الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضاربة المشتركة في
المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة
إعداد
فضيلة القاضي
محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المضاربة أو القِراض من أفضل الطرق الإسلامية للتمويل، وبما أن المال فيه من جانب، والعمل من جانب آخر، والربح الحاصل مقسوم بينهما بالنسب المتفق عليها، فإنه من أقوى الوسائل للتوزيع العادل لثروة المجتمع إذا استخدم في المصارف والمؤسسات المالية، ولكن المضاربة ـ كما تصورها الفقهاء، وذكروا جزئيتها ـ عملية ثنائية بين فردين يقدم أحدهما المال والآخر العمل، وكان ذلك هو المعمول به في تلك الحياة البسيطة التي لا تتصور فيها المشاريع الكبيرة للصناعة والتجاربة التي تقتضي أموالًا جمة وتكاليف باهظة لا يستطيع تحملها فرد واحد في غالب الأحيان.
ولذلك نجد أن الفقهاء القدامى تحدثوا عن المضاربة الفردية التي يدخل فيها رجلان أحدهما رب المال والآخر مضارب. ولم يذكر الفقهاء بصفة عامة المضاربة الجماعية التي تضخ فيها أموال جمع كبير من الناس في وعاء واحد، تديره مؤسسة مالية بصفة كونها مضاربة لجميع أرباب الأموال. ولكن ليس معنى ذلك أن مثل هذه المضاربة الجماعية لا تجوز في الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة إنما مهدت أصولًا وأحكامًا للمضاربة، وما دامت هذه الأصول والأحكام محتفظة، فإن أي صورة جديدة لتطبيق مبدأ المضاربة جائزة في الشريعة الإسلامية.
تكييف المضاربة المشتركة:
إن المضاربة المشتركة الجماعية وإن لم تكن موجودة في صورتها المعاصرة، ولكن الفقهاء ذكروا صورًا لتعدد أرباب الأموال، فيقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى:
(ولو قارض رجلان رجلًا على ألف، فقالا: قارضناك على أن نصف الربح لك. والباقي بيننا بالسوية جاز)(1)
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن قارض اثنان واحدًا بألف لهما جاز)(2)
وذكر العلامة محمد بن رشد عن مالك رحمه الله.
(وسئل مالك عن رجل أخذ من رجلين مالًا قراضًا، فأراد أن يخلطه بغير إنهما، فقال: يستأذنهما أحسن وأحب إلي، فإن لم يستأذنهما فلا أرى عليه سبيلًا، قيل له: فإنه استأذن أحدهما فأذن له، ولم يأذن له الآخر فخلطهما، قال: يستغفر الله ولا يعد
) .
وقال ابن رشد رحمه الله تحته:
(. . . فكذلك هذان المالان له أن يخلطهما بعد إذن صاحبيهما، تحريًا للعدل فيهما بينهما ولما يرجو من استغزار الربح بخلطهما، واستئذانهما أحسن إذ قد يكره كل واحد منهما ذلك لما يعتقده أن ماله أطيب من مال الآخر، فإن خلطه بغير اختيار صاحبيهما لم يلزمه في ذلك ضمان، إذ لا ضرر في خلطهما على واحد منهما، ولا وجه من وجوه التضييع، وبالله التوفيق)(3)
(1) التهذيب في فقه الإمام الشافعي، للبغوي: 4/ 382.
(2)
المغني لابن قدامة: 5/ 146.
(3)
البيان والتحصيل، لابن رشد: 12: 350 ـ 351، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
(وإذا قارض اثنان واحدًا، فليبينا نصيب العامل من الربح، ويكون الباقي بينهما على قدر ما ماليهما)(1)
وتبين بهذا أن تعدد أرباب الأموال في المضاربة ليس شيئًا غريبًا عن الفقه الإسلامي، بل عرفه الفقهاء القدامى وحكموا بجوازه، فإن كان يجوز أن يكون المال من رجلين، فيجوز أن يكون من ثلاثة أو عشرة أو أكثر، لأن المبدأ واحد، وليس هناك دليل يقصر المضاربة على عدد معين من أرباب الأموال، فثبت أن المضاربة المشتركة أو الجماعية جائزة.
أما تكييف هذا النوع من المضاربة فإن هناك علاقتين، العلاقة الأولى فيما بين أرباب الأموال أنفسهم، والعلاقة الثانية فيما بين أرباب الأموال والمضارب، فأما تكييف العلاقة الأولى فهو أن أرباب الأموال شركاء فيما بينهم، وعلاقة بعضهم ببعض علاقة شريك، ثم إن هؤلاء الشركاء بأجمعهم أرباب أموال تجاه المضارب، والعلاقة بينهم وبين العامل علاقة مضاربة، وهي العلاقة الثانية.
(1) روضة الطالبين: 5/ 125.
العلاقة فيما بين أرباب الأموال:
والظاهر أن علاقة الشركة فيما بين أرباب الأموال هي شركة عقد على أساس العنان، فتنطبق عليهم أحكامها، ولكن يظهر مما قدمنا سابقًا من عبارة الإمام مالك وابن رشد رحمهما الله تعالى أن المالكية اعتبروا هذه العلاقة شركة ملك، لأنهم لم يشترطوا على المضارب إذا أخذ المال من رجلين أن يستأذنهما، وإنما جعلوا الاستئذان من المستحبات، حتى إن المضارب إن لم يستأذن بخلط مال رب المال بمال رجل آخر، لم يجعلوه ضامنًا، وهذا يدل على أن الشركة بين صاحبي المال شركة اضطرارية، ولا تحدث مثل هذه الشركة إلا في شركة الملك، فكل ما يحصل من ربح على هذا المال المشترك المخلوط يقسم ـ بعد أداء حصة المضارب ـ على قدر ملك كل واحد منهما في الخلطة، فلا يجوز انقسام الربح فيما بين أرباب الأموال إلا بنسبة مساهماتهم في الوعاء، ولا تجوز التفاوت في النسب.
