساس المحاسبة عن كل علاج تقدمه المستشفى لأي من المستفيدين، كل بحسب تكلفته المتفق عليها. وإذا كانت علاقة الشركة بالمستشفى بعيدة عن التأمين، فإنها لذلك تخرج من نطاق البحث –وينحصر التساؤل في العلاقة التي تقوم بين المستفيدين والشركة.
ومن ثم، فإنه إذا كانت الشركة الوسيطة شركة تأمين تجارية، تسعى في عمليتها هذه إلى الربح، ولا يدخل التعاون بين أهدافها القريبة، والمؤمن فيها غير المؤمن له وكل منهما ينشد مصلحته الذاتية، فإن العقد يكون بذلك بعيدًا عن التبرع، الذي يسمح بإجازته رغم ما يكتشفه من غرر وجهالة، وبالتالي يكون فاسدًا لاشتماله عليهما في غير الحالات التي يجوز فيها ذلك.
أما إذا كانت الشركة شركة تأمين تعاونية، واتحد المؤمن مع المؤمن له، بأن اعتبر المستفيدون أعضاء في الشركة التعاونية، فإن الأمر يكون قد قام على التبرع الذي لا يؤثر فيه الغرر ولا تبطله الجهالة، وبذلك يكون تعاقدًا صحيحًا، تطبيقًا لما استقر عليه المجامع العلمية.
المبحث الثالث
طبيعة التزام الطبيب بالعلاج
ومدى جواز المشارطة على البرء
19-
لا جدل في أن الشافي من المرض هو الله تعالى، وأنه يجب الالتجاء إليه والتوكل عليه، إيمانًا بقوله:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .
غير أنه لا يحق –كذلك- أن يكون هناك جدل في أن العلاج والتداوي لا يتعارض مع هذا التوكل، فالأخذ بالأسباب في جلب المصالح ودرء المفاسد لا يتنافى معه، والمكلف إنما يتعاطى السبب امتثالًا لأمر الله، مع يقينه بأنه لا يقع في ملك الله إلا ما شاء الله أن يقع.
وما دام الشافي من المرض هو الله تعالى، فإن التزام الطبيب بالعلاج لا بد أن يكون التزامًا ببذل العناية الواجبة في علاج مريضه، وفقًا لأصول صنعة الطب، وذلك ما تسميه الدراسات القانونية باسم الالتزام بعناية (1) ، تمييزًا له عن نوع آخر من الالتزامات يسمى (الالتزام بغاية) وفيه يعتبر المدين مخطئًا إذا لم يحقق الغاية المتفق عليها، سواء أكان مقصرًا أم غير مقصر، بل لو منعه السبب الأجنبي من تنفيذ التزامه –القوة القاهرة- فإنه يعتبر مخطئًا، لأنه لم ينفذ التزامه، وإن كانت رابطة السببية تنتفي بوجود السبب الأجنبي، فتنعدم المسؤولية بانعدام السبب لا لانعدام الخطأ (2) .
(1) تقول محكمة النقض المصرية في مسؤولية الطبيب: إن مسؤولية الطبيب الذي اختاره المريض أو نائبه لعلاجه هي مسؤولية عقدية، والطبيب وإن كان لا يلتزم بمقتضى العقد الذي بينه وبين مريضه بشفائه، أو بنجاح العملية التي يجريها له، لأن التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية، وليس التزامًا بتحقيق نتيجة، إلا أن العناية المطلوبة منه تقتضي أن يبذل لمريضه جهودًا صادقة يقظة تتفق –في غير الظروف الاستثنائية- مع الأصول المستقرة في علم الطب، فيسأل الطبيب عن كل تقصير في مسلكه الطبي لا يقع من طبيب يقظ في مستواه المهني، وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول. (نقض مدني جلسة 26 سبتمبر سنة 1969م المنشور في مجموعة المكتب الفني، السنة 20، ص1075) .
(2)
الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/663، بند 430؛ وفي إثبات مسؤولية الطبيب، ذات المرجع، بند 429، ص661.
على أن كثيرًا من القوانين الوضعية، كالقانون المدني المصري (مادة 217) تجيز تعديل قواعد المسؤولية العقدية بإرادة المتعاقدين، استنادًا إلى أن هذه الإرادة هي التي أنشأت المسؤولية، وبالتالي فإنها تملك تعديلها في حدود القانون والنظام العام والأدب؛ وهي أمور لا تحول –كقاعدة عامة- دون تشديد المسؤولية، وإن كانت قد تمنع تخفيفها عن حدود معينة.
