المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقوق الإنسان في الإسلام - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث عشر

- ‌القدس وفلسطينبين معاناة الاحتلال ومقاومته

- ‌مسارب العدوان في الفكر الصهيونيوأثرها في التعرض للمقدسات الإسلاميةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌فلسطين العربية الإسلامية

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌حقوق الإنسانبينالإعلانين الإسلامي والعالميوالدستور الإسلامي الإيراني

- ‌حقوق الإنسان في الإسلام

- ‌الإسلام وحقوق الإنسانفي ضوء المتغيرات العالمية

- ‌التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

- ‌حقوق الإنسان وحرياتهفي النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل

- ‌حقوق الإنسان في الإسلامإعدادالدكتور محمد فتح الله الزيادي

- ‌استثمار الأوقاف في الفقه الإسلاميإعداد أ. د محمود أحمد أبو ليلأستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانونبجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلاميةوالدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء

- ‌وقف النقودفي الفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعداد الشيخ حسن الجواهري

- ‌استثمار الوقفوطرقه القديمة والحديثةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الوقف النقديمدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌المؤسسة الوقفية المعاصرةتأصيل وتطويرإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الأوقاف "الأحباس"وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفهاإعدادسماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادالشيخ خليل الميس

- ‌تنمية واستثمارالأوقاف الإسلاميةإعدادالدكتور ناجي شفيق عجم

- ‌زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديونإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالدكتور أحمد الندوي

- ‌زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديونإعدادالشيخ الدكتور الطيب سلامة

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌المشاركة المتناقصة وأحكامهافي ضوء ضوابط العقود المستجدةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌المشاركة المتناقصةطبيعتها وضوابطها الخاصةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌المضاربة المشتركة فيالمؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة القاضيمحمد تقي العثماني

- ‌القراض أو المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية(حسابات الاستثمار)إعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادأ. د أحمد الحجي الكردي

- ‌المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية(حسابات الاستثمار المشتركة)إعدادد. حسين كامل فهمي

- ‌المضاربة المشتركةفي المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرةإعدادأ. د قطب مصطفى سانو

- ‌التأمين الصحيوتطبيقاته المعاصرةفي ضوء الفقه الإسلاميإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعداد الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأمين الصحيإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌التأمين الصحيإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌التأمين الصحيواستخدام البطاقات الصحيةإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌التأمين الصحيإعداد الدكتور العلي القري

- ‌التأمين الصحيإعدادالقاضي مجاهد الإسلام القاسمي

الفصل: ‌حقوق الإنسان في الإسلام

‌حقوق الإنسان في الإسلام

إعداد

الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

حقوق الإنسان في الإسلام

محاور البحث:

المحور الأول: المبادئ العامة التي تهم تأسيس المساواة التامة بين أبناء البشرية.

المحور الثاني: الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام.

المحور الثالث: الحقوق الاقتصادية والثقافية في الإسلام.

المحور الرابع: حق التعلم والتثقيف.

المحور الخامس: حقوق الأقليات من خلال نبذ كل دعوة للكراهية.

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على نبي الرحمة، المبعوث لهداية الكون ومساواة جميع الناس، رحمة الله المهداة للعالمين جميعهم وعلى آله وصحبه وسلم.

تمهيد:

كثر الحديث خلال العقدين الأخيرين من القرن الميلادي الماضي (القرن العشرين) عن حقوق الإنسان، والإعلان عن إعطائه الأهمية التي تكفل له الاحترام، كأعظم مخلوق على وجه الأرض، كما اتخذ الذريعة التي تستخدم لتمجيد بعض الأنظمة، بجعلها مكرمة للإنسان، حتى ولو كانت أمعنت في إهانته، ثم صنفت أنظمة أخرى على أنها سيوف مسلطة على بني البشرية، لا يجد فيها هذا الإنسان إلا العنف والاستهزاء والصغار، حتى ولو انهمكت في سلوك جميع السبل المؤدية إلى تكريمه، وبواقع لا يقبل البينة المعاكسة حشر الإسلام في هذا الصنف الأخير، وأصبح اسمه يشير مباشرة في قاموس تصور جل مؤسسات الغرب إلى هدر حقوق الإنسان، واتباع الإرهاب، والتغاضي عن أبسط الحقوق الديمقراطية.

ص: 192

وإنني بناء على هذا الواقع الذي تعايش معه أبناء اليوم مسلمين وغير مسلمين، ارتأيت أن الحديث عن إبراز بعض مواقف الإسلام من حقوق الإنسان، لا يشكل تكرارًا ولا تراكمًا لسرد أحكامه في هذا المضمار، فما دامت التهمة قائمة، فلا تعد أطروحات الدفاع عنها تكرارًا، ولا توقعًا في موضوع واحد، وإنما هو محاولة لسد بعض الأفواه التي هي أكثر من عدد جميع المسلمين، ولذا فلا يستكثر إذا هيأ كل مسلم ردًّا يبين فيه تنظيم الإسلام لمختلف الحقوق الشريفة للإنسان، ونبذه للرذائل والسخافات التي تنزلق بهذا الكائن المكرم إلى مقاسمات الحيوانات في الغرائز البيهيمة بغير حق، ولذا فنحن مطالبون بإبراز تلك المواقف الإسلامية التي ما زالت متطورة، حتى على أحدث ما ابتكره، أو صور أنه ابتكره البيان العالمي ل حقوق الإنسان، الذي أصبح معتمدوه كثيرًا منهم يرمي الإسلام - زورًا وبهتانًا - بالتقصير في هذه الحقوق، ولذا فإن إدراج الأمانة العامة للمجمع الفقهي لهذا الموضوع في هاته الدورة، يعتبر توفيقًا من الله، لما صاحبها من الانفعالات الكونية التي نتجت عن أعمال الإرهاب والشغب التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11/9/2001م، والتي رغم إجماع كل نصوص الإسلام على عدم شرعيتها، وإجماع المسلمين على إدانتها، فإن الأغلبية الساحقة بتأثير من الصهيونية، مؤطرة من طرف الموساد الإسرائيلي، وجهت بعض شعب الولايات المتحدة الأمريكية إلى إلصاق تهمتها بالإسلام والمسلمين، بإجراء غير مسبوق، جعل كل عربي أو مسلم، عثر على اسمه على الطائرات المنتحرة، يعد مشبوهًا عند الحذرين، متهمًا من طرف العاديين، ومجرمًا في نظر المترفين، ومن هذا المنظور، أصبح عقد مؤتمر بأكمله من طرف المجمع الفقهي، لدراسة وتوضيح حقوق الإنسان في الإسلام، لا يكفي لمواجهة هذه الهجمة التي أقل درجات تأثيرها تغطية الحقائق عن أبصار أبناء البشرية اليوم.

ص: 193

ومن أجل التذكير بما تزخر به شرعيتنا الغراء من أحكام في هذا الموضوع، أتقدم لهذه الدورة المباركة، بهذا البحث الذي خصصته للمواضيع التي يدعي البعض أن الشريعة الإسلامية أحجمت عن تنظيمها، ثم نظمها البيان العالمي لـ حقوق الإنسان، وقبل أن ندخل في تفاصيل الأحكام والقواعد التي سنتعرض إليها، والتي سنبين فيها أن كثيرًا من أحكام ذلك البيان، سبقه الإسلام إلى سنها وضبط أحكامها، وفي كثير من المبادئ التي لم تقتبسه من الإسلام، أتى ذلك البيان خارجًا عن تكريم الإنسان فيها، ولا يمكن أن ترغم الشرعية على الاستسلام لقبول كل أحكامه فيها، ولكن يجب أن يعدل هو حتى يتبنى ما وجهت إليه الشريعة الإسلامية لصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ومن خلال هذا المنظور، تترتب علينا نحن حَمَلة الشريعة الإسلامية، أساسيات يجب الدفاع عنها، منها: أنا مطالبون بتوضيح السلبيات التي علقت بالبيان العالمي لـ حقوق الإنسان، لأنا ملزمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثانية: يجب علينا أن نوجه العالم إلى أسباب استنكار الإسلام لبعض التصرفات التي تبيحها بعض القوانين وحرمها الإسلام، ودعمت اكتشافات النظريات الطبية أهمية تلك المبادئ التي أصلها الإسلام كضمانات تحفظ الفرد في حياته ومماته.