أما إذا اعتبرنا الشركة فيما بين أرباب الأموال شركة عقد، فيجوز فيها تفاوت نسب الأرباح عند الحنفية والحنابلة، قال ابن قدامة في المغني:
(وأما شركة العنان، وهو أن يشترك بدنان بماليهما، فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين، ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك، والشافعي: من شرط صحتها كون الربح والخسران على قدر المالين
) (1)
وقال العلامة الكاساني رحمه الله تعالى:
(وإن كان المالان متساويين فشرطا لأحدهما فضلًا على ربح، ينظر إن شرطا العمل عليهما جميعًا جاز، والربح بينهما على الشرط في قوله أصحابنا الثلاثة. . . وإن شرطا العمل على أحدهما، فإن شرطاه على الذي شرطا له فضل الربح جاز والربح بينهما على الشرط. . .، وإن شرطاه على أقلهما ربحًا لم يجز) . (2) .
وهذا إذا كان الشريكان يمارسان التجارة بنفسيهما، أما إذا كان المقصود من الشركة أن يعطيا المال إلى آخر مضاربة، كما هو المفروض في مسألتنا، فإن إعطاء المال إلى المضارب وتعاملهما معه هو العمل الذي يباشره الشريكان للشركة، فليس هو من الشركة التي اشترط فيها العمل على أحد الشريكين، فجاز التفاوت في نسب الأرباح على الشرط الذي شرطه الحنفية في عبارة الكاساني رحمه الله. وصار كما اتفق الشريكان على أن يستأجرا رجلًا يمارس التجارة لهما كأجير، فعمل الشريكين هو الاستئجار والتعامل مع الأجير.
وتبين بهذا أنه يجوز على مذهب الحنفية والحنابلة أن تتفاوت نسب الأرباح المستحقة لأرباب الأموال في المضاربة المشتركة، وعلى هذا يجوز ما تعارفه البنوك من إعطاء أوزان (weightage) مختلفة لأنواع مختلفة من الودائع.
(1) المغني لابن قدامة: 5/ 140، دار الكتب العلمية، بيروت.
(2)
بدائع الصنائع، للكاساني: 5/62-63.
العلاقة بين أرباب الأموال والمضارب:
أما العلاقة بين أرباب الأموال والمضارب، فهي علاقة مضاربة لا خفاء فيها، وقد ذكر الشافعية أنه يجوز أن تتفاوت نسبة ربح المضارب تجاه كل واحد من أرباب الأموال، بمعنى أن يكون ربح العامل من نصيب أحد منهم أقل نسبة من ربحه من نصيب الآخر. فقال البغوي رحمه الله تعالى:(ولو قارض رجلان رجلًا على ألف، فقالا: قارضناك على أن نصف الربح لك والباقي بيننا على السوية جاز، ولو قالا: على أن لك الثلث من نضيب أحدنا والربع من نصيب الآخر، إن لم يبينا لم يجز، وإن بينا نظر، إن لم يقولا: الباقي بيننا صح، ويكون الباقي من نصيب كل واحد له)(1) .
وذكره الإمام النووي رحمه الله بعبارة أوضح، فقال:
(ولو قالا: لك من نصيب أحدنا من الربح الثلث، ومن نصيب الآخر الربع، فإن أبهما لم يجز، وإن عينا وهو عالم بقدر مال كل واحد جاز، إلا أن يشترطا كون الباقي بين المالكين على غير ما تقتضيه نسبة المالين)(2) .
وقال ابن قدامة، رحمه الله:
(وإن قارض اثنان واحدًا بألف لهم جاز، وإذا شرطا له، ربحًا متساويًا منهما جاز، وإن شرط أحدهما له النصف الآخر الثلث جاز، ويكون باقي ربح مال كل واحدًا منهما لصاحبه)(3) .
ولم أجد هذا التصريح عند غير الشافعية والحنابلة في تتبعي العاجل، ولكن الظاهر أنه مقبول عند غيرهم أيضًا، لأنه لا يوجد عندهم ما يخالفه، وما دامت النسب المتفاوتة لا تقطع الشركة في الربح، فإنها لا تنافي مقتضى العقد في الظاهر، والله أعلم.
(1) التهذيب، للبغوي: 4/ 382.
(2)
روضة الطالبين، للنووي: 5/ 125، وهذا الاستثناء جار على مذهب الشافعية الذين لا يجوزون تفاوت نسب الأرباح فيما بين الشركاء، ومثله في نهاية المحتاج: 5/ 228؛ ومغني المحتاج 2/ 315.
(3)
المغني لابن قدامة: 5/146.
إدارة المضاربة من قبل شخصية معنوية
الأصل في الفقه الإسلامي أن يكون المضارب شخصًا حقيقيا، وعلى ذلك جرت تفاصيل المضاربة في كتب الفقه المعروفة، وقد حدثت في عصرنا شخصيات معنوية أو اعتبارية في صورة مؤسسات كبيرة، وقد اعترف الفقهاء المعاصرون بالشخصية المعنوية، وطبقوا عليها أحكام الشخص الحقيقي.
فهل يجوز أن تكون شخصية معنوية هي المضاربة؟
والجواب في الظاهر أنه لا مانع من ذلك.
