الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: في صلح الحديبية
المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته
…
المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته:
إننا حين نستعرض الأحداث والملابسات التي سبقت الصلح ووطّأت ذلك التوتر الناجم عن شوق المسلمين إلى البيت من جانب، وعن حمية قريش وحنقها على المسلمين من جانب آخر - حين نستعرض تلك الأحداث والملابسات نجد أن داعي الصلح وسببه قاسم مشترك بين الفريقين، فقد عرضت للمسلمين أحداث وطنت نفوسهم لقبول الصلح، كما عرضت للمشركين أحداث أخرى وملابسات ألجأتهم لقبول الصلح والرضا به.
(أ) السبب في ميل المسلمين إلى الصلح:
خرج المسلمون من المدينة وهم أشد ما يكونون شوقاً إلى البيت الحرام، ولقد كانوا عازمين على دخول مكة، وأداء نسكهم مهما كلفهم ذلك من ثمن، وفي الوقت نفسه كانوا حاسبين حساب قريش - لما كانوا يعلمونه من عدائها لهم وحنقها عليهم - ولذلك أخذوا أهبتهم لاجتياح كل ما من شانه أن يعوق طريق سيرهم، ولقد تجلى موقفهم بوضوح عندما أتاهم نبأ قريش وإعدادها لصدهم، فقد جاء في حديث المسور ومروان ما نصه: "حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذي يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتوا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين
وإلا تركناهم محروبين؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: فامضوا على اسم الله"1.
نلاحظ من خلال هذا النص حدة موقف المسلمين فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في الإغارة على أهالي أولئك الذين قاموا بتعزيز جانب قريش ثم يستقر رأيهم أخيراً على قتال كل من حاول صدهم عن البيت.
كان هذا موقف المسلمين الذي استقر عليه رأيهم بعد المشورة، لكن رأينا بعد ذلك تصريحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يباين ذلك الموقف تماماً.
يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها
…
".
بالمقارنة بين هذا النص والنص السابق نرى الفارق بينهما، ذلك أن النص السابق يشعر بالحزم والصرامة، أما الأخير فيوحي باللين والتسامح إلى حد بعيد.
فما الذي حول الموقف السابق يا ترى؟
هذه العبارة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل في غضونها السماحة واللين سبقها في الحديث ما نصه: "حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل، حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة
…
"2 الخ.
فهذا النص يفسر لنا الحامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك التصريح الذي حول موقفه الأول، فما الذي جاء في هذا النص؟
جاء فيه حادثة بروك ناقته صلى الله عليه وسلم، وإذن فبروك الناقة هو السبب في تحويل موقفه، ولا أعني ببروك ناقته البروك ذاته لكن أقصد ما وراء البروك وهو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة
…
".
1 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4178 - 4179، وتقدم تخريحه برقم (35) .
2 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2731 - 2732 وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35) .
والذي حبس الفيل عن مكة هو الله سبحانه، وإذن فالله هو الذي حبس ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ليقضي الله أمراًً كان مفعولاً.
وحين أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر أصدر التصريح الذي غير به موقفه الأول إلى ذلك الموقف السمح المتجاوب، فكان له الأثر الفعال في نجاح الصلح حيث كان الجانب الإيجابي في مقابل سلبيات قريش.
(ب) السبب في انصياع قريش للصلح:
أما السبب الذي ألجأ قريشاً لقبول الصلح والرضا به، فيرجع إلى بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملابسات أخرى، وتوضيح ذلك:
لما هب الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على القتال حتى يفتح الله عليهم أو يموتوا كان قد حضر ذلك المشهد بعض رسل قريش، فأذهلهم الأمر ثم نقلوا تلك الصورة إلى قومهم، فأحدثت في أنفسهم هزة عنيفة جعلت منهم آذاناً صاغية لقبول الصلح، فقد جاء في مرسل عروة بن الزبير عند البيهقي ما نصه:"ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله، فبايعوا فثاب المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على ألا يفروا أبداً، فرعبهم الله فأرسلوا من كانوا ارتهنوا من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح"1.
فهذا النص يبرز لنا مدى تأثير البيعة في نفوس المشركين.
وقد عزز أثر تلك البيعة ملابسات أخرى من قبل رسل المشركين أنفسهم:
فعروة بن مسعود حين رجع إلى قريش عظم لهم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره لهم من أفعال الصحابة ما يبرهن على أنهم لن يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء أبداً وأنهم سيبذلون نفوسهم دونه، ثم نصح قريشاً بقبول الهدنة، وأن يخلوا بين المسلمين وما جاءوا له.
فقد جاء في حديث المسور ومروان من رواية معمر ما نصه:
"فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى
1 دلائل النبوة 2، لوحة 228، وتقدم الكلام على سنده، انظر حديث رقم (65) .
والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابة ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلى وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عند، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"1.
وجاء في حديثهما من طريق ابن إسحاق نحو ما تقدم في رواية معمر وزاد: "ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم
…
"2.
وعروة بن مسعود له منزلته وشهرته في أوساطهم، حتى قال أكثر المفسرين المراد بالآية:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 3 الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود4.
لذلك كان لكلامه وقعة في نفوسهم وقد أشار إلى ذلك مرسل عروة بن الزبير عند ابن أبي شيبة فقد جاء فيه ما نصه: "فلما سمعوا مقالته أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص فقالوا: "انطلقوا إلى محمد فإن أعطاكم ما ذكر عروة فقاضياه
…
"5.
وقال ابن حجر عن عروة بن مسعود: "وكانت له اليد الطولى في تقرير الصلح"6.
وكان من بين رسل قريش الذين شنعوا عليها تلك الغطرسة أيضاً:
الحليس بن علقمة: فقد جاء خبره في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق قال: "فبعثوا الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رآه يسيل من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش قد رأيت مالا يحل صده عن البيت، الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا:
1 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35) .
2 مسند أحمد 4/324، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36) .
3 سورة الزخرف الآية: 31.
4 تفسير ابن كثير 4/126 - 127.
5 تقدم ص:
6 الإصابة 6/416.