وحتى نتمكن من الإحاطة ببعض المبادئ العامة لهذا الموضوع، فسنقسم هذه الدراسة إلى عدة محاور تهم الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية، ثم ننهي بخاتمة نؤكد فيها ضرورة الإسراع بإخراج بيان عالمي لـ حقوق الإنسان من صلب نظريات الشريعة السمحة، فالقيم والمبادئ والمثل التي أتى بها، تمكننا من استخراج منظومة قادرة على الاستحواذ على كل المستجدات الصالحة من سلوك الإنسان، فالأساليب الحضارية التي ميزت فترة انتشار الوعي الإسلامي وتحكم حضارته، مازال الإسلام يختزن القدر الكافي منها لتهيئة إطار يمكن من مجموعة قيم تحيط الإنسان بمختلف القواعد التي تؤمن حريته وعقيدته واختياره وممارسته لكل ما يعزز إنسانيته، فما بين الإنسانية من فوراق وأحقاد وتحكم وطغيان وجبروت، لا يمكن أن تتبرأ من مسؤولياتها ترسانة القوانين التي تعج بها خزائن الدنيا، بما في ذلك البيان العالمي لـ حقوق الإنسان الصادر يوم 10 ديسمبر 1948م، كلها لم ترق، إذا وقعت المقارنة بإنصاف، إلى ما وصلت إليه الشريعة الإسلامية بنصوص محكمة، ومنها قاعدة اختلاف البشرية على وجه الأرض إلى يوم الدين، ولذلك خلقهم الله ونظم أحكام اختلافهم عبر الإنصاف والتسامح من منهم تحكمت فيه تعاليم الوحي الإلهي.

* * *

ص: 194

المحور الأول

المبادئ العامة التي تهم تأسيس المساواة التامة بين أبناء البشرية

جاء الإسلام واضحًا في وضع الإطار العام الذي يمكن أن تنظم داخله علاقات الناس بعضهم ببعض، وذلك عندما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] .

وجه القرآن الكريم المسلم أول مرة إلى أن التعامل في الحقوق المالية والتمثيلية والإدارية والقضائية، لا تخضع للأمزجة والاختيارات الذاتية، فأمير المؤمنين وعامة رعيتهم، بما فيهم الذميون، وكذلك المعاهدون، وكل ذلك لا يتعامل معه إلا بميزان العدل، فلا مجال لقرابة ولا لعاطفة، يترجم هذا ادعاء علي كرم الله وجهه مع أحد الرعية، وهو يهودي، جاء إلى سيدنا عمر فقال عمر للرجل باسمه الشخصي: قل يا فلان حجتك، ولما فرغ المدعي من سرد دعواه، أدار أمير المؤمنين وجهه إلى سيدنا علي، ثم قال له: قل يا أبا الحسن ما عندك؟ فغضب علي حتى بدا ذلك على وجهه، فقال له عمر: أأغضبك أني أنزلتك منه منزلة الند في المحاكمة، فرد عليه علي: أغضبني أنك لم تسوِّ بيننا، إذ دعوته باسمه، ودعوتني بلقبي، واللقب آنذاك نوع من التفضيل، فأمير المؤمنين علي، لا يخاصم الرجل فيما هو حق له، ولكن يخاصمه فيما ظن أمير المؤمنين علي أنه ثابت له، ولا يريد أن يأخذه بغير عدل، وهذا تطبيق للآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] ، ثم طبق سيدنا علي نفس المبدأ مع النصراني الذي سرق درعه، ولما تحاكم معه إلى شريح ورأى النصراني المساواة بينه وبين أمير المؤمنين عند قاضي أمير المؤمنين أعلن إسلامه (1) .

(1) لقد ذكر أخونا العلامة الحاج محمد الناصر كثيرًا من هذه الصور في البحث الذي وجهه للمجمع بتاريخ 25 - 27 مايو 1996م، فنحيل عليه ولا نكرر ما فيه.

ص: 195

هذه المبادئ تثبت أن الإسلام وضع الإطار العام لتعايش بني البشرية تحت لواء المساواة والأخوة وعدم الاعتداء، وكرس ذلك قيام المجتمع الأول في صدر الإسلام الذي ذابت فيه السلالية وما تمليه من نعرات، كما اختفت فيه الاعتداءات التي كانت سائدة في أرض الجزيرة التي انطلق منها فجر الإشعاع الإسلامي.

ويلخص تلك المساواة الدكتور علي عبد الواحد وافي عندما استشهد بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، فقال: إنها خاطبت بني البشرية بما مضمونه: "إنكم جميعًا منحدرون من أب واحد وأم واحدة فلا فضل لأحدكم بحسب عنصره وطبيعته، وإذا كان الله قد جعلكم شعوبًا وقبائل، فإنه لم يجعلكم كذلك لتفضيل شعب على شعب، أو قبيلة على قبيلة، وإنما قسمكم هذا التقسيم ليكون ذلك وسيلة للتعارف والتمييز والتسوية"(1) .

إننا عندما نريد إثبات اهتمام نظريات الشريعة الإسلامية بـ حقوق الإنسان، لا نتكلم عن نظريات افتراضية، أو تطلعات احتمالية لكل واحد منا الحرية في أن يصفها كيف شاء، أو يقدم نفسه للناس على أنه حاميها حسب تكييفه الخاص به، لأن الإسلام أسمى من ذلك وأكبر قداسة، وأحكم قواعد وأصدق خبرًا وأثبت نظمًا، فأسسه ليست من إنتاج البشر، ما تلبث أن تتجاوزها تطورات الزمن، كما حصل لما نسب تحريفًا إلى الكتب الإلهية.

(1) حقوق الإنسان في الإسلام، لعلي عبد الواحد وافي، ص 9.

ص: 196

ولذا فإن ما بين أيدي الناس من نصوص الإسلام، لم يسن لخدمة الحاكمين، ولا لتوفير القداسة لرجال الدين، فلما قال الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى)) (1) ، عندها انتقل الفضل إلى العمل، فكرست نصوص الشريعة الإسلامية لبناء الإنسان، بناء يتسامى به إلى بلوغ أرقى صنوف الفضيلة، فنهاه الله عن تعاطي جميع أوبئة الرذيلة التي بلغت السخافات بالمتحللين من القيم الدينية إلى ربطها بـ حقوق الإنسان، الذي لا يرقى إلى ما يريده له الخالق، إلا إذا تحكمت فيه تعاليم الدين، وطهرته من الخبائث التي تنحط به إلى مقاسمة الحيوانات الغرائز التي ميزه الله ليتجنبها بنور العقل، فيهتدي به إلى سواء السبيل، إلى الإسلام الذي يهذب نفسه، فيستقيم تفكيره، ثم يحسن نطقه ويسير على المحجة البيضاء، العدل شعاره، والدين دثاره، والتسامح ميزته، والتقوى محجته، لا يقرب الظلم ولا الغش ولا الغدر ولا الخداع، فيجب للآخرين ما يحب لنفسه، لا يملكه عجب عن تطبيق أحكام الله على ذاته، ولا يقعسه ضعف عن القيام بواجبه، فلا يستعبد الناس لأنهم ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، كما قال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، فالإنسان جعله الله حاملًا لرسالة الهداية، فلا بد أن يتحلى بتعاليمها، فكما سوت الأقدار بين الأفراد في الخلقة، يبقى المبدأ في الإسلام هو مساواتهم في الحقوق والواجبات، ولا يكون التفاضل بينهم إلا بخصال خارجة عن تكوينهم الجسمي، بل يتفاضلون في المؤهلات، وتحصيل العلم وتدبير شؤون الحياة، والإخلاص لتعاليم الخالق جل جلاله.

(1) متفق عليه.

ص: 197

فالإسلام ذكر بمبدأ الخلقة التي ترجع أبناء البشرية إلى أب واحد وأم واحدة، ليستل منهم أية حمية جاهلية، أو أي تطاول لا مبرر له سوى نزغات الشيطان، ولما رسخ هذه المبادئ في أنفس المسلمين، ساواهم أيضًا في التكريم، وذلك من خلال قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ، ثم حطم ميزة التعالي الجنسي التي كانت تحصل بها الدونية للمرأة في مقابل قداسة للرجل ضمن علاقات الأسرة، فنسفت الشريعة ذلك في الآية الكريمة:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] .