وإن الشخصية المعنوية ـ مثل شركة مساهمة ـ تكون مملوكة في العادة لحملة الأسهم الممثلين في الجمعية العمومية، أما إدارة نشاطاتها، فيتولاها مجلس الإدارة بواسطة المدير أو العضو المنتدب، فإذا سلمت الأموال على أساس المضاربة إلى مؤسسة مالية، فمن هو المضارب بالضبط في هذه الصورة؟ فقد يقول قائل:(إن المضارب هو المدير، أو مجلس الإدارة، لأنه هو الذي يستثمر الأموال فعلًا، ويعمل أعمال المضاربة) ولكن ذلك ليس بصحيح، لأن المدير إنما يعمل بالنيابة عن الشخصية المعنوية، ولا يكون هو العاقد بصفته الذاتية. . . وإنما العقد يكون بين أرباب الأموال وبين الشخصية المعنوية، فالشخصية المعنوية هي المضاربة، وهذا كأن المضارب استأجر موظفًا أو أجيرًا يباشر أعمال المضاربة تحت إشرافه، فالمضارب هو المستأجر وليس الأجير، وهذا ما انتهت إليه الندوة الفقهية العاشرة لمجموعة البركة في رمضان سنة 1415 هـ، وقرارها في هذا الخصوص ما يلي:
أ - إن المضارب في المؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتسلم الأموال لاستثمارها على أساس المضاربة في الشخص المعنوي نفسه (البنك أو الشركة) ؛ لأنه هو الذي تناط به الذمة المالية المستقلة التي بها يحصل الموجوب له أو عليه، وليس (الجمعية العمومية) التي تملك المؤسسة، ولا (مجلس الإدارة) الذي هو وكيل في المالكين، ولا (المدير) الذي هو ممثل للشخص المعنوي.
لا تتأثر العلاقة بين أرباب المال والمضارب في المؤسسة المالية ذات الشخصية الاعتبارية بالتغير الكبير في مالكي المؤسسة (الجمعية العمومية) أو التبديل الكلي أو الجزئي في أعضاء مجلس الإدارة، أو تغيير المدير وأعوانه، لأن ذلك الحق مقرر في النظام الأساسي للمؤسسة، وإذا حصل بعد التغيير إخلال بالتعدي أو التقصير، فإن، في أحكام المضاربة ما يحمي أرباب الأموال بتحميل المسؤولية لمن وقع منه التعدي أو التقصير.
وهذا ما لم يكن هناك قيد صريح من رب المال بأن استمراره في المضاربة رهين ببقاء من كانوا في المؤسسة عند دخوله في المضاربة من الأشخاص الطبيعيين كلهم أو بعضهم في الجمعية العمومية أو المجلس أو الإدارة، فتكون مضاربة مقيدة، ويملك حق الخروج بالإخلال بذلك القيد)) (1)
فإذا تقرر أن المضارب هو المؤسسة أو البنك أو الشركة بصفة كونها شخصًا معنويًا، فإن جميع التزامات المضاربة وحقوقها ترجع إلى هذا الشخص المعنوي، وبما أن الشخص المعنوي لا يستطيع أن يعمل، فإنه يعمل من خلال موظفيه، وعماله، فنفقات هؤلاء الموظفين والعمال على الشخص المعنوي، وليس على مال المضاربة، ولا يتحمل مال المضاربة إلا النفقات التي تخص عمليات الاستثمار، أما رواتب الموظفين، وصيانة المكاتب وتأثيثها، ونفقات الكهرباء، وما إليها فكلها على الشخص المعنوي، وفي عبارة المحاسبة المعاصرة: لا يتحمل مال المضاربة إلا النفقات المباشرة (Direct Expenses) للاستثمار. أما النفقات غير المباشرة (Indirect Expenses) فكلها على الشخص المعنوي المضارب، لأنه هو العمل الذي يقوم به الشخص المعنوي بصفته مضاربًا، ولا يستحق حصته من الربح إلا مقابل ذاك.
وبهذا صدر قرار من الندوة الفقهية الرابعة لمجموعة البركة ونصه ما يلي:
(أما المصرفات الإدارية العامة اللازمة لممارسة المصرف الإسلامي لأنشطته المختلفة، فيتحملها المصرف وحده، وذلك باعتبار أن هذه المصروفات تغطي بجزء من حصته من الربح الذي يتقاضاه كمضارب، حيث يتحمل المصرف ما يجب على المضارب أن يقوم به من أعمال.
أما المصروف عن الأعمال التي لا يجب على المضارب أن يقوم بها فتتحملها حسابات الاستثمار وفقًا لما قرره الفقهاء في أحكام المضاربة) (2)
وما قررته الندوة من كون المضارب شخصًا معنويًا، ومن تحمله للمصروفات غير المباشرة، هو المنحى الصحيح نظرًا إلى صفة المؤسسات المالية اليوم.
(1) فتاوى ندوات البركة، ص 181 ـ 182، قرار (10/10)
(2)
فتاوى ندوات البركة، ص 61، قرار (4/1) .
