الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر نحوه ابن كثير أيضاً1، وبهذا يتبين أن ما ذهب إليه ابن كثير وهم منه رحمه الله.
تنبيه:
يلاحظ أن ابن سعد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة فوارس بينما ذكر ابن إسحاق أنه بعث فارسين.
وقد جمع بينهما الزرقاني: "بأنه صلى الله عليه وسلم بعث الفارسين أولاً، ثم بعث أبا بكر في العشرة أو عكسه"2.
1 البداية والنهاية 4/81.
2 شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/147.
المبحث الثالث: بيان أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة الحديبية:
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في أكثر من غزوة، غير أنه لم يرد في شيء من النصوص الثابتة تعيين للغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أولاً.
نعم ساق الواقدي بسنده حديثين: أحدهما حديث أبي عياش الزرقي في عسفان زاد في آخره ما نصه: "وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف"1.
وهذه الزيادة ضعيفة لأن الواقدي تفرد بها.
(43)
والحديث الثاني: حديث جابر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة خوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنين2، ثم قال الواقدي عقب هذا الحديث: وهذا أبين عندنا.
وهذا الحديث أيضاًَ ضعيف لمجيئه من طريق الواقدي.
ثم إن هذا الحديث لا يتمشى مع تحديد الواقدي لزمن كل من ذات الرقاع والغزوة التي صلى فيها بعسفان: ذلك أنه جعل ذات الرقاع في السنة الخامسة،
1 مغازي الواقدي 2/583.
2 مغازي الواقدي 2/583.
وصلاة عسفان جعلها في غزوة الحديبية - وهو صحيح - وقد اتفق أهل المغازي وهو في جملتهم على أن غزوة الحديبية كانت سنة ست1، فكيف يقول:"بينهما أربع سنين"؟.
ولعدم وجود نص ثابت صريح في تعيين الغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أول مرة، فقد وقع خلف في تحديد تلك الغزوة:
فجمهور أهل المغازي يجعلون أول غزوة وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع2.
والحقيقة أن أهل المغازي لم يصرحوا بأن صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت - إلا ما ذكره الواقدي وقد بينا ضعفه - وإنما قدموا غزوة ذات الرقاع على غزوة الحديبية التي وقعت فيها صلاة عسفان فلزم من صنيعهم أن تكون صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت، ولم يكن لأهل المغازي معتمد في تقديم ذات الرقاع، لذلك فقد اختلفوا في تحديد زمنها اختلافاً كبيراً.
فعند ابن إسحاق3 أنها كانت في جمادى الأولى سنة أربع للهجرة.
وذهب الواقدي4 وابن سعد5 وابن حبان6 إلى أنها في المحرم سنة خمس.
وتردد موسى بن عقبة في زمنها فلا يدري أكانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها7.
وأما أبو معشر السندي فيرى أنها بعد بني قريظة والخندق8.
1 انظر الكلام على تاريخها ص:
2 انظر: مغازي الواقدي 1/396، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/61، وسيرة ابن هشام 3/304، وتاريخ ابن جرير الطبري 2/39.
3 سيرة ابن هشام 3/203.
4 مغازي الواقدي 1/395.
5 الطبقات الكبرى 2/61.
6 صحيح ابن حبان 1/257.
7 فتح الباري 7/417.
8 فتح الباري 7/417.
وذهب البخاري1 - وتبعه ابن القيم2 وابن كثير3 وابن حجر4 - إلى أن غزوة ذا الرقاع متأخرة عن غزوة الحديبية، بل وعن غزوة خيبر، وبذلك تكون صلاة عسفان أول صلاة وقعت لأنها في غزوة الحديبية، كما سبق بيانه.
وما ذهب إليه البخاري ومن تبعه متعين لما يلي:
أولاً: ورد في صحيح البخاري أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه شهد غزوة ذات الرقاع:
(44)
قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت5 أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا"6.
وقد جاء في حديث آخر أن أبا موسى رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر ونصه:
(45)
قال البخاري: حدثني إسحاق بن إبراهيم سمع حفص بن غياث حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا"7.