وأمعنت الشريعة الإسلامية في نفي مخلفات التمييز العنصري عندما عير أبو ذر بلالًا بن حمامة بالسواد، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام حتى حلف أبو ذر بأن يضع خده على الأرض، ثم يطأ بلال عليه إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فإن المبادئ العامة الإسلامية أتت مستشرفة كل التطلعات التي يمكن أن يتصورها أو يصل إليها الإنسان المهذب، المتحلي بأخلاق الدين، ومن هنا ينبغي القول بأن نظريات الإسلام لا يمكن أن يحكم عليها من خلال ضعف المسلمين عن العمل بها وتقديم إيجابياتها لغيرهم من أبناء البشرية، ولا يمكنهم أن يرقوا إلى بلوغ أهدافها وما تؤسسه من قيم مثلى، ما داموا يتحسسون شرائع غير المسلمين ليستنبطوا منها نصوصًا تطبق عليهم، ولعل هذا من أكبر الأسباب التي أدت إلى ضعفهم، وغياب فكرهم عن ساحة الخلق والإبداع، ولو أنهم ملكوا الشجاعة التي تمكنهم من استخراج الأحكام على كل المستجدات من صلب نظريات الشريعة، لكانت اليوم جميع المبادئ والأعراف والعادات التي تعتبر من أساسيات حقوق الإنسان، استخرجت كلها من توجيهات الشريعة الإسلامية، التي لن تجد الإنسانية أعدل ولا أرحم منها، يجسد ذلك قول الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:90 - 91] .

ص: 198

هذه المبادئ جديرة بأن تمكن من سن بيان عالمي لـ حقوق الإنسان، ينطلق من هاته المبادئ التي نصت عليها الآيات والأحاديث، وستكون أحسن وأخلد من البيان العالمي الحالي، الذي صاحبه هاجس الاستعمار المعد تحت وطأة تأثيره، وإذا أحسنا نحن المسلمين إبلاغ حقائق الإسلام لغير المسلمين، عندها سيتضح للمنصف من المهتمين بضرورة توفير الحقوق الأساسية للإنسان، الفرق الشاسع بين البيان العالمي لـ حقوق الإنسان، ونظريات الشريعة الإسلامية، وإذا ما ذكرنا بذلك البيان، فليس المراد أن نعقد مقارنة بينه وبين مقررات الشريعة الإسلامية في هذا الصدد، ولا أن أبين أن هناك إلزامًا للشريعة على قبول ما جاء في ذلك البيان، ولكن ليعلم من كتب له الاطلاع على هاته المحاولة، أن المكاسب والضمانات التي حمى بها الإسلام الإنسان تجعله مفضلًا على غيره مكرمًا في مجتمعه، متميزًا بتحكم العقل في تصرفاته ليعقله عن كل الممارسات التي تنمي فيه اتباع الشهوات وما يمليه اتباع الهوى من تكريسه الغرائز البهيمية، بينما التربية الإسلامية ترتقي به إلى اتباع نصوص تؤصل في نفسه وحدانية الخالق، كما تمنعه من ولاءات دائمة للعباد الذين هم مثله، فيتحتم عليه الانسياق وراء إملاءاتهم إذا كانوا رجال دين، فبواسطة أطروحات سنوها لضمان سلطتهم، هم وخلفاؤهم إلى الأبد، كما هو الحال بالنسبة لأصحاب الكتابين الإنجيل والتوراة، وإما بواسطة قواعد قانونية تجعل الإنسان مستعبدًا لمؤسسات نظمتها مجموعة أودعتها كلما يحكم ضرورة اتباع من تطبق عليهم اختيارات تلك المجموعات، على أن تبقى عرضة للتغيير كلما ضعفت عن ضمان مصلحة القائمين على تلك المؤسسات، هذا إذا كان الأمر يهم المؤسسات الدستورية (الحياة السياسية العامة) .

ص: 199

من هذا المنطلق تتجلى عظمة الإسلام الذي وضع منهاجًا يتساوى في أحكامه كل أبناء البشرية الذين دعاهم إلى الدين الذي لا يقبل منهم سواه، وعندما تنشرح قلوبهم لهدايته، وتنطلق ألسنتهم بترتيل أحكامه، فإنهم يصبحون كأسنان المشط، لا فضل لأحد منهم على أحد، لا في لون، ولا في جنس، ولا في مكانة إلا بقدر تقواه، أما الحقوق المدنية والسياسية كإصدار بعض الأحكام، والتمتع بكافة الحقوق والحريات وعدم التمييز الجنسي، أو العرقي، أو الاقتصادي، أو الفكري، ونبذ الكراهية بين البشر، مهما كانت معتقداتهم وسلالاتهم، فهذه أساسيات متع الإسلام كل أفراد البشرية بضرورة تساويهم في مكاسبها، وفي هذا الصدد لابد من التنبيه إلى شيئين هما:

1 -

أن الإسلام أتى ثورة على الفساد والظلم والقسوة باعتبارها كانت مكتسبات تباح ممارستها لمن مكنته قوته وغلبته من تعاطيها في غياب أي وازع يحول بينه مع التسلط ليطبقها، وبارتباط رسالة الإسلام الغراء بصيرورة الزمن، فإن استمرار تلك الثورة يبقى يقتلع تلك الرواسب الفاسدة من مجرى حياة أية أمة شرح الله صدورها للإسلام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

2 -

المستجدات التي يصل إليها استخدام العقل البشري، من خلال تطور البحث العلمي كلما لم يتعارض منها مع نص من نصوص الشريعة، يعتبره الإسلام داخلًا في تكريم الله لعباده، إذا لم يكرس لمضرتهم الدينية أو الدنيوية.

ص: 200

ومما يثير الانتباه أننا نحن المسلمين نشاهد العالم يعتبر كل من لم يتبع الأنماط الديمقراطية رغم عدم تحديد تعريفها، وأساليب تطبيقها بدقة، ثم يطبقها حسب المفهوم الغربي لها، يعتبر هادمًا لـ حقوق الإنسان، أفلا يكون من واجبنا نحن المسلمين أن نعتبر كل معارض أو متنكر لمبادئ الإسلام خارجًا على أكبر منهج يضمن هذه الحقوق، وفي هذا الصدد يحتم علينا أن نقوم بتعبئة إعلامية للتعريف بتلك المبادئ في شريعتنا السمحة، ومن لم يتبعها يبقى رافضًا لأعظم تشريع تحمل قواعده جميع المبادئ القادرة على إعطاء حل أمثل لكل مشكلات الكون، فإذا تفيأت البشرية ظل عدل الإسلام، عندها سينعم الإنسان بالتكريم المنصوص عليه في قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] فلو طبق الإسلام لاختفت الدكتاتورية والتفاوت الطبقي والتمييز العنصري، والفوارق المالية، وتم تجنب جميع الرذائل وما ينتج عنها من توترات، ثم تتبعها الحروب، ولكن لا يتأتى ذلك عن طريق إرغام الإسلام على أن يقبل ما يناقض أحكامه، ليكون في نظر من سنوا تلك الأحكام محافظًا على ما أسموه بـ حقوق الإنسان، بل الذي يجب اتباعه هو أن الإسلام نظام قائم بنفسه قد أتى ناسخًا لكثير من أحكام الشرائع السماوية التي سبقته، لتوفره على أحسن من هديها، فكيف يحاول المؤمنون إخضاعه لقواعد من اختيار البشر، سنت لتخدم مصالحه اليوم، ثم يمكن أن تتغير غدًا، ولا ضير على خلفاء الإنسانية عبر القرون القادمة إذا غيروا ما ورثوه من قوانين أصبحت قاصرة عن تنظيم شؤون حياتهم، فهل عندها أيضًا نحمل نحن الشريعة على مسايرة اختياراتهم؟ وهل إن فعلنا نستطيع القول بأن الشريعة التي بين أيدينا نحن المسلمين هي من عند الله؟ لذا فإن العناوين التي سنتكلم عنها، لا نريد تقديمها كخادم أو مؤيد للبيان العالمي ل حقوق الإنسان، لكن نريد القول: إن الحث على احترامها لم يكن من ابتكارات الجهات الدولية اليوم، كما نريد أن نقول أيضًا بأن ما حاد من تلك المواد عن تعاليم الإسلام هو الذي يجب أن تتخلى عنه الإنسانية، لأنه لا يخدم أية مصلحة إنسانية.

* * *

ص: 201

المحور الثاني

الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام

تتباهى المؤسسات العلمانية اليوم، وستبقى حسبما يبدو غدًا بما نصت عليه المادة الثانية من البيان العالمي ل حقوق الإنسان، والقائلة على أن جميع الدول تتعهد باحترام وتأمين الحقوق المقررة في العهد الحالي لكافة الأفراد إلى آخر ما نصت عليه تلك المادة.

