الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة
المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح
…
المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح:
كانت مدة إقامة المسلمين بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة على قول الواقدي1 وابن سعد2.
وعن ابن عائذ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوته هذه شهراً ونصفاً"3.
والذي يبدو: أن الواقدي وابن سعد أرادا تحديد مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في الحديبية، أما ابن عائذ فقصد الزمن الذي استغرقته غيبة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى عودته إليها، والله أعلم.
وبعد أن تحلل المسلمون من عمرتهم تلك، قفلوا راجعين إلى المدينة، فلما كان من الليل عدلوا عن الطريق للنوم ووكلوا بلالاً بحراستهم، فنام بلال ولم يوقظهم إلا حر الشمس، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
1 مغازي الواقدي 2/616.
2 الطبقات الكبرى 2/98.
3 نقله ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/123، ونقله الزرقاني، شرح الزرقاني على المواهب 2/210.
(151)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جامع1 بن شداد سمعت عبد الرحمن2 بن أبي علقمة سمعت عبد الله3 بن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤنا"4؟ فقال بلال: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"افعلوا كما كنتم تفعلون"، قال: ففعلنا، قال:"فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي"5.
وبنحو هذا اللفظ أخرجه أحمد6 عن يحيى بن سعيد القطان، وابن أبي شيبة7 عن غندر، وابن جرير8 من طريق أبي بحر9 عبد الرحمن بن عثمان، وابن عبد البر10 من طريق محمد بن جعفر غندر، كلهم عن شعبة به.
وأخرجه النسائي بأطول من هذا:
قال: أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد11 قال: ثنا شعبة عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فذكر أنهم نزلوا دهاساً من الأرض - يعني بالدهاس الرمل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يكلؤنا"، فقال بلال: أنا يا رسول الله، قال:"إذاً ننام" فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان
1 جامع بن شداد المحاربي، أبو صخرة الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة سبع، ويقال سنة ثمان وعشرين ومائة: ع. تقريب: 53.
2 عبد الرحمن بن أبي علقمة أو ابن علقمة، يقال: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين: د، س. تقريب:207.
3 عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمة وأمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين أو في التي بعدها بالمدينة: ع. تقريب: 189.
4 يكلؤنا: يحرسنا، الكلاءة الحفظ والحراسة. النهاية 4/194.
5 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة:447.
6 مسند أحمد 1/386.
7 المصنف 2/64.
8 تفسير ابن جرير 26/69.
9 عبد الرحمن بن عثمان بن أمية بن عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي، أبو بجر البكراوي ضعيف، مات سنة خمس وتسعين ومائة: د، ق. تقريب:206.
10 التمهيد 5/252.
11 هو: ابن جعفر غندر.
وفيهم عمر، واستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"افعلوا ما كنتم تفعلون" ففعلنا قال: "كذلك فافعلوا لمن نام أو نسي": قال: فضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبتها فوجدت حبلها قد تعلق بشجرة فجئت بها فركب فسرنا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذلك فيه فتنحى منتبذاً1 خلفنا فجعل يغطي رأسه ويشتد عليه حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا وأخبرنا أنه إنما أنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 2.
وأخرجه أحمد3، وابن أبي شيبة4 كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
وأخرجه البزار5 عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر به، كلهم لنحو لفظ النسائي.
سند هذا الحديث صحيح، رجاله رجال الصحيحين ما عدا عبد الرحمن بن أبي علقمة، ولم يطعن فيه أحد6، وقد ذكره ابن حبان7 في ثقات التابعين، وقال الهيثمي8 عن الحديث: رجاله موثقون، وابن أبي علقمة من جملتهم، وقال الألباني9 عن الحديث: إسناده صحيح.
وقد أخرج النسائي وغيره الحديث من طريق المسعودي عن جامع ابن شداد بسياق آخر:
(152)
قال النسائي: أخبرنا سويد10 بن نصر قال: أنا عبد الله11 عن
1 منتبذاً: متنحياً، والانتباذ: التنحي. ترتيب القاموس 4/311.
2 السنن الكبرى، لوحة:119.
3 مسند أحمد 1/464.
4 تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة:56.
5 كشف الأستار عن زوائد البزار 1/202.
6 انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 2/2/273، تهذيب الكمال 2/ لوحة: 805، تهذيب التهذيب 6/233.
7 الثقات 5/106.
8 مجمع الزوائد 1/319.
9 إرواء الغليل 1/293.
10 سويد بن نصر بن سويد المروزي، أبو الفضل، لقبه الشاه راوية ابن المبارك ثقة، مات سنة أربعين ومائتين: ت، س. تقريب:141.