ومن ثم فإنه طبقًا للقانون، يجوز الاتفاق على تشديد المسؤولية في الالتزام بعناية؛ بأن يتفق الطرفان على أن يكون المدين مسؤولًا عن الخطأ التافه، أو عن الفعل المجرد من الخطأ، وهنا ينقلب الالتزام بعناية إلى الالتزام بغاية، إذ يصبح المدين مسؤولًا عن تحقيق غاية، لا يتخلص منها إلا بإثبات السبب الأجنبي، وقد يتفقان على تشديد المسؤولية إلى أكثر من ذلك، فتشمل المسؤولية في حالة السبب الأجنبي، فيصبح الأمر ضربًا من التأمين يلتزم به المدين نحو الدائن (1) .
20-
وطبقًا لذلك فإنه في القانون، إذا اتفق المرض مع طبيبه على الالتزام بالبرء والشفاء، فإن ذلك يكون سائغًا، وإن كان الطرفان قد تجاوزا به مرحلة التعاقد على العلاج، إلى مرحلة التأمين على الشفاء، أو ضد العجز، مما يسوغ قانونًا.
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/663، بند 440، ص676. وقد أشار في هامش (1) ، ص 673 إلى حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 5 فبراير سنة 1918؛ والدكتور عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية، ص68، 70، 71، 72.
21-
ولا يختلف الفقه الإسلامي –في جملته- مع القانون، في أن عقد العلاج هو –بحسب الأصل- التزام من جانب الطبيب ببذل عناية (1) أخذًا بأسباب الشفاء، وليس التزامًا بتحقيق غاية هي البرء والشفاء فذلك مرده إلى الله وحده الذي يمن بالشفاء على المريض، وبالتالي فإن الفقه يرى ما يراه رجال القانون من أن الطبيب يعتبر –كقاعدة عامة- أنه وفَّى بالتزامه كاملًا واستحق أجره، إذا بذل عنايته في علاج مريضه ولو لم يبرأ من علته، وليس للعليل الرجوع عليه بشيء لأن المستأجر عليه المعالجة لا الشفاء (2) .
وتفريعًا على أن العلاج أخذ بأسباب الشفاء، فإنه إذا اتفق في عقد العلاج على مدة معينة، وبرئ المريض قبل بدء العلاج، انفسخت الإجارة لأنه وقد تعذر العمل، فقد (أشبه ما لو حجر عنه أمر غالب)(3) ، أما إذا برئ قبل انتهاء المدة المتفق عليها فإن (للطبيب بحساب ما عمل)(4) ، وإذا امتنع المريض عن العلاج لا يجوز أن يجبر عليه، لأنه مفوض في نفسه طالما كان أهلًا لذلك (5) .
(1) وقد يرجع ذلك إلى أن الطبيب، وإن كان يقوم بواجب، إلا أن تنفيذ ذلك متروك لحرية اختياره وحده، ولاجتهاده العلمي والعملي، فهو أشبه بصاحب الحق، منه بمؤدي الواجب، لما له من السلطان الواسع وحرية الاختيار في الطريقة والكيفية التي يؤدي بها عمله، انظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، دار الطباعة الحديثة: 1/520-521، بند 362؛ والشيخ محمد أبو زهرة، مسؤولية الأطباء، مجلة لواء الإسلامي، سنة 20، عدد 12، ص53-55.
(2)
حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، دار إحياء التراث الإسلامي: 6/163.
(3)
يقول في المجموع: (فإن برئت عينه أثناء المدة، انفسخت الإجارة في ما بقي من المدة، لأنه وقد تعذر العمل، فأشبه ما لو حجر عنه أمر غالب، وكذلك لو مات، فإن امتنع من العلاج فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الأجر بمضي المدة، كما لو استأجره يومًا لبناء فلم يستعمله)(المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83) .
(4)
يقول الدردير في الشرح الصغير: (فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب عمله) . . ويقول الصاوي في حاشيته تعليقًا على ذلك: (قوله: فله بحساب ما عمل؛ أي وإن لم يحصل برء به ولا بغيره)(الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأبي البركات أحمد الدردير، طبعة دولة الإمارات 1989م: 4/75) .