فإذا ما قارنا هذه المادة مع الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، لوجدنا ما تضمنه البيان المشار إليه ناقصًا في عباراته وأهدافه وأحكامه ودقته وشموليته عن المعاني والمثل التي تضمنتها هذه الآية التي أتى تفصيلها في قول النبي صل الله عليه وسلم:((الناس سواسية كأسنان المشط)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام:((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى)) . (1)

وذكر الخالق بأصل المساواة في لحظة توجيهية لعباده بضرورة ملازمة التقوى فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] .

لا مجال للمقارنة بين أحكام أنزلها الله لتلبي مصالح عباده ما بقي منهم أحد على وجه الأرض، وبين أحكام اجتهد الأفراد في إعدادها خدمة لمصالحهم الآنية وتحت وطأة تطورات اجتماعية، وما تلبث أن تتجاوزها تطوراتهم وما سخر الله لهم من أسرار كونه، ثم يستبدلونها بأخرى أكثر استجابة لواقعهم.

ففي إطار استخراج أهم قواعد حقوق الإنسان من أحكام الشريعة الإسلامية، ولو كان للمسلمين حضور في توجيه الرأي العام العالمي، ولو كانت جهات التشريع الدولية تتميز بالحد الأدنى من الإنصاف، لما وجدوا أشمل ولا أدق لمفهوم المساواة من قول الله تعالى في الآية السابقة:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] .

(1) رواه الطبراني.

ص: 202

قال الآلوسي البغدادي في تفسيرها: "كلكم من آدم وحواء، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ". وهذا يفند ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار، أو كل دعوة ترمي إلى أفضلية لشعب عن شعوب الأرض على أي شعب آخر، كما يؤخذ منه ومن غيره من التفاسير بأن كلمة شعوب تأتي نبذًا للتفاخر بأي لون أو جنس أو سلالة، ثم أتبعت بلفظة التعارف ليتم التعاون والتآخي، وعندما تستكمل المبادئ التي يدخل فيها جميع أبناء آدم، بقطع النظر عن أية مؤهلات، توضع بأيديهم المثل التي يمكن أن يكون تفاوتهم بحسب النسبة التي يحصل عليها كل واحد منهم، وذلك عند قول الله عز وجل:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .

إن سبب نزول هذه الآية كفيل إذا نشره المسلمون بأن يشد أبناء البشرية إلى ما يتميز به الإسلام من ضمان للحريات العامة والمساواة الكاملة لكل الناس، ففي إحدى الروايات الراجحة أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على ظهر الكعبة، فغضب الحارث بن همام وعتاب بن أسيد وغيرهم من كبار قريش ممن دخل عليهم الإسلام، فقالوا:"أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟! "فنزلت الآية السابقة. وقد حكي أيضًا عن ابن عباس أن سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:((إنك لا تفضل أحدًا إلا في الدين والتقوى)) ، ثم نزلت آية المساواة هاته. ولأبي داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزلت هذه الآية. وعن زيد بن شجرة، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلامًا أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط ألا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اشتراه رجل، وبعد مدة مات العبد فأتاه الرسول عليه الصلاة والسلام فتولى غسله ودفنه، فاستعظم المهاجرون والأنصار ذلك، ودخل عليهم منهم أمر شديد!! فنزلت الآية.

ويكرس هذه المساواة ما وقع يوم الفتح، عندما طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته يستلم الأركان بمحجنه، فلما خرج لم يجد مناخًا، فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال:((الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها، يا أيها الناس؛ الناس رجلان، بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب)) ، ثم تلا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ.....} الآية

وأكد على هذا المبدأ في حجة الوداع عندما خطب وسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وأباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. الآية، ثم قال: هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) (1) .

(1) انظر هذه الأقوال في تفسير الآية الكريمة في تفسير الألوسي.

ص: 203

وتتابعت أحاديث كثيرة في مختلف كتب السنن تلح على ترك التفاخر بالأنساب، وتحل محله التفاخر بالتقوى، حتى وصلت إلى الحديث الذي رواه الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يقول الله يوم القيامة: أيها الناس إني جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا، فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، ألا إن أوليائي المتقون)) (1) .

وهي كافية لتوضح تعصب جل واضعي التشريع الدولي لـ حقوق الإنسان، عندما لم يعترفوا بأن هذا التشريع لو كان منصفًا لجاهر بضرورة أخذ الحقوق المشرفة للإنسان من مبادئ الشريعة الإسلامية، فهل يا ترى يمكن أن تصل الأحكام التي تضمنها البيان المذكور والمادة الثانية منه إلى هذه المعاني السامية التي أتت بها آيات محكمة، وأحاديث صحيحة؟.

ومن هذه الصورة الممعنة في احترام جميع ما يهم الحقوق الإنسانية، نرى الآية الكريمة القائلة:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .

ونسجل في تفسير هذه الآية صورًا بارعة من صور تسامح الإسلام، ورعيًا لكثير من حقوق ومشاعر الإنسان، بقطع النظر حتى عن دينه، فلقد ذكر القرطبي في تفسيرها، جواز صلة الرحم حتى ولو كان كافرًا، وذلك بناء على قصة أسماء عندما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أأصل أمي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((نعم صلي أمك)) فأمرها بصلتها وهي كافرة، فتأكيدها - يقول القرطبي - أدخل الفضل في صلة الكافر.

ولما تعرض الداعية المرحوم الشهيد سيد قطب للمساواة، ذكر بالوثنية التي ارتقت التعاليم الإسلامية بالإنسان عنها عندما قال:"ولكن الإسلام مع ذلك لم يكتف بالمفهومات الضمنية المستفادة من التحرر الوجداني، فقرر مبدأ المساواة باللفظ والنص ليكون كل شيء واضحًا مقررًا منطوقًا"، ثم استعرض آيات التوحيد التي تكرم الإنسان بالتعلق بالخالق، لتسمو نفسه عن عبادة السخافات والافتراضات التي كانت سائدة قبل الإسلام، ثم قال:"ولقد برئ الإسلام من العصبية القبلية والعنصرية، إلى جانب براءته من عصبية النسب والأسرة، فبلغ بذلك مستوى لم تبلغه الحضارة الغربية إلى يومنا هذا "(2) .

* * *

(1) هذه الأحاديث كلها استشهد بها الألوسي البغدادي عند تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} .الآية

(2)

كتاب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص 46.

ص: 204

المحور الثالث

الحقوق الاقتصادية والثقافية في الإسلام

لابد من القول بالنسبة للحقوق الاقتصادية، إلى أن الشريعة جعلت المال مصلحة تخدم الأمة ابتداء من سد خلات أفرادها إلى تسليح جيشها وبناء مرافقها، والتطبيق السليم للشريعة الإسلامية يجعل المال مجرد مؤسسة تحرك العجلة الاقتصادية، فينال صاحبه كثيرًا من الأجر، مع أن التمتع به خاضع لشروط، إذا لم تطبق إما أن ينزع المال من يده، وإما أن يصبح وسيلة لشقائه، وعلى هذا الأساس قامت حرية التملك بدون حدود، لمن راعى حق الله في أمواله، ومن هذا المنطلق الذي ركزت عليه الآيات والأحاديث المتواردة، غدا المال مؤسسة يؤدي دورًا طلائعيًّا داخل المجتمع الإسلامي، وهكذا أفسح الإسلام المجال للإنسان أن يستخدم مواهبه ويستثمر حقه كاملًا في محاولة تحصيل المال جمعًا واستثمارًا، على شرط سلامة أصوله من المحرمات، وإناطته بالتزامات تجاه الأمة بصفة عامة، وتجاه فئات من أفرادها بصفة خاصة، فترتبت لهم عليه حقوق مالية تعزز مجموعة النظم التي خص بها الإسلام حقوق الإنسان، وحتى يظهر تفوقها على ما قررته المادة الثانية من القسم الثاني من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، نستعرض بعض النماذج من تلك النصوص تباعًا:

1 -

التكاليف العامة: أوجب الإسلام الإنفاق من بيت مال المسلمين على الفقراء والعجزة والمعوقين، فمن ليس له مال منهم ولا قريب موسر يقوم بأعبائه المالية، فقد ترتبت في إطار التكافل الاجتماعي نفقتهم على بيت المال، وألحقت بهم المرأة إذا لم يكن أحد الأصناف الذين أوجب عليهم الشارع القيام بأمورها، وهذا الواجب موجود قادر على القيام بأعبائها المالية، ويدخل فيه كل من يخضع لسيادة الدولة حتى من المعاهدين والذميين، ويجسد ذلك قصة عمر مع الذمي الضرير عندما رآه وقد كبرت سنه ودق عظمه ولا مال لديه ولا معيل فقال:"أهلكنا شبابه ثم ضيعناه في شيخوخته، ففرض له من بيت المال ما يكفيه"، أخرجه أبو يوسف في الأموال.

