الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للخروج إلى الحديبية
المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية
…
المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية:
كانت عداوة قريش للمسلمين لا تخفى على من له أدنى علم بأحداث الجزيرة في ذلك الوقت، فآخر هجوم قامت به على المدينة - كان قبل سنة فقط من خروج المسلمين لهذه الغزوة1 - حشدت فيه كل قواها المادية والمعنوية مستهدفة القضاء على المسلمين، وإبادة خضرائهم، لكن الله ردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، فغيظهم على المسلمين يزداد يوماً بعد يوم، ومن المستحيل أن يمكنوا المسلمين من الدخول إلى مكة عن رضى منهم وطواعية، بل لن يتوانوا في الإيقاع بهم إن وجدوا سبيلاً إلى ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على علم بعداوة قريش وحنقها لذلك فقد أخذوا أهبتهم وحيطتهم قبل خروجهم من المدينة.
قال ابن إسحاق: "واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب"2 ا. هـ
1 كان ذلك في غزوة الخندق، وهي في سنة خمس على الراجح. انظر: مرويات غزوة الخندق لإبراهيم عمير مدخلي ص 35 - 50.
2 سيرة ابن هشام 3/308.
كذا ذكره ابن إسحاق دون سند، لكن أشارت إليه آيات سورة الفتح - ولا شك أن القرآن هو أول مصادر السيرة النبوية1 - قال تعالى:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا* بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} 2.
فقد ورد في تفسير هذه الآية ما يلي:
(13)
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمرو وقال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} قال: أعراب المدينة جهينة ومزينة استتبعهم لخروجه إلى مكة قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوا فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم فاعتلوا بالشغل"3.
وسند هذا الأثر صحيح إلى مجاهد، وهو مرسل، لكن يشهد له مرسل قتادة التالي.
(14)
قال ابن جرير حدثنا بشر4 قال: ثنا يزيد5 قال: ثنا سعيد6 عن قتادة7 قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} ، قال: ظنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم8.
1 انظر مصادر السيرة النبوية وتقويمها لفاروق حمادة: 23.
2 سورة الفتح الآية: 11 - 12.
3 تفسير ابن جرير 26/77، ورجال الاسناد تقدمت تراجمهم، انظر حديث رقم (4) .
4 بشر بن معاذ العقدي - بفتح المهملة والقاف - أبو سهل البصري الضرير، صدوق، مات سنة بضع وأربعين ومائتين: ت، س، ق. تقريب:45.
5 يزيد بن زريع - بتقديم الزاي مصغراً - البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة: ع. تقريب: 382.
6 هو: سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم، أبو النضر البصري، ثقة حافظ، له تصانيف لكنه كثير التدليس، واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة، مات سنة ست، وقيل سبع وخمسين ومائة: ع. تقريب: 124.
7 قتادة بن دعامة.
8 تفسير ابن جرير 26/78.
وسنده صحيح إلى قتادة لشاهدة من الحديث السابق.
وقد ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق سفيان عند البخاري: أنهم كانوا على استعداد لقتال من اعترض سبيلهم، وهذا يفيد أنهم قد حملوا السلاح، يقول في الحديث: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا أيها الناس عليّ أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله
…
"1.
وكان مع المسلمين خيل كذلك لكن لم أقف على شيء في عددها سوى ما ذكر ابن سعد قال: وقدم عباد بن بشر أمامه طليعة في عشرين فرساً من خيل المسلمين2.
وليس فيما ذكر ابن سعد تحديد لعدد الخيل بل يفهم من كلامه أنها كانت أكثر مما ذكر، لأن (من) في قوله من خيل المسلمين تبعيضية3.
وإذن فالنبي صلى الله عليه وسلم قد استعد بالرجال كما ذكر ابن إسحاق وبالسلاح، وهو مفهوم حديث المسور ومروان وبالخيل كما ذكر ابن سعد، وقد نص على ذلك كله حديث سلمة بن الأكوع يقول فيه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية فنحرنا مائة بدنة ونحن بضع عشرة مائة ومعهم عدة السلاح والرجال والخيل
…
4
وهذا الحديث ضعيف لأنه من طرق موسى بن عبيدة الربذي، وقد ضعفه الحفاظ لكن يستأنس به مع ما سبق من الشواهد وأقوال أصحاب المغازي.