(5)
المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83.
هذا هو الرأي السائد في فقه المذاهب الأربعة، وهناك رأي منسوب إلى الإمام مالك رحمه الله؛ قوامه أن استئجار الطبيب للعلاج هو على البرء (1) ، فإذا اتفق المريض مع الطبيب على العلاج من مرض أو جرح معين فلا يستحق الأجر إلا بالشفاء.
ويقول في المجموع تعليقًا على هذا الرأي المنسوب إلى مالك: (إنه لم يُحك (أي هذا الرأي) عن أصحابه، وهو فاسد لأن المستأجر وقد وفَّى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الأجر، وإن لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يومًا، أو لخياطة قميص، فلم يتمه فيه) (2) .
هذا عن طبيعة عقد العلاج في الفقه الإسلامي، أما عن ضمان سلامة العاقبة فيه، أي ضمان ما يتولد عن العلاج من تلف نفس أو فقد عضو أو ذهاب منفعته، فإن الرأي في المذاهب الأربعة متفق على أن ضمان السراية مهدر إذا كان الطبيب حاذقًا، وأعطى الصنعة حقها، ولم تجن يده، وكان فعله مأذونًا به من جهة الشارع ومن جهة من يطبه (3) ، وقد استقرت كتب الفقه – صراحة- على هذا الحكم في أكثر من موضع بها، وأسندت ذلك إلى أن الطبيب يقوم بواجب عليه، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة، وإن سرية الواجب مهدرة اتفاقًا، فضلًا عن أنه ليس في وسع الطبيب أن يتحرز عن هذه السراية وبالتالي فلا يمكن له ضمانها (4) .
ولا يختلف الحكم في ضمان السراية إذا ما اشترط المريض على الطبيب ذلك، لأن هذا يدخل في باب التزام ما لا يلزم (5) ، ولأن الطبيب أمين، وشرط الضمان على الأمين باطل (6)
(1) قد يستفاد من عبارة الذخيرة أن ذلك هو الأصل في المذهب، فقد قال –دون أن يسند ذلك إلى مالك وحده-:(استئجار الطبيب هو على البرء، إن برئ له الأجرة وإلا فلا) (الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.
(2)
المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83.
(3)
ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، طبعة مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية: 4/139.
(4)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مطبعة الاستقامة بالقاهرة: 2/230 – 231، الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 12/257؛ بدائع الصنائع؛ دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، ص 305؛ المبسوط، الطبعة الأولى لدار الكتب العملية: 15/104؛ المغني والشرح الكبير، الطبعة الأولى: 6/120 – 121؛ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية لمؤسسة التاريخ العربي: 6/74 – 75؛ الأم، طبعة بولاق: 6/166؛ نهاية المحتاج، طبعة 1386 هـ: 8/35.
(5)
الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/507
(6)
الدر المختار، مرجع سابق، طبعة دار الفكر: 6/65.
22-
أما اشتراط البرء من المرض لاستحقاق الطبيب المقابل، وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (المشارطة على البرء)، فالأمر فيه محل خلاف:
فيرى ابن حزم أنه (لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلًا، لانه بيد الله، لا بيد أحد، وإنما الطبيب يعالج من مقو للطبيعة بما يقابل الداء، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية الداء، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى)(1) .
ويرى المالكية –في الأصح لديهم – جواز المشارطة على البرء، فيقول الدردير:(كمشارطة طبيب على البرء، فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له، إلا أن يتمم غيره فله بحسب كرائه الأول)(2) .
على أن المالكية لا يرون في الاشتراط على البرء ما يخرج العقد عن كونه إجارة، فهو مازال كذلك، مثله في هذا مثل كراء السفينة، والمشارطة على الحفر لاستخراج الماء في أرض موات غير معروفة، أو إرسال رسول إلى بلد لتبليغ رسالة أو الإتيان بشيء منها، ففي كل هذه الحالات لا تستحق الأجرة إلا بتمام العمل، فإذا غرقت السفينة –مثلًا- أثناء الطريق أو في آخرها قبل التمكن من إخراج ما فيها فلا كراء لربها (3) . وإن لم تتم السفينة إبلاغ ما بها إلى المكان المتفق عليه، وأبلغتها سفينة أخرى، فالأول بحسب كرائه.
ويرى فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية أن المشارطة على البرء سائغة، ولكنها تخرج العقد من باب الإجارة لتدخله في باب الجعالة.