11 هو: عبد الله بن المبارك.
المسعودي1 عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال عبد الله: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية قال: "من يحرسنا الليلة" قال عبد الله: أنا، قال:"إنك تنام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يحرسنا الليلة"؟ قال: وسكت القوم، فقلت: أنا، قال:"فأنت إذاً" قال: فحرستهم حتى إذا كان في وجه الصبح أدركني ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنمت، فما استيقظت إلا بحرِّ الشمس على أكتافنا، فقام رسول الله فصنع كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو شاء الله ألا تناموا عنها لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون سنة لمن بعدكم لمن نام أو نسي"2.
وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن المسعودي به، فذكر نحو هذا اللفظ وزاد:"قال: ثم إن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبل القوم تفرقت، فخرج الناس في طلبها، فجاؤوا بإبلهم إلا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذها هنا"، فأخذت حيث قال لي فوجدت زمامها قد التوى على شجرة ما كانت لتحلها إلاّ يد، قال: فجئت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت زمامها ملتوياً على شجرة ما كانت لتحلها إلا يد، قال: ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 3.
وساق أبو داود الطيالسي حديث شعبة والمسعودي معاً.
قال: حدثنا شعبة والمسعودي عن جامع بن شداد به، قال: وحديث المسعودي أحسن، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية فعرسنا4 فقال: "من يحرسنا لصلاتنا"، وقال شبعة:"من يكلؤنا" قال بلال: أنا، قال المسعودي في حديثه:"إنك تنام"، ثم قال:"من يحرسنا لصلاتنا"، فقال ابن مسعود قلت: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك تنام"، قال: فحرستهم
…
"5 الحديث بسياق المسعودي.
1 عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي، صدوق اختلط قبل موته، ضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، مات سنة ستين، وقيل: خمس وستين ومائة: خت، الأربعة. تقريب:205.
2 السنن الكبرى، لوحة:119.
3 مسند أحمد 1/391.
4 فعرسنا: من التعريس: وهو نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية 3/206.
5 مسند أبي داود: 49 - 50.
وأخرجه البيهقي1 من طريق أبي داود به مثله.
وأخرجه من طريق يونس بن بكير عن المسعودي به، قال فيه: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية جعلت ناقته تثقل فتقدمنا فأنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنها أنزلت عليه فبينما نحن ذات ليلة إذ عرسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يحرسنا"؟ فقلت: أنا يا رسول الله
…
"2 الحديث.
وأورد الهيثمي رواية المسعودي هذه ثم قال: وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط في آخر عمره3.
قلت: وقد قال عنه الذهبي سيء الحفظ4، وقد خالف في روايته فذكر أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة عبد الله بن مسعود، والمحفوظ عن جامع بن شداد ما رواه شعبة أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة إنما هو بلال، أما ما في رواية المسعودي فهو شاذ؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي الحديث من طريق زافر بن سليمان5 عن شعبة به، وذكر أن القصة كانت في غزوة تبوك6.
وقد شذ زافر بن سليمان بذلك، والمحفوظ عن شعبة ما سبق من رواية الثقات مثل يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر غندر وغيرهم أن ذلك كان في غزوة الحديبية، أما زافر بن سليمان فقد قال عنه ابن حبان: كثير الغلط واسع الوهم، على صدق فيه7، وقال ابن حجر: صدوق كثير الأوهام ا. هـ
فلعل هذا من أوهامه، والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن قصة نومهم عن صلاة الصبح وقعت في غير
1 السنن الكبرى 2/218.
2 دلائل النبوة 2/ لوحة: 236.
3 مجمع الزوائد 1/319.
4 ميزان الاعتدال 2/574.
5 زافر: بالفاء ابن سليمان الإيادي أبو سليمان القهستاني - بضم القاف والهاء وسكون المهملة - سكن الري ثم بغداد وولي قضاء سجستان، صدوق كثير الأوهام من التاسعة: ت، ق. تقريب:105.
6 دلائل النبوة 2/ لوحة: 236.
7 ميزان الاعتدال 2/63 - 64.
الحديبية أيضاً: منها حديث أبي هريرة عند مسلم1 أنها وقعت للمسلمين عند رجوعهم من خيبر، ومنها مرسل زيد بن أسلم عند مالك2 أنها وقعت لهم بطريق مكة.
ومنها مرسل عطاء بن يسار3 أنها كانت في غزوة تبوك.
وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين هذه النصوص:
فذهب ابن عبد البر إلى أن القصة واحدة، وأن الصحيح وقوعها في غزوة خيبر. ثم حمل بعض النصوص عليها وضعف البعض الآخر، فبعد أن ذكر مرسل زيد بن أسلم قال: وقد جاء معناه متصلاً مسنداً من وجوه صحاح ثابتة في نومه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره، روى ذلك جماعة من الصحابة وأظنها قصة لم تعرض له إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار، والله أعلم.
إلا أن بعضها فيه: مرجعه من خيبر، كذا قال ابن شهاب عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا، وهو أقوى ما يروى في ذلك، وهو الصحيح إن شاء الله، وقول زيد بن أسلم في حديثه هذا بطريق مكة ليس بمخالف لأن طريق خيبر وطريق مكة من المدينة يشبه أن يكون واحداً، وربما جعلته القوافل واحداً، وحديث زيد بن أسلم هذا مرسل، وليس مما يعارض ابن شهاب، وفي حديث ابن مسعود "من يوقظنا، فقلت: أنا أوقظكم" وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال لأنه لم يقل له: أيقظنا، ويحتمل أنه لا يجيبه إلى ذلك، ويأمر بلالاً، وقال ابن مسعود في هذا الحديث: زمن الحديبية - وهو زمن واحد في عام واحد لأنه منصرفه من الحديبية مضى إلى خيبر في عامه ففتحها الله عليه" 4 اهـ. هكذا قال ابن عبد البر رحمه الله وقد نقل ابن حجر رحمه الله بعض كلامه هذا - في محاولة الجمع - ثم قال: ولا يخفى ما فيه من تكلف ورواية عد الرزاق بتعيين غزوة تبوك ترد عليه5 ا. هـ
1 صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة:309.
2 الموطأ، كتاب وقوت الصلاة:26.
3 ذكره ابن عبد البر، التمهيد 5/206، وابن حجر، فتح الباري 1/448، وهو في مصنف عبد الرزاق 1/588، وليس فيه تصريح أنها في غزوة تبوك فلعل ابن عبد البر، وابن حجر وقفا على نسخة غير التي بين أيدينا.
4 التمهيد 5/204 - 206.
5 فتح الباري 1/449.
قلت: يعني ابن حجر برواية عبد الرزاق مرسل عطاء بن يسار1، لكنه لا يرد على ابن عبد البر؛ لأنه قد ضعفه حيث قال: وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك، وهذا لا يصح والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة، وقوله مرسل2.
لكن محاولة ابن عبد البر لتوحيد القصة، غير مجدية فإن كان قد أعل حديث زيد بن أسلم وحديث عطاء بن يسار بالإرسال، فإن حديث ابن مسعود صحيح لا يمكن رده بحال، وقد صرح فيه بأن الحادثة وقعت أثناء رجوعه من غزوة الحديبية، والحديبية تقع جنوب المدينة قريب من مكة، فالقادم منها إلى المدينة يتجه شمالاً، بينما تقع خيبر شمال المدينة فالقادم منها إلى المدينة يتجه جنوباً فلا يمكن أن يكون طريقهما من المدينة أو إلى المدينة واحداً، وما ذكره ابن عبد البر رحمه الله بعيدٌ جداً وعذره في ذلك أنه لا يعرف تلك الأماكن، لأنه لم يخرج عن الأندلس كما قال الحميدي3.
وقد جنح ابن القيم - فيما يفهم من صنيعه - إلى كون الحادثة وقعت مرة واحدة، وترجيح كونها في خيبر: فبعد أن ذكر قصة نومهم عن الصلاة في غزوة خيبر قال: وروي أن هذه القصة كانت مرجعهم من الحديبية، وروي أنها كانت مرجعهم من غزوة تبوك
…
" اهـ4.
هكذا حكى قصة الحديبية وتبوك بصيغة التمريض، ثم عاد مرة أخرى فذكر حديث ابن مسعود في قصة نومهم عن الصلاة في الحديبية ثم أعله بالاضطراب، فبعد أن ذكره من طريق شعبة قال: لكن اضطربت الرواة في هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن جامع: إن الحارس فيها كان ابن مسعود، وقال غندر عنه: إن الحارس كان بلالاً، واضطربت الرواية في تاريخها، فقال المعتمر بن سليمان عن شعبة عنه: إنها كانت في غزوة تبوك، وقال غيره عنه: إنها كانت في مرجعهم من الحديبية، فدل على وهم وقع فيها، ورواية الزهري عن سعيد سالمة من ذلك، وبالله التوفيق5.
1 صرح بذلك في المصدر السابق ص 286.
2 التمهيد 5/206.
3 جذوة المقتبس 367.
4 زاد المعاد 3/356.
5 زاد المعاد 3/356.