خلط المضارب ماله بمال المضاربة
إن المؤسسات المالية بعد جمعها للأموال من المستثمرين ربما تدخل بعض أموالها في الوعاء، وفي كثير من البلاد يشترط عليها قانونًا أن تدخل نسبة معينة في الوعاء بغرض استثمارها، ومعنى ذلك شرعًا أن المضارب خلط ماله بمال المضاربة، وذلك جائز شرعًا إن كان بإذن رب المال، سواء كان الإذن لهذا الخلط خاصة، أو لأن يعمل المضارب برأيه كيف يشاء.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى: (إذا قال للمضارب: ضم إليها ألفًا من عندك، واعمل بها مضاربة، قال أصحابنا: لا بأس به، وإن شرط فضل الربح للمضارب، لأنه عامل)(1)
وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى:
(فإن كان قال له: اعمل فيه برأيك؛ فله أن يعمل جميع ذلك إلا القرض، لأنه فوض الأمر في هذا المال إلى رأيه على العموم، وقد علمنا أن مراده التعميم فيما هو من صنع التجار عادة، فيملك به المضاربة والشركة والخلط بماله، لأن ذلك من صنع التجار)(2)
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى:
(واختلفوا في المضارب يخلط ماله بمال المضاربة، فقال مالك: لا ضمان عليه، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي قال له: اعمل برأيك، وقال الشافعي: عليه الضمان)(3)
(1) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي، تلخيص الإمام أبي بكر الجصاص: 4/66، مسألة (1717) ، طبع دار البشائر الإسلامية ـ بيروت، سنة 1416 هـ.
(2)
المبسوط، للسرخسي: 22/ 39 ـ 40.
(3)
الإشراف في مذاهب أهل العلم، لابن المنذر: 1/ 107.
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
(وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله، فإن فعل ولم يتميز ضمنه، لأنه أمانة فهو كالوديعة، فإن قال له: اعمل برأيك؛ جاز له ذلك، وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: ليس له ذلك وعليه الضمان إن فعله، لأن ذلك ليس من التجارة.
ولنا: أنه قد يرى الخلط أصلح له فيدخل في قوله: (اعمل برأيك) وهكذا القول في المشاركة به ليس له فعلها إلا أن يقول: اعمل برأيك، فيملكها) (1) .
وما ذكروه من أن الشافعية لا يجوز عندهم الخلط، فهو فيما إذا لم يأذن بذلك رب المال صراحة، أما إذا أذن صراحة، فهو جائز عندهم أيضًا، كما هو ظاهر من تعليلهم الذي ذكره ابن قدامة رحمه الله، وكما يظهر مما ذكره الرملي رحمه الله في مسألة أخرى:
(ولو خلط ألفين له بألف لغيره ثم قال: قارضتك على أحدهما وشاركتك في الآخر؛ جاز وإن لم يتعين ألف القراض، وينفرد العامل بالتصرف فيه ويشتركان في التصرف في الباقي)(2)
فظهر بهذا أن المضارب يجوز له أن يخلط مال المضاربة بماله بإذن رب المال، فيكون مضاربًا في حصة رب المال وشريكًا له في حصته.
فما تفعله المؤسسات المالية من إدخال مالها في وعاء المضاربة المشتركة يجوز في الشريعة الإسلامية إذا كان ذلك بإذن من المستثمرين، ويكفي لثبوت إذنهم أن يعلن ذلك في النشرة، ويدخل المستثمرون بعد الاطلاع عليها.
وتكون المؤسسة في هذه الصورة مضاربة في أموال المستثمرين، وشريكة لهم في حصتها من المال، فتستحق بمالها ما يستحقه المستثمرون الآخرون كما تستحق نسبة متفقًا عليها من ربح حصة المستثمرين بصفة كونها مضاربة.
(1) المغني، لابن قدامة: 5/ 162.
(2)
نهاية المحتاج، للرملي 5/ 220، دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ ومثله في مغني المحتاج للشربيني: 2/ 310، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
توقيت المضاربة
إن المؤسسات الاستثمارية في عصرنا تقيد المضاربة بمدة معينة، فهل يجوز تقييد المضاربة بزمن؟ اختلف فيه الفقهاء. وإن توقيت المضاربة له معنيان: الأول: أن تقيد المضاربة بوقت تنتهي بحلوله، والثاني: أن تقيد بوقت بمعنى أنه لا يجوز فسخها لأحد الفريقين قبل ذلك الوقت.
أما التوقيت بالمعنى الأول، فمنعه أكثر الفقهاء، قال النووي رحمه الله:
(ولا يعتبر في القراض بيان المدة. . . فلو وقت فقال: قارضتك سنة، فإذا منعه من التصرف بعدها مطلقًا. أو من البيع فسد، لأنه يخل بالمقصود، وإن قال: على ألا تشتري بعد السنة، ولك البيع، صح على الأصح. لأن المالك يتمكن من منعه من الشراء متى شاء، بخلاف البيع، ولو اقتصر على قوله: قارضتك سنة فسد على الأصح، وعلى الثاني يجوز، ويحمل على المنع من الشراء استدامة للعقد)(1)
وهذا مذهب الشافعية، وكذلك لا يجوز التوقيت عند المالكية، قال ابن شاس رحمه الله:
(ولو ضيق بالتأقيت إلى سنة ـ مثلًا ـ ومنع من التصرف بعدها فهو فاسد، مثل أن يقول: قارضتك سنة)(2)
أما الحنابلة فعندهم في ذلك روايتان، وقال المرداوي رحمه الله:
(وإن شرطا تأقيت المضاربة، فهل تفسد؟ على روايتين. . . إحداهما لا تفسد، وهو الصحيح من المذهب. . . والرواية الثانية تفسد، جزم به في الوجيز والمنور،. . . . وقال في الرعاية الكبرى: وإن قال: ضاربتك سنة أو شهرًا، بطل الشرط، وعنه: والعقد. قلت: وإن قال: لا تبع بعد سنة؛ بطل العقد، وإن قال: لا تبتع بعدها: صح، كما لو قال: لا تتصرف بعدها)(3)
وحاصل ما انتهى إليه المرداوي ما ذكره الشافعية من أنه لا يجوز منعه من البيع بعد المدة المضروبة ويجوز منعه من الشراء.