وإذا كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد شهد الغزوة كما في الحديث الأول، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الثاني، فيلزم من ذلك تأخر غزوة ذات الرقاع عن خيبر، وإذا كانت بعد خيبر فهي بعد الحديبية من باب أولى.
ثانياً: جاء في حديث عند أبي داود أن أبا هريرة شهد هذه الغزوة:
1 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: باب غزوة ذات الرقاع.
2 زاد المعاد 3/253.
3 البداية والنهاية 4/83.
4 فتح الباري 7/419.
5 نقبت أقدامنا: أي رقت جلودها ونفطت من المشي. النهاية 5/102.
6 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي:4128.
7 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي:4233.
(46)
قال أبو داود: حدثنا الحسن1 بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن2 المقري حدثنا حيوة3 وابن لهيعة4 قالا: أخبرنا أبو الأسود5 أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال أبو هريرة: عام غزوة نجد
…
6 ثم ذكر صفة صلاتهم.
سند هذا الحديث صحيح، فهو من رواية أحد العبادلة عن ابن لهيعة7، وقد جاء أيضاً مقروناً بحيوة بن شريح المصري، وهو ثقة ثبت كما قال ابن حر، وبقية رجاله ثقات.
وأخرجه أبو داود من وجه آخر، وصرح فيه باسم الغزوة.
(47)
قال أبو داود: حدثنا محمد8بن عمرو الرازي حدثنا سلمة9 حدثني محمد10 بن إسحاق عن محمد11 بن جعفر بن الزبير، ومحمد12 بن الأسود عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد حتى إذا كنا بذات الرقاع من نخل، لقي جمعاً من غطفان
…
" 13 الحديث.
هذا الحديث حسن في سنده سلمة بن الفضل متكلم فيه ضعفه النسائي، ووثقة ابن معين وابن سعد، وهذا الحديث من روايته عن ابن إسحاق وقد قال عنه
1 الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال الحلواني - بضم المهملة - نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين: خ، م، د، ت، ق. تقريب:71.
2 عبد الله بن يزيد المكي، أبو عبد الرحمن المقري أصله من البصرة أو الأهواز، ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين: ع. تقريب: 194، تهذيب التهذيب 6/83.
3 حيوة - بفتح أوله وسكون التحتانية وفتح الواو - ابن شريح بن صفوان التجيبي أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد، مات سنة ثمان وقيل تسع وخمسين ومائة: ع. تقريب: 86.
4 عبد الله بن لهيعة.
5 هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي.
6 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة:1240.
7 انظر ص:
8 محمد بن عمرو بن بكر الرازي أبو غسان زنيج - بزاي ونون وجيم - مصغراً ثقة، مات في آخر سنة أربعين، أو أول التي بعدها أي بعد المائتين: م، د، ق. تقريب:313.
9 سلمة بن الفضل الأبرشي - بالمعجمة - مولى الأنصار قاضي الري، صدوق كثير الخطأ، مات بعد التسعين ومائة، وقد جاوز المائة: د، ت، فق. تقريب:131.
10 محمد بن إسحاق بن يسار.
11 محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، ثقة، مات سنة بضع عشرة ومائة: ع. تقريب: 292.
12 هو أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود يتيم عروة، وهو ثقة. انظر: تهذيب التهذيب 9/307.
13 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة:1241.
ابن جرير: ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة بن الفضل1.
وفيه أيضاً ابن إسحاق لم يصرح بالسماع لكن يشهد له الحديث السابق.
فهذان الحديثان أفادا أن أبا هريرة شهد غزوة ذات الرقاع مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الآتي:
(48)
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان2 حدثنا وهيب3 ثنا خثيم4 - يعني ابن عراك - عن أبيه5 أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة على المدينة قال: "فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بكهيعص، وفي الثانية ويل للمطففين، قال: فقلت ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص، قال: فلما صلى زودنا شيء حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قال: فكلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فأشركونا في سهامهم"6.
هذا الحديث حسن في سنده خثيم مختلف فيه، وثقه النسائي وابن حبان، وقال العقيلي:"ليس به بأس"، وقال الأزدي:"منكر الحديث"7 وقد رجح الذهبي8 توثيقه حيث رمز له بـ (صح) .
