الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: تنبية على أحاديث أوردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها
…
المبحث الرابع: تنبيه على أحاديث وردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها:
هناك أحاديث ذكرت فيها صفة صلاة الخوف، بعضها يتفق مع حديث أبي عياش في كيفية الصلاة، وبعضها يتفق معه في المكان الذي صليت فيه تلك الصلاة، ولذلك حمل بعض العلماء تلك الأحاديث على قصة عسفان مع حديث أبي عياش بناء على اتحاد القصة.
وبعد النظر والتأمل في تلك الأحاديث ومقارنتها بحديث أبي عياش تبين لي أنها مغايرة لما في حديث أبي عياش، وسأورد تلك الأحاديث وأبين وجه مخالفتها لحديث أبي عياش إن شاء الله.
أولاً: حديث جابر رضي الله عنه:
قال مسلم: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال:"غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداًَ، فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم1، فأخبر بذلك جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقالوا: إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر، قال: صففنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال أبو الزبير، ثم خص جابر أن قال كما يصلي أمراؤكم هؤلاء"2.
هذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم وأخرجها أبو داود3 الطيالسي وزاد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل
…
".
1 لاقتطعناهم: لأخذناهم منفردين، اقتطع الشيء إذا أخذه وانفرد به. النهاية 4/82.
2 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها:308.
3 مسند أبي داود: 240.
وأخرجه مسلم1 من رواية عطاء عن جابر بمثله ولم يسم القوم الذين غزوهم.
وقد ذكر ابن كثير2 وابن حجر3 هذا الحديث في قصة عسفان على أنه متحد مع ما في حديث أبي عياش الزرقي.
والذي يظهر أن هذا الحديث يباين ما في حديث أبي عياش لأمور أهمها ما يلي:
(1)
في حديث جابر هذا: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة"، بينما في حديث أبي عياش: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد
…
".
ولا شك أن هؤلاء المشركين هم كفار قريش، كما بينه حديث المسور ومروان بن الحكم من طريق ابن إسحاق عند أحمد فقد جاء فيه:"وهذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"4.
فصلاة الخوف في حديث جابر بسبب قوم جهينة، وصلاة الخوف في حديث أبي عياش بسبب كفار قريش.
(2)
يقول جابر في حديثه: "فقاتلونا قتالاً شديداً"، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أحداً من المشركين أثناء سيره لعمرة الحديبية.
(3)
يقول جابر في حديثه: "فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويقول أبو عياش في حديثه: "فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غزة لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر.
وبالتأمل في هذين النصين نستشف منهما تأخر قصة حديث جابر عن قصة
1 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها:307.
2 البداية والنهاية 4/82.
3 فتح الباري 7/423.
4 مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36) .
حديث أبي عياش وذلك أن حديث أبي عياش يفيد أن الآية التي بها شرعت صلاة الخوف نزلت في تلك الحادثة، وهو دليل على ابتداء مشروعية صلاة الخوف.
أما حديث جابر فقد ذكر فيه أن جبريل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما عزم عليه المشركون فقط فصلى صلاة الخوف وكأنه قد عرف حكمها قبل ذلك.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
قال النسائي: أخبرنا العباس بن عبد العظيم قال: حدثني عبد الصمد ابن عبد الوارث قال: حدثني سعيد بن عبيد الهنائي قال: حدثنا عبد الله بن شقيق قال: حدثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بين ضَجَنَان وعسفان محاصر المشركين فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم، فيصلي بهم ركعة ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ركعة، وللنبي ركعتان"1.
وأخرجه الترمذي2 بنحوه، وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة3.
وقد أورد ابن القيم4 وابن كثير5 حديث أبي هريرة هذا مع حديث أبي عياش في قصة عسفان، وكأنهما يريان اتحاد القصة فيهما، وكذلك ذكر ابن حجر أنه متفق مع ما في حديث أبي عياش، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في الحديثين عدم اتحادهما لما يلي:
(1)
أن حديث أبي عياش يفيد أن كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد، إلا في حالة السجود ينتظر الصف الثاني حتى يرفع الأول من السجود، ثم يسجد بينما في حديث أبي هريرة صلى بكل طائفة على حدة.
1 سنن النسائي 3/174.
2 سنن الترمذي، كتاب التفسير:3035.
3 سنن الترمذي 5/243.
4 زاد المعاد 3/251.
5 البداية والنهاية 4/82.
(2)
في حديث أبي عياش كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان كذلك، بينما في حديث أبي هريرة: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة واحدة.
(3)
جاء في حديث أبي هريرة ما يفيد أن العدو كان لغير جهة القبلة وذلك في قوله: " فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم
…
".
ثالثاً: يقول ابن حجر في التلخيص الحبير1: "حديث صلاته بعسفان متفق عليه من حديث سهل بن أبي حثمة، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي عياش الزرقي" ا. هـ
قلت: حديث أبي عياش الزرقي صريح بأنه في صلاة عسفان، أما حديث سهيل بن أبي حثمة فغير ظاهر في ذلك لاختلاف كيفية الصلاة فيه عنها في حديث أبي عياش الزرقي، وهذا نص حديث سهل بن أبي حثمة:
قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة قال: "يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين"2.
هكذا أخرجه البخاري موقوفاً على سهل، ومن هذا الوجه أخرجه مسلم3 وأبو داود4.
وبالتأمل في صورة الصلاة في حديث سهل بن أبي حثمة نجدها تختلف عن صورة الصلاة في حديث أبي عياش بما يلي:
1 التلخيص الحبير 2/75.
2 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي:4131.
3 صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها:309.
4 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة:1239.
(1)
في حديث أبي عياش كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في آن واحد، بينما في حديث سهل ائتمت طائفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى وقفت تجاه العدو.
(2)
في حديث أبي عياش حصلت لكل من الطائفتين ركعتان مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما في حديث سهل، فصلت كل طائفة ركعة واحدة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتمت لنفسها الركعة الثانية.
(3)
في حديث أبي عياش أن العدو كان في جهة القبلة بخلاف حديث سهل فقد حمله الجمهور1 على أن العدو كان لغير جهة القبلة.
ولعل حديث سهل في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع؛ لأن صالح بن خوان الراوي عن سهل أخرج البخاري2 وغيره الحديث من طريقه يرويه عمن شهد غزوات ذات الرقاع فذكر صورة الصلاة في حديث سهل هذا.
ومفهوم كلام ابن حجر في الفتح: أن حديث سهل بن أبي حثمة في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع3.
فلعل ما وقع في التلخيص الحبير وهم منه رحمه الله.
1 فتح الباري 7/424.
2 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي:4129.
3 انظر: فتح الباري 7/422.