الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الدروس والعبر المستفادة من بعض مواقف الغزوة
المبحث الأول: أتهام العقل أمام النصوص الصريحة
…
المبحث الأول: اتهام العقل أمام النصوص الصريحة:
جاء في حديث المسور ومروان وغيره في قصة الحديبية أن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة رضي الله عنهم كرهوا الصلح مع قريش1 لما رأوا في شروطها من الظلم والإجحاف في حقهم، لكنهم ندموا بعد ذلك على صنيعهم ورأوا أنهم قد وقعوا في حرج، إذ كيف يكرهون شيئاًَ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت تلك الحادثة درساً لهم فيما استقبلوا من حياتهم، وكانوا يحذرون غيرهم من الوقوع فيما وقعوا فيه من الاعتماد على الرأي:
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهاداً فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل"2.
وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: "اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"3.
ولقد ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه برهة من الزمن - متخوفاً أن ينزل الله به عقاباً للذي صنع يوم الحديبية:
فكان رضي الله عنه يتحدث عن قصته تلك ويقول: "فما زلت أصوم وأتصدق
1 انظر ص: 314 وما بعدها.
2 انظر ص: 324.
3 انظر ص: 319.
وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً"1.
هذا فعل أهل الورع والتقوى والذين يقدرون نصوص الشريعة حق قدرها.
فليت أولئك الذي يردون النصوص الصريحة لحدس عقولهم2 يعتبرون بما في هذه الحادثة.
قال ابن الديبع الشيباني تعليقاً على هذه الحادثة: "قال العلماء لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جار على أتم الوجوه وأكملها غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره"3 اهـ.
وقد ذكر ابن القيم4 أن الرأي الباطل أنواع: فذكر منها الرأي المخالف للنص، والكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط في معرفة النصوص وفهمها، والرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية، ثم قال: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله.
كم نُفي بهذه الآراء من حق، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأُحيى بها من ضلالة، وكم هدم من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان، وأكثر أصحاب الجحيم، هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم، ولا عقل، بل هم
1 انظر ص: 316.
2 يقولون إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل، حكاه ابن تيمية عن جماعة منهم: الرازي والغزالي، ثم بين فساده، وكذلك فنده ابن القيم.
انظر: درء التعارض بين العقل والنقل 1/ 4، ومختصر الصواعق 1/129.
وقد تبنى تلك النظرية الفاسدة بعض الناس في هذا العصر فجعلوا عقولهم مقياساً لقبول النصوص وردها، ولو كانت في الصحيحين، انظر للرد عليهم: الرد على من كذب الأحادب الصحيحة الواردة في المهدي: 44، 47، ومرويات غزوة بدر:47.
3 حدائق الأنوار ومطالع الأسرار 2/622.
4 أعلام الموقعين 1/71-72.