الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزكاة
زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديون
إعداد
الدكتور أحمد الندوي
المستشار الشرعي بأمانة الهيئة الشرعية
لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي الكريم محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنه من الملاحظ أن موضوع الزكاة على الرغم من توافر الدراسات الخصيبة حوله لا يزال محل العناية والبحث، وذلك لمعالجة القضايا المستجدة المرتبطة به.
ومما يحسن التنويه به قبل أن نتطرق إلى صميم الموضوع أن الشرع الحكيم قد سلك مسلك العدل في غاية الدقة والإحكام في تنظيم أحكام الزكاة، ووضع معدلاتها بالنظر إلى التفاوت في حجم التكاليف.
قال الإمام الماوردي: (
…
تقرر من أصول الزكوات: أن ما كثرت مؤنته، قلت زكاته، وما قلت مؤنته كثرت زكاته، ألا ترى الركاز لما قلت مؤنتها، وجب فيها الخمس، وأموال التجارات لما كثرت مؤنتها، وجب فيها ربع العشر، فكذا الزروع المسقية بغير آلة لما قلت مؤنتها، وجب فيها العشر، والمسقية بآلة لما كثرت مؤنتها، وجب فيها نصف العشر) (1) .
(1) الحاوي: 3/ 250
وهذا ما ألمع إليه العلامة ابن الملقن في (الإعلام)، إذ قال ما يأتي:
(
…
ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها وأقلها تعبا: الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ويليه الزروع والثمر، فإن سقي بماء السماء ونحوه، ففيه العشر وإلا فنصفه....، ويليه الذهب والفضة والتجارة، ففيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جمع السنة، ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص. بخلاف الأنواع السابقة، فالمأخوذ إذا: الخمس، ونصفه، وربعه، وثمنه. وهذا من حسن ترتيب الشريعة وهو التدريح في المأخوذ) (1) .
وجاء في فتاوى الإمام ابن تيمية: (وقد أفهم الشرع أنها- أي الزكاة- شرعت للمواساة، ولا تكون المواساة إلا فيما له مال من الأموال، فحد له أنصبة، ووضعها في الأموال النامية، فمن ذلك ما ينمو بنفسه كالماشية والحرث، وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه كالعين، وجعل المال المأخوذ على حساب التعب)(2) .
وقال الشاه ولي الله الدهلوي في بيان حكمة تحديد المقادير الزكوية: (مست الحاجة إلى تعيين مقادير الزكاة، إذ لولا التقدير لفرط المفرط، ولاعتدى المعتدي)(3) .
ويهدف هذا البحث إلى دراسة نقاط محددة يتضمنها العنوان، وبالتالي يمكن تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور:
(1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: 5/ 10- 11، تحقيق: عبد العزيز المشيقح، ط: الرياض، دار العاصمة
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 25/ 8
(3)
حجة الله البالغة: 2/ 719- 720، تحقيق: د. عثمان ضميرية، ط: الرياض، مكتبة الكوثر
* * *
المحور الأول
زكاة الزراعة ومدى جواز حسم النفقات منها:
إنه مما لا شك فيه أن الزراعة قد اتسعت دائرتها، وتطورت مشاريعها الإنتاجية، بسبب اختراع وسائل حديثة في هذا الميدان، وهذا قد يقتضي إنعام النظر من جديد في بعض الأحكام المستحدثة المتعلقة بزكاة الزراعة، في ضوء آراء واجتهادات الفقهاء. وليس بخاف أنه قد تعددت الاتجاهات الفقهية في عدد من المسائل المنوطة بزكاة الزروع والثمار، وهذا ما دعا مجمع الفقه الإسلامي أن يقترح البحث في زوايا جديدة ترتبط بهذا الموضوع، وذلك لما يحمل القرار المجمعي من أهمية وثقل في المجتمع الإسلامي.
وفي مستهل البحث المتعلق بهذا المحور ينبغي أن يذكر ضابط المعدل المقرر شرعا في مقدار الزكاة بالنسبة لهذا النوع، وأصله ما ورد في النص الآتي: روى جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما سقته السماء والأنهار، ففيه العشر، وما سقي بالسواني، ففيه نصف العشر)) (1) .
والسانية: آلة تستعمل لرفع الماء، ومثلها مضخات الماء، لأن في استخدامها كلفة.
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا: العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر)) (2) .
(1) أخرجه عن جابر مسلم (981) ؛ وأبو داود (1597)
(2)
صحيح البخاري مع فتح الباري: 3/ 347، ط: بيروت، دار المعرفة
قوله (عثريا) : قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي. زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها يصب عليه من ماء المطر في سواق تشق له
…
ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها، فيصل إليه عروق الشجر، فيستغني عن السقي) (1) .
وذكر الإمام ابن قدامة: (قال أبو عبيد: البعل ما شرب بعروقه من غير سقي، وفي الجملة كل ما سقي بكلفة ومؤنة، من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعورة أو غير ذلك، ففيه نصف العشر، وما سقي بغير مؤنة ففيه العشر، لما روينا من الخبر. ولأن للكلفة تأثيرا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل المعلوفة، فبأن يؤثر في تخفيفها أولى، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب فيها، ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي في نقصان الزكاة، لأن المؤنة تقل، لأنها تكون من جملة إحياء الأرض ولا تتكرر كل عام.)(2) .
وجاء في كلام العلامة العمراني الشافعي عقب إيراد حديث جابر رضي الله عنه السابق ذكره-: (ولأن لخفة المؤنة تأثيرا في الزكاة، ولهذا وجبت الزكاة في السائمة لخفة مؤنتها، ولم تجب في المعلوفة لثقل مؤنتها)(3) .
(1) فتح الباري: 349؛ وانظر المغني: 4/ 164، ط: القاهرة، هجر للنشر والطباعة
(2)
المغني: 4/ 165، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر
(3)
البيان- شرح المهذب-: 3/ 236، تحقيق: قاسم محمد النورى، ط: دار المنهاج للطباعة والنشر
وقال الإمام النووي: (يجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر، وكذا البعل، وهو الذي يشرب بعروقه لقربه من الماء، وكذا ما يشرب من ماء ينصب عليه من جبل، أو نهر أو عين كبيرة، ففي هذا كله العشر، وما سقي بالنضح أو الدلاء أو الدواليب ففيه نصف العشر
…
وأما القنوات والسواقي المحفورة من النهر العظيم، ففيها العشر كماء السماء، هذا هو المذهب المشهور
…
لأن مؤنة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة، والأنهار تشق لإحياء الأرض، وإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بنفسه مرة بعد أخرى، بخلاف النواضح ونحوها فمؤنتها فيها لنفس الزرع
…
) (1) .
- وقال في (الإنصاف) من كتب الحنابلة:
(ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنة، كالغيث والسيوح، وما يشرب بعروقه، ونصف العشر فيما سقي بكلفة، كالدوالي والنواضح. وكذا ما سقي بالناعورة أو السانية، وما يحتاج في ترقية الماء إلى الأرض إلى آلة من غرف أو غيره. وقال جماعة من الأصحاب
…
: لا يؤثر حفر الأنهار والسواقي لقلة المؤنة، لأنه من جملة إحياء الأرض، ولا يتكرر كل عام. وكذا من يحول الماء في السواقي، لأنه كحرث الأرض.
وقال الشيخ تقي الدين: وما يدير الماء، من النواعير ونحوها، مما يصنع من العام إلى العام، أو في أثناء العام، ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب: يجب فيه العشر، لأن مؤنته خفيفة، فهي كحرث الأرض لإصلاح طرق المياه) (2) . وفي ضوء ما سبق عرضه يتبين أن للكلفة تأثيرا في تقليل مقدار زكاة الزراعة، وهنا يستدعي البحث أن يعرج قليلا على كلمة (مؤنة) الواردة في كلام الفقهاء في هذا المقام. جاء في (الموسوعة) نقلا من المصادر الموثوقة ما يأتي: (المؤنة- بهمزة ساكنة- في اللغة: الثقل، والمؤونة مثله، والمؤونة: القوت.
والمؤونة عند الفقهاء: الكلفة، أي ما يتكلفه الإنسان من نفقة ونحوها) (3) .
(1) روضة الطالبين: 2/ 244
(2)
الإنصاف مع الشرح الكبير: 6/ 527-529، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر
(3)
الموسوعة الفقهية الكويتية: 36/ 14
ويستخلص من النصوص الفقهية السابقة أن الضابط عند جمهور الفقهاء في هذا الباب هو أن الحالات التي يسقى فيها الزرع بلا كلفة، كماء السماء أو السيح- أي الماء الجاري على وجه الأرض- أو فيضان الأنهار ونحوها، ففيها العشر، أما ما سقي باستخدام آلات ثقيلة تتطلب مؤنة ومشقة فادحة، ففي هذه الحالة الواجب هو نصف العشر، قال ابن العربي:(وما تجحف مؤنته فيؤخذ منه نصف العشر)(1)
(وعن ابن جريج قال: قال لي عطاء: كل شيء لا يتعنى بسقيه ففيه العشر، وكل شيء يتعنى بسقيه بالدلو ففيه نصف العشر)(2) .