ص: 205

2 -

وللفقراء ومن لحق بهم في الحاجة نصيب من أموال الأغنياء عن طريق الزكوات: قال الله عز وجل: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .

هذه تهم ما يجب على أغنياء كل بلد تجاه فقرائه، فهم ملزمون بحكم هذا النص أن يسدوا خلاتهم، كما اتفق على أن أمير المؤمنين عمر قال عام الرمادة: إن دام الجدب فسأدخل على أهل كل بيت قدر عددهم ممن ليس لديهم قوت، ليكتفوا بوجبة واحدة، فإن الناس لا يهلكون بنصف بطونهم، وقد قال في تقسيمه للأموال قولته المشهورة:"إنما هو حقهم أعطاه الله لهم، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذهم له ".

ثم واعد الله بأشد الوعيد أولئك الذين يكنزون الأموال دون تحريك عجلة الاقتصاد، ودون المساهمة في سد خلات المحتاجين فقال:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] ، وبعد أن تم تحديد التحملات العامة للمال، ألزم مالكه بأداء حقوق أخرى لم تترك لحريته فقال:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] ، وذهب التشريع الإسلامي بهذا المبدأ بعيدًا، فقال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام:((والله لا يشم رائحة الجنة من بات شبعانًا وجاره جائع)) ، وأوجب على الموسر نفقات درجات من الأقارب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع بالزائد عن الحاجة في السفر إلى من لا شيء عنده، فقال:((من له فضل من زاد فليرجع به على من لا زاد له، ومن له فضل من ظهر فليرجع به على من لا ظهر له)) (1) ، وأخذ يعدد حتى ظن الصحابة أنه ليس للإنسان من ماله إلا ما يكفيه.

وقال عبد الله بن عمر في شرح الحديث الشريف: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) قال: من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد ظلمه. وحال المسلم هنا، تطبق على المقيمين بين ظهراني المسلمين، لأن وضعيتهم منظمة تحت أحكام أهل الذمة أو المعاهدين، إذن فتركهم من قبل المسلم يجوعون وهم معه ظلم أيضًا، وهذا أكبر دليل على مراعاة الشريعة لمختلف حقوق الإنسان.

(1) رواه مسلم.

ص: 206

فالنصوص الشرعية عبر مجموعة من الآيات والأحاديث والاجتهادات جعلت المال في مفهوم الشريعة الإسلامية وظيفة تخدم مصلحة الفرد والجماعة، فحرمت احتكاره واكتنازه، قال الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] .

وقال الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] .

وأنعم الله على عباده بنعمة العقل ليحسنوا بواسطته استخراج خيرات الأرض، وليستفدوا منها دون طغيان أو استبداد أو احتكار فقال:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] ، وجعل هذا الاستخراج نعمة مشتركة يتساوى فيها قويهم وضعيفهم، وألح التشريع الإسلامي على ضرورة عدم استبداد الحكام، فقال عليه الصلاة والسلام:((من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله تعالى دون حاجته وخلته يوم القيامة)) (1)، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام:((ما من عبد يسترعيه الله أمر رعيته ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم عليه الجنة)) (2) أو كما قال.

وحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل من أجل خلق النواة الاقتصادية الكافية، فأمر من بيده فسيلة فليغرسها حتى عند قيام الساعة.

(1) رواه أبو داود والترمذي.

(2)

رواه البخاري.

ص: 207

ويستوي في هذا الحق قريبهم وبعيدهم، فلقد دخلت زوجة عمر بن عبد العزيز عليه وهو يبكي بعد توليته، فتساءلت عن السبب؟ فقال ما ملخصه: إني توليت هذا الأمر وأصبحت مسؤولًا عن كل فرد محتاج لشيء. أفلا يوضح هذا أخذ الإسلام بواجب رعاية الدولة لكل مواطنيها، والمقيمين بعهد فوق أرضها، وينفي كل مخاصمة بينه مع حقوق الإنسان كما يدعي العلمانيون الذين أخذت توجههم الصهيونية إلى حمل الكراهية للإسلام، خروجًا على أحكام البيان العالمي الذي يتباهون بأحكامه، فرعاية الإسلام لجميع أجناس البشر في كل مجال من مجالات حياتهم يثبت أن الإسلام هو واضع اللبنة الأولى لأسس حقوق الإنسان، وتتبع أقوال كبراء فقهاء الإسلام يثبت هذا المبدأ، ومن ذلك ما قاله ابن حزم في المحلى بقوله:"وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بالقوت والملبس والمسكن الضروري"(1) .

وهذا مبني على الحديث الشريف ((في المال حق سوى الزكاة)) ، والذي يسير في أحكام قول الله تعالى:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذرايات:19] لم يقيدها بشرط لون ولا عقيدة ولا سن ولا جنس.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (2) وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر)) (3)، وكان النبي صلى الله عليه إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال:((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)) . (4)

وفي الحديث الشريف: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (5) .

إن رعاية الإمام تشمل واجبه في صد العدو، وتوفير المأكل والملبس والمسكن والتطبيب، حسب إمكانيات الدولة، وعلى أي حال، فليس في الإسلام نص يمكن أن يحمل على عدم قيام الدولة لرعايتها بهذه الحقوق.

قال سيد قطب ملخصًا سياسة المال في الإسلام ما نصه: "لقد جعل الإسلام حق المال هو الزكاة، وهو ما يقاتل عليه الإمام الناس إن امتنعوا عنه، وما يفرضه عليهم بحق التشريع، وبقدر معين معلوم، ثم جعل للإمام الحق في أن يأخذ بعد الزكاة ما يمنع به الضرر، ويرفع به الحرج ويصون به المصلحة لحماية المسلمين، وهو حق كحق الزكاة عند الحاجة إليه، موكول إلى مصلحة الأمة وعدالة الإمام وقواعد النظام الإسلامي العام"(6) .

(1) الإسلام، سعيد حوى، يكتب بالحرف الواحد عن المحلى.

(2)

رواه البخاري.

(3)

رواه الترمذي.

(4)

أخرجه الخمسة.

(5)

أخرجه البخاري ومسلم.

(6)

العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص 87.

ص: 208

وفي تفسير القرطبي للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 -35] .

أشار إلى أن الباطل الذي كان الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل، يأخذون الضرائب والتبرعات من أتباعهم باسم الكنائس والبيع، ثم يدخرونها لأنفسهم، وقصة سلمان الفارسي مع الراهب الذي استخرج كنزه، أكبر دليل على ذلك الباطل الذي حرمه الإسلام.

وبعد استعراض الطبري للخلاف حول المال الذي أديت زكاته، هل يدخل في الاكتناز أم لا؟ نخلص من الموضوع بقوله:

إن خلافًا حصل بين معاوية وهو والٍ على الشام مع أبي ذر لأنه تشدد في الأوجه التي يسمح لولي الأمر في أن يأخذ فيها شيئًا غير الزكاة، فلما قدم على المدينة وجد كثيرًا من المضايقات بسبب خلافه مع معاوية على تلك الفتوى، فاستشار سيدنا عثمان فأشار عليه بالانزواء بالربذة.

قال القرطبي: إن سبب ذلك هو استمرار الجدب وفراغ خزينة المسلمين، فنهوا في مثل تلك الحالة عن إمساك شيء من الأموال زائد عن الحاجة للمسغبة التي حلت بالمسلمين، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في ذلك الوقت.

ويستنتج من هذا، مدى ما وصلت إليه حرية الرأي بين الصحابة، ثم خلافهم في المسائل الظنية بحسب أدوات التفسير التي استخدمها كل واحد منهم بحسب قناعته من أدلته.

وبما أن بحثنا هذا لا يمكن أن يشمل أحكام كل مسألة، فسنكتفي بهذا مبينين أن العدالة المالية التي أتت بها الشريعة، ليست محل مجال للمقارنة مع أية نظرية مالية وضعية، لما اشتملت عليه من نصوص واجتهادات لا يمكن أن يقدر على استيعابها أي تشريع خارج عن التوجيه الإسلامي.

* * *

ص: 209

المحور الرابع

حق التعلم والتثقيف

لم يلح التشريع الإسلامي على شيء أكثر من عنايته بالعلم، فهو المدخل حسب منهج الشريعة لكل أمر، فيه تستقبل أمور الحياة، وبه يدرك أمرها وتحل ألغاز كثير من تعقيداتها، وبه تحصل الدرجات العليا لمن حصل عليه، ولقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المشتغلين فيه ورفع الله أهله درجات، وخصاله التي خلدتها النظرية الإسلامية أكثر من أن تحصى.