أما الحنفية، فليس عن أئمتهم في ذلك رواية، واختلفت فيه تخريجات الفقهاء، قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(لم نجد عن أصحابنا توقيت المضاربة، وقياس قولهم في الوكالة أنها لا تختص بالتوقيت، لأنهم قالوا: لو وكَّل رجلًا ببيع عبده اليوم فباعه غدًا جاز، وكانت كالوكالة المنقطعة) .
لكن قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله بعد نقل ذلك:
(هذا ليس بشيء، لأنهم يقولون: لو قال: بعه اليوم ولا تبعه غدًا، لم يكن له بيعه غدًا، وكذلك لو قال: على أن يبيعه اليوم دون غد. وقال مالك والليث والشافعي: إذا وقتها فسدت
) (4)
(1) روضة الطالبين: 5/ 121 ـ 122
(2)
عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس 2/ 795؛ ومثله في الشرح الصغير للدردير: 3/ 787.
(3)
الإنصاف، للمرداوي: 5/ 430.
(4)
مختصر اختلاف العلماء للطحاوي بتلخيص الجصاص: 4/ 40؛ وراجع أيضًا: الفتاوى الهندية: 2/ 302؛ وتكملة فتح القدير: 7/ 67.
وحصيلة ما ذكرنا أن بعض الحنفية والحنابلة أجازوا توقيت المضاربة والآخرون منعوا ذلك، ولكن معنى المنع أنه لا يجوز منع المضارب من البيع، ويجوز منعه من الشراء، وحاصل ذلك أنه يمكن منعه من الدخول في العمليات الجديدة، ولكن لا يمنع من تصفية العمليات التي تمت قبل مضي المدة المحدودة.
أما توقيت المضاربة بالمعنى الثاني: ألا يجوز الفسخ قبل المدة المحددة فمنعه أكثر الفقهاء، قال البغوي رحمه الله تعالى:
(ولو قال: قارضتك على أني لا أملك الفسخ قبل شهر، فهو فاسد، لأنه بخلاف قضية القراض)(1)
قال ابن قدامة رحمه الله:
(والشروط الفاسدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها ما ينافي مقتضى العقد، مثل أن يشترط لزوم المضاربة أو لا يعزله مدة بعينها)(2)
ولكن الصحيح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الشرط لا يفسد العقد، بل يفسد الشرط فقط (3)
وقال الكاساني رحمه الله:
(وأما صفة هذا العقد (يعني المضاربة) فهو أنه عقد غير لازم، ولكل واحد منهما ـ أعني رب المال والمضارب ـ الفسخ، لكن عند وجود شرطه وهو علم صاحبه) (4)
وقال ابن شاس المالكي رحمه الله:
(والقراض ينفسخ بفسخ أحدهما قبل الشغل، فإذا عمل وشغل المال لم يكن للعامل أن يرده حتى ينض، ولا لربه أخذه قبل نضوضه) . (5)
وهذا الذي ذهب إليه الفقهاء يقتضي أن لكل واحد من أرباب الأموال أن يفسخ المضاربة، ويسترد ماله متى شاء، وسيأتي بيان ذلك في مسألة الاسترداد إن شاء الله تعالى.
(1) التهذيب للبغوي: 4/ 384.
(2)
المغني: لابن قدامة: 5/ 187.
(3)
راجع المغني: 5/ 187؛ والإنصاف، للمرداوي: 5/ 423 ـ 424.
(4)
بدائع الصنائع: 6/ 109.
(5)
عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس: 2/ 809.
مضاربة مستمرة:
والأصل في المضاربة أن تضخ جميع الأموال في وعاء المضاربة مرة واحدة، وتبقى في الوعاء إلى أن تنض جميع الأموال، فيحسب الربح ويوزع فيما بين أرباب الأموال والمضارب حسب النسب المتفق عليها.
ولو طبق هذا المبدأ على البنوك والمؤسسات الاستثمارية، لاقتضى ذلك ألا تقبل الإيداعات في حسابات الاستثمار إلا في يوم واحد، لتبتدئ فترة جميع الودائع في وقت واحد وتنتهي في وقت واحد، وليتمكن البنك من تحديد الأرباح الحاصلة عليها على الأساس المعروف.
ولكن هذا الاقتراح يصعب العمل به في البنوك، لأن طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل واحد كل يوم. وإن تقييد هذه العمليات بيوم موحد مخصوص تسبب مشاكل كثيرة للتجارة السريعة المعاصرة، ويجعل كميات كبيرة من الأموال معطلة ومنعزلة عن النشاط التجاري. وبما أن توجيه الأموال الفائضة إلى النشاط التجاري والصناعي مطلب صحيح يوافق مقاصد الشريعة الإسلامية، فإن ضرر المجتمع ببقاء هذه الأموال فاترة ضرر ينبغي أن يزال.
توزيع الأرباح على طريق النمر:
وقد يوجد حل هذه المشكلة فيما يسمى في عرف المحاسبة المعاصر: حساب الإنتاج اليومي (Daily Products) وقد يعبر عنه بحساب النمر، ومعنى استخدام هذا الطريق في الشركة أو المضاربة أن عند نهاية كل فترة يحدد إجمالي مبالغ الربح الحاصلة على جميع الأصول المستثمرة، ثم تقسم هذه المبالغ على الأموال المستثمرة، وعلى مجموع أيام الفترة الحسابية بحيث يعرف قدر ما ربحته وحدة نقدية واحدة كالربية الواحدة كل يوم، وإن كل واحد من الشركاء يعطي على كل واحدة من ربيته ربح الأيام التي ظلت فيها الربية مصروفة في حساب الاستثمار، فإذا كانت الربية الواحدة مصروفة في حساب الاستثمار لمدة أكثر، يوزع عليها ربح أكثر، وإن كانت الربية الواحدة مصروفة لمدة أقل، فإنها تحصل على ربح أقل.