ثم قبل بيان وجهة النظر حول المسائل المطروحة للبحث لا بد من معرفة موقف الفقهاء حيال النقطة الرئيسية البارزة المتعلقة بحسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج زكاته بصورة مجملة، لكي يكون السير على خطاهم، ويظهر التكييف الفقهي سليما بقدر ما أمكن حسب اجتهادات الأولين، فبيان ذلك كما يأتي:
اختلف الفقهاء في حسم المؤنة التي تتكلفها الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة في ثلاثة أقوال، على النحو الآتي:
(القول الأول: قول جمهور أهل العلم. وهو يتمثل في عدم جواز طرح التكلفة المترتبة على الزراعة، وهذا واضح من نصوص الحنفية وعبارة ابن حزم صراحة، ومستفاد من كلام أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى دلالة، إذ قد أوجبوا على صاحب الزرع أن يزكي حبا مصفى من المحصول، ومؤنة تصفيته عليه، كما يتجلى ذلك مما يأتي:
- ذهب الحنفية إلى وجوب إخراج زكاة الزرع بلا رفع مؤنة من أجرة العمال ونفقة البقر، وكري الأنهار وأجرة الحارس، وبلا طرح قيمة البذر، ونحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة.
(1) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: 3/ 139
(2)
مصنف عبد الرزاق: 4/ 135
وقد علل الإمام السرخسي وجهة نظر الحنفية في هذه المسألة بقوله: (ولا يرفع مما أخرجت الأرض نفقة ولا أجرة عامل، لأن بإزاء ما غرم من الأجر دخل في ملكه العوض وهو منفعة العامل، وصار إقامة العمل بأجيره كإقامته بنفسه. ولو كان زرع الأرض كان عليه عشر جميع الخارج من غير أن يرفع من ذلك بذرا أو نفقة أنفقها، فكذلك أجر العامل)(1) .
وقال الإمام الكاساني: (ولا يحتسب لصاحب الأرض ما أنفق على الغلة من سقي أو عمارة أو أجر الحافظ، أو أجر العمال، أو نفقة البقر، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر)) ، أوجب العشر ونصف العشر مطلقا عن احتساب هذه المؤن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الحق على التفاوت لتفاوت المؤن، ولو رفعت المؤن لارتفع التفاوت) (2) .
وقال العلامة ابن عابدين في (العقود الدرية) : (يجب العشر في جميع الخارج، ولا يحتسب لصاحبها ما أنفق من سقي أو عمارة أو أجرة حافظ، لأنه أوجب باسم العشر وأنه يقتضي الشركة في جميعه) . و (يجب فيما سقى بغرب أو دالية أو سانية نصف العشر قبل دفع مؤن الزرع)(3) .
ومما جاء في (مجمع الأنهر) حول هذه المسالة: (نصف العشر قبل رفع مؤن الزرع
…
والمعنى بلا إخراج ما صرف له من نفقة العمال والبقر وكري الأنهار وغيرها مما يحتاج إليه في الزرع لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سقت السماء العشر
…
)) ، ولأنه عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت المؤن فلا معنى لرفعها، وهذا قيد لمجموع العشر ونصفه) (4) .
(1) المبسوط: 23/ 99، باب العشر في المزارعة والمعاملة
(2)
بدائع الصنائع: 2/ 62، بيروت، دار الكتاب العربي
(3)
العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، بيروت، دار المعرفة: 1/ 10- 11
(4)
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، لداماد أفندي، بيروت، دار إحياء التراث العربي:1 / 216
- وذهب المالكية إلى أنه يحسب من نصاب الزكاة (خمسة أوسق) ما استأجر المالك به من الزرع في حصاده أو دراسته، أو تذريته حال كونه محزوما، ويحسب كذلك الكيل الذي استأجر به، ولفظ اللقاط الذي مع الحصاد، لأنه من الأجرة، لا لقط ما تركه ربه وهو حلال لمن أخذه، ولا يحسب ما أكلته دابة في حال درسها، لعسر الاحتراز منها، فنزل منزلة الآفات السماوية (1) .
ومعنى قوله: (يحسب) أي رب المال ضامن حصة الزكاة في الصورة المذكورة.
قال الإمام ابن رشد (الجد) في (البيان) : (الزرع إذا أفرك فقد وجبت فيه الزكاة: العشر أو نصف العشر، حبا مصفى، تكون النفقة في ذلك من ماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سقت السماء والعيون والبعل: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف العشر)) ، فعلى صاحب الزرع أن يحسب كل ما أكل منه، أو أعلفه، أو استأجر به في عمله، لوجوب ذلك عليه في ماله.
قال ابن المواز: (وكذلك ما تصدق به، إلا أن يكون ذلك كله تافها يسيرا لا قدر له
…
، وأما ما أكلت منه الدواب والبقر في حين الدرس، فليس عليه أن يحصي شيئا من ذلك، لأنه أمر غالب بمنزلة ما لو أكلته الوحوش، أو ذهب بأمر من السماء) (2) .
وذكر العلامة القرافي عن بعض فقهاء المذهب: (وأما حفر الأنهار والسواقي وإقامة الجسور فلا تأثير لمؤنة ذلك، لأن إصلاح الأرض كالحرث) . ونقل عن صاحب (تهذيب الطالب) : (إذا عجز عن الماء فاشتراه: قال ابن حبيب: عليه العشر. وقال عبد الملك بن الحسن: نصف العشر، قال: وهو الصواب، لأن مشقة المال كمشقة البدن)(3) .
(1) انظر: منح الجليل: 2/ 33
(2)
البيان والتحصيل لابن رشد: 2/ 480- 481
(3)
الذخيرة: 3/ 82- 83
وقال العلامة الدردير: (ولو اشترى السيح- أي المطر- ممن نزل في أرضه، أو أنفق عليه نفقة- كأجرة أو عمل حتى أوصله من أرض مباحة مثلا إلى أرضه- فعليه العشر، ولا ينزل الشراء أو الإنفاق منزلة الآلة لخفة المؤنة غالبا)(1) .
وقال العلامة الشنقيطي بصدد كلامه حول إخراج زكاة الثمار والحبوب: (وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع)(2) .
- وقال الإمام الماوردي من فقهاء الشافعية: (إن زكاة الثمار تجب ببدو الصلاح، وأداؤها بعد اليبس والجفاف
…
، فأما الزرع فتجب زكاته إذا يبس واشتد وقوي واستحصد، وتؤدى زكاته بعد دياسه وتصفيته إذا صار حبا خالصا، ومؤنته من وقت حصاده إلى حين تذريته وتصفيته على رب المال) (3) .
وجاء في كلام العلامة العمراني الشافعي: (ولا تؤخذ الزكاة إلا بعد التصفية، ومؤونة الدياس والتصفية على رب المال وهو قول كافة العلماء)(4) .
وقال ابن قدامة: (والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الإخراج على رب المال، لأن الثمرة كالماشية، ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها والقيام عليها إلى حين الإخراج على ربها، كذا ههنا)(5) .
وجاء في (مطالب أولي النهى) بمناسبة ذكر زكاة المعدن: (ولا يحتسب بمؤنتها، أي: السبك والتصفية، فيسقطها ويزكي الباقي، بل يزكي الكل، وظاهره ولو دينا، كمؤنة حصاد ودياس) . (6) وهذا ما صرح به العلامة ابن حزم بقوله: (ولا يجوز أن يعد الذي له الزرع أو التمر ما أنفق في حرث أو حصاد، أو جمع، أو درس، أو تزبيل، أو جداد أو حفر أو غير ذلك: فيسقطه من الزكاة
…
) (7) .
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي: 1/ 612، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، ط: مصر، دار المعارف
(2)
أضواء البيان: 238/2
(3)
الحاوي: 3/ 243؛وانظر مغني المحتاج: 1/ 386
(4)
البيان- شرح المهذب-: 3/ 261
(5)
المغني: 179/4-180
(6)
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى لمصطفى الرحيباني: 2 / 78
(7)
المحلى: 4/ 66، رقم المسألة (657)، ط: بيروت، دار الكتب العلمية
والذي يستفاد من هذه النصوص أن مؤونة الزراعة على رب المال عند جمهور الفقهاء.
* القول الثاني: وبمقابل رأي الجمهور هناك رأي آخر يتجه إلى طرح النفقة من الوعاء الزكوي، وهو رأي عطاء.
أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: (قال لي عطاء: إنما الصدقة فيما أحرزت بعد ما تطعم منه، وبعد ما تعطي الأجر، أو تنفق في دَقٍّ وغيره حتى تحرزه في بيتك، إلا أن تبيع شيئا فالصدقة فيما بعت)(1)
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: (ارفع البذر والنفقة وزك ما بقي) .
وأخرج عنه أيضا أنه قال في الزرع: (إذا أعطى صاحبه أجر الحاصدين والذين يدورون عليه هل عليه فيما أعطاهم صدقة؟ قال: لا، إنما الصدقة فيما حصل في يديك)(2) .
وبعد أن ذكر ابن حزم رأيه بعدم جواز إسقاط النفقة من الزرع قال: (وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فإن بقي مقدار ما فيه الزكاة زكَّى، وإلا فلا)(3)، وفى (البيان) (4) قد أورد العلامة العمراني اختلاف عطاء بن أبي رباح بقوله:(تُقَسَّط المؤنة على جميع المال) .