وفي ذلك يقول في المجموع: (فأما إن شارطه على البرء، فإن مذهبنا ومذهب أحمد بن حنبل أن يكون ذلك جعالة، فلا يستحق شيئًا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبًا أو بعيدًا)(4) .
ويقول المرداوي في الإنصاف: (فأما المشارطة على البرء فهي جعالة، لا يستحق شيئًا حتى يوجد البرء وله أحكام الجعالة)، ثم يقول في باب الجعالة:(لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده فله كذا، لم يصح مطلقًا، على الصحيح من المذهب، قدمه في الرعايتين، والحاوي الصغير، والفائق، وغيرهم واختاره القاضي، وقيل: تصح جعالة، اختاره أبو موسى والمصنف ونقله الزركشي في الإجارة)(5) .
ويقول القرافي في الذخيرة: قال ابن يونس: قال سحنون: أصل إجارة الطبيب الجعالة فكذلك لا يضرب أجلًا قبل. . . قال اللخمي: ويجوز اشتراط الطبيب من الأجرة ما الغالب أن البرء لا يحصل قبله (6) .
وقد يشهد لاعتبار الاشتراط على البرء جعالة لا إجارة أن المنفعة فيه لا تتحقق بجزء من العمل، وإنما تتحقق بتمامه (البرء) ، ولأنه يكفي فيه الالتزام من جانب واحد، ولأنه يحتمل الغرر، وتجوز فيه جهالة العمل والمدة، وهي أمور لا تستقيم جميعها مع عقد الإجارة، وإن تواءمت مع عقد الجعالة (7) .
(1) المحلى، لابن حزم، مرجع سابق: 8/196، مسالة رقم 1310.
(2)
الشرح الصغير، مرجع سابق: 4/75.
(3)
يعتبر المالكية المشارطة على البرء من الفروع المترددة بين الجعالة والإجارة، ويرجح الكثير منهم اعتبارها إجارة (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، المطبوع على نفقة خادم الحرمين الشريفين: 3/8؛ وكتاب الفقه الواضح لفضيلة المرحوم الوالد الشيخ يوسف المنياوي، الطبعة الأولى: 3/86؛ وشرح الخرشي على خليل، الطبعة العامرة الشرفية، الطبعة الأولى: 5/61) .
(4)
المجموع، مرجع سابق: 5/82، 83، 113، 124؛ وفي ذات المعنى الشرواني وابن القاسم، مرجع سابق: 6/163.
(5)
الإنصاف، مرجع سابق: 6/75، 391؛ المغني: 6/123.
(6)
الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي:: 5/423.
(7)
في التفرقة بين عقد الإجارة وعقد الجعالة، الدكتور وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، طبعة دار الفكر: 4/786، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، المكتبة التجارية الكبرى: 4/61 – 63.
23-
واستخلاصًا للرأي الراجح في المشارطة على البرء، نخلص إلى ما يأتي:
أولًا: إن المشارطة على البرء مشروعة في رأي فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية (1) ، ولأنه لا تعارض بينها وبين كون الشافي هو الله وحده، إذ اكتساب الأسباب أمر لا بد منه عادة وشرعًا،. . . فلا شيء أبعث على راحة النفس واطمئنان الضمير من أن يشعر الإنسان في مطالب حياته بأنه أدى الواجب عليه بقدر استطاعته في الحد الذي يملكه، ثم يدع ما وراء ذلك إلى مالك الأمر كله (2) .
ثانيًا: إن حظر الاشتراط على البرء، عند بعض الفقهاء، ارتبط بحالة الطب والأطباء في عصرهم، حين كان العلاج يقوم على تجارب لم يصقلها العلم، كما ارتبط بعرف لا يجمع بين التطبيب والشفاء برباط وثيق، مما كان يقتضي التحوط.
ولا ريب أن الحال قد اختلف في العصر الحاضر بسبب التقدم العلمي المذهل في العلوم الطبية وما يتصل بها من فروع المعرفة، وبسبب الرقابة الصارمة على الأطباء: ترخيصًا وتدريبًا وإشرافًا، وعلى العقاقير الطبية قبل طرحها للتداول وبعد طرحها له.
ومن ثم، فإنه تجانسًا مع العرف الذي تغير، فإن الأمر يقتضي تعزيز الثقة في الطب والأطباء، ووسائل العلاج، وإجازة هذا النوع من التعاقد (3) .