مثاله: لو دل حساب الإنتاج اليومي أن ربية واحدة قد ربحت فلسًا واحدًا كل يوم، فالربح الحاصل على الربية المستثمرة لمائة يوم مائة فلس، سواء كانت هذه المائة يوم متوالية أو متفرقة من الفترة الحسابية، فإنه يستحث مائة فلس من الربح، ومن كانت ربيته الواحدة مصروفة بمقدار مائتي يوم، أو من كانت ربيتاه مصروفتين بمقدار مائة يوم، فإن كل واحد منهما يستحق مائتي فلس.
وهكذا؛ يظل المستثمرون يسحبون ما شاؤوا من المبالغ في أثناء الفترة، مجموع الأيام التي بقيت فيها أموالهم مصروفة في الاستثمار. (1)
هذا هو الحل الوحيد الذي يبدو عمليًا في طريق محاسبة الأرباح على الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية، ولكنه يحتاج إلى تكييف شرعي تقبله طبيعة الفقه الإسلامي، ونظرًا إلى التصور المعروف للشركة أو المضاربة في الفقه، فإن هناك عدة عوائق في سبيل تطبيقه في الشركة والمضاربة.
1-
معرفة الربح الحقيقي تتوقف ـ حسبما ذكره الفقهاء ـ على تنضيض جميع موجودات الشركة حتى إن اقتسام الربح قبل التنضيض يعتبر كالمدفوع تحت الحساب، ويبقى تابعًا للتصفية النهائية بعد التنضيض. أما في العمليات المصرفية، فلا يتصور التنضيض الكلي حتى في نهاية السنة، لأن عمليات التمويل لا تزال فيها جارية بصفة مستمرة كل يوم.
وحل هذه المشكلة فيما يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن يصفى حساب الشركة في نهاية كل سنة على أساس التنضيض التقديري، وهو التقويم، وحاصل ذلك أن جميع الأعيان التي يملكها البنك في نهاية السنة من خلال عمليات التمويل، يشتريها مساهمو البنك من سلة الودائع الاستثمارية، ويضاف قيمتها إلى الأموال الناضة، ويوزع الربح على ذلك الأساس، وتنتهي عقود المضاربة والشركة لتلك السنة، وفي بداية السنة الجديدة تعقد الشركة بين المودعين والمساهمين من جديد، وتعتبر قيمة الأعيان المذكورة حصة من رأس مال المساهمين لهذه الشركة الجديدة، لأنهم يشغلونها لصالح السلة الاستثمارية مرة أخرى بعد أن دفعوا قيمتها إلى السلة الاستثمارية وملكوها. وغاية الأمر أن تلزم منه الشركة بالعروض، ولكن ذلك جائز عند المالكية وبعض الحنابلة على أساس القيمة مطلقًا، وعند الشافعي رحمه الله إن كانت من ذوات الأمثال (2) وعند الحنفية إن اختلطت العروض بعضها ببعض (3) ولا بأس بالأخذ بقول المالكية في هذه المسألة للتيسير على الناس (4) .
(1) راجع لطريق هذه المحاسبة وأمثلته (محاسبة الشركات والمصارف في النظام الإسلامي) ، ص 179 ـ 181، طبع القاهرة سنة 1404 هـ.
(2)
المغني، لابن قدامة: 5/ 124 ـ 125.
(3)
بدائع الصنائع، للكاساني: 6/ 59.
(4)
راجع امداد الفتاوى، للشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله: 3: 395.
2-
إن طبيعة المضاربة والشركة التقليدية تقتضي أن تكون جميع الأموال مدفوعة في وقت واحد إلى التجارة المشتركة، حتى ذكر الفقهاء أنه لو دفع رب المال مالًا آخر بعد تشغيل الأول، لم يجز المضاربة في المال الثاني، قال النووي رحمه الله تعالى:
(لو دفع إليه ألفًا قراضًا، ثم ألفًا، وقال: ضمه إلى الأول، لم يجز القراض في الثاني، ولا الخلط، لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحًا وخسرانًا، وربح كل مال وخسرانه يختص به)(1)
وهذا إذا كان المالان جميعًا لرجل واحد، أما إذا كان المالان لرجلين مختلفين، فالحكم كذلك بالطريق الأولى، لأن المنافع متفاوتة.
أما الودائع المصرفية، فلا تدفع إلى البنك في وقت واحد، ولا تشغل في الأعمال الاستثمارية إلا في أوقات مختلفة، فلا يمكن تطبيقها على الأساس المعروف للشركة أو المضاربة التقليدية.
3-
ثم إن سحب بعض الأموال قبل نهاية الفترة إنما يستلزم فسخ الشركة في ذلك الجزء المسحوب، ويمكن أن يكون الجزء المسحوب لم يربح شيئًا إلى وقت السحب، أو يكون قد ربح أكثر مما يقدر بحساب الإنتاج اليومي، وفي الصورة الأولى يحوز هذا الجزء حصة من ربح مودع آخر، وفي الصورة الثانية تنتقل حصته إلى مودع آخر.
(1) روضة الطالبين: 5/ 148.
ولا سبيل إلى إبعاد هذه العوائق إلا أن نقول: إن الشركة الجماعية المستمرة نوع جديد مستقل من أنواع الشركات، ولا يجب لجوازه أن يتوفر فيه جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة، لكونه نوعًا مستقلًا، ولا يحكم بعدم جوازه إلا إذا تضمن ذلك إخلالا بأحد الشروط المنصوصة لجواز الشركة.