وهذا ما جنح إليه العلامة أبو بكر العربي المالكي من المتأخرين. وقد عضد رأيه بما ورد في بعض النصوص من جواز ترك الثلث أو الربع من الإنتاج في حالة الخرص، من باب مراعاة حاجة الاقتيات لرب المال، ويتضح ذلك بما يأتي:
(1) مصنف عبد الرزاق: 4 /94، باب: لا زكاة إلا في فضل رقم (7091)
(2)
مصنف ابن أبي شيبة: 4 / 23؛ مصنف عبد الرزاق؛ حاشية المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي: 4 /94
(3)
المحلى: 4/ 66، رقم المسألة (657)
(4)
البيان- شرح كتاب المهذب للشيرازي-: 3/ 261
قال الحافظ ابن حجر: (في السنن وصحيح ابن حبان من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) . وقال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في كتاب الأموال: أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه، فقال: يترك قدر احتياجهم. وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعي. قال ابن العربى: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا) (1)، وهاك نص كلام العلامة ابن العربي:
(اختلف قول علمائنا: هل تحط المؤنة من المال المزكى وحينئذ تجب الزكاة، أو تكون مؤنة المال وخدمته- حتى يصير حاصلا- في حصة رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس؟. والصحيح أنها محسوبة، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عُشره. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الثلث أو الربع وهو قدر المؤنة
…
)) ، والمتحصل من صحيح النظر أن يترك له قدر الثلث أو الربع كما بيناه في مقابلة المؤنة من واجب فيها ومندوب إليها منها، والله أعلم) (2) .
وقال الحنابلة: (فإن أَبَى خارصٌ التركَ فلرب المال أكل قدر ذلك، أي الثلث أو الربع نصا..، قال أحمد في رواية عبد الله: لا بأس أن يأكل الرجل من غلته بقدر ما يأكل هو وعياله، ولا يحتسب عليه)(3) .
وقد ترجح في رأي الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي أيضا القول بجواز حسم النفقات عدا نفقة الري، إذ قال ما نصه كالآتي:
(1) فتح الباري: 3/ 347
(2)
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: 3/ 144- 145
(3)
مطالب أولي النهى: 2/ 68- 69، وانظر لمزيد من التفصيل حول مسألة الخرص: الموسوعة: 19/ 99- 102، كلمة (خرص)
(والذي يلوح لنا أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض، فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية، أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها، ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة عما يقابل المؤنة من الخارج، والذي يؤيد هذا أمران:
الأول: أن للكلفة تأثيرا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في السقي بآلة، جعل الشارع فيه نصف العشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلا كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج في الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبا إذا كان قد أنفق مثله في الحصول عليه
…
هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري الذي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه) (1) .
القول الثالث: وهو رأي بعض المعاصرين ويتوجه إلى حسم كلفة الزرع بشرط ألا تزيد عن الثلث. فقد جاء في (فقه ومحاسبة الزكاة) ما نصه كالآتي: (تحسم النفقات المباشرة التي تنشأ عن عملية الزرع والغرس- عدا نفقات الري المأخوذة بالاعتبار بتفاوت القدر الواجب في الزكاة- وذلك مثل نفقات البذر والسماد والحرث والتنقية والحصاد طبقا لمذهب ابن عباس وغيره (2) بأنه يقضي ما أنفق على الشجرة ثم يزكي ما بقي، ويشترط ألا تزيد تلك النفقات عن ثلث المحصول، على ما انتهت إليه الندوة الفقهية الاقتصادية السادسة لدلة البركة) (3) .
هذا ما أشير إليه في الكتاب المذكور بالنسبة لما خلصت إليه الندوة الفقهية، أما ما ورد في الفتوى الصادرة من تلك الندوة ففيه تفصيل، ونص الفتوى - المتعلقة بزكاة الزروع- كما يلي:
(1) فقه الزكاة: 1/ 396- 397
(2)
انظر لمعرفة القول المشار إليه: فقه الزكاة: 1/ 391
(3)
فقه ومحاسبة الزكاة للأفراد والشركات، للدكتور عبد الستار أبو غدة، ود. حسين شحاتة، ص 127، من منشورات دلة البركة
(بعد مناقشات مستفيضة اتضح أن هناك وجهات نظر ثلاثا:
الأولى: ترى حسم جميع النفقات ثم يخرج العشر أو نصف العشر.
الثانية: عدم حسم التكاليف، وإخراج الزكاة فيما سقي بماء السماء العشر، وفيما سقي بآلة نصف العشر.
الثالثة: إسقاط الثلث من المحصول، ثم إخراج الزكاة من الباقي حسب كيفية الري.
وقد انتهى الحاضرون إلى اختيار حسم النفقات قبل إخراج الزكاة على ألا يتعدى الحسم الثلث، ثم يتم حساب الزكاة بإخراج العشر إن كان الري بماء السماء، ونصف العشر إن كان بآلة) (1) .
وعقب استعراض وجهات نظر الفقهاء حول حسم النفقات، من المناسب أن يذكر مجمل القول في الموضوع وهو: أن النفقات والأعباء المالية المترتبة على الزراعة لها تأثير جوهري في تحديد الوعاء الزكوي، بحيث إن مراعاتها تقتضي أن يكون مقدار زكاة المحصول الزراعي نصف العشر في جميع الحالات التي تتصور فيها المؤنة الزائدة غير المعتادة. لأن النص الشرعي قد أبان عن حد فاصل بين ما يسقى بماء السماء فجعل فيه العشر لقلة المؤنة، وما يسقى نضحا فجعل فيه نصف العشر. وهذا يقتضي أن يدفع عشر المال أو نصفه كاملا. فكأن هذه المسألة تعتبر متفقا عليها لا خلاف فيها عند كافة الفقهاء، فلا تحسم النفقات المبذولة في سقي الزرع مطلقا.
ثم جرى الخلاف في النفقات عدا الرأي، فطبق أغلب الفقهاء هذا الضابط الشرعي المميز الذي جرى التنويه به في فاتحة البحث على سائر النفقات الأخرى أيضا، فبالتالي لا يسوغ حسمها.
وذلك لكي لا ينخرم المعيار الشرعي المقرر في هذا الشأن.
(1) فتاوى ندوات البركة، ص 100، رقم الفتوى (6/ 17)
والذي يظهر رجحانه هو الأخذ بالرأي الثالث الذي اتجه إلى جواز حسم كلفة الزرع على ألا يتخطى الحسم ثلث المقدار من المحصول، لأنه يتلاءم مع قاعدة العدل والتوازن بوجه عام، مع الأخذ في الاعتبار ضابط الخرص الذي قد أجيز فيه أن يترك قدر الثلث أو الربع لصاحبه. ومن المعلوم أن (أخذ الزكاة مبناه على التعديل بين أرباب المال والمساكين)(1) .
ومن الجدير أن يشار في هذا المقام إلى أنه قد ذهب عدد من الفقهاء إلى قصر زكاة هذا الصنف- أي زكاة الزروع والثمار- على بعض الأنواع، ولكن بمقتضى النص القرآني الكريم:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وانطلاقا من مراعاة مقصد التشريع إذا ترجح القول بتعميم الحكم لأداء الزكاة في سائر الأنواع من المحاصيل الزراعية، فبمقابل ذلك ينبغي أن تكون قضية حسم النفقات الباهظة محل المراعاة أيضا وفق ما سبق عرضه.
وما ذكر هنا يتناول حكم الزكاة بالنسبة للمزارعين والمنتجين، لا للمتاجرين في المنتوجات والثمار، لأنها حينئذ تخضع لحكم زكاة عروض التجارة.
وإذا عرفنا الحكم العام في الموضوع المعروض أمكن لنا بإذن الله تعالى إبداء الرأي في القضايا المطروحة الآتية:
1-
المقصود بنفقات الزراعة:
إنه مما لا غبار عليه أن الزراعة تتطلب أنواعا من النفقات. ومنها أجرة العمال الذين يقومون بإصلاح الأرض الزراعية باقتلاع كل ما يحول دون ما يحتاج إليه في الزراعة، ومنها نفقات السماد، والبذور، ونفقات تروية الأرض وسقيها، لاسيما في حالة شح الأمطار، أو عدم كفاية وفرة المياه، ومنها أيضا أجرة حراسة الزرع.
(1) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى: 1/ 226
2-
هل تختلف نفقات الري بالوسائل القديمة عنها بالوسائل الحديثة الباهظة التكاليف:
إنه ليس بخاف أن تطوير الزراعة في الظروف الراهنة قد احتاج إلى استنزاف القدرة المالية الكبيرة من المزارعين، فأصبحت الزراعة مكلفة على الرغم من كثرة التسهيلات المتاحة لكبار المزارعين بوجه خاص. ويضاف إلى ذلك أن الآلات المركبة في المزارع من المضخات وغيرها قد تصاب بالاهتراء على مدار العام، وربما تحتاج إلى نفقات في الترميم. ولكن هل يعني ذلك أن تطرح نفقات الري من الوعاء الزكوي؟ وفي الواقع إن الخراج بالضمان، بمعنى أن الإنتاج الزراعي الحاصل بسبب استخدام الوسائل الحديثة للري يدر من الربح ما لا يتوقع الحصول عليه في حالة استخدام الوسائل القديمة، ومقتضى ذلك أن النفقات المترتبة على استعمال تلك الأدوات المبنية على التقانة المعاصرة، جاءت في مقابلة زيادة المحصول الزراعي، وبذلك لا يتغير الحكم بسبب اختلاف الوسائل، فلا يجوز حسم التكلفة الناشئة منها. وذلك لأن نفقات الري مأخوذة في الاعتبار بصريح الضابط الشرعي، بحيث ينزل العشر إلى نصف العشر بسبب المؤنة المجحفة في الري.