(1) ورد في هذا الصدد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر تصرف أبي سعيد الخدري حين علم بأنه عالج رجلًا وشارطه على البرء، إلا أنني لم أعثر على ما يؤكد صحة هذا الحديث وسلامة الاستدلال به.
(2)
الشيخ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية، دار الاعتصام: 1/139.
(3)
يرى الدكتور عبد الستار أبو غدة، أن الفقهاء تناولوا في دراستهم الأحكام المشارطة على البرء مسائل ثانوية، هي من القضايا الملحوظ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، وأنه لا يوجد ما يلزم بمتابعتها مع تطور التعامل في هذا المجال. (في فقه الطبيب وأدبه، من أعمال المؤتمر الأول عن الطب الإسلامي طبعة وزارة الصحة العامة بالكويت، الطبعة الثانية، العدد الأول، ص 594) .
ثالثًا: إنه تطبيقًا لمبدأ أن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، فإنه إذا ارتضى الطبيب ألا يطالب بشيء إلا عند البرء والشفاء، فإنه يكون له ما اتفق عليه، فإن منع من الاستمرار في العلاج الذي بدأه، فلم يتحقق الشفاء على يديه، فإنه يستحق المقابل الذي يستحقه مثله، على ألا يزيد هذا المقابل على القدر المتفق عليه، وذلك لأنه ارتضى هذا المقابل أتعابًا له عند تحقق الشفاء، وبالتالي يكون قد ارتضى –من باب أولى- عدم استحقاقه لأكثر منه إذا لم يوفق إلى الشفاء.
رابعًا: إن تكييف المشارطة على البرء بأنها إجارة على عمل لا يستجيب مع طبيعة المعاملة، فهي ليست عقدًا لازمًا لا يفسخ، بل هي علاقة قائمة على الثقة والطمأنينة المتبادلة بين الطبيب والمريض، فإذا فقدت هذه الثقة فلا محل للاستمرار في العلاقة، ولا يرجى الخير من الطبيب إذا عزف عن الاستمرار، كما لا يقبل عرفًا وشرعًا إرغام المريض على الاستمرار في العلاج بما قد يتطلبه من عمليات جراحية وأمثالها.
ومن ناحية أخرى، فإن علاقة العمل تقتضي –بحسب الأصل- تبعية العامل لرب العمل، في مقابل الأجر الذي يتقاضاه، وذلك تأباه طبيعة العلاقة التي تربط الطبيب بمريضه؛ فاستقلال الطبيب في مواجهة المريض شرط أساسي لنجاحه في مهمته (1) . كما أن عدم خضوعه لمريضه واجب لا محيص عنه، إذ إن هذا المريض يجهل –عادة- الأمور الطبية الدقيقة، بل إنه قد يجهل حقيقة الحالة الصحية التي يمر بها.
ثم إن المشارطة على البرء تحمل معنى عدم استحقاق المقابل إلا عند البرء فكأن المريض قال: إذا عالجتني فشفاني الله على يديك كان لك عندي كذا، وهذه صيغة واضحة في معنى الجعالة التي لا تعدو أن تكون التزامًا بعوض معلوم على عمل معين أو مجهول، عسر علمه، ومن ثم فإن ما يقوله الحنابلة والشافعية وبعض المالكية من تكييفها بأنها عقد جعالة، هو مما يتفق مع طبيعتها، هذا فضلًا عن أن ذلك من شأنه أن يجبر ما يعتور هذه المعاملة من غرر وجهالة، لأن المدة التي سوف يقع البرء فيها غير معلومة، ومقدار العمل المتفق عليه غير معلوم، ويداخلها من العناصر ما لا يد فيه للطبيب ولا للمريض.
(1) الدكتور عبد الرشيد مأمون، مرجع سابق، ص 108 وما بعدها.
خامسًا: وتفريقًا على اعتبار المشارطة على البرء جعالة فإنه يثبت ما يأتي:
أ-أنه لا يجوز اشتراط تقديم الأجرة وإن جاز دفعها مقدمًا دون شرط، فهذا ما تقتضيه طبيعة الجعالة، فضلًا عن أن تقديم الأجرة يجعلها تتردد بين السلف والجعالة وذلك ممنوع شرعًا.