فأول ما بدأ الله به برنامج هدايته لكونه على يد نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام هو أمره بالقراءة، وذلك عندما قال تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1- 4]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا أراد الله بعبده خيرًا فقهه في الدين)) . وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)) (1)، وعن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع)) . وفي الباب أيضًا عن سخيرة ((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) وهذا الحديث ضعفه الترمذي وفيه عن هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري فيقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الناس لكم تبع، وإن رجالًا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا)) (2) .

هذا أكبر دليل على احترام حق التعلم في الإسلام، فلفظ الحديث أتى عامًّا جميع الناس، ثم قال: استوصوا بهم خيرًا، كما نص على أنهم من جميع الأقطار.

(1) رواه أبو داود والترمذي.

(2)

هذه الأحاديث في صحيح الترمذي.

ص: 210

وفي سنن أبي داود أن رجلًا جاء إلى أبي الدرداء، وهو جالس في مسجد دمشق فقال: يا أبا الدرداء جئتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئت لحاجة، جئت لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) . والأحاديث والآثار كثيرة في هذا الموضوع، تبين مدى اهتمام الشريعة بالعلم.

ويروى: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) لابد منه لكل مسلم، فيشمل الواجب وأحكام فرض العين، بينما شمولية الدعوة إليه استحبابًا أتت بها آيات قرآنية ميزت العلماء، وأعطتهم منزلة خاصة، قال الله عز وجل:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((العالم والمتعلم شريكان في الخير)) (1) ، وقضية أسرى بدر وفك أسر كل واحد منهم إذا هو علم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، توضح لنا مدى اهتمام دولة الإسلام بمراعاة حق الإنسان في التعلم.

قال سعيد حوى في كتابه (الإسلام) : بأن تعلم كل فن فرض كفاية إذا قام به ما يكفي لسد حاجات الأمة، سقط عنهم ذلك الفرض، وإذا لم يبادر إليه ما تحتاجه من رعاياها، وجب على الإمام توجيه القدر الكافي إليه، وإن لم يفعل انتقل فرض الكفاية إلى فرض العين، قال عز وجل:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .

(1) رواه البخاري.

ص: 211

وإلى هذا المعنى أشار ابن عاصم في نظمه مرتقى الوصول إلى الضروري من الأصول حين قال:

والفرض مقسوم إلى نوعين

فرض كفاية وفرض عين

فما على الأعيان فرضه كتب

فذاك فرض العين ليس ينقلب

وما على الجملة كالجهاد

فرض كفاية على العباد

يسقط عن كل إذا البعض فعل

ويأثم الجميع إن هو انهمل

وفي إطار ذكر فرض الكفاية في مجال التعليم، عدد الفقهاء جميع الشعب التي تتعرض إليها المناهج التعليمية اليوم، وأكدوا على وجوب تعليمها، وجعلوا تعلم ساعة أفضل من العبادة سبعين سنة، وفي الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد جماعتين، كل واحدة منها في ناحية، إحداهما انهمك أصحابها في العبادة والأذكار والدعوات، والأخرى يتعلم بعضهم من بعض، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:((هؤلاء يطلبون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون وإنما بعثت معلمًا)) (1) أو كما قال، ثم مال إلى المتعلمين وجلس معهم.

(1) رواه ابن ماجه.

ص: 212

ومن تتبع كتب السير والتاريخ سيجد فيها تطبيقات متطورة جدًّا في شتى أنواع الحريات العامة مازالت القوانين الوضعية قاصرة عنها.

فلقد اشتملت أمهات التشريع الإسلامي على كل ما يكفي من إثبات جميع الحقوق والحريات للإنسان في الإسلام، واستقطابه لكل التطلعات ضمن تطبيقات ونصوص كافية لتأكيد السابقة الحضارية للإسلام في هذا الموضوع، فحرية الرأي والتعبير صاحبت بزوغ شمس ظهور الهدي النبوي الكريم، ومن أهم ما يستشهد به على صحة ذلك ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم يوم بدر وبين النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إن كان وحي فلك، وإن كان رأي فلنا حظ منه، فيرد عليهم بأنه الرأي والمشورة - حسب معنى الحديث وليس لفظه -. ودخل أحد الصحابة على معاوية، فقال: السلام عليكم يا أجير، فلم يغضب ذلك أمير المؤمنين معاوية، وقبل ذلك قال أبو بكر للجماهير: إن رأيتم في إعوجاجًا فقوموه، فيرد عليه بعض الحاضرين بأنهم إن رأوه سيقومونه بحد السيف، وعمر يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة، ويقول أيضًا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. عندما أنصف المصري من ابن واليه عمرو بن العاص لما مكن المعتدى عليه من ضرب ابن عمرو، والذي تطاول بأنه ابن الأكرمين، فأخذ عمر يقول له: اضرب ابن الأكرمين، وأوشك أن يضرب عمرو لو لم يعف المعتدى عليه ويقول: يا أمير المؤمنين ضربت من ضربني ولا أظلم أحدًا.

ومنح الله الإنسان آفاقًا واسعة للتفكير، فقال في كتابه العزيز:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، فإذا وجه الله الإنسان إلى التدبر في القرآن، فكيف يمنع حرية التعبير، والمعتقد والنهج الذي يفضل أن يسلكه في حياته ما دام لم ينتهك محرمًا.

ص: 213

ومن الحريات العامة أيضًا:

حرية المعتقد والرأي في الإسلام:

فلقد أتى الإسلام حاسمًا في ممارسة هذين الحقين، فنهى عن الإكراه في الدين ورسم أسلوب الدعوة إليه، فأمر بأن تكون بالحسنى، ولذا فإن المسلم مطالب بأن يدعو إلى الإسلام بالكلمة الطيبة، والسلوك الحسن والتمكن من مختلف أساليب الإقناع، فلنصغ للقرآن الكريم ينير سبيل الدعاة بآيات محكمة حتمت تجنب كل وسائل العنف والقسوة والإكراه إذا أراد الداعية أن يكون لدعوته أثرها الطيب في نفوس مخاطبيه، قال الله في كتابه العزيز:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، هذا الخطاب البليغ الملتزم باحترام حق الإنسان في اتباع ما يريد.

إن الاتفاقيات الدولية اليوم، ما استطاعت أن تقدم للإنسان ضمانات تحمي نفسه ودينه وماله، تشابه أو تقارب تلك التي أعطاها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب "لأهل إيلياء من الأمان على أنفسهم وكنائسهم وصلبانهم، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبانهم، لا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحدهم "(1) .

لا جدال في أن هذا المسلك العظيم لم ترق إليه ممارسات الغرب الذي بلغ التعصب بأبنائه، ما جعلهم يعبئون جميع طاقاتهم من أجل منع فتيات مسلمات من أن تضع خمارها على رأسها، ثم ينادون بـ حقوق الإنسان وعدم التدخل في اختياراته العقدية، وأين هو نص المادة الثانية من البيان العالمي ل حقوق الإنسان، من قول الله عز وجل:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ثم قال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، فدعاهم إلى الحوار المقنع مع الاحترام الكامل عندما قال:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .

هذا الرصيد من المساواة والاحترام، ومحاولة الوصول إلى تحقيق الهدف بأسلوب تثمر في ظله المودة واستمرار الأخوة، سيظل دليلًا على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويجعلها قادرة على إخراج إنسان هذا العصر من تحكم الطغيان الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من نسف كل قيمة ومكتسباته.

* * *

(1) علي عبد الواحد وافي، ص 220.

ص: 214

المحور الخامس:

حقوق الأقليات من خلال نبذ كل دعوة للكراهية

القومية أو العنصرية أو الدينية

وضع الإسلام حقوق الأقليات في مكان خاص يمكنهم من سائر حقوقهم، يضمن سلامتهم وحريتهم واحترام معتقدهم وسلوكهم وتربية أولادهم وتنمية أموالهم، وإشعارهم بالمساواة مع جميع سكان البلد الذي يقيمون فيه.