وقد دل كلام العلامة الدردير فيما سبق نقله على أنه لا تأثير لشراء الماء أو لإيصاله من الخارج إلى المزرعة في تنزيل العشر إلى نصف العشر، وذلك لخفة المؤنة في رأي عند المالكية، ولكن بما أن وسائل النقل في الظروف الراهنة تحتاج إلى تكلفة غير يسيرة، فلا يتجاوز مقدار الواجب في هذه الحالة أكثر من نصف العشر.
3-
التفرقة بين ما ينفقه المزارع من ماله وما يقترضه للإنفاق:
في الواقع إن محل البحث هو حسم النفقات التي مصدرها مال المزارع.
أما القرض الذي اقترضه من آخرين، فهو من نوع الدين، الذي يطرح من الوعاء الزكوي؛ لأن جمهور الفقهاء قد أفتوا بذلك.
هنا لا بد من أن يسترعى النظر إلى خلاف فقهي في هذه المسألة بصورة وجيزة وقد تعرض الإمام ابن تيمية لاختلاف الفقهاء في هذه المسألة، فذكر ما نصه:
(فإن كان على مالك الزرع والثمار دين، فهل تسقط الزكاة؟ فيه عدة أقوال:
قيل: لا تسقط بحال. وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد.
وقيل: يسقطها. وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والليث، والثوري، وإسحاق. وكذلك في الماشية: الإبل والبقر والغنم.
وقيل: يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه، وثمرته، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله.
وقيل: يسقطها هذا وهذا. الأول: قول ابن عباس، واختاره أحمد بن حنبل وغيره. والثاني: قول ابن عمر) (1) .
وعن الثوري قال: (إذا حضر نخلك أو زرعك انظر ما عليك من دين قديم أو حديث فارفعه، ثم زك ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق)(2) .
وذكر ابن قدامة: (قال أحمد: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان ما أنفق على أهله، يحتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله. فاحتسب مما أنفق على زرعه لأنه من مؤنة الزرع. وبهذا قال ابن عباس.
وقال عبد الله بن عمر: يحتسب بالدينين جميعا، ثم يخرج مما بعدهما.
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 25/ 27-28
(2)
مصنف عبد الرزاق: 4/ 93
وقد حكي عن أحمد: أن الدين كله يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة. فعلى هذه الرواية: يحسب كل دين عليه، ثم يخرج العشر مما بقي إن بلغ نصابا، وإن لم يبلغ نصابا فلا عشر فيه، وذلك لأن هذا الواجب زكاة، فمنع الدين وجوبها، كزكاة الأموال الباطنة، ولأنه دين، فمنع وجوب العشر، كـ الخراج وما أنفقه على زرعه.
والفرق بينهما على الرواية الأولى: أن ما كان من مؤنة الزرع، فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره، فكأنه لم يحصل) (1) .
كذلك يروى عن مكحول وطاوس وعطاء أنه لا تؤخذ الزكاة من صاحب الزرع المدين حتى يقضي دينه، وما فضل بعد ذلك زكاه، إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وقد رجح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومن وافقه في رفع الديون من الخارج، وتزكية الباقي، بشرط أن تثبت صحة الدين (2) .
وقال ابن رشد عقب عرض خلاف الفقهاء في الديون التي تستغرق ما تجب فيه الزكاة من الأموال: (والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين لقوله عليه الصلاة والسلام فيها: ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) . والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب، وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة) (3) .
(1) المغني:4/ 200- 201
(2)
انظر: فقه الزكاة: 1/ 392؛ وكتاب الأموال، ص 510
(3)
بداية المجتهد: 2/ 485، ط: بيروت، دار ابن حزم
4-
هل تشمل النفقات الأدوات والآلات والجرارات والحاصدات؟:
أنه مما لا يخفى على أحد أن هذه الآلات تدخل غالبا في مرحلة تأسيس المزرعة، فهي تقتنى أول مرة، ثم تخضع للصيانة عند الحاجة، وباعتبار كونها من أموال القنية لا زكاة فيها أصلا وإن كان لها قيمة سوقية ربما تبلغ مبالغ ضخمة من الأموال، ولذا لا يصح أن تطرح النفقات المترتبة على الزراعة باحتساب قيمة هذه الآلات مرة أخرى. وقد سبق ذكر اختلاف بعض الفقهاء في تأثير الأعمال غير المتكررة مثل حفر الأنهار والسواقي وما شاكلها في تغيير مقدار العشر إلى نصف العشر، بسبب اختلاف وجهة النظر في تصور قلة المؤونة أوكثرتها.
5-
هل تشمل النفقات تكاليف النقل؟:
يكاد يكون واضحا أن المراد من هذه التكاليف هي ما تكون قبل حصاد الزرع، من نقل البذور والسماد والعمال وما أشبه ذلك. وفيما يبدو أنها تختلف وتتفاوت حسب المزارع والمناطق، وهي في الواقع من طبيعة العمل الزراعي، فلا يصح حسمها من الوعاء الزكوي بتخريج المسألة على اجتهاد أغلب الفقهاء. فقد صرح الحنفية- كما تقدم- بعدم جواز طرح نفقة العمال، وينسحب هذا الحكم على أجرة النقل أيضا. وكذلك لو دفع جزء من المحصول في الاستئجار وفق ما ورد في نص كلام ابن رشد الجد، أصبح صاحب الزرع ضامنا، واحتسب عليه المدفوع بقيمته. وكلمة (الاستئجار) تتضمن أجرة المواصلات. ولكن الذي يترجح هو القول بحسمها على أن يكون ذلك ضمن السقف الأعلى للحسم وهو الثلث من مقدار الناتج الإجمالي، وفق المعيار الذي سبق ذكره.
6-
كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل أو قيمتها:
إنه من المعلوم أن الفقهاء قد اختلفوا على قولين في حكم إخراج القيمة بدلا عن العين التي وجبت فيها الزكاة، وسبب اختلافهم: هل الزكاة عبادة، أو حق واجب للفقراء، فمن قال: أنها عبادة، لم يجز إخراج الزكاة من غير الأعيان، ومن قال: هي حق للمساكين، فلا فرق بين القيمة والعين عنده (1) .
والأصل أن الزكاة في هذا الباب تؤخذ من الأعيان إذ (الأسهل والأوفق بالمصلحة ألا تجعل الزكاة إلا من جنس تلك الأموال)(2) ، إلا في مواضع الحاجة وتحقق المصلحة الراجحة، فحينئذ يصار إلى القيمة. وهذا القول أعدل الأقوال (3) .
أما ما يتعلق بكيفية حسم النفقات، ففي حالة إخراج الزكاة بالعين نفسها، ينظر أولا إلى الناتج الإجمالي، ثم يطرح منه مقدار النفقات- القابلة للحسم حسب الاجتهاد المتبع في كل نوع من أنواع النفقات، ما عدا نفقة الري- بعد احتسابها وفق التكلفة المدفوعة، ثم إنها تحسم من الناتج بعد تقويمه بسعر السوق يوم أداء الزكاة.
وفيما لو أخرجت زكاة المحاصيل بقيمتها، ففي هذه الحالة يطرح منها المقدار المدفوع من النفقات القابلة للطرح، وفق الاجتهاد المتبع كما أشير إليه آنفا. وهنا من المفيد أن أسجل ما جاء في كتاب (فقه ومحاسبة الزكاة) حيال هذا الموضوع، وهو كما يأتي:
(1) انظر: بداية المجتهد: 2 /528- 529
(2)
حجة الله البالغة، للدهلوي: 2/ 721
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 25/ 46
(وتتمثل محاسبة زكاة الزروع والثمار بأن يقوم المزكي عند الحصاد بالإجراءات الآتية:
1-
قياس نتاج الأرض الإجمالي إما عينا أو نقدا.
2-
تحديد القيمة الإيجارية للأرض أو خراجها، وكذلك نفقات الناتج، وذلك في حالة الرأي الذي يرى حسم كلفة الزرع بشرط ألا تزيد عن الثلث، وهو الرأي المختار في هذه الدراسة.
3-
تحديد وعاء زكاة الزروع والثمار وذلك بحسم مفردات بند (2) من بند (1) .
4-
تحديد مقدار النصاب وهو ما يعادل قيمة خمسة أوسق: (563) كيلو جراما.
5-
تحديد طريقة سقي الأرض بكلفة أو بدون كلفة، وذلك لمعرفة السعر الذي تحسب به الزكاة.
6-
حساب مقدار الزكاة متى وصل الوعاء النصاب، ويتم ذلك عن طريق ضرب الوعاء في سعر الزكاة المناسب قد يكون (10 %) أو (5 %)(1) .