وإذا تقرر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما أفاد
1 تهذيب التهذيب 4/154.
2 عفان بن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصغار البصري، ثقة ثبت، قال ابن المديني: كان إذا شك في حرف من الحديث تركه وربما وهم، وقال ابن معين: انكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات سنة عشرين ومائتين: ع. تقريب: 240، تهذيب التهذيب 7/234.
3 وهيب - بالتصغير - ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بآخره، مات سنة خمس وستين ومائة: ع. تقريب: 372.
4 خثيم - بمثلثة مصغراً - ابن عراك بن مالك الغفاري المدني لا بأس به، من السادسة: خ، م، س. تقريب:92.
5 عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد ابن عبد الملك بعد المائة: ع. تقريب: 237.
6 مسند أحمد 2/345.
7 تهذيب التهذيب 3/137.
8 ميزان الاعتدال 1/650.
هذا الحديث وقد شهد غزوة ذات الرقاع كما في الحديثين السابقين فشهوده لها دليل ظاهر على تأخرها عن الحديبية وخيبر.
(49)
ثالثاً: قال البخاري: قال عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع"1.
هذا الحديث أورده البخاري معلقاً لكن بصيغة الجزم، وقد وصله أبو العباس السراج في مسنده وسمويه في فوائده2.
قال ابن حجر في معرض كلامه على الحديث: "في التنصيص على أنها سابع غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تأييد لما ذهب إليه البخاري من أنها كانت بعد خيبر، فإنه إن كان المراد الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها مطلقاً وإن لم يقاتل فإن السابعة منها تقع قبل أحد، ولم يذهب أحد إلى أن ذات الرقاع قبل أُحد إلا ما تقدم من تردد موسى بن عقبة، وفيه نظر، لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق، فتعيين أن تكون ذات الرقاع بعد بني قريظة، فتعين أن المراد الغزوات التي وقع فيها القتال، والأولى منها بدر والثانية أحد، والثالثة الخندق، والرابعة قريظة، الخامسة المريسيع، والسادسة خيبر، فيلزم أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر للتنصيص على أنها السابعة، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السنة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ: "وكانت صلاة الخوف في السابعة" فإنه يصح أن يكون التقدير: في الغزوة السابعة كما يصح في غزوة السنة السابعة"3 انتهى.
قلت: قد وقع عند أحمد التصريح بالسنة عن جابر ونصه: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرات قبل صلاة الخوف وكانت صلاة الخوف في السنة السابعة"4.
لكن في سنده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه.
وقد تبين لنا من قصة أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما ومن
1 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي:4125.
2 ذكر ذلك ابن حجر، انظر هدي الساري: 52، وفتح الباري 7/419.
3 فتح الباري 7/419.
4 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني 7/7.
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رجحان القول بتأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة الحديبية، فتكون صلاة الخوف في غزوة الحديبية أول صلاة وقعت.
وقد قال بعضهم إن غزوة ذات الرقاع وقعت أكثر1 من مرة، وأن التي صليت فيها صلاة الخوف غير التي شهدها أبو موسى رضي الله عنه، وهذا القول مردود لشهود أبي هريرة غزوة ذات الرقاع، وقد ذكر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فيها، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر كما سبق بيانه.
وقد رد ابن القيم رحمه الله القول بتعدد الغزوة: فقد أورد حديث أبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهما ثم قال: "وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وأن من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهماً ظاهراً ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين، فمرة قبل الخندق، ومرة بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها، أو تاريخها ولو صح لهذا القائل ما ذكر ولا يصح، لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى لما تقدم من قصة عسفان وكونها بعد الخندق، ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله، لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق"2 ا. هـ
قلت: جزم ابن القيم رحمه الله هنا أن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للخوف هي صلاة عسفان، وكأنه اعتمد في ذلك على ما في حديث أبي عياش من أن آية صلاة الخوف نزلت في شأن صلاة عسفان، وهو دليل ظاهر، وصلاة عسفان هذه وقعت في غزوة الحديبية كما سبق بيانه"3.
1 فتح الباري 7/417، 419.
2 زاد المعاد 3/252.
3 انظر ص وما بعدها.