ولا شك أنه ليس هناك نص في القرآن والسنة يحصر الشركة المشروعة في الأنواع التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وإنما بنى الفقهاء هذا التقسيم على استقراء ما كان معمولًا به في بيئتهم، ولم تكن بعض هذه الأنواع إلا وليدة حاجات الناس في التجارة، مثل شركة التقبل، أو شركة الوجوه، فإنه لا يوجد لهما ذكر في نصوص القرآن والسنة، ولكنهم جوزوهما لمكان الحاجة، فلو حدث هناك قسم آخر للشركة فإنه لا يحكم ببطلانها بمجرد كونها لا تدخل في أحد الأقسام المذكورة في كتب الفقه، ما لم يعارض المبادئ الأساسية المنصوصة في القرآن أو السنة.
وعلى هذا فنستطيع أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد للشركة أحدثتها حاجة الناس في مداولاتهم المعاصرة، وما دامت المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، فإنها لا تفسد بمجرد أنها لا تنطبق عليها بعض الفروع الجزئية التي ذكرها الفقهاء. ويلاحظ أن أموال جميع الشركاء مخلوطة في هذه الشركة، وكل منها معرض للربح والخسارة، ولا ينفرد فيها أحد الشركاء بتخصيص مبلغ معلوم من الربح، بل يشارك كل واحد منهم في الربح والخسارة على حد سواء لا فضل لأحدهم على الآخر، فإن المبدأ الأساسي للشركة موجود في هذا النوع من الشركة.
أما توزيع الربح على أساس الإنتاج اليومي، فإنه وإن لم يكن توزيعًا للربح الذي نتج فعلًا على كل مال على حدة، ولكنه توزيع للربح التقديري الذي حصل على مجموع الأموال في فترة واحدة، وذلك على أساس التراضي بين الشركاء منذ أول نشأة الشركة، في حين أنه لا يوجد للتوزيع أساس عادل سواه في مثل هذه العمليات.
ويوجد لمثل هذا الأساس نظيران في الأنواع القديمة للشركة أيضًا:
أما النظير الأول: فهو شركة الأعمال، ويسمى شركة الأبدان وشركة التقبل أيضًا، وهو أن يشترك رجلان في تقبل الأعمال لغيرهما على أن ما يحصلان عليه من الأجرة يكون بينهما على ما شرطا، وقد صرح الفقهاء بأن ذلك جائز وإن كانت أعمالهما متفاوتة في الكمية والكيفية، فلو اشترط المشاركان أن الأجرة الحاصلة تنقسم عليهما نصفين، فإن كل واحد منهما يستحق النصف، وإن كان عمله أقل من النصف، لأن الشركة إنما وقعت على ضمان العمل، وهو مضمون عليهما نصفين. (1)
والنظير الثاني: ما ذهب إليه الحنفية من أن خلط مال الشركاء ليس بشرط لصحة الشركة، ومقتضى ذلك أنه لو كان لأحد الشريكين دراهم وللآخر دنانير، فعقدا الشركة بدون أن يخلطا أموالهما فاشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، فإنهما يشتركان في الربح. قال الكاساني:
(واختلاط الربح يوجد، وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، لأن الزيادات وهي الربح، تحدث على الشركة)(2)
ومقتضى هذين النظيرين أنه لا يجب شرعًا أن يكون ربح كل واحد من الشركاء مبينًا على ما حصل من مساهمته المالية أو العملية فعلًا، بل يجوز أن يتفقا على أساس آخر لتوزيع الربح بينهما.
وعلى هذا، فلو اتفق الشركاء على أساس الإنتاج اليومي لتوزيع الربح بينهما، فإن ذلك لا يبدو مصادمًا لنص من نصوص الشريعة الإسلامية، وإنما هو طريق حسابي مخصوص لجأ إليه الشركاء لفقدان أساس علمي آخر في شركة جماعية مستمرة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا.
(1) راجع: بدائع الصنائع، للكاساني: 6/ 65.
(2)
بدائع الصنائع: 6/ 60.
الاسترداد:
إن توزيع الأرباح على طريق النمر للفترة الكاملة إنما يمكن إذا كان حساب المرء في البنك مفتوحًا، بمعنى أن يكون له مبلغ في حساب الاستثمار طيلة فترة الحساب، وإن كان هذا المبلغ يزيد وينقص بالسحب والإيداع مرة بعد أخرى. أما إذا أراد المرء أن يغلق حسابه بسحب جميع مبلغه في حساب الاستثمار قبل نهاية الفترة، فهذا هو الاسترداد.
وحكم هذا الاسترداد أنه إن كان حساب الاستثمار يشتمل على نقود وديون فقط، فلا سبيل إلى الاسترداد النهائي قبل انتهاء فترة المضاربة. وغاية ما يمكن للمصارف الإسلامية أن يردوا إليه كامل مبلغه مع شيء من الربح المتوقع، ولكن لا بد أن يظل هذا الدفع خاضعًا للتصفية النهائية في آخر الفترة حيث يتم عندئذ حساب الأرباح والخسائر بطريق النمر، فإن كان المبلغ المدفوع ناقصًا من حقه حسب الحساب النهائي، دفع إليه مبلغ زائد لجبر ذلك النقصان وإن كان زائدًا على حقه، استرد منه القدر الزائد.