(1) فقه ومحاسبة الزكاة للأفراد والشركات، ص 126
المحور الثاني
زكاة الأسهم في الشركات
ومن القضايا المطروحة للبحث في إطار الزكاة: حكم زكاة الأسهم التي اقتناها المساهم لتنميتها والحصول على عائدها، ولم يتخذها بغرض المتاجرة وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية.
والذي استقر عليه رأي أكثر الفقهاء المعاصرين كما ظهر ذلك من اتجاهات المشاركين في الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت: أنه تجب زكاة هذه الأسهم على أساس ما يخصها من الموجودات الزكوية للشركة بالإضافة إلى زكاة ريعها إن وجد. وإن جهل مالكها بما يخصها من تلك الموجودات، وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا لإسقاط ذلك الواجب عنه شرعا، وأن زكاة ريعها لا يغني عن زكاة أصلها مادام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
ثم اختلف المشاركون في كيفية أداء زكاتها على ثلاثة أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: أن يقوم المالك بالتحري في تقدير ما يخص أسهمه من الزكاة، ويزكيها بحسب ما يغلب على ظنه أنه يبرئ ذمته.
وحجة هذا القول أن المالك عجز عن معرفة قدر الواجب عليه، فيكون واجبه التحري، وتكوين غلبة ظن وإن كان بغير دليل، كمن عجز عن معرفة جهة القبلة في الصلاة.
القول الثاني: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم أن يخرجوا زكاتها على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية، كأصحاب أسهم المتاجرة.
وحجة هذا القول أن هذه الأسهم لا تخلو من الصبغة التجارية، لأن أصحابها كانوا يشترونها بغرض الاستفادة من ريعها، لكن أغلبهم يدخرها بنية بيعها إذا ارتفعت أسعارها، أو تناقص ريعها، أو صار بيعها أجدى من الاحتفاظ بها. ولأن هذه الأسهم صار لها شبه من النقود من حيث إمكان الحصول على أثمانها في أي وقت. ولأن هذا هو الأحوط في الدين والأحسن للفقراء.
القول الثالث: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير انتظار حولان الحول عليها؛ كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك. ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة.
قبل أن ينظر في هذه الأقوال يحسن أن نفكر مليا في بعض المسائل المتعلقة بباب الزكاة، التي يمكن أن يستأنس بها في مقام التنظير والتخريج.
قال العلامة ابن شاس بصدد تعرضه لحكم زكاة الحلي ما نصه كالآتي:
(فرع: حيث أوجبنا في الحلي الزكاة، وكانت منظوما بشيء من الجواهر، فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد: زُكِّيَ ما فيه من الذهب أو الفضة زكاة العين، وما فيه من الأحجار زكاة العروض. وإن لم يمكن نزعه إلا بفساد:
- فهل يغلب حكم الجواهر التي فيه، فيزكى زكاة العروض؟
- أو يراعى الأكثر، فيعطى الحكم له؟
- أو يعطى لكل نوع حكمه، فيتحرى ما فيه من العين فيزكى، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض؟ ثلاثة أقوال) (1) .
(1) عقد الجواهر الثمينة: 1/ 314؛ وأنظر: منح الجليل شرح مختصر خليل: 2/ 47
يظهر بعد تأمل النص المذكور أن المسألة الواردة فيه على الرغم من اختلاف محتواها يمكن أن تتسق من بعض الوجوه مع المسألة التي نحن بصددها، فتصلح نظيرا، فيلاحظ عند أول وهلة أن وعاء الزكاة قد يتكون من مالين بحيث يسهل إعطاء كل واحد منهما حكمه حسب مقتضاه، كما في تصوير المسألة فيما لو أمكن فصل الأحجار الكريمة من الذهب أو الفضة، وهذا ما يقال في الأسهم التي أمكن فيها معرفة موجداتها الزكوية.
أما في الصورة التي يصعب فيها نزع الجواهر من الذهب أو الفضة، بحيث يؤدي ذلك إلى فساد في القلادة، فظهرت ثلاثة أقوال عند المالكية. كذلك في حالة عدم التمكن من معرفة مقدار الموجودات الزكوية في الأسهم، أسفر البحث والنقاش عن ثلاثة أقوال.
ومما لا شك فيه أن مناط الحكم في كلتا المسألتين يكاد يكون واحدا، وهو تعذر الوقوف على مقدار جميع الموجودات الزكوية في كثير من الحالات، وبالتالي عدم تمكن المساهم المزكي من معرفة مقدار الحصة التي تجب فيها الزكاة، كما يتعذر الوقوف على مقدار كل من المجوهرات والمعدن النفيس في العقد المنتظم بكل منهما بدون فساد فيه، وهذا ما تطلب الاجتهاد عند المالكية قديما.
وإذا حاولنا تطبيق الاجتهاد المشار إليه في النص المنقول على مسألة الأسهم، أمكن القول بأن الطابع التجاري هو الغالب في هذه الأسهم المقتناة بغرض الحصول على نمائها، لأن الذي اقتناها ورصدها إنما يترقب تقلبات السوق غالبا فيتاجر فيها، ويظل مساهما فيها إلى حين تصفية الشركة، فيغلب عليها حكم العروض التجارية، وتأخذ حكم زكاتها. كما هو رأي بعض الفقهاء في مسألة القلادة، إذ رأى أن يعطى لها حكم العروض بتغليب حكم الجواهر التي فيها، فتزكى زكاة العروض، وذلك لأن الأصل في الجواهر في حالة انفرادها أن تكون عرضة للبيع لا للتحلية.
وكذلك في مسألة التحري، فهنا في مسألة القلادة اتجه أحد الأقوال إلى، إعمال التحري، وهو أن يتحرى ما فيها من مقدار الذهب أو الفضة، كما يقدر ما فيها من الأحجار الكريمة، فيأخذ كل من النوعين حكمه حسب رأي المذهب فيه. وهكذا بناء على التحري يمكن أن يقوم، مالك الأسهم بتقدير ما يخصها من الزكاة، وتبرأ ذمته بأداء الزكاة الواجبة في حصته المقدرة. ويبدو أن هذا هو الأحرى بالأخذ، لكونه أكثر انسجاما مع قاعدة العدل في التشريع الإسلامي.
يقول الإمام ابن تيمية: (يجب تحري العدل بحسب الإمكان)(1) . و (التحري لغة: هو الطلب والابتغاء
…
، وفي الشريعة: عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته
…
، وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم، وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم) (2) .
وقد صاغ الإمام الكاساني قاعدة جيدة في التحري ونصها: (التحري يقوم مقام الدليل الشرعي عند انعدام الأدلة)(3)
وهذا ما عبر عنه السرخسي بقوله: (فإن أوان التحري ما بعد انقطاع الأدلة)(4) . والتحري سائغ في الأقوال والأفعال، كما ذكر العلامة البعلي الحنبلي عن الإمام ابن الجوزي (5) .
ومما يدل على الاحتجاج بالتحري في مواضع الضرورة: قوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، وذلك بالتحري وغالب الرأي، فقد أطلق عليه العلم، كما قال الإمام السرخسي (6) .
(1) مجموع الفتاوى: 25/ 78
(2)
المبسوط: 10/ 185، كتاب التحري
(3)
بدائع الصنائع: 1/ 372
(4)
المبسوط: 10 / 195
(5)
القواعد والفوائد الأصولية، ص 7
(6)
المبسوط: 10 / 186
ومن أدلة الجواز على الأخذ بالتحري أيضا ما سبق ذكره من مسألة الخرص في هذا البحث، وهو في معنى تقدير الرطب أو غيره بالتخمين والتحري، بل هو- اجتهاد في معرفة قدر الثمر وإدراكه بالخرص، الذي هو نوع من المقادير والمعايير، فهو كـ تقويم المتلفات، وقال الماوردي:(الخرص اجتهاد في معرفة القدر وتمييز الحقوق فشابه التقويم)(1) .
ويتبين عند استقراء النصوص أن التحري جعل معيارا في العبادات والمعاملات، بحيث يمكن به للعبد إبراء ذمته بأداء ما لزمه، ففي أمر القبلة يلجا أحيانا إلى التحري، بل المحاريب المنصوبة في كل موضع قد أخذ فيها بهذا المبدأ، وكذلك في الزكاة يتحرى لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى، فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقا للوصول إليه (2) .
ومن المسائل الواردة في زكاة الحبوب: (أنه ينبغي له إذا لم يدر كم بلغ ما فيه- أي الحائط- من التمر أو الزبيب أن يتحرى ذلك)(3) .
وجاء في شرح مختصر خليل: (والزكاة واجبة على البائع ثمرا أو زرعا بعدهما أي الإفراك والطيب، ويصدق المشتري في قدر ما حصل إن كان ثقة وإلا تحرى قدره)(4) .
(1) الحاوي: 3/ 233
(2)
المبسوط: 10/ 186- 190
(3)
البيان والتحصيل: 2/ 484
(4)
شرح منح الجليل لمحمد عليش: 2/ 34-35
ومما ذكره الإمام السرخسي في معرض حديثه عن التحري: (وشيء من المعقول يدل عليه، فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به، وذلك عمل بغالب الرأي، ثم جعل- مدركا من مدارك أحكام الشرع، وإن كان لا يثبت به ابتداء، فكذلك التحري مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء، والدليل عليه أمر الحروب، فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك)(1) .
