الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلعل ما حصل هو سبق نظر من الهيثمي1 رحمه الله، أو أنه أخذه عن نسخة أخرى قد انقلب السند فيها.
فالحاصل: أن حكم الهيثمي على سند البزار إنما هو على السند المقلوب لا السند الأصلي، الذي فيه مبارك بن فضالة، والله أعلم.
1 وقد تابعه على ذلك ابن حجر، انظر: زوائد مسند البزار، لوحة:202.
المبحث الخامس: موقف المسلمين من صلح الحديبية
المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد
…
المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد:
لقد تألم المسلمون كثيراً ووجدوا في أنفسهم من بعض الشروط التي أملتها قريش، وجدوا في أنفسهم أنهم رأوا أن الرضا بها يعبر عن الضعف والاستكانة أمام الكفار بل صرح عمر رضي الله عنه بذلك حين قال:"فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن"1.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي تلك الشروط ووقّع العقد مع قريش عليها، وصرح بأنه إنما يفعل ذلك بأمر الله2، فليس أمام المسلمين إلا التسليم والرضا بما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3.
ولقد سلموا لأمر الله ورسوله تسليماً يصاحبه الإيمان بأن الخير فيما اختاره الله، وقد ترجموا ذلك بأفعالهم، فقد رأينا في قصة أبي جندل4 مع أبيه كيف ابتزه من بين ظهرانيهم وهو يستغيث فلا يستجاب له، وهذا أبو بصير يلحق بهم في المدينة ثم تسترجعه قريش من ثم
…
فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلوا من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد
1 من حديث المسور ومروان.
2 صرح بذلك في جوابه لعمر ص:
3 سورة الأحزاب الآية: 36.
4 تقدمت قصته في المبحث السابق.
جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً1، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله: قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسْعَر2 حرب، لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سِيْفَ3 البحر
…
"4.
وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بسياق آخر فيه شيء من التفصيل:
يقول فيه ما نصه: "قالا: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن بها، أفلت إليه أبو بصيرة عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجروه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعا إليه كتابهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت، وإنا لن نغدر فالحق بقومك، فقال: يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبر يا أبا بصير، واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً، قال: فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال أنظر إليه، قال إن شئت، فاستلّه فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل قد رأى فزعاً فلما انتهى إليه قال: ويحك مالك، قال: قتل صاحبكم صاحبي، فما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً5 السيف، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، امتنعت بنفسي عن المشركين أن يفتنوني في ديني، وأن يعبثوا بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ذعراً: - بالضم - خوفاً. ترتيب القاموس 2/258.
2 مسعر حرب: المسعر: ما تحرك به النار من آلة الحديد، يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة. النهاية 2/367.
3 سيف البحر: أي ساحله. المصدر السابق 2/434.
4 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35) .
5 متوشحاً السيف: متقلده. ترتيب القاموس 4/614.
ويل أمه، مِحَش1 حرب، لو كان معه رجال، فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص
…
"2.
وأخرجه من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً فذكر قدومه المدينة المنورة بنحو ما في رواية ابن إسحاق ثم قال: "فبعث في أثره الأخنس بن شريق في رجلين من بني منقذ3 أحدهما زعموا مولى، والآخر من أنفسهم اسمه جحش بن جابر وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلاً4، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما فخرجا حتى إذا كانا بذي الحليفة سلّ جحش سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه، فناوله إليه فلما قبض عليه ضربه حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف المنقذي بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه حتى برد وطلب الآخر فجمز5 مذعوراً مستخفياً حتى دخل المسجد
…
" وذكر نحو ما في رواية ابن إسحاق ثم زاد: "وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله فقال خَمِّسْ يا رسول الله قال: إني إذا خمست لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، ثم اذهب حيث شئت، فخرج أبو بصير
…
"6.
وأخرجه7 من طريق أبي الأسود عن عروة مرسلاً بنحو مرسل الزهري إلا أن فيه اختصار.
وقصة أبي بصير وردت موصوله كما سبق في حديث المسور ومروان من طريق معمر وابن إسحاق وصرح ابن إسحاق بالسماع فلا يضرها الإرسال.
فقصة أبي بصير هذه مع ما سبق من قصة أبي جندل ترسم لنا صورة واقعية لوفاء المسلمين بعهودهم إذ لم يحل بينهم وبين منع إخوانهم من قريش سوى الوفاء
1 مِحشّ حرب: يقال: حش الحرب إذا أسعرها وهيجها تشبيها بإسعار النار. النهاية 1/389.