قال الله في أول سورة التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:1 - 2]، قال القرطبي في تفسيره: عن علي بن أبي طالب أنه قال: "من كان له عهد عند رسول الله فهو على عهده، ومن لم يكن له أجل أربعة أشهر يختار الإسلام أو يكف عن دار المسلمين أو يتهيأ للقتال " وهذا يؤخذ منه التأكيد على احترام المعاهدات الدولية، بأسلوب أرقى من مطاردة الأجانب من على أرض أية دولة حسب أنظمة دخول أراضي الغير.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على أن الناس تتمسك بهدنة لمدة عشر سنوات، تبيع وتشتري وتتبادل الزيارات، وتتمتع بالحريات الكاملة خلالها، وفيه دليل على قبول العيش بين البشر كلهم، لأن هذه الاتفاقية وضعت إطار ذلك التعايش وفق ضوابط معينة، يتعايش من خلالها المسلم مع المشرك.

وفي المغني لابن قدامة: قال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز الصلح والهدنة لأكثر من عشر سنين حسب المصلحة التي يراها الإمام. (1)

وإذا عقد الإمام الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] .

وقال في المغني: وإذا عقد الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، كما أمن من في قبضته منهم، وإن أتلف المسلمون أو من أهل الذمة عليهم شيئًا فعليه ضمانه.

إن التعايش والتساكن بتسامح دعا إليه الإسلام قبل مختلف تشريعات البشر، فالله قال:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .

قال صبحي الصالح: " والمعاهدات أصل مشروع في الإسلام، حتى مع المشركين تنظيمًا لعلاقات غير المسلمين بالمسلمين". (2)

وقد دعا القرآن إلى الوفاء بالعهد فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]، وقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] .

ولقد منح الإسلام لهم حق التمسك بأي معتقد فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وحتم علينا احترام مشاعرهم حتى أثناء دعوتهم للإسلام فقال:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ، ونهى عن البغي والفحشاء والمنكر بدعوة عامة، سوَّى فيها بين جميع أجناس الإنسانية؛ فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] .

(1) المغني لابن قدامة:518/5

(2)

النظم الإسلامية، للمرحوم صبحي الصالح، ص 524.

ص: 215

هذا بالنسبة لمختلف العلاقات بين الدول، أما أمر المقيمين بأرض الإسلام فقد نظمت شريعتنا الغراء أحوالهم عن طريق ثلاث حالات:

1 -

مسلم نزح من بلد مسقط رأسه، ثم أتى لبلد مسلم؛ فهذا يعتبر في بلده، لأن دولة الإسلام لكل المسلمين.

2 -

معاهد تعاقد مع الإمام على صيغة معينة، تمكنه من حق السكنى مع المسلمين، فيجب الوفاء بالعهد له، انطلاقًا من قول الله عز وجل:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91] .

3 -

ذمي وقد حددت طريقة التعامل معه، عن طريق عقد الذمة، الذي بسببه يصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فلهم حق تعليم أبنائهم وحماية أموالهم وأمان أنفسهم وحفظ كرامتهم، يجب على الإمام حمايتهم من المسلمين وغير المسلمين، ولذا قال علي كرم الله وجهه: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا. وقال عمر وصية للخليفة بعده: وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم.

وإذا تحاكم إلينا مسلم وذمي (أجنبي) مقيم في دولة الإسلام، وجب الحكم بينهما بالعدل، لأن علينا حمى كل واحد منهم من ظلم الآخر (1) .

وفي المحلى أن عليًّا كرم الله وجهه تحاكم مع يهودي، فحكم القاضي لليهودي على علي لعدم البينة مع علي، فقبل أمير المؤمنين الحكم، والحال أنه في الخلافة آنذاك، وقد ذكرت قصته من قبل.

قال الشافعي في الأم: "لا أعلم أحدًا من العلماء مخالفًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن يهود خيبر عند مجيئه للمدينة، فشملهم ما شمل المسلمين من التمتع بجميع الحقوق حتى نقضوا عهدهم "(2) .

(1) المغني لابن قدامةالحنبلي:623/10

(2)

الأم: 280/1

ص: 216

وعلى المسلمين حماية أعراضهم وأموالهم وتوفير الجو النفسي لهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من قذف ذميًّا حد له يوم القيامة بسياط من النار)) (1) .

وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين سنة)) ، فكل المقيمين اليوم في دار الإسلام، لا يخرج حالهم عن المعاهدين أو الذميين.

وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن خفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل)) .

وإذا أبرمت معاهدة مع غير المسلمين، فيجب الوفاء بكل بنودها، حتى ولو كانت مع أهل حرب، ما داموا لم ينكثوا عهدهم، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: "ما منعني من أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبو حسيل قال: فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًّا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه، فقلنا: لننصرفن إلى المدينة ونقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال:((انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)) .

(1) رواه أبو داود.

ص: 217

قال أحمد بن حنبل فيما نسبه إليه ابن قدامة في المغني: لا يبحث عن أمرهم، وإن رفعوه إلينا حكمنا بينهم بالعدل.

ولهم حق حصانة بيوتهم من المسلمين بحكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوا الذي عليهم)) (1) وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ظلم معاهدًا أو انتقضه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس أنا حجيجه يوم القيامة)) (2) .

هذه النصوص كفيلة بأن توضح لنا المكانة التي جعل الإسلام فيها غير المسلمين من المعاهدين، وهي وضعية تشابه وضعية الجاليات الأجنبية المقيمة اليوم في بلاد الغير.

أما عن القسط الذي يؤخذ منهم، فإنه يشبه إلى حد بعيد الضرائب التي تؤخذ من جميع رعايا الدولة في العصر الحالي، قال مالك في المدونة: تؤخذ الجزية من الذميين مرة في السنة جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم، فيتصرفون في جوار المسلمين، أما المعاهدون، فللإمام أن يعاهدهم بتعويض أو بدون تعويض، وكل من الذمي والمعاهد يتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، من أمن واستقرار وتدبير شؤون الحياة، مع التمسك بالمعتقد الذي أحبوا، ولهم حق تعليم أبنائهم.

(1) رواه النسائي وأبو داود.

(2)

رواه أبو داود.

ص: 218

إن هذه النصوص الراجعة إلى الكتاب أو السنة، أو المأخوذة من الأقوال المعتمدة عند جميع فقهاء الإسلام، تجعلنا نحكم بأن البيان العالمي ل حقوق الإنسان، تجاوب إلى حد بعيد مع أهداف ومقاصد الشريعة الإسلامية، وإذا وجدت اختلافات فإنها في نظري راجعة في مجملها إما إلى الصياغة اللفظية، أو إلى عدم فهم البعض للبعض، ولعل غياب علماء الإسلام عن ساحة الفكر، وفكرة الرفض المبدئي لكثير من المستجدات، دون التروي والتأني، حتى يتم البحث عنها بتعمق وبدون تعصب، لمن بين الأسباب التي تكثر من حمل غير المسلمين على مواجهة الإسلام، وتنفير الناس منه، كما أن حكم أعداء الإسلام عليه واتهامهم له بمجافاة حقوق الإنسان حجبت عن كثير من أبناء اليوم حقائق الإسلام، وإلى جهلهم بأحكام الإسلام وحكمهم عليه بدون معرفة نبهت الآية الكريمة:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .

إن تسليح الإنسان بالعقل والسمع البصر والفكر، تلك الحواس هي وسائله لقابلية التطور التي قصدتها الآية الكريمة {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] ، وكذلك الآية الكريمة:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] تجعلنا نحن المسلمين أحق من غيرنا بإرجاع مبدأ حقوق الإنسان إلى ديننا الحنيف.

إن القولة المشهورة: "أينما تكون المصلحة فثم حكم الله "، لتبرز كيف كان السلف الصالح يتطلع إلى المزيد من التطور، ليرقى إلى إدراك قصد الشارع بتكريم الإنسان، ونحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن نبرهن للعالم على مرونة نصوص الشريعة، وقابلية تمسك الإنسان بإسلامه، وتمتعه بزينة الحياة في الحدود التي تصون كرامته، إلا أننا لا يمكن أن نشرع تلك الأحكام بحسب الأمزجة والاختيارات الشخصية، فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان آتية من كونها لا يمكن أن تضيق عن أي مستجد يزيد من تكريم الإنسان:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .

ص: 219

ولهذا يمكن أن نخرج من هذه الجولة في بعض النماذج بأن الشريعة الإسلامية كرمت الإنسان بكثير من القيم والمثل والضمانات التي أعطتها له، كما نصل إلى قناعة، هي أن التشريع الإسلامي غني بنظرياته وأحكامه، محتاج إلى أن يقدم من طرف أبنائه لإنسان العصر الذي أصبح تتجاذبه تيارات ونوازع وشيكة أن تنزلق به في متاهة الممارسات البهيمية، التي أصبح من تنقصهم التربية الأخلاقية يحشرونها في ممارسة الحقوق الطبيعية للإنسان، والتي إن مارسها دون وازع الأخلاق واحترام بعض المبادئ، سيفقد ميزة التكريم التي منحه الخالق، فكل تجاسر على تعاطي المحرمات يستبعد به عن ميزته الإنسانية ويحشره في عداد البهائم.