ومن قواعد الفقهاء أن: (الميسور لا يسقط بالمعسور) - أي بسقوط المعسور عنه- (2) .
- وقد نص عليها الإمام الجويني بقوله: (إن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه، وإنها من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة)(3) .
وذكرها تلميذه الإمام الغزالي بقوله: (المقدور لا يسقط المعسور)(4) .
وبناء على ذلك أمكن للمكلف إعمال التحري في معرفة الواجب في ذمته عند عدم القدرة على تحديده بالتيقن، وبرأت ذمته باداء المطلوب بالتقدير والتحري. وهذا ما يؤيده أصل آخر وهو أن:(التكليف يثبت بحسب الوسع)(5) .
هذا؛ وأما الرأي القائل بأنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير حولان الحول عليها كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك، ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة. فقبل أن ينظر في هذا الرأي ومدى ملاءمته مع القضية المطروحة ينبغي أن يشار إلى كلام المالكية في التقسيم الذي تفردوا به في حكم زكاة التجارة، بحيث فرقوا بين التاجر المدير والمحتكر.
(1) المبسوط: 10/ 186
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 159
(3)
الغياثي، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، ط: قطر، الشؤون الدينية، ص 469
(4)
الوسيط في المذهب: 2/ 361، ط: القاهرة، دار السلام
(5)
المبسوط: 10/ 188
قال ابن رشد الجد: (والتاجر ينقسم على قسمين: مدير وغير مدير، فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة، يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا)(1) . وقال القاضي عبد الوهاب: (إذا ابتاع العرض وهو غير مدير يتربص بها النفاق والأسواق، لم يلزمه أن يزكيها كل سنة)(2) .
وفي الواقع إن هذا التقسيم مبني على أن صفة النماء في حالة التربص والاحتكار حسب تعبير المالكية تعتبر مفقودة، ولذا لا تجب الزكاة فيها إلا عند بيع السلعة.
ويرد على هذا الرأي أن الذهب والفضة والنقود وما في حكمها لا ينظر فيها إلا صفة النداء الحكمي عند جمهور الفقهاء، ولذا نجد من أئمة المالكية الإمام ابن عبد البر يعلق على هذا الرأي بقوله:(وليس لهذا المذهب في النظر كبير حظ)(3) .
ثم يتضح بجلاء بالنظر إلى أساليب التجارة في الشركات المساهمة أنها بمثابة تاجر مدير وليست كتاجر محتكر متربص، فإنها لا تحتكر البضائع وليست عندها مخازن في الغالب، بل إنها تباع بصورة ناجزة وإنما يكون الثمن مقسطا إلى آجال محددة.
(1) المقدمات: 1/ 285
(2)
الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 1 / 403، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط: بيروت، دار ابن حزم
(3)
الاستذكار: 9 /97- 98
المحور الثالث:
زكاة الديون
في الواقع قد اختلفت وجهات النظر في هذا الموضوع اختلافا كبيرا، فإن مسألة زكاة الدين تعد من معضلات المسائل في إطار الزكاة، وهي متفرعة أساسا من شرط الملكية التامة للمال الزكوي. ومن الملاحظ أن شعبة التخطيط في إدارة المجمع لم توضح النقاط الجوهرية التي ينبغي التركيز عليها لدى البحث في هذا المحور، إذ جاء في ورقة الاستكتاب بعد عنوان (زكاة الديون) ما يأتي:
- تقسيم الديون بالنسبة للزكاة.
- آراء الفقهاء في زكاة الديون والترجيح بينها (كتاب الأموال) .
وهنا تحسن الإشارة إلى أنه قد سبق عرض موضوع الدين والنقاش فيه في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي عام 1406 هـ، وبعد النظر في الدراسات المعروضة والمناقشات المستفيضة، صدر القرار، الذي جاء فيه:(إن الخلاف قد أنبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يعطى المال الذي يمكن الحصول عليه صفة الحاصل؟) وعقب هذا الكلام الذي علل به تعدد الاجتهادات لدى الفقهاء، قرر ما يلي:
أولا: تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة، إذا كان المدين مليئا باذلا.
ثانيا: تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرا أو مماطلا (1) .
(1) قرار رقم: 1 (1 /2)
وفيما يظهر أن هذا القرار لم يستوفِ المطلوب من أحكام زكاة الدين، ولذا لزم إعادة البحث. وأبدأ الكلام حول هذا المحور ببيان تقسيمات الديون المرتبطة بالموضوع المطلوب، تحت العنوان الآتي:
1-
تقسيم الديون بالنسبة للزكاة:
تنقسم الديون المشار إليها إلى عدة تقسيمات، باعتبارات مختلفة، ولكن قبل إيرادها أود الإشارة إلى أن الدين قد يكون مستغرقا لما تجب فيه الزكاة من الأموال، أو يكون منقصا للنصاب، من حيث كونه مضمونا واجب الأداء في ذمة المدين، أي أن يكون من المطلوبات- الذمم الدائنة - فالأصل أن يطرح ذلك من الوعاء الزكوي الذي قد يكون مشتملا على ديون مملوكة مستحقة، ويمكن أن يقال: إنه تجري المقاصة بين المطلوب والموجودات، فيزكى الموجود المستحق بعد طرح الدين المطلوب الحال، وهذا حسب اتجاه معظم الفقهاء.
وقد تعرض لذلك الضابط الذي صاغه الإمام ميمون بن مهران وهو: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض للبيع فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحسبه، ثم اطرح منه ما كان عليك من الدين، ثم زكِّ ما بقي)(1)، وعنه أيضا:(إذا حلت عليك الزكاة فانظر كل مال لك، ثم اطرح منه ما عليك من الدين، ثم زكِّ ما بقي)(2) .
هذا؛ وأما أقسام الدين المرتبطة بالزكاة فهي على النحو الآتي:
أ- تقسيم الدين باعتبار وقت الأداء، ويندرج تحته ما يلي:
1-
الدين الحال: وهو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، فتجوز المطالبة بأدائه على الفور.
2-
الدين المؤجل: وهو ما لا يجب أداؤه قبل حلول أجله، لكن لو أدي قبله يصح، ويسقط عن ذمة المدين. وينصب الخلاف أساسا على هذا النوع.
(1) كتاب الأموال، لأبي عبيد، ص 527، تحقيق: محمد عمار، ط: دار الشروق
(2)
كتاب الأموال، لأبي عبيد، ص 538- 539
3-
الدين الذي نشأ من القرض: فهو حال عند الجمهور، ومؤجل عند المالكية في حالة اشتراط الأجل.
قال ابن شاس في باب القرض: (ويجوز شرط الأجل فيه ويلزم)(1) .
ب- تقسيم الدين باعتبار القدرة على الاستيفاء:
1-
الدين المرجو.
2-
الدين غير المرجو، أو الدين الظنون، أو الضمار. وهو ما يطلق عليه الدين المشكوك (Bad- Debt)
وهذا يشمل الدين الذي على المعسر أو المعدوم: وهو الذي نفد كل ماله، فلم يبق عنده ما ينفقه على نفسه وعياله في الحوائج الأصلية فضلا عن وفاء دينه (2) .
جـ- تقسيم الدين باعتبار قوته وضعفه، وهذا التقسيم تفرد به الإمام أبو حنيفة:
1-
الدين القوي: وهو ما كان بدل مال زكوي، كقرض نقدي أو ثمن عرض تجارة.
2-
الدين الوسط: وهو ما كان ثمن عرض قنية مما لا تجب فيه الزكاة، كثمن داره أو متاعه المستغرق بالحاجة الأصلية.
3-
الدين الضعيف: وهو ما لم يكن ثمن مبيع ولا بدلا لقرض نقد، ومثاله المهر والدية (3) .
(1) عقد الجواهر الثمينة: 2/ 565
(2)
المقدمات الممهدات: 2/ 307؛ وبحث الأستاذ الدكتور نزيه حماد: زكاة الدين غير المرجو والمال الضمار، ضمن كتابه:(قضايا فقهية معاصرة) ، ص 119
(3)
الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 2 /35- 36، (الموسوعة) : 23/ 240
د- تقسيم الدين بالنظر إلى الاختلاف في أسلوب التجارة:
1-
الدين الناشئ من تجارة تاجر مدير.
2-
الدين الناشئ من تجارة تاجر محتكر متربص.
وهذا التقسيم قد تفرد به المذهب المالكي.
فقالوا: (إن إدارة التجارة: تصريفها ومعالجتها، ابتغاء لنيل المنفعة منها)(1)، فالمدير: وهو من يبيع بالسعر الواقع كيف ما كان ويخلف ما باعه بغيره.
أما المحتكر: فهو التاجر الذي يرصد بعروضه الأسواق أي ارتفاع الأثمان (2) .
2-
آراء الفقهاء في زكاة الديون:
ثم عقب الفراغ من إيراد تلك التقسيمات أخلص الآن إلى استعراض أقوال الفقهاء في زكاه الديون المختلفة في ضوء ما بينه الفقهاء بالنظر في كتب المذاهب، مع الأخذ في الاعتبار ما ذكره الإمام أبو عبيد؛ لأنه أول من جمع آراء الأولين في هذا الموضوع، مقرونة بعلل قائليها، مع الترجيح والاختيار من بينها، فهاك بيانها على النحو الآتي:
1-
لا زكاة في الدين مطلقا لا على الدائن ولا على المدين وإن كان على ثقة مليء، وقد جرى تعليل هذا الرأي بوجهين:
أ- أن الدين مال غير نام، فلم تجب زكاته، كعروض التجارة.