ب-إنه يجوز لكل من طرفي الجعالة فسخ العقد (لأنه عقد على عمل مجهول بعوض فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق شيئًا، لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال: فإن كان قبل العمل لم يلزمه شيء، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعد ما شرع في العمل لزمه أجر المثل لما عمل، لأنه استهلك منفعة بشرط العوض، فلزمه أجرته، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل)(1)
24-
ويبقى بعد ذلك كله، أن الاشتراط على البرء في العصر الحالي، يجب أن يكون واضحًا وضوحًا لا لبس فيه، إذ العرف يجري على اعتبار التزام الطبيب في عقد العلاج، هو التزام ببذل عناية، وليس التزامًا بتحقيق نتيجة، هي الشفاء، وبالتالي فإن الإقرار بعدم استحقاق المقابل إلا عند البرء، هو على خلاف الأصل، فلا يفترض، ولا يحق أن يكون نتيجة تفسير موسع لما اتفق عليه الطرفان.
(1) المجموع، مرجع سابق: 15/124-125.
خلاصة البحث
هذه دراسة موجزة عن التأمين الصحي، الذي قد يتدثر بعباءة أي نوع من أنواع التأمين المعروفة: وهي التأمين التجاري، والتأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي.
وتبدأ الدراسة من حيث انتهت المجامع العلمية في حكم التأمين، وتحصر نفسها في مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: عن الخصائص التي ينفرد بها كل نوع من أنواع التأمين، وتطوراته.
المبحث الثاني: عن حكم بعض التطبيقات العملية المتصلة بالتعاقد مع المستشفيات على العلاج.
المبحث الثالث: عن حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، بوصف أن هذه المعاملة من التطبيقات التي وضعها رجال القانون بين صور التأمين الصحي.
وفي المبحث الأول: جرى التعريف بـ التأمين الصحي، والتفرقة بينه وبين سائر أنواع الرعاية الصحية، مع إلقاء نظرة سريعة على تطور التأمين وما أفرزه من أنواع، وما ظهر عليه من صور وأشكال، ثم أوضحت الدراسة الخصائص المميزة لكل نوع من الأنواع الثلاثة الرئيسية؛ فكشفت عن أن عقد التأمين التجاري يمتاز بأنه يهدف إلى الربح، لا إلى التعاون على توزيع المخاطر، وأن المؤمن فيه يستقل بشخصيته عن المؤمن له، وأن العلاقة التي تربطهما علاقة معاوضة، يحدد فيها مقدمًا مقدار القسط الذي يدفعه المؤمن له، وقدر المزايا التأمينية التي تعود عليه، وأن الإقدام عليه اختياري بحت لا إجبار فيه.
أما عقد التأمين التعاوني، فهو وإن كان اختياريًا، كالتأمين التجاري، إلا أنه لا ينطلق من زاوية المصلحة الشخصية الذاتية، وإنما ينبثق من مصلحة الجماعة، وهو يسعى إلى التعاون ولا يهدف إلى الربح، والمؤمن فيه هو المؤمن له، وتحديد الاشتراكات والمزايا التأمينية له تحتمل التعديل باتفاق أطرافه.
وأما عقد التأمين الاجتماعي فإنه يهدف إلى أن تكون الرعاية الصحية حقًا، وليست منحة يتبرع بها الآخرون تعاونًا، ولا مقابل التزام أدَّاه المؤمن له تعاوضًا، وأنه تأمين لا يتطلب يسارًا، فيمن يسعى إلى مظلته ولا ترتبط مزاياه بمقدار ما يسدده، وهو فوق ذلك إجباري تفرضه الدولة فرضًا، وتقيم عليه –عادة- إحدى المؤسسات العامة التابعة لها.
وقد كشفت الدراسة عن الإقبال المتزايد على التأمين الاجتماعي ومبررات ذلك، وأوضحت قابلية كل أنواع التأمين للتطور في المستقبل، لأنها محكومة إما بالتراضي أو التوازن الاجتماعي، وكلاهما غير ساكن، وإنما يتطور على هدي ما يطرأ من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد أشارت الدراسة إلى نماذج مستحدثة من التأمين، قد لا يتمحض بعضها لنوع بذاته من أنواع التأمين التقليدية، وإنما قد يكون مزيجًا منها، أو يشكل نظامًا جديدًا غير مسمى من قبل.