لذا ومن منطلق الحيرة التي حجبت عن إنسان الحضارة المادية كل الأفق التي نمت فيها الخلق المثلى، يكون من واجب المسلمين اليوم إعداد منهج أخلاقي يضبط أخلاق وقيم أبناء المستقبل، والتي لن تجد الإنسانية مرشدًا إليها أعدل ولا أرحم ولا أكثر تسامحًا من الإسلام، إن وجد أتباعًا يستطيعون تبليغه ويعطون النموذج الأسمى بتطبيق نصوصه على أنفسهم أولًا وعلى الكون ثانيًا باستطاعة تعريفه بحقائق الإسلام.

* * *

ص: 220

الخاتمة

ما تفتأ بعض الأصوات من خارج العالم الإسلامي ومن داخله، تنعت الإسلام بعدم مراعاته ل حقوق الإنسان، حتى إن بعضهم أصبح يرمي الإسلام بخصومة مع حقوق الإنسان، فمثلًا المعهد العربي ل حقوق الإنسان نظم حلقة نقاش بمدينة الحمامات بتونس خلال تاريخ: 9 يوليو 2000 م، وقد تركزت الدراسات المقدمة إليها، حول تصور مفاده أن التحديات والنظريات التي تواجه الحركة العربية ل حقوق الإنسان، ترى أن من بين أبرز أولوياتها، هو دراسة المجالات المتعلقة بالحقوق والحريات مع قضايا الثقافة والهوية والخصوصية الثقافية، والتسامح والمساواة والإبداع والسلم الإلهي، والتعايش بين الشعوب، واستخلصت من هذه النقطة أربعة مبادئ هي: التمييز، والمرأة والحرية، والحكم.

ويمكن اعتبار الموضوع عاديًّا لو تطرح بعض التساؤلات منها: هل تدخل حقوق الإنسان من باب كونيتها أم من باب التوفيق والمصالحة بينها وبين الشريعة الإسلامية؟

وباختصار شديد، نؤكد على أن أي نظام تشريعي أو قواعد توجيهية تكون فاقدة للصفة الكونية إذا لم ينضوِ جميع سكان الكون تحت لوائها، والمسلمون يقاربون ربع العالم، فإذا تجاهلهم قانون، ولو كان ذلك البيان المشار إليه أعلاه لما كان كونيًّا، كذلك لابد أن نتساءل عن المثير للخصومة المزعومة بين الشريعة الإسلامية مع حقوق الإنسان، هل هي موجودة فعلًا؟ وإذا سلمنا جدلًا بوجود تلك الخصومة فمن تسبب فيها؟ هل الإسلام الذي اكتملت قواعده قبل القرارات الدولية بما ينيف على ألف وثلاثمائة سنة؟ أم أن البيانات والقرارات التي صدرت متأخرة عنه بهذه المدة هي التي توهم أصحابها خصومة بينها وبين الإسلام؟ على أننا نكرر مرة أخرى، أن الشريعة الإسلامية نظام قائم بنفسه رسم مبادئه الوحي النازل من عند الله، ولذلك فالكون إذا أراد الله به خيرًا، عليه أن يتمسك بتك المبادئ، مع العلم أن المؤمنين بأحكامه، يحرم عليهم الاستخفاف بها، وتبديلها بغيرها من نظم وضعية، تتغير بحسب تطور وتجدد أغراض من يهمهم تطبيقها {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] .

ص: 221

ومما يثير الدهشة، أن بعض المسلمين أصبح يتخيل اليوم أن من بين الأسباب التي حالت بين الإسلام وبين المصالحة مع حقوق الإنسان هو: الرجوع إلى الاصطدام بعقبة التكفير والاتهام بـ الردة، ثم يرى في مكان آخر أن ما يسميه بعض السياسيين الإسلام السياسي من بين تلك الأسباب أيضًا.

هذه أفكار وردت في تساؤلات الأستاذ سليم اللغماني في الندوة السابقة، ثم يجيب اللغماني نفسه في كثير من التحليل والسرد الذي تملص صاحبه من عهدته من خلال قول ما يريد في إطار تساؤلات، ويخرج من ذلك بقوله:"إن المسألة عملية وليست علمية، وينبغي النظر إليها من هذه الزاوية "(1)، ثم ينهي كلامه بقوله:"إن خطابه موضوعي "ويمكن القول: "أن نعتبره متشائمًا لا لصعوبة التوفيق بين الإسلام وحقوق الإنسان، بل لصعوبة الإقناع بخطاب يوفق بين الإسلام وحقوق الإنسان ".

هذا شطط كبير في الحكم على الإسلام، إن الإسلام ليست بينه خصومة مع حقوق الإنسان، إذ يعتبر هو مرجعها الأول، وأكثر التشريعات دفاعًا عنها، إلا أن الإسلام ينظم حقوق كائن ليس بهيمة سائمة، فلو أن الكاتب عزى الخلاف إلى الإسلام وبعض التشريعات الوضعية، لكان لكلامه ما يبرره، إذ لا ضير في ذلك، فيمكن لأي تشريع ألا يلتزم بمبادئ الإسلام وأن يحمل نشوزًا عن تعاليمه فذاك شأن أهله، ولو أن الكاتب عمم حكمه على الديانات السماوية كلها، لكان هذا تحيزًا للعلمانية، لكن أن يخص الإسلام بدعوى الخصومة مع حقوق الإنسان، فهو موقف لابد أن يكون منطلقًا من خلفيات كلها تخالف ما أسموه بالمبادئ التي نص عليها البيان العالمي الذي يدعون أنه يحترم حرية العقيدة لأي فرد من أفراد البشرية، والإسلام اختيار ما يناهز مليارًا ونصف من أبناء هذه البشرية، ثم هم ينادون بنبذ الكراهية، وهي نفسها التي يمارسون ضد الإسلام، ولو أنهم تعمقوا في النصوص الإسلامية وما خولته من حقوق للإنسان، أو لو أنهم عقدوا مع علماء الإسلام ندوات للحوار من أجل إبراز هذه الحقوق، لتغيرت نظرة أبريائهم الجاهلين لكثير من تلك الأحكام، ورغم ما طرح من ملاحظات في تلك الندوة حول غياب البعد التاريخي في معالجة القضية، وتحكم رجال الدين والقراء، إلى درجة أشبهت دور رجال الكنيسة، حتى أصبح رجال الدين مرجعًا سياسيًّا يقول الجنحاني: ثم جعل المعتزلة منارة مضيئة في تاريخ الفكر الإسلامي، لكن لما كثر جدالهم تحولوا إلى منارة مظلمة لما تغير سلوكهم.. ثم ينهي كلامه بقوله:"يمكن الحل في فصل السياسة عن الدين، وليس فصل الدولة عن الدين "، هذه دعوة لويس الرابع عشر تتجدد اليوم على لسان أحد أبناء الدول الإسلامية، ولابد للمسلمين من رفضها والوقوف في وجه أصحابها قبل أن يستفحل أمرها.

نحن هنا لسنا بصدد فتح حوار سياسي أو ثقافي حول هذه الأفكار التي أصبحت تروج داخل مرفق من مرافق الجامعة العربية، التي يجب أن تكون مرفقًا من مرافق تلميع الإشعاع الإسلامي والدفاع عنه، وقد غيبت نفسها عن هذا الدور قبل الموقف الذي صدر آخر شهر سبتمبر 2001م على لسان أمينها العام الحالي الدكتور عمرو موسى في رده على سخافات رئيس الحكومة الإيطالية حول الحضارتين العربية والغربية.

لذا فإن كل هذه التوجهات والملاحظات والتطلعات، والانتهاكات التي تتابعت من كل مراكز قوة هذا العصر، سواء أيام الحرب الباردة أم في هاته الفترة، بسبب المستجدات التي نتجت عن يوم 11 سبتمبر 2001م، تجعل عقد مؤتمر ل حقوق الإنسان في الإسلام وإخراج بيان عالمي لهذا الغرض أمر في غاية الأهمية في نظرنا، والله الموفق للصواب.

حمداتي شبيهنا ماء العينين.

(1) المجلة العربية لحقوق الإنسان، ص 19، عدد (7) ، إصدار المعهد العربي لحقوق الإنسان.

ص: 222