ب- أن ملك كل من الدائن والمدين غير تام.
وهو قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم وقول عكرمة (3) .
وهذا هو القول الخامس عند أبي عبيد، وقد عزاه إلى عكرمة (4) .
وقد ذهب إليه الحنابلة في إحدى الروايتين، وقد صححها في (التلخيص) وغيره، وقد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (5) . وقال في (المبدع) عقب ذكر هذه الرواية في تعليلها:(لأنه- أي الدين- غير نام، وهو خارج عن يده وتصرفه، أشبه الحلي ودين الكتابة. ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهو مفقود هنا)(6) .
(1) الاقتضاب في غريب الموطأ، للتلمساني: 1/ 288، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن العثيمين، ط: الرياض، مكتبة العبيكان
(2)
الشرح الصغير: 1/ 639
(3)
المغني: 4/ 270، المحلى: 4/ 218، رقم المسألة (694)
(4)
كتاب الأموال، ص 531- 534
(5)
الإنصاف: 3/ 22- 23؛ والمبدع: 2/ 297- 298، والاختيارات الفقهية، ص 146، ط: الرياض (دار العاصمة
(6)
2 / 298
2-
إذا كان الدين على مليء مقر بالدين، فيجب على الدائن أن يعجل زكاته مع ماله الحاضر في كل حول.
وذلك لأن الدائن قادر على أخذه والتصرف فيه، فلزمه إخراج زكاته كـ الوديعة، وهو قول عمر وعثمان وابن عمر وجابر من الصحابة، وطائفة من التابعين- رضي الله عنهم وقول- غير الأظهر - عند الشافعية، والمختار عند أبي عبيد القاسم بن سلام (1) .
وعن ميمون بن مهران قال: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر إلى كل مال لك وكل دين في ملاءة فاحسبه، ثم ألق منه ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي) . قال أبو عبيد: (فهذا ما جاء في الدين المرجو الذي يزكيه مع ماله)(2) .
3-
تجب الزكاة على الدائن في الدين المؤجل مطلقا، سواء كان مليء مقر بالدين أو على غير مليء، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبض الدين، فيؤدي لما مضى. وهذا هو مذهب الحنابلة) (3) .
4-
تجب الزكاة على الدائن في الدين المؤجل على مليء، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه. وهذا ما ذهب إليه الحنفية، وهو رأي الشافعية على الأصح، ومذهب الحنابلة كما سبق آنفا. وبه قال الثوري وأبو ثور، وهو المعتمد عند أكثر السلف (4) .
(1) كتاب الأموال، ص 530؛ والمغني: 4/ 269- 270؛ وشرح المنهاج: 2/ 40؛ والموسوعة: 23 /239
(2)
الأموال، ص 532
(3)
كشاف القناع: 2 /171- 172؛ والإنصاف: 3/ 18
(4)
المغني: 4/ 269- 270؛ رد المحتار لابن عابدين: 2/ 35؛ روضة الطالبين: 2/ 194
وفي هذه الصورة؛ كلما قبض شيئا من الدين أخرج زكاته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا، حيث بلغ أصله نصابا، ولو بالضم إلى غيره (1) .
5-
إذا كان الدين على معترف باذل له، فيزكيه صاحبه عند قبضه لسنة واحدة فقط، وإن أتت عليه سنون. وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني وأبي الزناد، وهذا الرأي قد أورده أبو عبيد عن الحسن وعمر بن عبد العزيز، ورواية عن أحمد أيضا، بناء على أنه يعتبر لوجوب الزكاة إمكان الأداء، ولم يوجد فيما مضى كما في (الإنصاف)(2) .
وقال أبو عبيد: (فأما زكاة عام واحد، فلا نعرف لها وجها. وهذا ما ذكره ابن رشد بصدد استعراضه أقوال الفقهاء في زكاة الدين إذ قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالا، فلا أعرف له مستندا في وقتي هذا)(3) .
6-
لا زكاة في الدين إذا كان المدين مماطلا (4) .
7-
تجب زكاة الدين على الذي عليه الدين، وتسقط عن ربه المالك له. وهذا فيما يظهر في حالة المماطلة، فتكون الزكاة حينئذ على المدين المماطل. وهو رأي إبراهيم النخعي وعطاء، كما ذكر أبو عبيد، مع تعليله: وهو أن زكاته على الذي يأكل مهنأه (5) .
(1) كشاف القناع: 2/ 172
(2)
المغني: 4/ 270؛ ومصنف عبد الرزاق: 4/ 1 10، والأموال، ص 533، والإنصاف للمرداوي: 3/ 18
(3)
كتاب الأموال (536) ؛ وبداية المجتهد: 2/ 536
(4)
الوسيط، للغزالي: 2/ 438
(5)
كتاب الأموال، ص 531- 533- 534
8-
تأخير الزكاة إذا كان الدين غير مرجو حتى يقبض، ثم يزكى بعد القبض لما مضى من السنين. وقد ذكره أبو عبيد في القول الثاني من الأقوال الخمسة المذكورة عنده.
وهذا ما يعبر عنه بالدين الظنون- أي الذي لا يدري صاحبه أيحصل عليه أم لا- وذكر أبو عبيد عن علي رضي الله عنه في الدين الظنون قال: (إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى) .
وعن ابن عباس قال في الدين: (إذا لم ترجُ أخذه فلا تزكه، حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه)(1) .
وهو في معنى الضمار، وهو من المال أو الدين ما لا يرجى رجوعه (2) .
وجاء في كلام الإمام أبي عبيد: (فإن كان الدين ليس بمرجو، كالغريم يجحده صاحبه ما عليه، أو يضيع المال، فلا يصل إليه ربه، ولا يعرف مكانه، ثم يرجع إليه ماله بعد ذلك فإني لا أحفظ قول سفيان في هذا بعينه، إلا أن جملة قول أهل العراق: أنه لا زكاة عليه فيه لشيء مما مضى في السنين، ولا زكاة سنته أيضا. وهذا عندهم كالمال المستفاد يستأنف به صاحبه الحول)(3) .
هذه هي الأقوال المستخلصة في زكاة الدين، وإذا أتينا إلى الترجيح فالقول الثاني منها هو المختار عند أبي عبيد، إذ قال: (وأما الذي أختاره من هذا
…
أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر، إذا كان الدين على الأملياء المأمونين، لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته) (4) .
(1) كتاب الأموال، ص 532
(2)
لسان العرب، حرف الراء، حرف الضاد
(3)
الأموال، ص 535
(4)
الأموال، ص 535
9-
ولمذهب المالكية تفصيل في زكاة الدين المؤجل، ويمكن تلخيصه على النحو الآتي:
إذا كان الدين المؤجل لتاجر مدير- وهو من يبيع بالسعر الواقع كيف ما كان ويخلف ما باعه بغيره - على مدين مليء، والدين قد نشأ من ثمن سلعة باعها، فتجب الزكاة فيه كل عام، على أساس أن يقوم الدين، بحيث يقوم العرض بنقد، والنقد بعرض، وتزكى القيمة.
أما إذا كان الدين لتاجر محتكر- وهو من يرصد بعروضه ارتفاع الأثمان- والدين ناجم من ثمن عروض التجارة، فلا يزكيه الدائن إلا بعد قبضه لعام واحد. وهذا هو حكم زكاة الدين الذي أصله قرض. ومحل هذا الدين لعام واحد، إذا لم يؤخر الدائن قبضه فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى (1) .
قال ابن عبد البر: (الدين عنده- أي عند مالك - والعروض لغير المدير باب واحد، ولم ير في ذلك إلا زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، تأسيا بـ عمر بن عبد العزيز في المال الضمار، لأنه قضى أنه لا زكاة فيه إلا لعام واحد، والدين الغائب عنده كالضمار، لأن الأصل في الضمار ما غاب عن صاحبه
…
) .
ثم عقب ابن عبد البر على هذا الرأي بقوله: (وليس لهذا المذهب في النظر كبير حظ إلا ما يعاوضه من النظر ما هو أقوى منه)(2) .
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 468- 474؛ وتبيين المسالك لمحمد الشيباني - شرح تدريب السالك إلى أقرب المسالك، لعبد العزيز آل مبارك الإحسائي: 2 /80- 81، بيروت، دار الغرب الإسلامي
(2)
الاستذكار: 9 / 97- 98
وقد علل الزرقاني رأي المالكية بما يأتي:
(إذ لو وجبت لكل عام لأدى إلى أن الزكاة تستهلكه، ولهذه العلة لم تطلب في أموال القنية، لأن الزكاة مواساة في الأموال الممكن تنميتها، فلا تفيتها الزكاة غالبا)(1) .
ومن المسائل المرتبطة بموضوع زكاة الدين مسألة زكاة القرض عند المالكية، فإنهم قد ميزوا بين القرض وبين الدين الناتج عن تجارة التاجر المدير، وإن كان كل منهما مرجو السداد، فالأول لا يزكى إلا لعام واحد عند قبضه وإن أقام عند المدين سنين، وأما الثاني فهو يزكى بعد تقويمه لكل عام.