وأما إن كان حساب الاستثمار مشتملًا على أعيان وموجودات، أو على خلطة من الأعيان والنقود والديون، والغالب فيها أعيان (1) ، فيمكن الاسترداد النهائي قبل انتهاء الفترة، وذلك بأن يشتري الوعاء في حصته في الوعاء، ويمكن أن تتحدد قيمة الشراء على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة إلى ذلك اليوم، ولا يجوز أن يلتزم البنك شراء حصة صاحب الحساب بمبلغ الإيداع أو القيمة الاسمية، لأنه ضمان لرأس المال، وإنما تقدر قيمة الشراء في حينه على أساس تقويم الوعاء أو على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة برضا الطرفين، وينطبق على ذلك ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) ونص القرار في هذا الخصوص ما يلي:
لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع، ولو كان معلقًا أو مضافًا للمستقبل، وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع، وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء، وبرضا الطرفين (2) . وقد أوضحت طريق تقدير القيمة في بحثي المعروض على المجمع بشأن (سندات المقارضة)(3) .
(1) هذا الشرط مبني على ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي في قراره 30 (5/4) ، بشأن سندات المقارضة. أما على قول الحنفية، فمقتضى قولهم في مسألة مد عجوة أن يجوز البيع فيما إذا كان بعض أصول الخلط عروضا، سواء كان أكثر موجوداتها نقودًا أو ديونًا، بشرط أن تكون القيمة زائدة على حصة النقود والديون صرفًا للزائد إلى العروض.
(2)
قرار رقم: 30 (5/4) ، من قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة بجدة سنة 1408 هـ.
(3)
بحوث في قضايا فقهية معاصرة، لمحمد تقي العثماني، ص 237 ـ 239، طبع دار القلم بيروت، والعدد الرابع من مجلة المجمع، وأوضحت ذلك أيضًا في كتابي بالإنجليزية: An Introduction To Islamic finance. P 63 to 65
الخلاصة
خلاصة ما توصلت إليه في بحثي هذا هو ما يلي:
1-
كما يجوز أن تكون المضاربة مع رب المال الواحد وهي المضاربة الفردية، كذلك يجوز أن يكون للمضارب الواحد عدة أرباب الأموال، ولا حصر لعددهم شرعًا، وهذا ما نسميه (المضاربة المشتركة) أو (المضاربة الجماعية) .
2-
إن المضاربة المشتركة أو الجماعية تنشئ علاقتين.
العلاقة الأولى: هي علاقة أرباب الأموال فيما بينهم، وهي علاقة شركة العقد، والعلاقة الثانية: بين مجموع أرباب الأموال والمضارب، وهي علاقة مضاربة.
3-
بما أن علاقة أرباب الأموال بعضهم ببعض في علاقة شركة العقد، وأن عملهم في الشركة هو تعاملهم مع المضارب، فيجوز على مذهب الحنفية والحنابلة أن تتفاوت نسب أرباحهم، ولا يجب أن تكون مساوية لنسبة استثمارهم في الوعاء.
4-
وكذلك يجوز على مذهب الشافعية والحنابلة أن تكون نسبة ربح المضاربة تجاه رب مال واحد مختلفة عن ربحه تجاه رب مال آخر، وإنما ذكرنا ذلك بيانًا للحكم، ولكن يصعب تطبيقه في البنوك وصناديق الاستثمار في عامة الأحوال.
5-
كما يجوز أن يكون المضارب شخصًا حقيقيًا، يجوز أن يكون شخصًا معنويًا، وفي هذه الحالة التزامات المضارب وحقوقه ترجع إلى هذا الشخص المعنوي، ولا ترجع إلى الجمعية العمومية، أو إلى مجلس الإدارة، أو إلى المدير، وإن هذا الشخص المعنوي يبقى بصفته مضاربًا، ولو وقع أي تغيير في الأشخاص الحقيقيين في مجلس الإدارة وغيره.
6-
إن كانت مؤسسة مالية هي المضاربة بصفتها شخصًا معنويًا، فإن النفقات غير المباشرة لهذه المؤسسة، مثل رواتب الموظفين، ونفقات المكتب والكهرباء، وما إلى ذلك تتحملها المؤسسة كمضارب، ولا تحمل هذه النفقات على وعاء المضاربة، أما النفقات المباشرة، فهي التي تكون على وعاء المضاربة.
7-
لا يجوز عند جمهور الفقهاء توقيت المضاربة، بمعنى أنه لا يجوز للمضارب بعد المدة بيع الأصول الموجودة في الوعاء، ويجوز التوقيت بمعنى أنه لا يدخل في العمليات الجديدة.
8-
لا يجوز عند جمهور الفقهاء أن تلزم المضاربة على الفريقين لمدة محددة بحيث لا يمكن لأحد الفريقين فسخها قبل تلك المدة.
9-
إن المضاربة المشتركة المستمرة التي تظل فيها عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل واحد كل يوم، وتتوزع فيها الأرباح بحساب النمر؛ نوع جديد من الشركة، وبما أنه لا يصادم المبادئ الأساسية للشركة والمضاربة ويحقق بعض المصالح المطلوبة، فينبغي أن يحكم بجوازه.
10-
إن كان وعاء المضاربة مشتملًا على نقود وديون فقط، فلا يجوز لأحد من أرباب الأموال أن يسترد ماله نهائيًا قبل التصفية، وما يدفع إليه يعتبر دفعة تحت الحساب، ويكون خاضعًا للتصفية النهائية.
11-
أما إذا كان وعاء المضاربة مشتملًا على أعيان، وهي غالبة، فيجوز الاسترداد بأن يشتري الوعاء حصة رب المال الذي يريد الخروج، ولكن يجب أن يكون سعر الشراء يتعين في حينه على أساس تقويم الوعاء، أو على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة، ولا يجوز التزام الوعاء شراء الحصة بقيمتها الاسمية، لأنه يؤدي إلى ضمان رأس المال.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.