وقد ذكر الواقدي أنهم خرجوا بغير سلاح وأورد أثرين عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة يفيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يحمل السلاح.
1 انظر ص 125.
2 الطبقات الكبرى 2/95.
3 وقد ذكر صاحب السيرة الحلبية أنه كان مع المسلمين مائتا فرس 2/690، وتبعه محمد باشميل، صلح الحديبية:126.
4 تاريخ ابن أبي شيبة: لوحة 60، وسيأتي برقم (32) .
(15)
قال الواقدي: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه، ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري ولست أحب أحمل السلاح معتمراً"1.
(16)
وقال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو حملنا السلاح معنا فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لست احمل السلاح، إنما خرجت معتمراً" ا. هـ2
وهذان الأثران ضعيفان، إذ لا أسانيد لهما، وقول الواقدي مرجوح لمخالفته غيره من أهل المغازي.
وقد أخرج ابن جرير بإسناده إلى ابن أبزى رواية يثبت فيها خلاف ما ذكر الواقدي من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:
(17)
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد3 قال: حدثنا يعقوب القمي4 عن جعفر5 - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى6 قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع7، قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - يا رسول الله ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله
1 مغازي الواقدي 2/573.
2 مغازي الواقدي 2/573.
3 محمد بن حميد بن حبان الرازي حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين: د، ت، ق. تقريب: 295، وانظر: التاريخ الكبير 1/1/69، ميزان الاعتدال 3/530.
4 يعقوب بن عبد الله بن سعد الأشعري، أبو الحسن القمي - بضم القاف وتشديد الميم - صدوق يهم، مات سنة أربع وسبعين ومائة: خت، الأربعة. تقريب:386.
5 جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي - بضم القاف - قيل اسم أبي المغيرة دينار، صدوق يهم، من الخامسة: بخ، د، ت، س، فق. تقريب:56.
6 سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي، ثقة من الثالثة: ع. تقريب: 123.
7 الكُراع: اسم لجميع الخيل. النهاية 4/165.
حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {عَذَابًا أَلِيمًا} 1.2
هذا الحديث مرسل، وسنده إلى ابن أبزى ضعيف، لأن فيه ابن حميد، وهو محمد بن حميد الرازي: ضعفه أبو حاتم وغيره واتهمه أبو زرعة وغيره بالكذب3.
وفي هذا الحديث - في الشطر الأخير منه - نكارة نبّه عليها بعض العلماء:
فقد نقله ابن كثير عن ابن جرير ثم قال: رواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه، وهذا السياق فيه نظر، فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية، لأن خالداً رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين كما ثبت في الصحيح ولا يجوز أن يكون عمرة القضاء، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام القابل، فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه، فإن قيل فيكون يوم الفتح.
فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هدياً، وإنما جاء محارباً مقاتلاً في جيش عرمرم، فهذا السياق فيه خلل، وقد وقع فيه شيء فليتأمل، والله أعلم ا. هـ4
وقال ابن حجر: وفي صحته نظر؛ لأن خالداً لم يكن أسلم في الحديبية، وظاهر السياق أن هذه القصة كانت في الحديبية، فلو كانت في عمرة القضية لأمكن، مع أن المشهور أنهم فيها لم يمانعوه ولم يقاتلوه5 ا. هـ
قلت: التحقيق أن ما ذكره ابن كثير هو الأظهر، من أنه ليس في الحديبية، ولا في عمرة القضية، ولا في الفتح، وآفته ابن حميد قال عنه الذهبي: وهو مع إمامته منكر الحديث صاحب عجائب ا. هـ6
1 سورة الفتح آية: 24.
2 تاريخ الأمم والملوك 2/72، تفسير ابن جرير 26/95.
3 ميزان الاعتدال 3/530، تهذيب التهذيب 9/127.
4 تفسير ابن كثير 4/193.
5 الكافي الشافي بتخريج أحاديث الكشاف 2/342 حاشية الكشاف.
6 سير أعلام النبلاء 11/503.