ووجه الفرق بينهما أن القرض يفقد النماء فيه في حالة الإقراض وبالتالي يخرج عن إدارة التجارة فيه. أما الدين المرجو فهو بالنسبة للتاجر المدير في قوة المقبوض كسلعة (2) .
وقال في (المقدمات) : (المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا، فقد أخرجه بذلك عن الإدارة)(3) .
وفي هذه الحالة يثور سؤال مهم، وهو: ما حكم الزكاة في مال القرض عند المالكية، فقد يكون مقدارا ضخما لأجل طويل- والأجل لازم عندهم في حالة الاشتراط- فهل هي ساقطة عن الدائن المقرض والمدين المقترض كليهما أو يجب أداوها على الطرف الثاني وهو المقترض المستفيد المستثمر بحيث إن علة التنمية تتحقق في حقه؟ فالظاهر أن الزكاة تجب على المقترض في النماء الناتج من استثمار القرض لا في أصل القرض، لأن ذمته مشغولة بوفاء أصل المقدار المقبوض، فيطرح من وعاء الزكاة، إعمالا لضابط مذهبهم وهو أن الدين مانع من الزكاة في النقود وعروض التجارة، إن لم يفضل عن وفائه مقدار ما تجب فيه الزكاة (4) .
تلك هي آراء الفقهاء واجتهاداتهم في زكاة الدين المؤجل، وفيما يبدو أنها مبنية على فروق استحسانية، وربما يعسر إعطاء أسباب تلك الفروق كما أشار إلى ذلك ابن رشد (5) ، والله أعلم.
(1) شرح الزرقاني للموطأ: 2 /145
(2)
الشرح الصغير، للديرير: 1 / 640- 641
(3)
المقدمات الممهدات: 1/ 304
(4)
أضواء البيان: 2/ 463؛ والكافي، لابن عبد البر، ص 95؛ والمقدمات، لابن رشد: 1/ 232
(5)
بداية المجتهد: 2/ 492
خاتمة البحث
في ضوء ما ذكره الفقهاء القدامى والمحدثون حول زكاة كل من المحاور الثلاثة التي دار البحث حولها، وبعد إجالة النظر فيما سلف عرضه من أقوال وآراء وبتدبر مبانيها وعللها، يترجح الأخذ بما يأتي:
المحور الأول- زكاة الزراعة ومدى جواز حسم النفقات منها:
قد وضع الشرع الحكيم معيارا واضحا في تحديد القدر الواجب من الزكاة في الزروع، وهو يخلص إلى وجوب العشر فيما أخرجته الأرض التي سقي زرعها بماء السماء أو بماء جار وما شاكلهما بدون مؤونة من صاحب الأرض، وهذا بشرط أن يبلغ الخارج نصابه المحدد وهو مقدار خمسة أوسق عند جمهور الفقهاء. أما الأرض التي سقي- زرعها بالآلات ووسائل تكلف المزارع مؤونة ذات بال، فالقدر الواجب من الزكاة في هذه الحالة هو نصف العشر.
ثم اختلف الفقهاء في تطبيق هذا الضابط في مسائل، ولكن الذي يظهر من كلام الجمهور بوجه عام هو أن يؤخذ العشر فيما لو لم تكن المؤونة باهظة، أما لو كانت مكلفة سواء من ناحية الجهد البدني أو النفقة المبذولة، فيكتفى بأخذ نصف العشر، وفي حالة التردد في تحقيق نسبة المؤونة التي لها تأثير في تحديد أحد المقدارين، يحسن استصحاب الأصل من باب الاحتياط، وهو أخذ العشر. ومن خلال استعراض المسائل تبين من اتجاه أكثر العلماء أن النفقة المعتادة على العمالة وغيرها لا يجوز طرحها من الناتج الإجمالي.
وقد ظهر هناك رأيان آخران، أحدهما: يتجه إلى طرح جميع النفقات، وثانيهما: القول بحسم النفقات بشرط ألا تزيد تلك النفقات عن ثلث المحصول. والذي يترجح هو اعتماد الرأي القائل بطرح التكلفة من إجمالي الحاصل على ألا تتجاوز التكلفة ثلث مقدار الناتج، ثم يؤخذ في الاعتبار تطبيق المعيار الشرعي، من العشر أو نصف العشر حسب اختلاف المؤونة في باقي المحصول.
والقول بطرح التكلفة لا ينسحب على نفقات الري، ولا على النفقات غير المتكررة مثل حفر البئر أو المترتبة على اقتناء الآلات الأساسية المعمرة، فقد كفى المزارع أنه لا زكاة عليه فيها رغم قيمتها الكبيرة في السوق.
المحور الثاني- زكاة الأسهم في الشركات:
قد اتجه رأي أكثر المعاصرين إلى وجوب الزكاة في موجودات الأسهم، التي تدخل في الوعاء الزكوي مع زكاة أرباحها، ويسري هذا الحكم على الشركة فيما إذا تولت إخراج الزكاة، وعلى المساهم أيضا في حالة عدم إخراج الزكاة من قبل الشركة، فلا يعفيه عدم تمكنه من معرفة ما يخصه من مقدار ما تجب فيه الزكاة من الموجودات عن أداء زكاته.
واعتمد هذا الرأي في الندوة الحادية عشرة للزكاة المنعقدة بالكويت، ثم تعددت الاتجاهات في تبني رأي من الآراء الثلاثة التي سبق ذكرها. وهي تتلخص في النقاط الآتية:
- إخراج زكاة الأصل- محل الزكاة- على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية، إذ يغلب الطابع التجاري على الأسهم.
- إعمال التحري في تقدير ما يخصه أسهمه من الزكاة، بحيث يزكي بحسب ما يغلب على ظنه، حتى تبرأ ذمته.
- الأخذ برأي المالكية في زكاة بضاعة التاجر المحتكر. وهو زكاة ثمن الأسهم عند بيعها فور قبضه بدون انتظار الحول.
والذي يترجح الأخذ به هو إعمال التحري، لأدلة وشواهد سيقت في هذا الشأن.
المحور الثالث- زكاة الدين:
قد سبق إيراد آراء اجتهادية، وهو تتفاوت في قوة عللها. وبالنظر في أنواع من الديون يترجح القول بما يأتي:
(الذي عليه غيره من الدين أنه إذا كان قادرا على أخذه فهو كـ الوديعة يزكيه لكل عام، لأن تركه له وهو قادر على أخذه كتركه له في بيته)(1) .
وهذا ما علل به الإمام أبو عبيد القول الراجح في نظره، من الأقوال الخمسة المذكورة عنده، وهو تزكية الدين مع عين المال- أي المال الحاضر من النقد وما شاكله- فقد وجه رأيه- بغض النظر عن كونه موافقا لرأي جمع من الصحابة والتابعين- بما يأتي:
وإنما اختاروا- أو من اختار منهم- تزكية الدين مع عين المال، لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكد يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها. وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه.
(1) الاستذكار: 9/ 98
قائمة المراجع
1-
الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لعلاء الدين البعلي، ط: الرياض، دار العاصمة.
2-
الاستذكار لابن عبد البر، ط: القاهرة، دار الوعي.
3-
الأشباه والنظائر، لجلال الدين السيوطي، ط: بيروت، دار الكتاب العربي.
4-
الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط: بيروت، دار ابن حزم.
5-
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، ط: بيروت، عالم الكتب.
6-
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، تحقيق: عبد العزيز المشيقح، ط: الرياض، دار العاصمة.
7-
الاقتضاب في غريب الموطأ، للتلمساني، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن العثيمين، ط: الرياض، مكتبة العبيكان.
8-
الإنصاف مع الشرح الكبير لعلاء الدين المرداوي، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر.
9-
بدائع الصنائع، للكاساني، بيروت، دار الكتاب العربي.
10-
بداية المجتهد، لابن رشد، تحقيق: ماجد الحموي، ط: بيروت، دار ابن حزم.
11-
البيان والتحصيل، لابن رشد، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
12-
البيان شرح المهذب، لأبي الحسين العمراني، تحقيق: قاسم محمد النوري، ط: دار المنهاج للطباعة والنشر.
13-
تبيين المسالك لمحمد الشيباني- شرح تدريب السالك إلى أقرب المسالك- لعبد العزيز آل مبارك الإحسائي، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
14-
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ط: بيروت، دار الفكر.
15-
الحاوي، للماوردي، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
16-
حجة الله البالغة، للشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: د. ضمان ضميرية، ط: الرياض، مكتبة الكوثر.
17-
الدر المختار مع رد المحتار، لابن عابدين، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
18-
الذخيرة، للقرافي، ط: بيروت، دار الغرب الإسلامي.
19-
روضة الطالبين، للنووي، ط: بيروت، المكتب الإسلامي.
20-
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
21-
الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، ط: مصر، دار المعارف.
22-
شرح منح الجليل لمحمد عليش على مختصر خليل، ط: بيروت، دار الفكر.
23-
صحيح البخاري مع فتح الباري، ط: بيروت، دار المعرفة.
24-
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لابن العربي، ط: القاهرة، دار أم القرى.