وفي المبحث الثاني: عرضت الدراسة لما استقرت عليه المجامع العلمية من حرمة التأمين التجاري ومشروعية التأمين التعاوني والاجتماعي، مشيرة إلى أن مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي قد تبنى اعتبار الغرر وما يترتب عليه سبب التحريم في التأمين التجاري، وانطلقت من ذلك إلى استنباط حكم التطبيقات التالية:
أولًا: اتفاق شخص مع مستشفى على أن يتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق نموذج من التأمين التجاري المحرم الذي يشوبه الغرر الكبير، وما يتفرع عنه من جهالة فاحشة وأكل لأموال الناس بالباطل والتزام ما لا يلزم شرعًا.
ثانيًا: اتفاق يعقد بين المؤسسات العامة (لا الخاصة) والمستشفيات للتعهد بمعالجة موظفيها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين. . . وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق يأخذ حكم المشروعية، لأنه يدخل في باب التأمين الاجتماعي الذي تفرضه الدولة أو تفرضه إحدى المؤسسات التابعة لها.
ثالثًا: اتفاق يعقد بين المؤسسات الخاصة والمستشفيات للتعهد بمعالجة العاملين بهذه المؤسسات، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين. . . وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق يدخل تحت ما يسمى بعقد التأمين الجماعي وفق مصطلحات الدراسة القانونية، وأنه ليس عقد تأمين تجاري لأن المؤسسة ليست لها مصلحة ذاتية، وإنما تهدف إلى التكافل، ولأن الترابط بين المؤمن عليهم واضح من ذات العقد ولا يستقى من خارجه، وأنه ليس - كذلك –عقدًا تعاونيًا خالصًا لأنه ليس قائمًا على التبرع البحت، ولأن شخصية المؤمن تختلف عن شخصية المؤمن له، ثم هو في ذات الوقت ليس عقد تأمين اجتماعي لأن المؤسسة التي أبرمته لا تمثل الدولة، ولا تعقده امتثالًا لأوامرها، وإنما هو عقد تأمين مختلط، يغلب عليه الهدف الاجتماعي، ويقترب كثيرًا من التبرعات، ومن ثم فإن الأولى به أن يفوز بالمشروعية، تغليبًا للجانب الاجتماعي فيه، وتحقيقًا لما يوفره من خير عميم، ومن تسوية العاملين في المؤسسات الخاصة بموظفي المؤسسات العامة، لتحقيق مناط هذه التسوية فيهم جميعًا.
على أن الدراسة اشترطت للحكم بالمشروعية سالف الذكر، أن يتحقق الهدف من جماعية العقد، فيكون المقصود هو مصلحة الجماعة، وأن يكون العلاج –وفق المجريات العادية للأمور- واقعًا، وبالقدر الذي لا يتنافر مع المبلغ المدفوع من المؤسسة، وهذا إنما يكون إذا كان عدد العاملين من الكثرة بحيث تضمن ذلك قوانين الإحصاء وقانون الأعداد الكبيرة، ويكون من حق أطراف التعاقد تعديل قدر المبلغ الذي تلتزم به المؤسسة، وتعديل المزايا التأمينية على هدي ما قد يطرأ من ظروف أو ما يكون قد وقع من أخطاء في البيانات التي كانت أساس التأمين، وهذا كله على نحو ما استقر عليه عرف التعامل، التزامًا بجماعية العقد.
ومن ناحية أخرى فإن الحكم بالمشروعية في الحالة المعروضة ينصب أساسًا على الحالة التي لا تتعهد فيها المستشفى بتقديم الدواء مع العلاج –أما إذا التزمت بذلك فإن الأمر محل خلاف في الفقه الإسلامي، وقد رجحت الدراسة الرأي المنقول عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل بالمشروعية (لضرورة الناس) .
رابعًا: توسط شركة تأمين بين المستفيدين من العاملين في المؤسسة والمستشفى الذي يتولى العلاج، وقد انتهت الدراسة إلى مشروعية الاتفاق إذا كانت الشركة المتوسطة شركة تعاونية، لأن المستفيدين سوف يصبحون أعضاء فيها، ويكون التعاون هو الهدف الحقيقي، أما إذا كانت الشركة تجارية فإن العقد يكون تعاوضيًا، بعيدًا عن التبرع، ساعيًا لتحقيق مصالح ذاتية لأطرافه، وبالتالي يدخل في باب التأمين التجاري المحظور شرعًا.