2 السنن الكبرى 9/227، وتقدم الكلام على إسناده حديث رقم (36) .
3 بنو منقذ: بطن من بني عامر بن لؤي، وهو منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي. جمهرة أنساب العرب: 170 - 171.
4 الجعل الأجرة على الشيء فعلاً أو قولاً. النهاية 1/276.
5 فجمز: أي أسرع هارباً من القتل. النهاية 1/294.
6 دلائل النبوة 2، لوحة:243.
7 دلائل النبوة 2، لوحة:245.
بالعهد، والوفاء وحده، وإلا فقد لحق بالمسلمين قبيل الصلح ناس من قريش ليسوا بأعز عليهم من أبي جندل وأبي بصير، وجاء في طلبهم بعض سادة قريش فلم يمكنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، كما بين ذلك حديث علي الآتي:
(113)
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز1 بن يحيى الحراني حدثني محمد2 - يعني ابن سلمة - عن محمد3 بن إسحاق عن أبان4 بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي5 بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عُبْدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية، قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"وما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا"، وأبى أن يردهم وقال:"هم عتقاء الله عز وجل"6.
وأخرجه البيهقي7 من طريق عبد العزيز بن يحيى الحراني به فذكره بمثله.
وأخرجه الترمذي من وجة آخر بسياق آخر:
(114)
قال: حدثنا سفيان8 بن وكيع قال: حدثني أبي9 عن شريك10
1 عبد العزيز بن يحيى بن يوسف البكائي الأصبع الحراني، صدوق ربما وهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين: د، س. تقريب:216.
2 محمد بن سلمة بن عبد الله الباهلي مولاهم الحراني، ثقة، مات سنة إحدى وتسعين ومائة على الصحيح: ز، م، الأربعة. تقريب: 299، تهذيب التهذيب 9/193 - 194.
3 محمد بن إسحاق بن يسار.
4 أبان بن صالح بن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وثقه الأئمة ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه، مات سنة بضع عشرة ومائة وهو ابن خمس وخمسين: خت، الأربعة. تقريب:18.
5 ربعي بن حراش - بكسر المهملة وآخره معجمة - أبو مريم العيسى الكوفي، ثقة عابد مخضرم، مات سنة مائة، وقيل غير ذلك: ع. تقريب: 100.
6 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد:2700.
7 السنن الكبرى 9/229.
8 سفيان بن وكيع بن الجراح أبو محمد الرؤاسي الكوفي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، مات سنة سبع وأربعين ومائتين: ت، ق. تقريب: 129، تهذيب التهذيب 4/124.
9 وقع في الأصل عن ((أ ُبَيْ)) وهو تصحيف صححته من الأطراف للمزي 7/371.
10 شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة، أبو عبد الله صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين بعد المائة: خت، م، الأربعة. تقريب:145.
عن منصور عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب بالرحبة1 قال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وناس من المشركين فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا، قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد امتحن الله قلبه على الإيمان"، قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف2 النعل، وكان قد أعطى علياً نعله يخصفها، ثم التفت إلينا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"3.
وأخرجه أحمد4 عن أسود بن عامر5 عن شريك به مختصراً ولم يذكر أن ذلك في الحديبية.
وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ربعي عن علي، قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم يكذب ربعي بن حراش في الإسلام كذبة، وأخبرني محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: منصور بن المعتمر أثبت أهل الكوفة"6.
وقد نقل السيوطي7 تصحيح هذا الحديث عن ابن جرير.
قلت: نعم الحديث صحيح، ولكن بمجموع طرقه.
1 الرحبة: بفتح الراء والمهلمة والموحدة - تنسب إلى خنيس بن سعد أخي النعمان ابن سعد جد أبي يوسف القاضي، يقال لها رحبة خنيس وهي محلة بالكوفة. معجم البلدان 3/33.
2 خاصف النعل: الذي يخرزها، من الخصف وهو الضم والجمع. النهاية 2/38.
3 سنن الترمذي، كتاب المناقب:3715.
4 مسند أحمد 1/155.
5 الأسود بن عامر الشامي، نزيل بغداد يكنى أبا عبد الرحمن، ويلقب شاذان ثقة، مات في أول سنة ثمان ومائتين: ع. تقريب: 36.
6 سنن الترمذي 5/634.
7 جمع الجوامع 2/53.