وفي المبحث الثالث: الذي خصصته الدراسة للمشارطة على البرء تعرضت –في صورة سريعة- لطبيعة عقد العلاج وحكم المشارطة على البرء في الدراسات القانونية ثم دلفت إلى حكمها في الفقه الإسلامي بعد أن مهدت لذلك بإشارة لحكم ضمان السراية –وقد رجحت الدراسة ما يراه فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية من أن هذه المعاملة تخرج من باب الإجارة وتدخل في باب الجعالة، كما رجحت أن يكون حكمها مما يرتبط بالعرف، وخلصت إلى أن تغير العرف في العصر الحاضر في شأن الطب والأطباء والعلاج يقتضي القول بجواز هذه المعاملة، ثم استخلصت الدراسة بعض الأحكام الفقهية المترتبة على ذلك، وأشارت إلى أنه لما كان الاشتراط على البرء هو على خلاف الأصل فإن الأمر يستلزم أن لا يفترض وألا يكون نتيجة تفسير موسع.
خاتمة
نخلص من الدراسة السابقة للتأمين الصحي وتطبيقاته إلى النتائج التالية:
1-
التأمين الصحي معاملة تهدف إلى الحصول على تعهد بمعالجة الأمراض والإصابات التي قد تحدث مستقبلًا، وتظهر عادة في شكل تأمين تجاري، أو تعاوني، أو اجتماعي، وقد تتخذ شكلًا خاصًا يختلف عن هذه الأنواع: كليًا أو جزئيًا.
2-
يأخذ التأمين الصحي حكم نوع التأمين التي تكاملت فيه خصائصه، فإن لم يكن متمحضًا لنوع محدد منها، وجب تطبيق القواعد الكلية والأحكام العامة في الفقه الإسلامي، وعلى الأخص ما يتصل بالغرر أو يتفرع عنه.
3-
اتفاق شخص مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، هو من التأمين التجاري الذي يشوبه الغرر الكبير؛ ولذلك فهو محرم.
4-
اتفاق مؤسسة عامة مع مستشفى للتعهد بمعالجة موظفيها طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، هو من التأمين الاجتماعي، الذي يتغيا الصالح العام، والذي تفرضه الدولة أو إحدى المؤسسات التابعة لها، بهدف اجتماعي، ولذلك فهو مشروع.
5-
اتفاق مؤسسة خاصة، باختيارها، مع مستشفى للتعهد بمعالجة العاملين بها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، هو تأمين مختلط، تغلب عليه خصائص التأمين الاجتماعي، لبعده –في الجملة- عن المصالح الذاتية؛ ولأنه أشبه بالتبرعات، يحدوه الهدف الاجتماعي، ومن ثم فهو مشروع بشرط أن يتحقق به الهدف من جماعية العقد، وأن يكون من حق أطرافه تعديل قدر المبلغ الذي التزمت به المؤسسة، وتعديل المزايا التأمينية، على هدى ما قد يطرأ أو ما يكون قد وقع من خطأ في البيانات.
ولا يغير من حكم هذا التطبيق الاتفاق على التزام المستشفى بتقديم الدواء، وذلك على الرأي الذي رجحته الدراسة.
6-
توسط شركة تأمين بين العاملين في المؤسسة وبين المستشفى الذي يتعهد بعلاجهم، هو معاملة مشروعة إذا كانت الشركة تعاونية؛ لقيامها على التبرع أساسًا، وهو معاملة محرمة إذا كانت الشركة تجارية، لبعد المعاوضة عن التبرع وقيامها على تحقيق المصالح الذاتية والسعي إلى الربح.
7-
مشارطة الطبيب على البرء سائغة، لعدم تعارضها مع أي نص، ولارتباطها بالمصلحة المشروعة، غير أنها على خلاف الأصل، فلا يجوز افتراضها ولا التوسع في تفسيرها.
8-
إن الدولة الإسلامية مدفوعة بوازع من دينها الحنيف إلى التوسع في التأمين الصحي في شكله الاجتماعي، لما في ذلك من تحقيق للعدالة الاجتماعية التي هي غاية الدولة الإسلامية، ولأن الرعاية الصحية تدخل في باب الضروريات التي تؤثر في الحاجيات والتحسينيات، وتوجب على ولي الأمر أن يعمل على ضمان وجودها وفعاليتها.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.